ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وجدوا في أهلها نفرا قليلا من اليهود ومن الأوس والخزرج يعرف الخط، فاستعملوا من الأوس والخزرج لكتابة الوحي أكثر من ثلاثين رجلا، وكان أول من كتب الوحي أبي بن كعب الأنصاري، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان.
وبعد أن استقر الإسلام في المدينة، أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
أن تعلم صبيانها الكتابة والقراءة، واستعمل في ذلك من أسرى بدر من لم يستطع أن يفتدي نفسه بالمال، فكان فداء الرجل الواحد منهم تعليمه عشرة من أولاد المسلمين الكتابة والقراءة.
ثم أمر
صلى الله عليه وسلم
زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم العبرانية أو السريانية، فتعلم هذه اللغة في نصف شهر - على ما قيل - فكان أول مترجم في الإسلام.
ولعظيم شأن الخط إذ ذاك عند العرب وقلة عارفيه كانوا يسمون من يعرفه ويعرف الرمي والسباحة بالكامل.
وإذ كان الخط من جملة الفنون والصنائع التي تقبل الزيادة والنقص، كان لأول الإسلام غير بالغ مبلغه من الإحكام والتنميق، ولا إلى التوسط لقلة المشتغلين به وقتئذ، وإذا تصفحنا المصاحف العتيقة المخطوطة بأقلام الصحابة، الباقية من ذلك العهد الأول في خزائن الكتب العمومية كالكتبخانة الخديوية المصرية وغيرها، علمنا أن خطوط الصحابة كانت غير متقنة، وفضلا عن ذلك فإن الكثير من رسمهم قد خالف ما اقتضته صناعة الخط عند أهلها، ثم خلف من بعد هؤلاء السلف الصالح خلف ظنوا أن الخط من الأمور التي لا تقبل زيادة ولا نقصا، أو أنها قد بلغت الكمال ببركة الصحابة؛ فاقتفوا آثارهم فيه، واتبعوا سننهم من غير أن يزيدوا فيه شيئا، وهذا الظن غير حسن؛ فإن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - لم يعنوا بالخط عناية تحسين وإتقان، وإلا لما كان زمنهم وحده كافيا لإحكام الخط وإعلاء شأنه، ولوجب عندئذ على من يخلفهم أن يعنى به عنايتهم ليبلغ منه ما أرادوا أن يبلغوه من الجودة والإحكام، أما ما زعمه بعض المغفلين من أن الصحابة كانوا محكمين لصناعة الخط، فغير صحيح وغير ميسور لهم إذ ذاك.
قال ابن خلدون:
Página desconocida