Civilización Árabe en Al-Ándalus: Cartas Históricas en un Hermoso Molde Ficticio
حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
Géneros
أما بعد، فهذا كتاب وضعته قديما وأسميته «حضارة العرب في الأندلس»، ولقد أشرب قلبي مذ طراءة العمر، وريعان الصبى، وجن النشاط، حب التاريخ الإسلامي عامة، وتاريخ هذا الفرع الأندلسي منه خاصة؛ فكان مما عنيت به فضل عناية، وكان مما أولعت به الولوع كله النظر في تاريخ الأندلس وحضارة العرب بها، منذ افتتاحهم إياها إلى أن تأذن الله لهم، وكلب عليهم الإسبانيون، وكلح لهم الدهر وجهه، وتقلصت ظلال تلك الحضارة بعد أن فاء بها الفيء على شرق الأرض وغربها، وبلغ من همي بهذا التاريخ أني بعد أن استوعبت كل ما وصل إلينا من تآليف العرب، ذهبت أتلمس ما كتبه مؤرخو الغرب ومستشرقوه على ذلك المصر، حتى اقتنيت أمهات أسفارهم، وعهدت إلى كثير من أصدقائي الذين يحسنون الفرنسية والإنكليزية أن ينقلوا إلي كل ما يتصل بغرضي من مباحث هاتيك الكتب، ومضيت في ذلك ومضوا فيه حتى استجمعت الكثير، وما يزيد على الكثير، ثم خطر الدهر من خطراته.
ونشأت ظروف أواخر سنة 1910 ميلادية؛ أي قبيل إخراج «البيان»، اضطرتني أن أزايل القاهرة وأقيم في بلدي - مسقط الرأس ومكان الغراس - فأفسح لي ذلك في الوقت، ومد لي في النظر، وبسط في مطارح التأمل. وإني لأتقرى يوما تاريخ أبي الفداء إذ صدف أن أخذت عيني هذا الخبر الذي لا حفل له، والذي يقتحمه في العادة النظر ولا يكاد يتلفت إليه، أو يتوقف عليه؛ وهو ما رواه من «أنه في سنة 345 هجرية عمل عبد الرحمن الناصر؛ صاحب الأندلس، مركبا كبيرا، وحشد فيه كثيرا من بضائع الأندلس، وأرسله إلى بلاد المشرق؛ لتباع هذه البضائع هناك وتستبدل منها بضائع مشرقية.» ففتحت علي هذه العبارة أبوابا من وراء أبواب، وامتدت الكلمة في نفسي حتى خرج من حروفها كتاب، وألهمت أن أضع ما جمعت من علم الأندلس كله في صدر رحالة مصري يقوم من الإسكندرية وافدا إلى الأندلس في مركب الناصر هذا - فهو يرى ويسمع ويقص ويدون ويصف ويستعين بما يعلمه وما يراه، وما يفتق له الخاطر ويهيئ الفكر - في رسائل يضمنها وصف تلك الحضارة على اختلاف ألوانها، وشتى فنونها، وصف مؤرخ أديب فيلسوف يرحل للتاريخ وفلسفته، فيدرسه في كتبه وفي مواضعه ورجاله وأسبابه وحوادثه؛ وبذلك يستجمعه من أطرافه، ويحويه من أكنافه. وتم التقدير على أن أضع على لسان هذا الرحالة الذي ذهب إلى الأندلس، وأقام فيها زهاء عشرين عاما خمس رسائل، يكون عنوان الأولى «من الإسكندرية إلى المرية»، والثانية «من المرية إلى قرطبة»، والثالثة «مقامي في قرطبة»، والرابعة «العلوم والآداب والفنون في الأندلس»، والخامسة «تقويم الأندلس وتاريخها» ... وهو بديهي أنه لا يقدم على هذا العمل مقدم إلا بعد أن يحيط بتاريخ هذا العصر علما، ويقتله كله دراية وفهما؛ فليس يكفيه أن يكون ملما بتاريخ الأندلس، ولا بتاريخ الدول الإسلامية لهذا العهد؛ بل لا بد مع ذلك من أن يكون واقفا على تاريخ الأمم الأخرى المعاصرة، والتي لها علاقة بالدول الإسلامية إذ ذاك؛ مثل الدولة الرومانية وما إليها، وكذلك درست تاريخ هذا العصر من جميع نواحيه، ثم وضعت يدي في هذا العمل، وأخذت في كتابة هذه الرسائل، ومضيت لطيتي حتى إذا سرت شيئا طرأ علي ما أجاءني إلى القاهرة، وفي تلك الآونة طلع «البيان»، وطفقت أنشر فيه نبذا من هذا الكتاب. وكان المنتظر أن يكون «البيان» بحيث يغري بإتمام الكتاب ونشره كله بين صفحات هذه السنوات التي خلت، ولكن جاء الأمر على حد ما قيل: طلبت بك التكثير فازددت قلة؛ فلقد استبد بي هذا البيان، واستأثر علي بنفسي استئثارا، وتدفق في أذاته، وألح في سطواته؛ حتى إنه بعد أن التهم الوفر أكلا وشربا ألوى بنفسي
1
قلبا ولبا، وتركني لا أفكر إلا فيه، ولا أتشاغل إلا به.
فلو أن لي تسعين قلبا تشاغلت
جميعا فلم يفزع إلى غيره قلب
وكذا مصير كل من يمتهن الأدب في الصحف، وبخاصة إذا كان هو صاحب تلك الصحيفة، له غنمها، وعليه غرمها، ببلد سقط فيه نجم الآداب الرفيعة، وطاش سهمها، وقديما قيل لحكيم: إن فلانا رجل عاقل، فقال: هل هو متزوج؟ فقيل له: نعم، فقال: إذن ذهب عقله! وعلى هذا القياس لو قيل لي: إن فلانا فيلسوف أو عالم أو أديب، لقلت: هل هو صاحب مجلة في مصر؟ فإذا قيل: نعم، قلت: إذن ذهب والله في الذاهبين ... فإنه إذا كان المتزوج يجد من هم واحدة وما يكون منها ما لا يدعه لهم نفسه، فيذهب بذلك عقله أو بعض عقله، فإن صاحب المجلة يصيبه هم المئات إلى الألوف ممن يقرءون ولا يفون بحق ولا عهد، فهو ينفق من نفسه وما أعده لنفسه، وهم يمحقونه محقا حتى ينقص بهم على زيادتهم، ويقل على كثرتهم، ولا يزال ذلك شأنهم وشأنه لا هو يتركهم وعليهم حقه، ولا هم يدعونه في غير هذه الحالة، وبذلك يذهبون بفلسفته وعلمه وأدبه مذاهب العقم، ويبلونه بالاغتمام، ولا عقل مع غم، ولا قلب مع هم، فذهب - إذن - والله صاحب المجلة، وكان من ضياع العقل في وزن من تزوج، لا بزوجة واحدة، بل بألف زوجة ...
وبعد، فهذا هذا، وفي هذه الآونة؛ في هذه الفترة التي احتجب فيها البيان، والتي وجدت فيها نفسي. جرى بيني وبين أحد أفاضلنا يوما حديث أفضى إلى ذكر هذا الكتاب، وأنست من هذا الفاضل رغبة حارة صادقة في تمامه، وطبع ما تم منه إلى الآن، في الأقل، على حدة، فكان جواب الفعل أسبق من جواب القول، وقدمت هاتين الرسالتين إلى المطبعة على أن أردفهما قريبا - إن شاء الله - بالرسائل الثلاث الباقية. وهاتان الرسالتان يكادان يكونان كتابا مستقلا يصح أن ينزلا من الرسائل التالية منزلة مدخل الكتاب من الكتاب.
والآن يجمل بنا أن نقدم بين يدي الناظر في كتابنا هذا تنبيهات، يخلق به أن يلحظها، ويتنبه عليها؛ وإليكها:
1
Página desconocida