وقد زرت بعلبك لعلاقتها بحضارة الإسلام، وهي مدينة قديمة مشهورة في سوريا، في الجهة الشمالية من سهل البقاع، قرب الجبل الشرقي المعروف بمصاقب لبنان. وبعلبك كما وصفها المؤرخون كانت قبلا من أجل لمدن؛ لوقوعها بين صور وتدمر والهند، فكانت محطا لقوافل التجارة، وهي إحدى مدن فينيقية اللبنانية في عهد الرومان، على مسافة واحد وثلاثين ميلا من دمشق إلى الشمال الغربي، واثنين وثلاثين ميلا إلى طرابلس، ومائة ميل وتسعة أميال إلى تدمر.
أما الآن فهي قصبة قضاء تتبع ولاية دمشق، وفيها كرسي أسقف للروم الكاثوليك، وآلاي لعساكر الرديف، وإدارة بريد وبرق، وموقف للسكة الحديدية بين رباق وحلب، وعدد سكانها يبلغ خمسة آلاف، النصف شيعة (متاولة)، والربع من أهل السنة، والربع الآخر مسيحيون، منهم ألف روم كاثوليك، ومائة موارنة، ولهم رئيس أساقفة، وخمسون روم أرثوذكس.
وفيها مسجدان لأهل السنة: أحدهما يعرف بالحنبلي، جدد بناءه السلطان قلاوون سنة 682ه، والآخر جدد بناؤه سنة 1321ه، وفيه مئذنة بنيت في أيام الملك الصالح أبي الفداء إسماعيل سنة 638، وهو بقرب الهيكل المستدير؛ ومسجد للشيعة بناه سابقا الأمير يونس الحرفوش سنة 962ه، وجدد بناؤه سنة 1325ه. وفيها مسجد كبير خرب، كان فيما سلف على ما يظهر كنيسة للقديس يوحنا، فحولها المسلمون مسجدا، وكان المسجد الأعظم في عمرانه، ولكنه لم يفقد الآن غير سقفه، وهو في داخله ذو ثلاثة صفوف من الأعمدة القصيرة، بعضها من حجر الجرانيت وبعضها من حجر أصم، وعلى أكثره تيجان قرنثية تحمل أقواسا قنطرية يرتكز عليها السقف، وقد وضعت العمد بلا ترتيب ولا نظام، فأكثرها وضع على الأرض بلا قواعد، وبعضها يحمل تيجانا لا تناسب حجمه، ويرجح أن العرب نقلوها من أعمدة البهويين في القلعة بعد أن قطعوا شيئا من طولها. ويفصل المسجد عن الدار التي بجانبه صف من الركائز المربعة ذات الأقواس، وهناك على ركيزة في الوسط جرن للماء عليه نقوش عربية، وكان تحته حوض لقبول الماء، ويظن أن الجرن أخذ من الكنيسة القديمة حيث كان للمعمودية، وبجانب هذا المسجد دار فسيحة مربعة، يحيط بها رواق من القناطر من الشرق والشمال والغرب لم يبق منه سوى قنطرتين في الجهة الشمالية، ووراء الرواق من الشرق غرف كانت للتدريس، وعلى أبوابها كتابات عربية، وفي وسط الدار بركة للماء، كان على جوانبها الأربعة أعمدة تحمل فيه، ولم يبق من ذلك إلا الأثر.
وأكثر أهل بعلبك زراع، وفيها بساتين حسنة تحيط بها، ونبعها المسمى «برأس العين» من أجمل المتنزهات في سوريا، فهو روضة أنيقة، مياهها كاللجين، وليس فيها من عيب إلا أنها زائلة. وفي رأس العين مسجد ينتهي بناؤه إلى زمن الظاهر بيبرس البندقداري في سنة 676ه، وهو فخم جليل، ولكنه متخرب مثل مسجده بالقاهرة في البقعة المعروفة باسمه.
وكان هناك آثار مدرسة قديمة، لم تبق منها يد الجهل غير حجر عليه كتابة عربية نقل إليها من المسجد.
وكانت هذه المدينة من أعظم المدن السورية وأشدها منعة وحصانة، وحولها إلى الآن آثار أسوار كانت تحيط بها، وفيها آثار يسعى السائحون سنويا إليها لرؤيتها، ومن تلك الآثار قلعتها التي هي من أعجب مباني الدنيا وأبهج الآثار، ومن تلك الآثار التي كادت تدرس معالمها هياكل جليلة، أشهرها هيكل الشمس الذي كان من أجل أسباب عمران بعلبك وتقدمها لكثرة وفود الزائرين إليه، وكان له احتفال من أبهج الاحتفالات، قيل حمل إلى ذلك الهيكل تمثال الشمس الذي سمي به من مصر، وهو يشبه تمثال أوزيريس، قيل إن أنطونينوس بيوس هو الذي رممه وزينه سنة 160، ولما انتشرت الديانة المسيحية في الشرق هجرت كل الهياكل الوثنية إلا هيكل الشمس، فإنه جعل كنيسة مسيحية، وذلك في أيام قسطنطين بن هيلانة، الذي تنصر وأخذ خشبة الصليب من بيت المقدس. وبقيت بعلبك زاهية زاهرة إلى أن فتحها المسلمون سنة 635، فدافع أهلها دفاعا حسنا، وبقيت أكثر من قرن مركزا عظيما للتجارة، إلى أن استبيح دم أهلها فقتلوا على عهد الأمويين، ونهبها تيمور سنة 1400م، وتم خرابها بزلزلة هائلة سنة 1799م.
أما قلعة بعلبك فهي هيكل الشمس الذي ذكرناه، حوله المسلمون قلعة حينما حدثت الحروب الصليبية، فإن السلطان صلاح الدين ذهب إلى بعلبك ووجد هذا الهيكل أمنع حصن فحوله إلى قلعة، ورفع فوقه أحجارا من غير نظام للسرعة، جعلت مناور لجند المسلمين يرمون منها الأعداء، وهي المعروفة الآن باللغة التركية بالمزالق.
وفي تلك القلعة أعمدة من الصوان أو الجرانيت أخذت من أسوان، فدل هذا على قدرة في حمل الأثقال ونقلها من أقصى الصعيد على روامس على النيل، ومنه على بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) حتى طرابلس الشام، ومنها على عجلات تخترق جبل لبنان على الطريق الرومانية، التي وجد النقابون آثارها حيال بعلبك.
وعلى تلك الأعمدة أجل ما يستطيع أن يصنعه صانع من النقوش البديعة الدقيقة التي تشبه «التنتلة»، وتلك النقوش تشهد بأنها لم تصنع إلا بعد أن رفعت هذه العمد إلى ذلك المكان الذي هي فيه ؛ لأنها لم تكسر مع شدة ارتفاعه الهائل، ويؤكد تلك الشهادة أن ذلك النقش لم يتم، وكأني بالملك قسطنطين لما تنصر أوقف العمل في هذا النقش؛ لأن على تلك العمد كتابة تدل على انتشار النصرانية هناك.
ثم بنى المسلمون في ذلك الهيكل أو تلك القلعة مسجدا يشبه مساجد مصر، وفيه بئر يسميها مؤرخون من العرب بئر الرحمة؛ لأنهم يزعمون أن ماءها كان يفيض إذا حاصر الصليبيون القلعة، فإذا ما انفضوا من حولها هبط الماء. ولقد علل هذا الانتقاد سوري عالم أديب فقال: «إن المسلمين أحاطوا تلك القلعة بخندق كانوا يملئونه ماء إذا حاصرهم الصليبيون، فيسير الماء إلى البئر من جوف الأرض فيملؤها، فإذا ما ذهبوا رفع المسلمون الماء من الخندق ليفرجوا عن أنفسهم، فيقل ماء البئر.» وهذا معقول وصحيح، وحق لهم أن يسموه بئر الرحمة، غير أنهم أخطئوا في تعليل ذلك إذ قالوا بأنه من الخوارق، والحقيقة أن ذلك الفيض والغيض مظهر من مظاهر الناموس الطبيعي المعروف في علم الطبيعة.
Página desconocida