فلما جاء دين التوحيد بعد التثنية والتثليث وجد السبيل ممهدة، والعقبات مذللة، والنفوس مهيأة؛ فغرست بذوره وتأصلت جذوره، فزكا ونمى وأينعت ثماره، وهذه الأسباب كلها كانت سببا في نجاحه.
إن المتأمل في أحوال هذا الكون إذا أعمل الفكر في ماضيه وحاضره لا يجد انقلابا واحدا حدث في حالة الإنسان الواحد، أو الأسرة، أو المجموع، أو الأمة، أو العالم كله، بغير أن تصحبه وتتلوه ضحايا وبلايا تختلف قلة وكثرة بحسب ما تصادفه من الأحوال، والعمدة كل العمدة إنما هي على النتيجة، فإن كانت حسنة في مجموعها مفيدة في جملتها، كان الانقلاب مستحبا والعاقبة مفيدة، ولا عبرة بما أدى إليها مما قد كان يكون اجتنابه أولى، لكن طبيعة العمران تأبى ذلك؛ لأن الكمال محال.
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
قام الإسلام أولا بالدعوة والإرشاد والحض على مكارم الأخلاق، فلقي في أول أمره من آل الشرك من الترات ما حمله على أن يثأر لنفسه منهم بعدما اشتد أزره وقوي أمره؛ فأباد الوثنية من جزيرة العرب، فلم يبق لغير الإسلام فيها شأن، وخصوصا بعد أن ارتد العرب على أثر وفاة النبي - عليه الصلاة والسلام - فإن أبا بكر بذل همته ووجه قوته لإخضاع العرب كلهم إلى كلمة التوحيد؛ ولذلك لا يسعنا بصفتنا من الناظرين في أحوال العمران إلا أن نقول إن الإسلام اضطر إلى استعمال القوة في جزيرة العرب بعد أن أفرغ وسعه في الهداية بطريق الإقناع حتى لا تتقطع أوصاله ويتهدم كيانه، وبذلك صفا له الأمر وتوحد فيها دون سواه، أما حروب المسلمين (لا حروب الإسلام) بعد ذلك فقد كانت كلها بقصد التوسع في الملك والتبسط في الاستعمار.
لذلك يجوز لنا أن نقول إن انتشار الإسلام في غير جزيرة العرب يرجع معظمه بل كله إلى الهداية والإرشاد والإقناع، وإلى انتشار العرب في البلدان يحملون آداب الإسلام التي وجدت في نفوسهم أهلا ومكانا سهلا لما فطرتهم عليه البداوة من علو النفس والشجاعة والمروءة، فعاملوا الأمم المغلوبة بالعدل والإحسان - بله أن الأسباب العمرانية والدينية كانت قد تهيأت كلها لسيادة أمم الجنوب لمجيء دورها في الظهور - ألا ترى أن المسلمين قد أقروا أهل الشام على أقاويلهم، ولم يحاولوا نقل الفرس عن دينهم؟ بل إن سعد بن أبي وقاص بعد أن فتح بلاد فارس أقام صلاة الجماعة في إيوان كسرى على ما فيه من التماثيل والأنصاب والأوثان، مع أن الرسول - عليه السلام - كان قد أزالها من الكعبة ومن جميع أرض العرب حتى لا تفتنهم بالرجوع إلى خرافات آبائهم. وهذه مصر وفتحها معلوم للخاص والعام، فإن المسلمين حاربوا الروم بقصد الامتلاك والحلول محلهم للثأر منهم، وأما القبط فأبقوهم على ديانتهم وأملاكهم، وهذه الأندلس، وصقلية، والقسطنطينية، واليونان، والمجر، فأهلها بقوا على دينهم ونظامهم السياسي، وإنما تغيرت الحكومة والدولة.
فالمبدأ الذي قام به الإسلام مع من يناصبه العداوة ويقطع عليه الطريق هو الجزية، أو الإسلام، أو الحرب، ولقد دخل أكثر الأمم في حوزة الدولة الجديدة ورضيت بالجزية، حتى إن أكثر أفرادها حينما رأوا قواعد الإسلام وأصوله مالوا إليه، سواء كان ذلك من باب الاستحسان أو لأجل التخلص من دفع الجزية، فقد كان المسلمون يكتفون بالجزية إذا دانت لسلطانهم الأمم بعد الحرب ولم تشأ أن تدخل في دينهم، والدليل على ذلك أن بعض الولاة قد تناسوا أوامر الدين فاستمروا على أخذ الجزية من بعض الذميين مع أنهم دخلوا في دين الإسلام؛ وذلك لأنهم خافوا من اضطراب الإيراد واختلال الموازنة في ميزانية الدولة، فلما بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز الأموي استنكره، وأمر برفع الجزية عمن يدخل في الإسلام، سواء كان ذلك لاقتناعه به أو لأجل التخلص من هذه الجزية.
وقد اقتدى به المولى أبو السعود حينما استفتاه السلطان العثماني في إلزام أهل المجر بالإسلام أو إبادتهم، فأنكر عليه ذلك، وقال بوجوب إبقائهم على دينهم ما داموا يؤدون الجزية لخزينة الدولة؛ لأن ما طمحت إليه نفس السلطان مخالف لأحكام الشرع ولروح الإسلام، فأقرهم على دينهم ولغاتهم الوطنية الأهلية، ولم يفعل آل عثمان مثل ما فعلت دولة إسبانيا مع عرب الأندلس، أو مثل ما تفعل بعض الدول الكبيرة في إبادة اللغات الوطنية من البلاد التي أدخلتها تحت حكمها تسهيلا لسبيل ابتلاعها في جسم الأمة الغالبة.
والخلاصة أن العامل الأكبر في انتشار الإسلام إنما هو الإقناع والإرشاد ومكارم الأخلاق، بل هذه آيات القرآن أكبر شاهد على ذلك، أليس يقول:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ؟ أليس هو الذي يقول:
Página desconocida