ثم أذن للتجار وغيرهم أن يضربوا الورق، ولما رأى الأعاجم ذلك، أخذوا يقلدون الدراهم الإسلامية، فغشوا فيها، فكانت الدولة تأمر بكسر هذه الزيوف، وكان عمر وعثمان من قبل ذلك إذا وجد أحدهما الزيوف في بيت المال جعلها فضة ليمتنع التعامل بها.
وفي أيام عبد الملك بن مروان ضرب رجل على غير سكة المسلمين، فأراد أن يقطع يده، ثم ترك ذلك وعاقبه، وفي أيام عمر بن عبد العزيز الأموي ضبطت الحكومة رجلا يضرب على غير سكة السلطان، فعاقبه عمر، وسجنه، وأخذ حديده فطرقه في النار، وكانوا يعاقبون من يقطعها أو يدس الدراهم المفرغة والزيوف.
تتمة المحاضرة التاسعة: الحفظ والتدوين
قد علمنا أن الأمة العربية في زمن الجاهلية لم تكن من الكتابة في شيء، ونزيد الآن أنها لم تكن منذ برأها الله حتى منبثق فجر الإسلام تعرف من العلوم إلا ما تقضيه أدنى معيشة، كتربية بعض الدواب، وانتجاع منازل الغيث، والعلم بالأنساب، وبرمي السهام، والحداء، وغير ذلك من المبادئ التي لا يسع البدوي جهلها. فلما نزلوا ديار من اكتنفهم من الروم والفرس والحبش، وهاجر إليهم ناس من اليهود والأنباط ممن سامتهم أمم العسف والجور سوء العذاب، وبدلت حالهم التي كانوا عليها غير الحال، ابتنوا الدور، وشادوا السدود، ولبسوا الخز والديباج، ونظروا في السموات والأرض وفي أنفسهم على قدر استطاعتهم، «إلا قليلا منهم ممن كانوا عن هؤلاء الأمم مبعدين»، غير أن نصيبهم من هذه العلوم كان قليلا ، فلم يبلغوا فيها إذ ذاك مبلغا يضطرهم إلى التدوين، فكانوا يكتفون فيها بالحفظ، ولم يفطنوا للتدوين لقلة حاجتهم إليه.
كان العرب مغرمين بالأنساب والشعر، فكانوا يقيمون للمفاخرة وإنشاد الأشعار الأسواق، ويقعدون لها كل مرصد، فترفع الأنساب وتنشد الأشعار، وما كانوا على شيء أحرص منهم على حفظها؛ لأن فيها مدحهم وهجاءهم، وفخرهم وحروبهم وأنسابهم، وغير ذلك مما لا يعنون إلا به، فكان الشعر وهو ديوانهم، كالصحف السائرة من الأمم الراقية اليوم، ولقد برزوا في هذين النوعين التبريز كله، حتى بذوا فيهما كل الأمم، وبلغوا منهما ما لا يدرك، ومع كثرة الأشعار لم يدونوها لجهلهم الكتابة كما تقدم، فاكتفوا فيها بالحفظ؛ لأنهم مرنوا عليه منذ نشأتهم لاضطرارهم إليه، فصار عندهم شيئا مألوفا، وساعدهم عليه صفاء أذهانهم وقلة مشاغلهم الدنيوية؛ إذ كانوا يكتفون من الطعام بالتمرة، ومن الثياب بالقميص أو الإزار والرداء، ومن المسكن بالخباء، بله كثرة رياضتهم البدنية التي تقتضيها معيشتهم البدوية.
فما كان الشاعر يفرغ من تلاوة قصيدته على ملأ من قومه حتى يكون أكثرهم قد استظهرها، ومن ذلك نشأ اختلاف الروايات في القصيدة الواحدة، فإن الشاعر ينشد قصيدته على ملأ من السامعين فيحفظها منهم جماعة، فربما اختلطت كلمة أو جملة على أذن السامع فبدلها بأخرى، وربما عاب عليه آخر شيئا في تلك القصيدة، فيغير منها ما اقتنع بوجوب تغييره، ثم يمر الراوي بآخرين فيسمعهم تلك القصيدة بالألفاظ المغيرة، فيحفظها كذلك منهم نفر فتختلف الرواية.
ولما تنفس فجر الإسلام وأيقظ العرب من رقادهم ففتحوا البلاد وجاسوا خلال ديار أقيمت على دعائم المدنية، شالت نعامة جهلهم، فامتلأت رءوسهم علما، وصاروا من أعلى الأمم كعبا فيه، غير أنه لم يكن له مأوى في صدور الإسلام إلا صدور الرجال، فكانت الأئمة ترتجله في المحافل، ولا يتصدى للتعليم غير الحافظ، ولم تكن عنايتهم وقتئذ إلا بمسائل العلم وأدلته الصحيحة، ولم يكن للفظ نصيب من البحث والتدقيق كما له اليوم، وما كانوا يعرفون الكتب، بل كانوا ينهون الطلبة عن النظر فيها والاعتماد عليها؛ لئلا تتناولها أيدي التصحيف والتحريف أو التزوير المقصود؛ فيقعوا في شر أعمال المفسدين، أو خوفا من أن يقصروا همتهم على اللفظ دون المعنى، أو يعتمدوا على الكتب؛ فيهملوا الرواية التي هي عندهم قوام العلوم، لا سيما الأدبية والنقلية منها.
ولقد كان العلماء وقتئذ يفاخر بعضهم بعضا بالحفظ، وقلما يكون لأحدهم كتاب واحد يعتمد عليه فيما يزاول، وكان بعضهم يهلك كتبه خوفا من الاتكال عليها.
يؤيد ذلك أن أول ما اشتغل به علماء العرب من العلوم هو تفهم القرآن وحفظ الحديث وكلام العرب، وقد أجمع العلماء أمرهم على أن هذه الأشياء الثلاثة لا بد فيها من السماع والسند الصحيح، فمن لم يسمعها بإسناد، لا يعد عالما فيها؛ ولذلك لا يعترف أئمة الحديث واللغة الذين حصلوا علمهم بالرواية، كالإمام الحافظ المرحوم الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، نزيل القاهرة في آخر أيامه، لا يعترف مثل هؤلاء لمصري بعلم الحديث واللغة؛ لانقطاع السماع عنا في هذه البلاد.
وإذ كان السماع هو العمدة في صدر الإسلام، كانت الكتب بالضرورة غير معتد بها، ولا معول عليها في شيء؛ إذ المسألة مسألة حفظ محض.
Página desconocida