وهنا يبدو إنصاف العلامة لوبون في بيان أسباب ذلك، فقد صرح بأن وضوح الإسلام من أسباب انتشاره، وبأن وضوحه هذا مشتق من قوله بالتوحيد المحض الذي فيه سر قوته.
ومن أسباب انتشار الإسلام، كما بين لوبون، ما أمر به من العدل والإحسان، وما انطوى عليه من التهذيب للنفوس والتسامح والملاءمة لمناحي العلم واكتشافاته.
ثم رد العلامة لوبون على الزعم القائل: «إن الإسلام انتشر بالقوة»، فمما قاله: «إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن ما ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.» «ولم ينتشر القرآن، إذن، بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا، كالترك والمغول.» «أدرك الخلفاء السابقون، الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا؛ فعاملوا أهل كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة، في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعون سابقا في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم.» «وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم.»
وأكثر لوبون، في مواضع كثيرة، من ذكر الأمثلة على تسامح العرب ورأفتهم بالمغلوبين، ومن ذلك «أن العرب حاصروا الإسكندرية حصارا دام أربعة عشر شهرا، وقتل في أثنائه ثلاثة وعشرون ألف جندي من العرب، وأن عمرو بن العاص كان سمحا رحيما نحو أهل الإسكندرية مع تلك الخسارة التي أصيب بها العرب، ولم يقس عليهم، وصنع ما يكسب به قلوبهم، وأجابهم إلى مطالبهم، وأصلح أسدادهم وترعهم، وأنفق الأموال الطائلة على شؤونهم العامة.»
ولذلك لم يكد القرن الأول من الهجرة ينقضي حتى كانت راية النبي العربي تخفق فوق البلاد الواقعة بين الهند والمحيط الأطلنطي، وبين القفقاس والخليج الفارسي وفوق إسپانية.
4
وبحث العلامة لوبون في القرآن وأصول الإسلام، وفيما يسنده بعض كتاب أوربة إلى الإسلام من عوامل الانحطاط، كعقيدة القضاء والقدر (الجبرية) وأحوال المرأة، ومبدأ تعدد الزوجات.
رأى لوبون أنه ليس في القرآن من الجبرية ما ليس في الأديان الأخرى، وأن فريقا من فلاسفة الوقت الحاضر وعلمائه يقول: إن مجرى الحوادث تابع لسنة لا تتبدل، وأن الجبرية الإسلامية نوع من التسليم الهادئ الذي يعلم به الإنسان كيف يخضع لحكم القدر من غير تبرم وملاومة، «وتسليم مثل هذا وليد مزاج أكثر منه عقدة، والعرب كانوا جبريين بمزاجهم قبل ظهور محمد، فلم يكن لجبريتهم تأثير في ارتقائهم، كما أنها لم تؤد إلى انحطاطهم.»
ولما تناول لوبون حال المرأة في الإسلام بين أن الرجال كانوا، قبل ظهور الرسول، يعدون منزلة النساء متوسطة بين الأنعام والإنسان، وأنهم كانوا يرونها أداة للاستيلاد والخدمة، وأن عادة الوأد كانت شائعة بين عرب الجاهلية، ثم جاء الإسلام وحسن حال المرأة، وكان أول دين رفع شأنها، ومنحها حقوقا إرثية لا تجد مثلها في القوانين الأوربية، وأمر بمعاملتها بأحسن مما في تلك القوانين، وبين لوبون، أيضا، أن نقصان شأن المرأة حدث خلافا للإسلام، لا بسبب الإسلام، وأن الإسلام، الذي كان أول دين رفع شأن المرأة، بريء من خفضه، وأنه اتفق للنساء أيام حضارة العرب ما اتفق لأخواتهن حديثا في أوربة من التقدم، ثم التمس لوبون العذر للشرقيين في مراقبة المرأة، فقال: «إن الشرقيين، إذ كانوا مطلعين بغرائزهم على سرائر الأمور، وكانوا يرون من طبيعة المرأة أن تكون غادرة غير وفية، كما أن الطيران من طبيعة الطير، وكانوا حريصين على صفاء نسلهم، اتخذوا ما يروقهم من وسائل الحذر منعا لحدوث ما يخشون.»
وأنحى لوبون باللائمة على مؤرخي أوربة الذين قالوا: إن مبدأ تعدد الزوجات هو ركن الإسلام، وإنه علة انحطاط الشرقيين، فمبدأ تعدد الزوجات، كما أوضح لوبون، لم يكن خاصا بالإسلام، فقد عرفه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور الرسول، ولم تر الأمم التي اعتنقت الإسلام شيئا جديدا فيه، وعند لوبون: «أن حب الشرقيين الجم لكثرة الأولاد وميلهم الشديد إلى حياة الأسرة، وخلق الإنصاف الذي يردعهم عن ترك المرأة غير الشرعية بعد أن يكرهوها خلافا لما يقع في أوربة، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة، كلها أمور تحفز الشرائع إلى تأييد العادات التي هي وليدة الطبائع، وإذا نظرنا إلى أن القوانين لا تلبث أن تطابق العادات كان لنا أن نقول: إن تعدد الزوجات غير الشرعي في أوربة لا يلبث أن تؤيده القوانين»، ولم ير لوبون سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري الخبيث الذي يؤدي إلى زيادة اللقطاء في أوربة.
Página desconocida