Habermas: Una introducción muy corta
يورجن هابرماس: مقدمة قصيرة جدا
Géneros
شكر وتقدير
تمهيد
1 - هابرماس والنظرية النقدية عند مدرسة فرانكفورت
2 - نهج هابرماس الجديد نحو النظرية الاجتماعية
3 - برنامج المعنى البراجماتي
4 - برنامج النظرية الاجتماعية
5 - نظرية الحداثة لدى هابرماس
6 - أخلاقيات الخطاب (1): نظرية الخطاب الخلقي
7 - أخلاقيات الخطاب (2): الخطاب الأخلاقي والتحول السياسي
8 - السياسة والديمقراطية والقانون
Página desconocida
9 - ألمانيا وأوروبا ومواطنة ما بعد القومية
ملحق: موجز لبرامج هابرماس البحثية الخمسة
المراجع المقتبس منها
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
تمهيد
1 - هابرماس والنظرية النقدية عند مدرسة فرانكفورت
2 - نهج هابرماس الجديد نحو النظرية الاجتماعية
3 - برنامج المعنى البراجماتي
Página desconocida
4 - برنامج النظرية الاجتماعية
5 - نظرية الحداثة لدى هابرماس
6 - أخلاقيات الخطاب (1): نظرية الخطاب الخلقي
7 - أخلاقيات الخطاب (2): الخطاب الأخلاقي والتحول السياسي
8 - السياسة والديمقراطية والقانون
9 - ألمانيا وأوروبا ومواطنة ما بعد القومية
ملحق: موجز لبرامج هابرماس البحثية الخمسة
المراجع المقتبس منها
قراءات إضافية
مصادر الصور
Página desconocida
يورجن هابرماس
يورجن هابرماس
مقدمة قصيرة
جدا
تأليف
جيمس جوردن فينليسون
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مراجعة
ضياء وراد
Página desconocida
شكر وتقدير
إنني ممتن لزملائي جميعا بقسم الفلسفة، جامعة يورك، وأقدر جدا مناقشة أفكاري مع ماري ماكجين وستيفن إيفرسون. وجدت في توم بولدوين جل ما كنت أتمناه في زميل ورئيس قسم، واستفدت كثيرا من صداقته وتشجيعه ومعرفته الموسوعية بالفلسفة. كان كريستيان بيلر، فوق كل شيء، صديقا صدوقا ورفيقا لي بالقسم نفسه، وشريكا في الحوار جعلته يحيط بمعلومات عن هابرماس تتجاوز توقعاته. ولقد جعلتني أسئلته الثاقبة أمعن التفكير دوما بقدر أكبر من العمق والوضوح من ذي قبل. في عام 2003، أسعدني الحظ؛ إذ سنحت لي فرصة تدريس أخلاقيات الخطاب عند هابرماس لمجموعة من الطلاب النابغين بجامعة يورك. ولقد استقيت أفكارا من إسهامات روبن هاولز وألكساندر بيري. وإنني أدين بالفضل أيضا إلى مات براون وجوليانا سوكولوفا وسونيا شنورينج، وجون-ديفيد رودز، وتشارلي بيرنز، وويليام أوثويت؛ الذين طالعوا مسودات الكتاب أو علقوا عليها أو فعلوا الأمرين معا. وكذلك أدين بالفضل إلى مارشا فيليون، المحررة المسئولة بدار نشر جامعة أكسفورد، وأليسون ليسوينج، وبيتر بوتشر من مؤسسة ريفاينكاتش؛ الذين ساعدوني على تنظيم أوراقي وأفكاري المبعثرة. وأود أن أتقدم بخالص الشكر تحديدا إلى دكتور تينج-مينج لي وكوني ديبياسيو؛ اللذين تعهداني بالرعاية بوسائل شتى وعاملاني بسخاء ورفق على مدار السنوات القليلة الماضية. وأخيرا، فإن أبوي كاثرين وجون فينليسون، وجوليانا يستحقون شكرا وتقديرا خاصا على ما قدموه إلي من حب ودعم وألفة عولت عليها في الأوقات العصيبة التي مررت بها.
تمهيد
من هو يورجن هابرماس؟
يورجن هابرماس واحد من أهم المنظرين الاجتماعيين وأوسعهم انتشارا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكتاباته النظرية مؤثرة في مناح عدة من الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. ولا شك أن جميع دارسي علم الاجتماع والفلسفة والسياسة ونظرية القانون والدراسات الثقافية واللغة الإنجليزية واللغة الألمانية والدراسات الأوروبية؛ سيصادفون اسمه في وقت ما. وثمة أسباب عدة للأثر الواسع لأعماله. بداية يعد هابرماس منظرا متعدد التخصصات؛ فنطاق إحالاته هائل. وهو النقيض التام لما أطلق عليه عالم الاجتماع ماكس فيبر (1846-1920) «متخصصا بلا روح»؛ أي الأكاديمي الذي لا يتخطى أبدا التخصص الضيق لخبرته الخاصة. ونظرا لأن أعماله تتجاوز الحدود التخصصية التي يعمل في إطارها أغلب الأكاديميين والدارسين، فإن أغلب قرائه لم يصادفوا سوى جانب واحد وحسب من أعماله. علاوة على ذلك، عكف هابرماس على الكتابة منذ نحو 50 سنة، وله إنتاج فكري ضخم. وإضافة إلى شهرته كمنظر اجتماعي وسياسي، فهو واحد من أبرز المفكرين في الشأن العام في أوروبا حاليا. فهو عميد اليسار الديمقراطي في ألمانيا ومصدر إلهامه، ويبادر، اتساقا مع مبادئ فلسفته، بالتصريح بآرائه النقدية الغزيرة - كمواطن لا كأكاديمي - في الشأنين العامين الألماني والأوروبي حول أمور لها أهمية ثقافية وأخلاقية وسياسية عامة.
شكل 1: يورجن هابرماس.
ولأن الكتاب مقدمة قصيرة، فقد عرضت أقل القليل من المعلومات عن حياة هابرماس. وليس السبب في ذلك أن حياته غير مثيرة للاهتمام، على الرغم من أن حياة الأكاديميين نادرا ما يتأتى عنها سيرة حياتية مؤثرة ومثيرة للاهتمام. السبب أني أعتقد أن الأعمال أهم من الرجل. (مع ذلك، لن أذهب مذهب مارتن هايدجر الذي حين كتب عن الفيلسوف أرسطو، لم يذكر عن حياته سوى أنه «ولد في وقت كذا، وعمل ووافته المنية».) تأثرت أعمال هابرماس بالأحداث التاريخية الجسام التي عاشها وكانت محركة لها، لا سيما نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وانبعاث جمهورية ألمانيا الاتحادية من أطلالها الاقتصادية والاجتماعية، والحرب الباردة، والاحتجاجات الطلابية عام 1968، وسقوط جدار برلين عام 1989، ونهاية الاتحاد السوفييتي.
ولد هابرماس بمدينة دوسلدورف عام 1929، وترعرع في كنف أسرة ألمانية من الطبقة المتوسطة تأقلمت مع النظام النازي دون انتقاد ودون تأييده تأييدا فاعلا. تبلورت آراؤه السياسية الخاصة للمرة الأولى عام 1945 عندما كان في السادسة عشرة من عمره. قرب نهاية الحرب، شأنه شأن أغلب المراهقين الألمان الأصحاء من عمره، انضم إلى حركة شباب هتلر. وبعد الحرب، عندما شاهد الأفلام التسجيلية عن محرقة اليهود وتتبع وقائع محاكمات نورمبرج، تفتحت عيناه على الحقيقة المروعة لمعسكر اعتقال أوشفيتس، والمدى الكامل للكارثة الأخلاقية الجمعية للحقبة النازية.
درس هابرماس الفلسفة في شبابه في جوتنجن وزيوريخ وبون. ولم يكن راديكاليا. في الفترة بين عامي 1949 و1953، انغمس في دراسة أعمال مارتن هايدجر. ولكن سرعان ما نفض عنه أفكاره؛ ليس بسبب عضويته في الحزب النازي ومناصرته للنازيين على الملأ بقدر ما كان بسبب تملصه من الحقيقة لاحقا ورفضه الاعتذار عن أفعاله، والإقرار بها، وتجاوزها. في عام 1949، تأسست الحكومة الأولى لجمهورية ألمانيا الاتحادية بقيادة كونراد أديناور المحافظ. وكانت علاقة هابرماس بهايدجر في شبابه - تلك العلاقة التي بدأت بحماس مفعم بالأمل وسرعان ما تحولت إلى شعور بخيبة الأمل والخيانة - دالة على طبيعة علاقته بنظام أديناور بأسره؛ فقد مثلت، في رأيه، رفضا جمعيا ومدروسا للإقرار بالماضي والانفصال عنه.
شكل 2: مارتن هايدجر؛ انشغل هابرماس عندما كان طالبا بأعمال هايدجر. ولاحقا انهال نقدا على صمته حيال عضويته في الحزب النازي.
Página desconocida
في عام 1954، حصل هابرماس على درجة دكتوراه بأطروحة عن الفيلسوف الألماني المثالي فريدريش شيلينج. والتفت بعد ذلك إلى أعمال هربرت ماركوزه والأعمال المبكرة لكارل ماركس، وبعدها بعامين أمسى أول مساعد أبحاث للفيلسوف تيودور في أدورنو بمعهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت. تأثر هابرماس بخبرة أساتذته في فرانكفورت، تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، وكلاهما من أصول يهودية ألمانية ، وكلاهما حمل شعورا متناقضا - ولأسباب مفهومة - بالانتماء للتراث الألماني. ومنهما تعلم هابرماس كيف يتفهم تقاليده الألمانية الخاصة من مسافة نقدية، الأمر الذي أتاح له على حد قوله «مواصلة اتباعها بروح ناقدة للذات، ومع شك وبصيرة الرجل الذي خدع فعلا ذات مرة» (الاستقلال والتضامن، لقاءات مع يورجن هابرماس). خلال هذه الفترة، أضحت أعمال هابرماس أكثر راديكالية وأكثر تعاطفا مع ماركس. لم يرق ذلك لهوركهايمر، مدير المعهد، الذي ضاق ذرعا بآراء هابرماس الماركسية الصريحة وخطط لرحيله عن المعهد. عام 1958، غادر هابرماس فرانكفورت قاصدا جامعة ماربورغ؛ حيث حصل على شهادة التأهيل للأستاذية عام 1961. وبعدها أصبح أستاذا للفلسفة في هايدلبرج، وفي 1964 عاد ليشغل منصب أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرانكفورت. وخلال هذه الفترة التي اتسمت بالاضطراب السياسي، اختلف هابرماس مع الطلاب الراديكاليين، الذين كان يتحدث معهم عموما حديثا مؤيدا، عندما أطلق - على نحو مثير للاستفزاز - وصف «الفاشية اليسارية» على سياستهم المتمثلة في المواجهة الصريحة مع أشكال السلطات كافة. وخلال الفترة من عام 1971 وحتى 1983، شغل هابرماس منصب مدير معهد ماكس بلانك في شتارنبيرج. وفي 1983، عاد إلى تدريس الفلسفة بجامعة فرانكفورت؛ حيث اكتسب سمعته كمنظر اجتماعي رائد وصوت جدير بالاحترام لليسار الديمقراطي في ألمانيا الغربية.
شكل 3: كونراد أديناور، المستشار الأول لجمهورية ألمانيا الاتحادية.
في نوفمبر 1989، سقط جدار برلين، وإثر سقوطه رأى هابرماس رأي العين اتحاد ألمانيا. وكان واحدا ممن وجهوا انتقادا شديدا للطريقة التي كانت تجري بها عملية التوحيد. ففي أوائل التسعينيات، كان اهتمام هابرماس بأعمال الفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولز يتزايد يوما بعد يوم، لا سيما فيما يختص بمفهوم الليبرالية عنده، وكذا بفكرة الديمقراطية الدستورية الأمريكية. وعادة ما يرسم ناقدو هابرماس اليساريون صورة كاريكاتيرية لسيرته المهنية التي بدأها ناقدا ماركسيا للرأسمالية، واختتمها مناصرا للديمقراطية الأمريكية الليبرالية. وهذا التصور الكاريكاتيري، مع أنه منطقي ظاهريا، مغال في التبسيط ويستند إلى عجز عن فهم تعقيدات إخلاصه لقضايا سياسية وفكرية. فقد كان هابرماس ناقدا لماركس بقدر ما كان ناقدا ماركسيا، وطالما كانت له تحفظات حيال الرأسمالية والليبرالية. ومع ذلك ، فهو يعتبر تبني ألمانيا الغربية الناجح لتقاليد الديمقراطية الغربية أعظم إنجازاتها الثقافية، حتى ولو كان يقيم هذه التقاليد على نحو سلبي - كوسيلة «للفكاك من الصلات الخاطئة الممتدة» لثقافته السياسية الشخصية - أكثر منه إيجابيا. ولهذا السبب تحديدا، غالى عالم الاجتماع الألماني رالف داهرندوف مغالاة شديدة، لدرجة أنه وصفه، بطريقة لا تخلو من السخرية، ب «الحفيد الحقيقي لأديناور» (جمهورية برلين: كتابات حول ألمانيا). في خضم كل هذا التعقيد، ورغم التغيرات الكبيرة في المناخ الفكري والسياسي للخمسين عاما الماضية، هناك تواصل مدهش في الرؤية الفكرية والسياسية عند هابرماس.
لقد قمت برسم الخطوط العريضة للدافع السيكولوجي والأصول البيوجرافية لعلاقة هابرماس المتناقضة بألمانيا وتحفظاته المستمرة حيال فكرة القومية. ولكن، ينبغي أن يتفادى المرء إغواء شخصنة هذه الجوانب من عمله. فمن السهل نسيان أن التعقيدات والتوترات المتأصلة لتاريخ ألمانيا وسياستها حديثا لا تزال موجودة وحقيقية. ويتجلى ذلك لعامة زائري القبة الزجاجية للبرلمان الألماني المشهور باسم «رايشتاج» في برلين؛ حيث يستطيع المرء أن يتطلع بالخارج إلى بوابة براندنبرج والنصب التذكاري الجديد لمحرقة اليهود، وكذلك يرى مباشرة قاعة البرلمان بالأسفل.
لا توجد نظرية اجتماعية وسياسية تحوي هذه التعقيدات والتوترات بسلاسة وانسجام وتستغلها استغلالا سليما كنظرية هابرماس. وهذه التعقيدات والتوترات تشكل الأساس لمذهب الكوزموبوليتانية الخاص به، ودعمه للاتحاد الأوروبي، وريبته في القومية ودفاعه عن الوطنية الدستورية، ومذهبه للعمومية الأخلاقية. إن فلسفة هابرماس ألمانية خالصة، وليست محدودة بأي شكل من الأشكال.
شكل 4: النصب التذكاري لمحرقة اليهود ببرلين، وتظهر بوابة براندنبرج والقبة الزجاجية الجديدة للرايخستاج في الخلفية.
تقاعد هابرماس من منصبه في فرانكفورت منذ عام 1994، وهو يعيش ويؤلف كتاباته في شتارنبيرج، ويدرس بدوام جزئي في الولايات المتحدة الأمريكية. وما زال اسمه يظهر في الصحف بانتظام، ولا يزال معلقا نشطا على الأحداث السياسية والثقافية كعادته. ومؤخرا، تناول هابرماس بالكتابة موضوعات متنوعة جدا؛ كالأخلاقيات البيولوجية، وتكنولوجيا الجينات، والعراق، والإرهاب، والكوزموبوليتانية، والسياسة الخارجية الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر.
القسم الأكبر من هذا الكتاب مخصص لمناقشة نظرية هابرماس الناضجة، وتحديدا الأعمال التي ظهرت ما بين عام 1980 والوقت الراهن. ولقد قمت بتكريس مساحة أقل لكتاباته السياسية العارضة. ولا يحوي الكتاب حكما ضمنيا على الأهمية النسبية لحياة هابرماس كمفكر في الشأن العام وسيرته المهنية كأكاديمي؛ كل ما في الأمر أن استيعاب نظريته أصعب بكثير من استيعاب آرائه السياسية وملاحظاته الثقافية التي تستهدف العامة ويمكن أن تستقل بذاتها عن بقية أعماله.
يعتبر هابرماس - على نحو ألماني غير عصري إلى حد ما اليوم - متعهد النظريات الكبرى؛ فهو يطرح أسئلة كبرى عن طبيعة المجتمع العصري والمشكلات التي تواجهه ومكانة اللغة والخلقية والأخلاقيات والسياسة والقانون فيه. وإجاباته معقدة وواسعة النطاق؛ حيث جمعها بمنتهى الحرص والدقة من معرفته بالعديد من التخصصات المختلفة. علاوة على ذلك، أبرز أعماله مسهبة وموغلة في الجانب الفني إلى أقصى درجة. فهو لا يخاطب المبتدئين بكتاباته، ومطالعة أعماله لأول مرة يمكن أن تكون تجربة محبطة. وبينما ينصب تركيزه على الصورة الكبيرة، كثيرا ما يترك لمعاونيه وتابعيه مهمة سد الفراغات بالتفاصيل لاحقا. وأحيانا ما تسقط أجزاء من الحجة. وفي الوقت نفسه، نراه في حوار متواصل مع ناقديه، وكثيرا ما يعيد صياغة أفكاره استجابة لهم؛ حيث يدخل تعديلات طفيفة لا تكون تداعياتها دوما واضحة. ولهذه الأسباب جمعاء، من السهل على القراء - الذين يفتقرون للصورة الشاملة ولا يعرفون المحوري من الهامشي - أن يصيبهم الارتباك والحيرة. من بين الأهداف التي وضع من أجلها هذا الكتاب تقديم الصورة الأكثر شمولا، وذلك عن طريق وضع الأجزاء المختلفة لأعماله في سياق مشروعه الكلي. وتلبية لهذا الغرض، سأبدأ برسم تصور عام لكامل أعمال هابرماس الناضجة. وتنقسم هذه الأعمال إلى خمسة برامج بحثية هي كالتالي: (1)
النظرية البراجماتية للمعنى. (2)
Página desconocida
نظرية العقلانية التواصلية. (3)
برنامج النظرية الاجتماعية. (4)
برنامج أخلاقيات الخطاب. (5)
برنامج النظرية الديمقراطية والقانونية، أو النظرية السياسية.
شكل 5: إطلالة على البرامج البحثية عند هابرماس.
كل برنامج من هذه البرامج مستقل بذاته نسبيا ويسهم في جانب منفصل من جوانب المعرفة. ولكن في الوقت نفسه، كل منها يرتبط - بشكل أو بآخر - ارتباطا نظاميا بغيره من البرامج.
تقدم النظرية البراجماتية للمعنى عند هابرماس - إضافة إلى نظرية العقلانية التواصلية - الأفكار الإرشادية لنظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. وتباعا، تدعم هذه البرامج البحثية الثلاثة كل منها الآخر. وأسميها برامج بحثية؛ لأن كلا منها ما زال قائما إلى الآن. وكل برنامج يجيب عن مجموعة مختلفة من الأسئلة بالمزج ما بين أفكار متعمقة من تخصصات ومعارف مختلفة. أقدم موجزا مقتضبا لكل برنامج في الملحق الموجود في نهاية الكتاب. أما في الفصول التالية، فأتناول هذه البرامج بحسب الترتيب الزمني الذي أنتجها فيه هابرماس.
الفصل الأول
هابرماس والنظرية النقدية عند مدرسة
فرانكفورت
Página desconocida
(1) مدرسة فرانكفورت
ذاع صيت هابرماس بين المتحدثين بالإنجليزية بوصفه صاحب مؤلف «نظرية الفعل التواصلي»، والعديد من المقالات حول أخلاقيات الخطاب، ومؤلفه «بين الحقائق والمعايير»؛ وهي الأعمال التي تطورت فيها، إذا جاز التعبير، نظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية على الترتيب. ويعرف هابرماس أيضا باعتباره رائدا من رواد الجيل الثاني من منظري مدرسة فرانكفورت، وتفهم أعماله بأفضل ما يكون باعتبارها ثمرة الاستجابة المستمرة للنظرية النقدية للجيل الأول من منظري مدرسة فرانكفورت.
كانت «مدرسة» فرانكفورت، وهو الاسم الذي اشتهرت به، تتألف من مجموعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعيين والناقدين الثقافيين الذين عملوا خلال الفترة السابقة واللاحقة للحرب العالمية الثانية لصالح معهد البحث الاجتماعي الممول تمويلا خاصا، ومقره فرانكفورت. عمل هؤلاء المفكرون الذين نشروا ثمرة أفكارهم في «دورية البحث الاجتماعي» التي أصدرها المعهد في سياق نموذج مشترك تقريبا؛ أي إنهم اشتركوا في الفرضيات نفسها، وطرحوا الأسئلة عينها، وتأثروا جميعا بالفلسفة الجدلية لهيجل (1770-1831) وكارل ماركس (1818-1883). ولم يكن المنهج الألماني الحديث للفلسفة الجدلية الذي عملوا تحت مظلته، وأحيانا ما كان يعرف بالماركسية-الهيجلية؛ التيار السائد مطلقا آنذاك. كانوا أقلية فكرية معارضة للمنهج الأوروبي المتمثل في الكانطية الجديدة، والمنهج الأنجلو-نمساوي المتمثل في التجريبية المنطقية. هكذا يتعين فهم الحوار الدائر بأثر رجعي عن «مدرسة فرانكفورت» ونظريتها.
شكل 1-1: ماكس هوركهايمر، مدير معهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت.
كان ماكس هوركهايمر (1895-1973) المدير الأرستقراطي للمعهد والمسئول في المقام الأول عن تطوير نموذج «النظرية النقدية» في ثلاثينيات القرن العشرين .
ويرى هوركهايمر أن النظرية النقدية يتعين أن تكون نشاطا نظريا جديدا متعدد التخصصات يكمل الفلسفة الجدلية لهيجل وماركس، ويحدث فيها تحولا بأفكار متعمقة من تخصص التحليل النفساني الجديد نسبيا وعلم الاجتماع الألماني والأنثروبولوجيا، وكذا من فلاسفة أقل شهرة مثل فريدريش نيتشه (1844-1900) وآرثر شوبنهاور (1788-1860). واتسم المنهج الناتج عن ذلك بأربع خصائص أساسية: تعدد الاختصاصات والتأمل والجدل والنقد.
لقد كانت مدرسة فرانكفورت من بين أوائل المدارس التي تتناول قضايا الخلقية والعقيدة والعلم والمنطق والعقلانية من عدة منظورات وتخصصات في آن واحد. فقد آمن القائمون عليها أن التأليف بين تخصصات ومعارف مختلفة سيثمر عن أفكار متعمقة لم يكن يتأتى الحصول عليها لو عملوا ضمن مجالات أكاديمية ضيقة الأفق ومتخصصة بشكل كبير؛ ولذا، فقد طعنوا في الفرضية المسلم بها على نطاق واسع آنذاك، والقائلة إن المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية هو المنهج الوحيد الصالح.
وعلى النقيض مما أسماه هوركهايمر «النظرية التقليدية»، التي كادت تتضمن كل شيء، بداية من الرياضيات والمنطق الصوري وحتى العلوم الطبيعية؛ كانت النظرية النقدية تأملية، أو لها وعي ذاتي متأصل فيها. فالنظرية النقدية تأملت السياق الاجتماعي الذي أدى إلى نشأتها، ووظيفتها داخل هذا المجتمع، وأغراض ممارسيها واهتمامهم، وما إلى ذلك. وتآلفت هذه التأملات داخل النظرية.
إضافة إلى تعدد جوانبها المعرفية، كان من المفترض أن تكشف الطبيعة التأملية للنظرية النقدية القناع عما اعتبره منظرو مدرسة فرانكفورت الوهم «الوضعي» الذي يشوب النظريات التقليدية (كالعلوم الطبيعية)؛ ألا وهو أن النظرية ليست سوى الانعكاس الصحيح لواقع مستقل من الحقائق.
ولقد شجعت هذه الصورة المزدوجة للمعرفة على الاعتقاد بأن الحقائق ثابتة ومسلم بها، ومحال أن تتغير، ومستقلة عن النظرية. ورفض المنظرون النقديون هذه الصورة، وفضلوا عليها مفهوما أكثر «هيجلية» وجدلية عن المعرفة يرون بحسبه أن الحقائق ونظرياتنا جزء من عملية تاريخية ديناميكية مستمرة نجد فيها أن الكيفية التي نرى بها العالم (نظريا أو خلاف ذلك) والكيفية التي عليها العالم فعليا تؤثر إحداهما في الأخرى.
Página desconocida
وأخيرا، قال هوركهايمر إن النظرية النقدية ينبغي أن تكون «نقدية». وهذا المتطلب يحوي في طياته العديد من المزاعم الواضحة. بصفة عامة، كان هذا المتطلب يعني أن مهمة النظرية عملية، لا نظرية وحسب؛ أي إنها ينبغي ألا تستهدف وحسب تحقيق فهم قويم، بل يجب أن تخلق ظروفا اجتماعية وسياسية أكثر دعما لازدهار البشرية من الظروف الحالية. وإن شئنا قدرا أكبر من الدقة، فقد كان يعني أن النظرية لها ضربان مختلفان من الأهداف المعيارية؛ أحدهما تشخيصي، والآخر علاجي. لم يكن هدف النظرية وحسب تحديد ما «يعيب» المجتمع المعاصر حاليا، ولكن المساعدة أيضا في إحداث تحول في المجتمع إلى الأفضل عن طريق تحديد الجوانب والنزعات التصاعدية داخله.
عندما جعل المناخ السياسي للنازية من المستحيل على المنتسبين للمدرسة (حيث كان غالبيتهم يتحدرون من عائلات يهودية) مواصلة أعمالهم في فرانكفورت؛ نقل المعهد مؤقتا، أولا إلى جينيف ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث واجه القائمون عليه مباشرة ظاهرة اجتماعية جديدة عليهم؛ مجتمع استهلاكي أسير لنموذج هنري فورد للرأسمالية الصناعية والإنتاج الضخم. وأذهلهم تحديدا كيف تحولت الثقافة إلى شكل من أشكال الصناعة على يد شركات هوليوود لإنتاج الأفلام، ووسائل البث الإعلامي، ودور النشر. لقد مارست هذه الشركات الاحتكارية الضخمة أساليب استغلالية وتوجيهية ماكرة، كان لها من الأثر أن جعلت الناس يتقبلون بل وحتى يقرون بنظام اجتماعي أحبط وكبت اهتماماتهم الأساسية. على سبيل المثال، كانت النهايات السعيدة المتوقعة لأفلام الدرجة الثانية التي تنتجها هوليوود تخلق لدى الجمهور إحساسا بالرضا المصطنع. وبدلا من انتقاد الظروف الاجتماعية التي حالت دون عثورهم على السعادة الحقيقية، عكف الناس على معايشة السعادة الخيالية لأبطال أفلامهم عوضا عنهم. ولعبت الثقافة بشكل عفوي دور الإعلان عن الوضع الراهن. وأشار هوركهايمر وزميله الشاب تيودور أدورنو (1903-1969) إلى هذه الظاهرة باسم «صناعة الثقافة».
شكل 1-2: عالم الموسيقى والمنظر الاجتماعي والفيلسوف تيودور أدورنو؛ زميل هابرماس ومستشاره بمعهد البحث الاجتماعي.
ولقد شكلت صناعة الثقافة جزءا حيويا من ميل المجتمع الرأسمالي إلى خلق احتياجات الناس ورغباتهم وإحداث تحول فيها، لدرجة أنه أمست لديهم رغبة في الخبث الذي صنع لأجلهم، وانزوت لديهم الرغبة في عيش حياة مرضية ومجدية. لقد وفر تحليل هذه الظواهر أفكارا متعمقة فيما يتعلق بالطرق التي يمكن بها التلاعب بوعي الناس بواسطة الإعلانات وغيرها من الوسائل؛ من أجل خلق ما عده منظرو مدرسة فرانكفورت حالة زائفة من المصالحة. كانت المصالحة الزائفة تترتب على الاعتقاد بأن العالم الاجتماعي عقلاني ومفض إلى حرية البشر وسعادتهم ويتعذر تغييره، بينما هو في واقع الأمر يفتقر بالمرة للعقلانية ويعوق حرية البشر وسعادتهم، وهو أيضا عرضة للتغير. قبل ذلك بقرن من الزمان، وفي ظروف مختلفة نوعا ما في بروسيا، ذكر هيجل أنه تم التوصل إلى مصالحة حقيقية - أي في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية التي يستطيع أن يتقبلها العقلانيون ويقرون بها - لأنهم، بالنظر إلى جميع المتغيرات، أشبعوا أعمق رغباتهم. لقد قلبت مدرسة فرانكفورت، المتأثرة بماركس وبخبرة القائمين عليها بالقرن العشرين، تفاؤل هيجل رأسا على عقب.
عندما عاد هوركهايمر إلى فرانكفورت عام 1949، أمسى هو وأدورنو أكثر تشاؤما حيال فرص تحقيق الهدف العملي من النظرية النقدية؛ ألا وهو التحول الجذري للمجتمع. وتجذر هذا التشاؤم نظريا في التحليل الذي عرضاه في كتابهما الشهير «جدلية التنوير» (الصادر عام 1947، لكنه نشر لأول مرة عام 1944 على هيئة نسخة مطبوعة بعنوان «شذرات فلسفية»).
يمهد تحليل أدورنو وهوركهايمر لعصر التنوير الطريق للتطور اللاحق للنظرية النقدية. لقد شرعا في تحليلهما انطلاقا من الفرضية الهيجلية (التي يشاطرهما إياها ماركس) والقائلة بأن البشر يشكلون أو يحددون العالم من حولهم عبر نشاطهم العقلي والمادي، أو على حد تعبير ماركس عبر جهودهم الفكرية واليدوية. وبعدها أضافا أطروحة تاريخية مفادها أنه بحلول القرن الثامن عشر الميلادي أمست العقلانية الأداتية، أي تقدير أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق غاية أو تلبية رغبة بعينها، الشكل السائد للمعرفة. لقد منحت عملية التنوير التاريخية ميزة خاصة للأشكال العلمية الطبيعية والقابلة للاستغلال تكنولوجيا للمعرفة خلاف غيرها من الأشكال المعرفية قاطبة. وقال أدورنو وهوركهايمر إن العلوم الطبيعية، التي تطرح تعميمات وتنبؤات قابلة للاختبار عن الطبيعة الخارجية، هي شكل مستتر لاستدلال الوسائل/الغايات. من وجهة النظر الأنثروبولوجية، العلم مجرد أداة تدعم الحاجة الأساسية لدى البشر لإحكام السيطرة على بيئتهم وتسخيرها. والتكنولوجيا والصناعة امتداد لهذه الأداة وتطبيق لها.
ويزعم أدورنو وهوركهايمر أن العالم الحديث الصناعي والبيروقراطي تشكل بفعل عملية العقلنة. إن العالم الاجتماعي للقرن العشرين هو نتاج أفعال البشر الذين أصيبت ملكة تفكيرهم بالضمور حتى أصبحت مجرد حساب لأكثر السبل فاعلية لتحقيق غاية ما. لقد أفضى تشييء (التجسيد في صورة شيء) الطبيعة وحسبنتها (إضفاء الصبغة الحسابية عليها) إلى فناء وجهات النظر الأسطورية والدينية عن العالم. وفي الوقت نفسه، تنشأ المفاهيم التي يدرك بها البشر عالمهم من ظروف تاريخية واجتماعية بعينها. يرى أدورنو وهوركهايمر أن العلم والتكنولوجيا يزداد تشكيلهما للحياة المؤسسية يوما بعد يوم، وذلك بفعل العقلانية الأداتية. والأشكال الحديثة للمخالطة الاجتماعية (الأشكال المؤسسية للعقلانية الأداتية) تؤدي بدورها إلى مفاهيم وتصورات وطرق تفكير أداتية في العالم؛ إنها تخلق عقلية علمية وحذرة وفاعلة. ويتبع ذلك دائرة مفرغة تمسي فيها العقلانية الأداتية حصرية وكلية.
ثمة جانب ينذر بالشؤم في الفرضية القائلة إن العلم والعقلانية يخدمان حاجة البشر الأساسية لاستغلال الطبيعة الخارجية والتحكم فيها؛ وهو أن الهيمنة والسيطرة وثيقتا الصلة جدا بالعقلانية. والأمر لا ينحصر في العلم والتكنولوجيا وحسب، بل العقلانية نفسها تعتبر عنصرا ضمنيا في الهيمنة. بحسب هوركهايمر وأدورنو، حتى الأشكال البدائية للعقلانية، كالسحر، هي في الواقع أشكال أولية لهيمنة البشر على الطبيعة وعلى غيرهم من البشر؛ وذلك لأن السحرة يلقون بتعويذاتهم لإخضاع الطبيعة لسيطرتهم، وحيازتهم لقوى سحرية تؤدي إلى خلق طبقات اجتماعية.
من المفارقة إذن أن عملية التنوير نفسها التي كان من المفترض - بحسب المفكرين التنويريين في القرن الثامن عشر؛ مثل روسو، وفولتير، وديدرو، وكانط - أن تفك أسر الإنسان من الطبيعة وتفضي إلى حريته وازدهاره؛ أتت بنتائج عكسية. وتدريجيا، بينما أحكمت النزعتان الصناعية والرأسمالية قبضتهما في القرن التاسع عشر، تعرض البشر إلى شبكات أكثر توغلا من الانضباط والسيطرة الإداريين، وكذا إلى نظام اقتصادي لا يفتأ يقوى ويتعذر ترويضه. وبدلا من أن تفك عملية التنوير أسر الإنسان من الطبيعة، نجدها قيدت الإنسان الذي هو بدوره جزء من الطبيعة. وبدلا من الرخاء الاقتصادي، شاع الشقاء والفقر. وبدلا من التقدم الأخلاقي، حدثت انتكاسة إلى البربرية والعنف والتعصب. هذه هي «جدلية التنوير» التي استلهم منها هوركهايمر وأدورنو فهمهما لعالمهما الاجتماعي، وأثرت في تشخيصهما لعيوبه.
قوض هذا التشاؤم غير المبرر الغاية النقدية من النظرية الاجتماعية في عيني هابرماس الشاب. ولو كان تشخيصهما صحيحا، ولو كان التنوير، المفترض به أن يحقق للبشر الحرية والرخاء، منذ بدايته من المقدر له أن يجلب لهم المزيد من التقييد والشقاء؛ لوقعت النظرية الاجتماعية النقدية في أزمة؛ وذلك لأن النظرية الاجتماعية نفسها شكل من أشكال التنوير، بحسب فهم أدورنو وهوركهايمر الواسع جدا لهذا الاصطلاح؛ إنها نظرية ينبغي أن تفضي إلى فهم أوسع للعالم الاجتماعي وكذا إلى إصلاحه العملي. وفي هذه الحالة، بحسب اعتراف أدورنو وهوركهايمر في مقدمتهما ل «جدلية التنوير»، فإن التنوير ضروري ومستحيل في آن واحد؛ ضروري لأنه لولاه لاستمرت البشرية في سعيها وراء تدمير الذات والتقييد، ومستحيل لأنه لا يمكن تحقيقه إلا عبر النشاط البشري العقلاني، بينما العقلانية نفسها هي أصل المشكلة. كان هذا هو مفهوم الأبوريا الذي دفع هوركهايمر وأدورنو إلى أن يصبحا حذرين أكثر من أي وقت من الغايات السياسية الفعلية للنظرية النقدية. (أبوريا
Página desconocida
Aporia
كلمة يونانية تعني حرفيا «لا سبيل» ومجازيا «بلبلة».) إن إيمان أدورنو بقدرات أي نظرية على توجيه التحرر الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي خبت سريعا لدرجة أنه اعتبر أي تصرف سياسي جمعي سابقا لأوانه وعشوائيا وغير ذي جدوى. الفارق بين هابرماس ومعلميه أنهم حسبوا أن الأبوريا حقيقة، بينما حسب هو أنها ترتبت على زلة في تحليلهم. (2) استجابة هابرماس الأولى
يعتبر أول أعمال هابرماس الكبرى «التحولات البنيوية للفضاء العام: تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي» (1962) استجابة نقدية بناءة لمفهوم هوركهايمر وأدورنو للنظرية النقدية. ولو أن هذا العمل أشبه ب «قضية مشهورة» في ألمانيا الغربية في أوائل الستينيات، فهو لم يترجم إلى الإنجليزية حتى عام 1993. وهو محاولة لحل مشكلات النظرية النقدية للجيل الأول من مدرسة فرانكفورت؛ محاولة مخلصة في الوقت نفسه لروح النظرية الأصلية مع الحفاظ على بعض جوانب تشخيصها للآفات الاجتماعية.
يظل «التحولات البنيوية» مخلصا للنموذج الأصلي من عدة أوجه. أولا: هو متعدد التخصصات؛ حيث يمزج ما بين أفكار متعمقة من التاريخ وعلم الاجتماع والأدب والفلسفة. وثانيا: يهدف إلى تحديد الجوانب التقدمية العقلانية للمجتمع الحديث والتمييز بينها وبين الجوانب الرجعية غير العقلانية. وثالثا: يوظف هابرماس، شأنه شأن هوركهايمر وأدورنو من قبله، أسلوب «النقد المحايث». ويجوز أن يطلق عليه أيضا اسم النقد الداخلي، في مقابل النقد الخارجي. ويعتقد المنظرون النقديون أن هذا الأسلوب مستلهم من هيجل وماركس. من بعض الأوجه نراه أقرب إلى أسلوب سقراط في المحاجة؛ وهو الأسلوب الذي يتبنى صاحبه دور المحاور، تلبية لغرض النقاش، دون أن يدعمه دعما حقيقيا، من أجل بيان افتقاره للاتساق والصدق. أيا كانت أصوله، فإن غاية المنظرين النقديين نقد شيء ما - مفهوم عن المجتمع أو عمل فلسفي - في حد ذاته لا على أساس القيم أو المعايير التي تتجاوزه، بنية تسليط الضوء على زيفه.
إن «التحولات البنيوية» عمل نقدي محايث ينتسب إلى فئة «الفضاء العام» - وهي ترجمة للكلمة الألمانية
Öffentlichkeit
التي يمكن أن تعني العلانية والشفافية والانفتاح. ووفقا لهابرماس، فإن مثل التنوير التاريخي - الحرية والتضافر والمساواة - كامنة في مفهوم الفضاء العام وتوفر معيار النقد المحايث. على سبيل المثال، يمكن نقد المجتمع البرجوازي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لعدم اقتدائه بمثله الخاصة. وبالمثل، يمكن نقد المجتمع الألماني لعدم ارتقائه للمجتمع الشامل المتمتع بالمساواة والشفافية الذي بشرت به هذه المثل. ويشق «التحولات البنيوية» طريقه وصولا إلى الطموحات النظرية والعملية للنموذج الأصلي للنظرية النقدية؛ ألا وهي فهم العالم الاجتماعي، وتوجيه التغير الاجتماعي من خلال تسليط الضوء على إمكانات التغير الاجتماعي.
لكن هابرماس يقدم لنا تشخيصا تاريخيا للوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي مختلفا تماما عما يقدمه هوركهايمر وأدورنو. ورغم أنه لا ينتقدهما صراحة حتى بعد مرور ما يقرب من عقدين من الزمان؛ أي بعد رحيلهما بفترة طويلة، فإن روايتهما للعقلنة حسبما يرى هابرماس كانت أحادية الجانب ومتشائمة بشكل مبالغ فيه، ومفهومهما عن جدلية التنوير كان يفتقر إلى كل من المبرر التجريبي والتاريخي وكذا الاتساق المفاهيمي. إن أعماله نفسها تحاول إنقاذ فكرة النظرية النقدية الأصلية، وذلك بواسطة المزج ما بين تاريخ أكثر تنوعا وتبريرا للتنوير ونموذج أكثر اتساقا للنظرية الاجتماعية. (2-1) مفهوم الفضاء العام البرجوازي
يرسم «التحولات البنيوية» نشأة الجمهور المفكر من رحم جمهور الصالونات والنوادي والمقاهي المعني بالآداب في أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم يصور تقهقره وتفسخه التدريجي. ورواية هابرماس مفصلة تفصيلا شديدا، وتكشف عن نطاق مرجعي غير تقليدي.
في بداية القرن الثامن عشر، ساعد توطيد الحقوق المدنية التي تضمن حرية التنظيم وحرية التعبير للأفراد، ونشأة الصحافة الحرة، على ظهور مساحات مادية كالمقاهي والصالونات والدوريات الأدبية، يستطيع المواطنون فيها الانخراط في نقاشات عامة حرة. لقد كانت منتديات يجتمع فيها شمل الناس طواعية، ويشاركون أندادا في حوارات عامة. وكانت هذه الساحات مستقلة من ناحيتين؛ فالمشاركة فيها كانت طوعية، فضلا عن أنها كانت تتمتع بالاستقلال النسبي عن النظامين السياسي والاقتصادي. لم يكتف المشاركون في الفضاء العام بالتعامل بعضهم مع بعض اقتصاديا عبر التبادل والتعاقد سعيا لتحقيق الربح الفردي والمصلحة الشخصية. يتكون الفضاء العام من تجمعات طوعية لمواطنين مستقلين يجمع بينهم هدف مشترك؛ ألا وهو استغلال منطقهم في نقاش غير مقيد يدور بين أنداد. وسرعان ما تطورت ثقافة مشتركة ساعدت، من بين أمور أخرى، المشاركين على اكتشاف احتياجاتهم واهتماماتهم والتعبير عنها، وصياغة تصور للمصلحة العامة. وبحسب هابرماس، تبلورت فكرة قياسية للرأي العام حول مفهوم المصلحة العامة الذي ترسخ في ساحات الخطاب العام هذه، والتي يمكن وصفها بالهشة والآمنة في الوقت نفسه.
Página desconocida
ومع انتشار سلطة العامة وأثرهم، بدأ الرأي العام تدريجيا في لعب دور الرقيب على شرعية صلاحيات الحكومة غير الممثلة للشعب والمنغلقة على نفسها. وعن طريق التحقق مما إذا كانت القوانين والسياسات تخدم الصالح العام أم لا، يستطيع العامة اختبار شرعيتها بفاعلية. ورغم أن الفضاء العام بدأ يمارس وظيفة سياسية واجتماعية، فإنه لا يمكن الخلط بينه وبين أي مؤسسة سياسية محددة أو ربطه بها . فقد كان فضاء غير رسمي للتواصل الاجتماعي يستقر في مكان ما بين المجتمع المدني البرجوازي والدولة أو الحكومة. (2-2) الفضاء العام كفكرة وأيديولوجية
تعتبر النظرية النقدية عند هابرماس، كما هو مبين في «التحولات البنيوية»، تنويعة من النقد المحايث المعروف باسم نقد الأيديولوجية أو النقد الأيديولوجي. ولفهم فحوى هذه النظرية، يجب أولا أن ندرس فكرة الأيديولوجية. يعرف أدورنو الأيديولوجية بأنها «وهم ضروري اجتماعيا» أو «وعي زائف ضروري اجتماعيا»، ويقبل هابرماس في شبابه تعريفا شبيها بذاك التعريف. واستنادا إلى وجهة النظر هذه، فالأيديولوجيات هي الأفكار أو المعتقدات الزائفة التي يتمكن المجتمع بشكل نظامي من حث الناس على تبنيها. لكن الأيديولوجيات ليست معتقدات زائفة عادية، كاعتقادي الزائف بأن ثمة شايا في قدحي بينما يحتوي القدح على القهوة، بل هي معتقدات خاطئة يفترض صحتها على نطاق واسع؛ لأن جميع أفراد المجتمع تقريبا حملوا على الاقتناع بها بشكل ما. علاوة على ذلك، فالأيديولوجيات معتقدات زائفة فاعلة تعمل - لا سيما في ظل انتشارها على نطاق واسع - على دعم بعض المؤسسات الاجتماعية المحددة وعلاقات الهيمنة التي تؤيدها. ومن هذا المنطلق تحديدا نجد أن الأيديولوجيات «ضرورية اجتماعيا».
والأيديولوجية من هذا المنطلق يمكنها أن تلبي وظائف اجتماعية من عدة طرق مختلفة. فمن الجائز أن تشكل في الواقع مؤسسة اجتماعية من صنع الإنسان؛ ومن ثم مؤسسة قابلة للتعديل أساسا، تبدو وكأنها ثابتة وطبيعية. أو قد تشكل مؤسسة تخدم في واقع الأمر مصالح فئة محدودة من الناس تبدو وكأنها تخدم مصالح الجميع. على سبيل المثال، إذا كان الجميع يؤمنون بأن القوانين الاقتصادية توجد بشكل طبيعي ومستقل عن البشر، فأغلب الظن أن يقبل العمال الأجور الزهيدة التي يحصلون عليها لقاء كدهم بدلا من أن يروا في موقفهم إجحافا هيكليا بحاجة إلى إصلاح؛ ولذا، فإن نقد الأيديولوجية نوع من النقد المحايث الذي يفضح هذه الأوهام الضرورية اجتماعيا؛ ومن ثم يجعل، أو هكذا نأمل، موضوع النقد - وهو هنا البنية الاجتماعية المشكلة للوهم - أكثر سلاسة وقابلية للتغير.
وبحسب هابرماس، فإن مفهوم الفضاء العام فكرة وأيديولوجية في آن واحد. فالفضاء العام مساحة يشارك فيها الناس كأنداد في نقاش عقلاني طلبا للحقيقة والصالح العام. فالانفتاح والشمولية والمساواة والحرية كأفكار كانت لا تقربها الشبهات، لكنها في الواقع محض أيديولوجيات أو أوهام؛ وذلك لأن المشاركة في الفضاء العام الموجود في المقاهي والصالونات والدوريات الأدبية في أوروبا القرن الثامن عشر نظريا طالما كانت حكرا على مجموعة صغيرة من الرجال المتعلمين الأثرياء. وكان الثراء والتعليم شرطي المشاركة الضمنيين. والواقع أن السواد الأعظم من الفقراء وغير المتعلمين، وجميع النساء تقريبا، كانوا مستبعدين من الفضاء العام. ومن ثم، فإن فكرة الفضاء العام ظلت طوباوية وحسب؛ مجرد رؤية شاملة داعية للمساواة بين البشر لمجتمع جدير بأن نسعى لتحقيقه، لكنه لم يتحقق كليا قط. وظل مفهوم الفضاء العام البرجوازي أيديولوجيا بالمعنى الثاني أيضا؛ وذلك لأن فكرة المصلحة العامة أو الصالح العام، التي خلقتها الثقافة المشتركة للجمهور المولع بالأدب وسوق الحجج، طرحت ما كانت في حقيقة الأمر مصالح مجموعة محدودة من الرجال المتعلمين الأثرياء باعتبارها المصلحة العامة للبشر أجمعين.
أهم نقطة في منهج هابرماس هي إثبات أن فكرة الفضاء العام البرجوازي كانت، رغم كل ذلك، تتجاوز الوهم المحض؛ لأن هذا الفضاء كان أساسا مفتوحا؛ فكل من حصل ثروة وتعليما مستقلين، بغض النظر عن مكانته أو حالته الاجتماعية أو الطبقة التي ينتمي إليها أو جنسه، يحق له المشاركة في النقاش العام. ولم يكن هناك من يستبعد «نظريا» من المشاركة في الفضاء العام، مع أن كثيرا من الناس استبعدوا «فعليا». إن نموذج اجتماع عدد من الأشخاص المستقلين على نحو تطوعي مفتوح للجميع، يجتمعون كأنداد للمشاركة في نقاش لا يقيده قيد طلبا للحقيقة والمصلحة العامة، كان لا شك طوباويا، لكنها كانت ولا تزال يوتوبيا جديرة بالسعي إليها. ولفترة وجيزة خلال القرن الثامن عشر، لم تكتسب هذه اليوتوبيا رواجا فكريا فحسب، بل وبدأت تتحقق على أرض الواقع، بشكل عابر وجزئي، في الواقع الاجتماعي والسياسي. (2-3) انحسار الفضاء العام
يرسم الجزء الثاني من «التحولات البنيوية» تفسخ الفضاء العام وانحساره. لما شهدت الصحف والمجلات تدريجيا رواجا كبيرا على نطاق واسع، تحولت إلى شركات رأسمالية عملاقة تعمل على خدمة المصالح الخاصة لعدد قليل من أصحاب النفوذ. وتدريجيا فقد الرأي العام استقلاليته المزدوجة، علاوة على وظيفته النقدية. وبدلا من تعزيز تشكل الرأي العقلاني والمعتقدات الموثوقة، أمسى الفضاء العام في القرنين التاسع عشر والعشرين حلبة يمكن فيها توجيه الرأي العام والتلاعب به. وأمست صحف ومجلات الإعلام الجماهيري والروايات الأعلى مبيعا، إضافة إلى البث الإذاعي والتليفزيوني، عناصر استهلاكية؛ وبدلا من أن تعزز الحرية والرخاء البشري بدأت في واقع الأمر تقمعهما. ولا شك أن مؤسسات الدولة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية أصبحت أكثر براعة من ذي قبل في الفوز بتقدير الجمهور وتأييده؛ مما كفل لها غطاء من الشرعية لاحقا. ولكن هذا التأييد قوامه الآراء الخاصة لمستهلكين صاغرين غير ناقدين وتابعين اقتصاديا، لا الرأي العام السديد الذي يتشكل عبر النقاش العام المدروس.
إن هذه النظرة المتشائمة نوعا ما لتطور المجتمع الرأسمالي الغربي في القرن العشرين كانت تتسق مع جزء كبير من رواية أدورنو وهوركهايمر للطريقة التي خلقت بها صناعة الثقافة جمهورا متجانسا بشكل متزايد من المستهلكين الخانعين غير الناقدين. وتبنى هابرماس أيضا تحليل مدرسة فرانكفورت المتشائم نوعا ما، والذي مفاده أن الرأسمالية الاحتكارية وليبرالية دولة الرفاه في الولايات المتحدة الأمريكية أفضتا في نهاية المطاف إلى تضاؤل حرية الإنسان، وتفريغ السياسات الديمقراطية من مضمونها، ولم تقدما بديلا مثمرا للنظام الاجتماعي الهش لجمهورية فايمر الألمانية التي أذعنت للنازية.
لهذه الأسباب كلها، يتصف هابرماس بمزيد من الوضوح والإيجابية مقارنة بما كان عليه أدورنو وهوركهايمر في أي وقت حيال المسار الذي كان ينبغي سلوكه. فالفضاء العام الذي انحسر حقا وتشظى كان ينبغي تعميقه وتوسعة نطاقه واستمراره في ممارسة مهمة النقد وإضفاء الشرعية على النظامين السياسي والاقتصادي، والزج بهما في نطاقات تحظى بالسيطرة الديمقراطية. ويختتم هابرماس حديثه في «التحولات البنيوية» بما يحويه التحليل النهائي؛ ألا وهو تخمين يحدوه الأمل بأن هذا التطور لم يحدث بعد، وقد يطرأ في المستقبل على أساس الفضاءات الحالية للدعاية المدمجة في مؤسسات كالأحزاب السياسية. وفي ظل الظروف السياسية والاجتماعية المواتية، يحتمل سد الفجوة التي لا تفتأ تتسع بين فكرة الفضاء العام والواقع الاجتماعي والسياسي مجددا. (2-4) مفهوم النظرية النقدية عند هابرماس
يهتم هابرماس بمفهوم الفضاء العام؛ لأنه يعتبره أصلا لنموذج إرساء السياسات الديمقراطية، وأساسا للقيم الأخلاقية والمعرفية التي تعزز الديمقراطية وتحافظ عليها؛ ألا وهي المساواة والحرية والعقلانية والحقيقة. ودائما كانت أعمال هابرماس مختلفة عن أعمال أساتذته بمدرسة فرانكفورت؛ إذ كان اهتمامه الشديد بالحرية الفردية دوما مرتبطا باهتمامه بمصير المؤسسات الديمقراطية وبآفاق تجديد السياسات الديمقراطية. ومن ثم، فهو يبدي اهتماما بالبنية المؤسسية الفعلية للمجتمع الديمقراطي أكبر بكثير من هوركهايمر وأدورنو. وهو يرى أن النظرية النقدية كان يجب أن تدلي بدلوها في أنواع المؤسسات الضرورية لحماية الأفراد من مفاتن التطرف السياسي، من ناحية، وعمليات النهب التي يقوم بها الاقتصاد الرأسمالي المتنامي سريعا من ناحية أخرى.
لا يبادر أدورنو، شأنه شأن ماركس من قبله، بالخوض، إلا قليلا، فيما يجب أن يكون عليه المجتمع الصالح أو العقلاني، وشأنه شأن ميشيل فوكو (1926-1984) من بعده، فهو يتعامل بريبة شديدة مع المؤسسات عامة. إن الغاية العملية لنظرية أدورنو النقدية هي تجهيز الأفراد بالقدرات التي تمكنهم من مقاومة الاندماج في مؤسسات المجتمع الرأسمالية التي لا مناص منها، والساعية لدمج الجميع في نسيجها. وأهم هذه القدرات على الإطلاق الاستقلال الفردي الذي يفهم إلى حد ما في سياق إحساس إيمانويل كانط (1724-1804) بما يعرف ب
Página desconocida
Mündigkeit (والذي يترجم أحيانا إلى «الرشد»)؛ وهي القدرة على استخدام المرء منطقه الخاص والتفكير بنفسه. ولكن حسبما يرى أدورنو، يرتبط الرشد
Mündigkeit
بالتحرر من جهة شديدة السلبية؛ فالتحرر في الموقف الحالي لا يعني سوى مقاومة النظام الراسخ، والقدرة على قول كلمة «لا»، والقدرة على رفض التكيف أو التأقلم مع الواقع الاجتماعي الحالي. ويريد هابرماس، في المقابل، أن يحدد الظروف الاجتماعية والمؤسسية التي تعزز الاستقلال؛ فالتحرر عنده يعني خلق مؤسسات ديمقراطية حقا لها القدرة على الصمود في مواجهة الآثار المدمرة للرأسمالية وإدارة الدولة.
ولذا فإن «التحولات البنيوية» يعطي صورة للتنوير أقل تشاؤما وسوادا بكثير من «جدلية التنوير». ففي «جدلية التنوير»، نجد أن العقلانية نفسها هي السبب المحتوم للهيمنة وفي آن واحد السبيل لفك عراها. إن نظرية أدورنو وهوركهايمر أبورية عن وعي ذاتي؛ فهي تسلط ضوءا طفيفا على الموقف المتأزم الذي لا سبيل للخروج منه. وفي المقابل نجد أن نظرية هابرماس عن الفضاء العام تتبنى نموذج النقاش العقلاني الحر بين الأنداد، مع أنه لم يتحقق حاليا باعتباره نموذجا جديرا بأن نسعى وراءه رغم ذلك.
الفصل الثاني
نهج هابرماس الجديد نحو النظرية الاجتماعية
(1) أعمال هابرماس الأولى
بعد «التحولات البنيوية» بعشرين عاما تقريبا، نشر هابرماس عمله «نظرية الفعل التواصلي» الذي يعتبر أول إعلان رئيسي عن نظريته الناضجة. ولم يكن العقدان الفاصلان بأي حال من الأحوال فترة من الصمت المطبق. على العكس من ذلك، كان إنتاج هابرماس في هذه الفترة غزيرا على غير العادة؛ حيث نشر العديد من الأعمال المهمة. فإذا كان «التحولات البنيوية» العمل الذي بشر بنهاية تبعية هابرماس الفكرية، فقد مثل هذان العقدان سنوات إبحاره في رحلته الفكرية. وخلال هذه الرحلة، أعاد هابرماس تجهيز نفسه وتعديل موقفه فيما يختص بالمنهج الهيجلي-الماركسي الذي لم يكن على وفاق تام معه على الإطلاق. وحقق ذلك بأن طور ثلاثة مسارات فكرية ذات صلة بذلك المنهج.
أطال هابرماس انخراطه النقدي مع ماركس وإرثه الفكري في الستينيات والسبعينيات، مستندا إلى فرضية مفادها أن العمل هو الفئة الأساسية لإدراك الإمكانات البشرية، وأن حرية الإنسان يمكن تصورها بشكل ذي مغزى باعتبارها تحررا لقوى الإنتاج وتحولا لعلاقات الإنتاج.
وكما أوضح غيره من المنظرين، ومنهم المنظر الاجتماعي الفرنسي سيمون ويل (1909-1943)، أن الحرية بتصورها هذا لا ترقى إلى تحرر البشر والقضاء على الظلم الاجتماعي، فيجب عدم الخلط بين العلاقات والتفاعلات الإنسانية من ناحية والعمل والكد من ناحية أخرى؛ ذلك أن العمل والكد علاقات تربط بين ذات وموضوع، وهي علاقات أداتية محضة، بينما الأولى علاقات بين الذوات وهي لا أداتية إلى حد كبير. واستجابة لذلك، شرع هابرماس في دراسة تطور البنى المعيارية، وتطور الوعي الأخلاقي كتتمة وتصحيح للفكر الماركسي، الذي كان مشغولا أكثر من اللازم بتطوير أنماط الإنتاج. ولقد أعطاه ذلك مفهوما أكثر ثراء بالروابط الاجتماعية والإنسانية مقارنة بما أتاحته عادة النظريات الماركسية.
Página desconocida
شكل 2-1: كارل ماركس. كان هابرماس، بوصفه منظرا اجتماعيا ماركسيا، شديد الانتقاد للنظرية الاجتماعية عند ماركس.
التطور الثاني هو أن هابرماس أمسى مهتما بمنهج البراجماتية الأمريكية الذي وضعه ويليام جيمس (1842-1910) وجون ديوي (1859-1952) وجورج هربرت ميد (1863-1931) وتشارلز ساندرز بيرس (1839-1914)، والمنهج التأويلي غير المنقطع الصلة تماما والممتد من فلهلم دلتاي (1833-1911) إلى هانز-جورج جادامير (1900-2002). اشترك هذان المنهجان، البراجماتية الأمريكية والتأويلية الألمانية، في فرضية مهمة، وهي أن الفلسفة يجب أن تجد لها مستقرا في الحياة اليومية وتحافظ على رابطها بها. ويتعين أن تؤتي النظريات والمفاهيم الفلسفية ثمارها بإحداثها فارقا في حياة أناس حقيقيين وتجربتهم في عالم الواقع.
وثالثا، إلى جانب نقده لماركس وانغماسه في التأويلية والبراجماتية، قدم هابرماس نقدا للتكنولوجيا والعلم والأساليب العلمية والوضعية في التفكير. ورغم ميله إلى الوضعية المنطقية عند مدرسة فيينا بقدر أكبر من أدورنو وهوركهايمر، ظل هابرماس منتقدا لوجهة النظر القائلة بأن المعرفة كلها، ولا سيما معرفة العالم الاجتماعي، يجب أن تتسق وقوانين العلوم الطبيعية. وفي نهاية المطاف، استحدث هابرماس وجهة النظر القائلة بأن الأنواع المختلفة للمعرفة - النظرية والعملية والنقدية - تتشكل في سياق أطر مختلفة، وتخدم مصالح بشرية مختلفة. فالمعرفة النظرية تستند إلى اهتمام البشر بالسيطرة التقنية على الطبيعة؛ أما المعرفة العملية والأخلاقية فترتكز على اهتمام البشر بفهم بعضهم بعضا؛ بينما تستند النظرية الاجتماعية النقدية والتحليل النفساني على الترتيب إلى الاهتمام الجمعي والفردي بالتحرر، وبالتحلل من الأوهام، وبالاستقلالية، وتحقيق الحياة الصالحة.
ورغم أن أعماله الأولى كانت حافلة بشكل مميز بأفكار «هابرماسية»، فإنها الآن ذات اهتمام بيوجرافي وتاريخي إلى حد بعيد. بدأت تأثيرات هابرماس واسعة النطاق بعمله «نظرية الفعل التواصلي» (1981) في التحول إلى برنامج متسق للنظرية الاجتماعية تفتقت منه نظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. إن جزءا كبيرا من الكتاب مكرس لنقاشات عن علماء الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920) وإميل دوركايم (1858-1917) وتالكوت بارسونز (1902-1979) وصولا إلى جيورج لوكاتش الهيجلي الماركسي (1885-1971) وحتى النظرية النقدية لأدورنو وهوركهايمر. هذا العمل ليس مراجعة للأدبيات.
يتسم نهج هابرماس بأنه إصلاحي لا تاريخي. فهو يباشر عمله بانتقاء النظريات والسوابق التاريخية المتنافسة انتقاء نقديا. ودفاعا عن نهجه، يقول هابرماس إن نماذج العلوم الاجتماعية (على عكس نماذج العلوم الطبيعية) لا يرتبط بعضها ببعض كمعقبات تاريخية؛ فعلماء الاجتماع لا يسقطون نظرية ما لصالح نظرية أخرى أفضل منها؛ وذلك لأن النظريات الاجتماعية يرتبط بعضها ببعض كبدائل تتنافس، إذا جاز التعبير، «على قدم المساواة» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). ومن ثم فمن بين معايير النظرية الاجتماعية السديدة الدرجة التي تستطيع بها التعامل مع سابقاتها ومنافساتها؛ بحيث تفسر إنجازاتها وتحافظ عليها وتعالج عيوبها في الوقت نفسه. وتلبية لهذه الغاية، يقدم هابرماس ما يسميه «تاريخ النظرية بنية منهجية»، وهو نهج تركيبي مدروس ينسب إليه ثراء أعماله الرئيسية، وكذلك إسهابها المخيب للآمال.
بدلا من التركيز على تناولات هابرماس لتاريخ النظرية الاجتماعية، الأمر قد يكون متحيزا نوعا ما، سأركز على النية المنهجية في أعماله. إن هدفه المباشر في «نظرية الفعل التواصلي» هو حل ثلاث مشكلات يعتقد أنها سببت إحباطا للمفكرين أصحاب المناهج سالفة الذكر. (2) ثلاث مشكلات في النظرية الاجتماعية (2-1) مشكلة فهم المغزى في العلوم الاجتماعية
مشكلة فهم المغزى في العلوم الاجتماعية هي مشكلة تفسير أفعال البشر (أو فهم مغزاها). والكلمة المقابلة للمغزى في هذا السياق هي
Sinn
الألمانية. ولوقع هذه الكلمة على آذان أبناء القرن العشرين استخدامان فنيان مختلفان؛ فقد استخدمها في الأساس فلهلم دلتاي وغيره إشارة إلى المغزى الرمزي للأفعال البشرية. وهنا تحمل هذه الكلمة المعنى الذي يحمله «المغزى» في تعبيرات مثل «مغزى الحياة». ولكن إمعانا في الإرباك، كان جوتلوب فريجه (1848-1925) يستخدم الكلمة نفسها
Sinn
Página desconocida
لبيان الطريقة التي يعطى بها الموضوع الذي تشير إليه كلمة أو عبارة ما إلى الذات. وميز فريجه معنى الاصطلاح الباطن لغويا، ألا وهو
Sinn ، عما يشير إليه، أو
Bedeutung
الكائن بالعالم الخارجي. فعبارة «نجم الصباح» لها معنى يختلف عن عبارة «نجم المساء»، لكنهما يشيران إلى كوكب الزهرة. مؤقتا، لنستغل استخدام فريجه لكلمة
Sinn
في جانب واحد.
ذكر دلتاي أن العلوم الإنسانية، أو
Geisteswissenschaften ، كالتاريخ والفلسفة والقانون والأدب، وهي الفروع المعنية بدراسة الأمور الإنسانية؛ مميزة منهجيا عن العلوم الطبيعية؛ فالعلوم الإنسانية سبيل لفهم العالم الاجتماعي، بينما العلوم الطبيعية تعنى بتفسير الأحداث الخارجية أو الظواهر الطبيعية. رأى دلتاي أن التفسيرات الطبيعية-العلمية السببية كانت غير كافية لفهم الحياة الفكرية والروحانية للبشر. فسر العلم الأشياء من الخارج بمساعدة النظريات المدعومة بالملاحظة التجريبية. لكن أفعال البشر كان لا بد من فهمها أيضا من الداخل، من وجهة نظر التجربة الذاتية. على سبيل المثال، يمكن أن يعطينا العلم تفسيرا فيزيائيا وحيويا-كيميائيا وافيا لحركة الجسم البشري، لكنه لا يكشف لنا عن شيء حيال أهمية فعل العدو؛ فلا يعلمنا إن كان من يعدو أمامنا هو مسرع أم فار أم متدرب. ولكي نفهم مغزى الفعل، يجب أن نفسره في ضوء التجربة البشرية الذاتية للفاعل.
وعلى نهج دلتاي، فكر فيبر أن على المرء المزج بين الملاحظات الخارجية للسلوك البشري وفهم المغزى الذاتي «الداخلي» للفعل. ويمكن الوصول إلى المغزى الذاتي السالف الذكر بتفسير السلوك البشري في ضوء السياق ذي الصلة للدوافع والقيم والاحتياجات والرغبات البشرية. وقال فيبر إن الفعل ذو مغزى ذاتي؛ ومن ثم فهو مفهوم إذا تسنى ربطه بسياق مناسب من الوسائل والغايات؛ أي إذا تسنى فهمه باعتباره أقدم عليه لسبب. وفي المقابل، فالفعل «غير ذي مغزى»، شأنه شأن غالبية السلوكيات الحيوانية، إذا لم يتسن تفسيره إلا كرد فعل لمثير خارجي. لقد ربط فيبر بين مسألة مغزى الفعل ومسألة السبب الداعي للإقدام عليه.
يعيب نظرية فيبر للفعل، رغم كل مميزاتها التي تتفوق بها على نظرية دلتاي، العديد من السقطات. يرى فيبر أن المفسر يمكن أن يفهم مغزى فعل شخص ما، لدرجة أنه يستطيع إعادة خلق أو استنساخ ما يحدث ذاتيا «داخل» عقل ذلك الشخص بشكل فيه تقمص عاطفي، لكنه لا يقدم لنا تحليلا وافيا لماهية هذا الفهم الحاصل بالتقمص العاطفي. لدى فيبر مفهوم ازدواجي عن الفعل طبقا له ينفصل العقل الداخلي عن الجسد الخارجي، وبذا تظل العلاقة بينهما غامضة في حد ذاتها. ومن ثم، يتعذر عليه أن يصرح بالقيود التي تقيد تفسير فعل ما. وهذا يعني أنه لا سبيل لديه لتفسير سبب أن ما يعد غير عقلاني أو عقلانيا من منظور الفاعل يعد أيضا غير عقلاني أو عقلانيا من منظور مفسر الفعل. ولذلك، لا يستطيع فيبر تفسير علة استمرار ثبات مغزى الفعل بمرور الوقت وإمكانية الكشف عنه.
Página desconocida
ثمة طريقة أنفع وأجدى للتعاطي مع المشكلة برمتها؛ ألا وهي التمييز بين المعتقدات والرغبات والتوجهات الذاتية للفاعل ومحتواها «الاقتراحي» الموضوعي. فبمجرد أن نفعل ذلك، يمكننا فهم الفعل بواسطة إعادة تكوين الأغراض أو النيات الذاتية للفاعل باعتبارها حدثا من أحداث المنطق العملي: (1)
يود سميث الحفاظ على شعوره بالدفء. (2)
يملك سميث موقدا لحرق الخشب يستخدمه في تدفئة البيت. (3)
نفد الوقود الذي يستخدمه سميث لإشعال الموقد. (4)
يعلم سميث أنه يستطيع الحصول على وقود للموقد إذا ما جمع الحطب وقطعه. (5)
ولذا، ينبغي أن يجمع سميث الحطب ويقطعه.
تبرهن هذه الحجة على أن سميث لديه سبب في ظل الظروف الحالية لجمع الحطب وتقطيعه. وإذا تسنى لنا كمفسرين افتراض أن فهم سميث لهذا المنطق أدى به إلى جمع الحطب وتقطيعه، فسيمكننا، على أساس سلوكه الظاهري، فهم مغزى فعله فهما وافيا. يعتمد مغزى فعل سميث على حقيقة الافتراضات من 1 إلى 4، وكذا على صحة الاستنباط المفضي إلى النقطة 5، وهي كلها منفصلة عن الحالات الذهنية لسميث ولمفسره.
هذا نهج قياسي نوعا ما لمهمة تفسير الأفعال يحل المشكلة المتعلقة بتفسير فيبر. ورغم أن هابرماس لا يتبنى هذا الحل، فهو يوافق على أن نظرية مغزى الفعل تعول على نظرية المعنى اللغوي، ويتفق مع النقاط التالية: (1)
لفهم مغزى فعل من الأفعال، لا يكفي أن نطرح وصفا خارجيا من طرف ثالث للسلوك. (2)
الفهم السديد لمغزى الفعل يعتمد على فهم صحيح للأسباب الداعية للقيام بالفعل. (3)
Página desconocida
لا يمكن تفسير الأسباب؛ ومن ثم الأفعال، تفسيرا صحيحا إلا بمساعدة المعرفة المسبقة للأغراض والقيم والاحتياجات والرغبات والتوجهات البشرية. (4)
المغزى وراء فعل ما، والأسباب الداعية للقيام به، لها محتوى متاح في الأساس لكل من المفسر والفاعل، وليس حكرا على الفاعل وحده.
وبناء على ما تقدم، يرى هابرماس أن النهج القياسي معيب؛ إذ يفترض خطأ أن البشر كائنات تحمل احتياجاتها ورغباتها قبل تفردها ونزوعها للتجمع. علاوة على ذلك، فهو يفترض أن كل فرد يفكر بشكل أداتي من وجهة نظره الشخصية؛ ولذا فإن المعاني العامة والمشتركة تعتمد على أسباب خاصة وفردية. وأخيرا، فهذا النهج يستبدل بكل من المفهوم التأويلي عند دلتاي والمفهوم المنطقي النفساني عند فيبر للاصطلاح الباطن لغويا شيئا آخر أكثر صلة بمفهوم فريجه عن الإشارة الكائنة بالعالم الخارجي. وفي المقابل، يرى هابرماس، كما سيتبين لنا في الفصل التالي، أن المعنى اللغوي لا يمكن اختزاله إلى شروط افتراضات الحقيقة. (2-2) اللاعقلانية ومشكلة نقد الأيديولوجية
تساءل المنظرون الاجتماعيون منذ عهد لودفيج فويرباخ (1804-1883) وكارل ماركس عن علة استعداد الفاعلين للحفاظ على مؤسسات تعوق أو حتى تحبط تحقيق مصالحهم وإعادة استنساخها. لم يجاري الفقراء والمهمشون والمضطهدون المؤسسات والقوانين نفسها - سواء كانت دينية أم اقتصادية أم سياسية - التي تفقرهم وتهمشهم وتضطهدهم؟ الإجابة التي يقدمونها هي أن هذه الفئات تتصرف بلا عقلانية؛ لأنها تتبنى معتقدات خاطئة عن ماهية مصالحها الحقيقية. استخدم ماركس اصطلاح «الأيديولوجيات» الفني (الذي تعرفنا عليه في الفصل الأول) إشارة لمثل هذه المعتقدات الخاطئة. فقد رأى أنه ليس من الكافي للفيلسوف الاجتماعي أن يجعل الفاعلين المضطهدين ببساطة على دراية بمعتقداتهم الخاطئة. فالتغيير الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بإحلال معتقدات سليمة محل أخرى خاطئة هكذا ببساطة. فالمسألة ليست، كما كتب أفلاطون ذات مرة، بمنزلة صب البصر في أعين المكفوفين. ثمة شيء في المجتمع - شيء يتعلق بتنظيمه الاقتصادي لدى ماركس - يجعل الفاعلين أكثر ميلا لاكتساب هذه الأيديولوجيات والتشبث بها، رغم الجهود المثلى للفلاسفة الاجتماعيين الساعية لإزالة الغشاوة من على أعينهم. والأدهى أن استمرار هذه الأيديولوجيات ساعد على استنساخ الأنظمة الاجتماعية الاستبدادية نفسها التي ساعدت على نشأتها، والحفاظ عليها. لقد كانت المشكلة العملية للمنظرين الاجتماعيين الماركسيين تكمن في تحديد وتغيير الآليات المولدة للأيديولوجية التي جعلت الفاعلين ينزعون إلى التصرف بما يتعارض مع مصالحهم الحقيقية.
لقد كانت هذه الاستراتيجية التفسيرية معيبة، مع أنها لم تخل من جاذبية بديهية خاصة. أولا: يجب أن تتاح لدى الناقد الماركسي للأيديولوجية نفسه معلومات موثوقة عن ماهية الآلية المولدة للأيديولوجية، وتفسير وجيه يعلل كون معلوماته الخاصة ليست عرضة لأي نوع من أنواع الخطأ الأيديولوجي الذي ينسبه على نطاق واسع للآخرين. يجد ناقد الأيديولوجية أمامه خيارين: إما أن يستثني نظريته الخاصة من الشك في أنها وهم أيديولوجي. وفي هذه الحالة، لا بد أن تكون هناك وسيلة لتفادي تعرضه للخداع، وينبغي أن تكون معرفة حدوث خداع ما كافية للحيلولة دون تكون المعتقدات الخاطئة. (فور أن نرى حيلة البطاقة، نكف عن الإيمان بسحرها). وإما ألا يستثني نظريته من الشك، وفي هذه الحالة لا يكون هناك أي داع لتصديق ناقد الأيديولوجية أكثر من الأيديولوجية نفسها. على سبيل المثال، يدرك هوركهايمر الجانب الأول من المعضلة. وفقا لتصوره الأصلي للنظرية النقدية، فإن الطبيعة المتعددة التخصصات الانعكاسية الجدلية للنظرية النقدية كان من المفترض أن تحصنها من الأيديولوجية، وتمنح المنظر رؤى متعمقة مميزة في الواقع الاجتماعي. وبالمثل، نجد أن أدورنو أحيانا ما يزعم أنه من حسن الطالع أن واقعة خلال نشأته حصنته من آثار الأيديولوجية. ومع ذلك، فالمنظر النقدي يجد نفسه في موقف مزعج؛ فكلما كان من المفترض أن تكون الآلية المكونة للوهم أكثر عمقا وأكثر فسادا، كان زعمه بعدم التأثر بها أقل مصداقية.
ثانيا: من المقبول حاليا وعلى نطاق واسع أنه لا يمكن تفسير المعنى إلا على فرض أن الناس عقلانيون في الأساس، وأن معتقداتهم صحيحة إلى حد بعيد. إذا كان المفسر على استعداد للقبول باللاعقلانية والخطأ الشائع نفسه لدى الفاعلين الذين يحاول تفسير أفعالهم، فسيقبل الكثير من التفسيرات المحتملة لسلوكهم. (وربما أن الشخص المار من أمامنا يعتقد أن ثمة دبا خفيا يطارده). وبذلك فإن المفسر يحرم نفسه من أي وسائل موثوقة لتحديد أي التفسيرات صحيح؛ ومن ثم فهم معنى الأفعال المراد تفسيرها. لا يمكن التوسع في فكرة الوهم الأيديولوجي أكثر من اللازم دون الحط من شأنها. فإذا بولغ في الاحتكام إلى اللاعقلانية، فإن ذلك يهدد بأن يصبح العالم الاجتماعي غير مفهوم. تستجيب النظرية الاجتماعية عند هابرماس، كما سنرى في الفصل الرابع، إلى هذه المشكلة بإعادة صياغة فكرة الأيديولوجية، ومفهوم النقد الأيديولوجي المرتبط بها في سياق تمييزه بين الفعل التواصلي والفعل الأداتي. من وجهة نظر هابرماس، الإجابة ليست أن كثيرا من الناس، دون دراية منهم، يتصرفون بلا عقلانية، بل إنهم يوجهون بفعل الأنظمة الاقتصادية والإدارية إلى أنماط بعينها من السلوك العقلاني بشكل أداتي. (2-3) مشكلة النظام الاجتماعي
يهتم هابرماس - شأنه شأن كثير من المنظرين الاجتماعيين من قبله - بمسألة إمكانية وجود نظام اجتماعي. وتطرح هذه المسألة كثيرا كما أثارها توماس هوبز (1588-1679). فقد تساءل هوبز كيف يمكن أن ينشأ نظام اجتماعي متوقع ومستقر من رحم أفعال أعداد مهولة من البشر المتمايزين، قليل منهم يعرف الآخرين شخصيا، وقليل جدا فقط منهم، في أي مكان أو زمان، في موقف يسمح لهم بتنسيق أفعالهم باتفاق صريح بينهم. كانت إجابة هوبز هي أن النظام ينشأ بموجب قوانين وسلطة حاكم قدير يتكئ على استخدام القوة والتهديد الحقيقي بإنزال العقاب.
إن المشكلات المرتبطة بحل هوبز لمشكلة النظام الاجتماعي مألوفة. فمن وجهة نظر الفرد، أحيانا ما يكون الثمن المتوقع لمخالفة القوانين وانتهاك الأعراف - أي العقوبة - أقل بكثير من المنفعة المتصورة للنجاة من العقاب، وفي هذه الحالة سيكون من المنطقي أكثر مخالفة القانون بدلا من الامتثال له. إن النظريات التي تزعم بيان أن طاعة القوانين الراسخة تعود بالنفع بشكل ما على الفرد - النظريات الاجتماعية الأداتية - تصطدم بما يعرف بمشكلة «المنتفع بالمجان». فهذه النظريات لا تستطيع أن تعلل لماذا يطيع الناس، أو ينبغي أن يطيعوا، القوانين حتى ولو بدا لهم أنه من المنطقي ألا يفعلوا، وأن يستفيدوا شخصيا من طاعة الآخرين. ومن ثم، فمشكلة النظام الاجتماعي لم يوجد لها جواب شاف.
في مواجهة هذه الاعتراضات، لجأ الفلاسفة لنظريات العقد الاجتماعي التماسا لأجوبة لمشكلة النظام الاجتماعي. زعمت هذه النظريات أن النظام الاجتماعي يستند إلى شبكة من العلاقات التعاقدية الضمنية أو الصريحة. ولكن هذه النظريات يصعب عليها هي الأخرى - بل ويستحيل - تفسير متى وكيف تحديدا تم إبرام هذا العقد ما بين الناس الذين من المفترض أن يلتزموا بشروطه. علاوة على ذلك، كما بين دوركايم، ليس كل ما هو تعاقدي منصوصا عليه في العقد. بدلا من تفسير وجود القوانين والأعراف الاجتماعية، تفترض فكرة العقد مسبقا أن ثمة مجموعة كاملة من الأعراف الاجتماعية - وخاصة تلك التي تنص على تنفيذ العقود - موجودة بالفعل.
حاول دوركايم نفسه تفسير النظام الاجتماعي بافتراض أن الفاعلين يلتزمون بالأعراف التي تشكل الوعي الأخلاقي الجمعي. وهم يفعلون ذلك لأسباب إيجابية وسلبية على حد سواء. فمن خلال التطبع الاجتماعي، يربطون بين عقوبات بعينها وانتهاك الأعراف، ويتعلمون كيف يتجنبون هذه العقوبات بالفعل الطوعي. وفي الوقت نفسه، يخالجهم شعور تدريجي بالألفة والتماهي مع الوعي الأخلاقي الجمعي للمجتمع الذي يعيشون فيه. طور عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز وجهة النظر هذه، فتحولت على يديه إلى نظرية أكثر تعقيدا نوعا ما، مفادها أن امتلاك نظام من الأعراف والقيم يفضي إلى التناسق والاستقرار الاجتماعي. وقال إن الفاعلين يكتسبون نزوعا لتصنيف الدواعي الأخلاقية (اللاأداتية والموجهة نحو الآخرين) في مرتبة أعلى من الدواعي اللاأخلاقية (الأداتية والموجهة نحو الذات)، ونزوعا إلى إنزال العقاب بمن يفشلون في ذلك. وحيث إن أغلب الناس يكتسبون النزعتين معا، فمن الممكن الحفاظ على النظام الاجتماعي مع أن بعض الفاعلين قد ينحرفون من آن لآخر عن الأعراف الاجتماعية. وفي حال فشل الآلية المعيارية في ضمان الالتزام في بعض الحالات، تظل شبكة أمان أداتية في محلها وراء هذه الآلية؛ لأن الناس سيخشون أن ينزل بهم العقاب إذا لم يلتزموا بما تلزمهم به الخلقية.
Página desconocida
يكمن حل هابرماس لمشكلة النظام الاجتماعي في إعادة صياغة جديدة لأجزاء مختلفة من تلك النظريات. سأبادر برسم الخطوط العريضة للفكرة الرئيسية بإيجاز شديد. بحسب هابرماس، يتم تنسيق الأفعال البشرية دوما وفي المقام الأول باستخدام الكلمات أو اللغة. وإذا استخدم الفاعلون اللغة لتنسيق أفعالهم ، فإنهم يلتزمون التزامات محددة بتبرير أفعالهم (أو كلماتهم) على أساس دواع وجيهة. ويطلق على هذه الالتزامات «ادعاءات الصحة». سندرس ما يعنيه بكل من «ادعاء الصحة» و«الصحة» في الفصول التالية. يكفينا الآن أن نلاحظ أن هذه الالتزامات لها نوع من المكانة «الأخلاقية»؛ لأنها منطبقة عموما على الفاعلين ولا مناص منها، وتخلق تعهدات تجاه المستخدمين الآخرين للغة. ولادعاءات الصحة أيضا مكانة «عقلانية»؛ لأنها ترتبط بدواع وجيهة. ادعاء الصحة هو التزام نحو تبرير المرء لأفعاله وكلماته للآخرين. وهذه ليست ظاهرة لغوية ودلالية وحسب؛ فادعاءات الصحة لها وظيفة عملية بما أنها توجه أفعال الفاعلين الاجتماعيين. تقام المجتمعات الحديثة بحيث يمكن أن يطلب من أي فاعل في أي موقف تفسير فعله، ويلزم مسبقا بذلك. بهذه الطريقة، توفر الدواعي الخطوط الخفية التي تتجلى معها تسلسلات التفاعل، وتنأى بالفاعلين عن الصراع. وبينما يألف الفاعلون الاجتماعيون توجيه أفعالهم بواسطة الكلام، والإقرار المتبادل بالدواعي الوجيهة، تبدأ أنماط مستقرة نسبيا من النظام الاجتماعي في التشكل؛ أنماط لا تعول مباشرة على تهديدات معقولة بإنزال العقاب أو على التقاليد العقائدية المشتركة أو قيم أخلاقية سالفة.
هذا تصوير موجز للفكرة الرئيسية وراء نظرية هابرماس الناضجة. وهذه الفكرة ليست أساس نظرية المعنى والعقلانية الخاصة به وحسب، بل وكذا نظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والقانونية. وهذا يعني أننا لن نحصل على حل هابرماس لمشكلة النظام الاجتماعي كاملا حتى الفصل التاسع. لكن هذا لا يعني أن نظريات هابرماس الأخلاقية والسياسية ما هي إلا مكونات لنظريته الاجتماعية، وأن أعماله ما هي إلا طريقة طويلة جدا ومسهبة للإجابة عن مسألة النظام الاجتماعي وحدها. إن برامج هابرماس للفلسفة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية مهمة كل على حدة، ولكن كما نتذكر من المخطط الذي أوردناه سلفا (الشكل
5 )، فكل منها يدعم الآخر. وكون النظرية الأخلاقية والسياسية لهابرماس تصب أيضا في نظريته الاجتماعية يعكس حقيقة أن المجتمعات الحديثة شديدة التعقيد، وأن المعايير الأخلاقية، وقوانين الدولة، والمؤسسات الاقتصادية والإدارية والسياسية جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي.
الفصل الثالث
برنامج المعنى البراجماتي
(1) التحول اللغوي ونهاية فلسفة الوعي
يزعم هابرماس أنه ابتكر طريقة جديدة لتناول الفلسفة الاجتماعية؛ طريقة تبدأ بتحليل استخدام اللغة؛ مما يجعل الأساس العقلاني لتنسيق الفعل يكمن في الكلام. ويربط هابرماس هذه الطريقة الجديدة بتحول أكثر عمومية في الفلسفة يطلق عليه اسم «التحول اللغوي». ميزت هذه العبارة أصلا محاولات مختلفة قام بها مختلف فلاسفة القرن العشرين لحل الخلافات المعرفية والميتافيزيقية المستعصية ظاهرا عن طريق دراسة الحقائق المفاهيمية المتأصلة في استخدامنا للغة. قامت الاستراتيجية الأساسية على معالجة أسئلة تتعلق بما هو موجود، وما يمكن التعرف عليه، وكيف يمكن التعرف عليه، باعتبارها أسئلة خاصة بما نعنيه، أو ما نشير إليه، وكيف نفعل ذلك. ويطبق هابرماس استراتيجية مثيلة على أسئلة متعلقة بطبيعة ما هو اجتماعي وإمكانية وجود نظام اجتماعي.
التحول اللغوي عند هابرماس ليس مجرد تحول باتجاه اللغة وحسب، بل هو تحول يبتعد به عما يسميه «نموذج فلسفة الوعي». وهما وجهان لعملة واحدة؛ ففلسفة الوعي تحدد نموذجا فلسفيا عاما جدا يمكن اختزاله في القليل من الأفكار المميزة: (1) «الذاتية الديكارتية»: الفكرة المألوفة التي مفادها أن ثمة شيئا يعرف باسم الذات التي هي محل العقل المتصور كعالم ذهني داخلي من الأفكار والتصورات. (2)
عادة ما تلازم الذاتية الديكارتية «الازدواجية الميتافيزيقية»: وهي فكرة أن هناك نوعين من المادة؛ التفكير والكيان الممتد. وأحيانا ما تعرف باسم «الازدواجية الديكارتية» أو «ازدواجية العقل والبدن»؛ لأن ديكارت كان يحسب العقل والبدن كيانين مختلفين أساسا. (3) «ميتافيزيقا الذات-الموضوع»: هذه هي النظرة الأكثر عمومية ومفادها أن العالم هو مجموع الموضوعات التي تقف في مواجهة تعددية التفكير والذوات الفاعلة. وما يميز هذه الفكرة أن الذوات لا تعتبر أجزاء من العالم الذي تعمل عليه. (ليست كل النظريات المثيلة نسخا من الازدواجية الميتافيزيقية. على سبيل المثال، يحدث هيجل تحولا في نموذج الذات-الموضوع من الداخل، وذلك عن طريق تصور العالم على أنه نتاج روح ذاتية مفردة عارفة للذات؛ ولذا، فإنه يملك ميتافيزيقا ذات-موضوع أحادية.) (4) «التأسيسية»: من منظور محدود، تشير التأسيسية إلى المذهب المعرفي لمدرسة فيينا أو الوضعيين «المناطقة» الذي مفاده أن المعرفة راسخة في بيانات حسية أو في فئة من العبارات الرصدية البدائية. ومن منظور عام، تشير التأسيسية إلى البحث المعرفي عن اليقين الذي يميز كثيرا من الفلسفات الحديثة بداية من ديكارت وما بعده. (5) «الفلسفة الأولى»: فكرة أن الفلسفة، التي لا تفترض مسبقا الحقائق الراسخة بفعل العلوم الطبيعية، مطلوبة لتقديم برهان على صحة أنماط البحث العلمي. وهي شائعة بين الفلاسفة التأسيسيين بالمعنى العام، ومنهم على سبيل المثال ديكارت وكانط اللذان يؤمنان بأن مهمة الفلسفة الأساسية تكمن في وضع معايير للمعرفة السليمة.
هناك فكرتان أخريان يربط هابرماس بينهما وبين فلسفة الوعي؛ وهما ترتبطان بشكل أكثر مباشرة بالنظرية الاجتماعية. (6) «الذرية الاجتماعية»: الفكرة الشائعة في قسم كبير من الفلسفة الاجتماعية والسياسية بأن الأفراد سابقون منطقيا ووجوديا وتفسيريا للواقع الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي. واستنادا لهذا الرأي، يتكون المجتمع من مجموع العلاقات التي تربط بين أفراده المحددين كاملي التكون السابقين للوجود الاجتماعي والسياسي. النقطة الجوهرية التي تميز الذرية الاجتماعية هي أنه رغم أن الأفراد لا يتشكلون بفعل علاقاتهم بعضهم ببعض أو بالمجتمع ككل، يتشكل المجتمع بفعل العلاقات التي تربط بين أفراده. ويترتب على ذلك أنه لا ينظر إلى المجتمع على أنه يحمل أي قيمة متأصلة فيه، وأن الانتماء إليه لا يعتبر ذا قيمة أصلا. بدلا من ذلك، نجد أن المجتمع يوجد لخدمة المصالح والرغبات المسبقة لأفراده، والانتماء للمجتمع ذو قيمة أداتية وحسب. (7) «المجتمع ذات كبرى»: يمكن العثور على فكرة كون المجتمع ضربا من ذات كبرى في أعمال أفلاطون وروسو وشيلر وهيجل وماركس ودوركايم. وتقوم الفكرة على أن المجتمع كل عضوي موحد، لا مجرد تعددية أو مجموع أفراده، بل شخص جمعي نوعا ما.
Página desconocida
لا يدعي هابرماس أن كل فيلسوف ينتمي إلى هذا النموذج يقبل كل أفكاره المميزة. الواقع أنهم لا يستطيعون ذلك؛ لأن هذه الأفكار ليست مجموعة متسقة. الفكرتان السادسة والسابعة مثلا تبدوان غير متسقتين تماما. القصد أن هذه الأفكار مؤثرة جدا وراسخة بشدة في الفلسفة الحديثة، وأن هابرماس يرفضها كلها.
وبالعمل في اتجاه خارج عن تحليل التحول اللغوي ذاك، يمكننا تمييز بعض السمات العامة لفلسفة هابرماس. بداية، لا تصور النظرية الاجتماعية لهابرماس العالم الاجتماعي باعتباره موضوعا (أو مجموعة من الموضوعات) يقف في مواجهة مجموعة الذوات التي يتفاعل معها سببيا. وليس العالم الاجتماعي موضوعا أو مجموعة من الموضوعات، وهو ليس تحديدا شيئا خارجنا، بل هو وسط نعيش فيه. إنه «داخلنا» بالطريقة التي نفكر ونحس ونتصرف بها بقدر ما نحن «داخله». هذا أمر تعلمه هابرماس من علاقته في شبابه بهايدجر. وثمة نقطة ثانية مهمة، وهي أن هابرماس لا يرى الفلسفة تخصصا متميزا يتمتع بالأولوية على العلوم الطبيعية؛ فمهمة الفلسفة العمل في تضافر مع العلوم الطبيعية والاجتماعية التي تستقي منها مادتها. وحيثما دعت الضرورة، قد تلعب الفلسفة دور البديل لما يسميه هابرماس «النظريات التجريبية ذات الادعاءات العمومية القوية»؛ أي إن لديها القدرة على سد الفراغات في العلوم الطبيعية بتقديم فرضيات للتأكيد التجريبي (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). أخيرا، تعطي النظرية الاجتماعية لهابرماس أفضلية للبعد الذاتي المشترك للواقع الاجتماعي. إن المجتمع ليس مجموع الذوات المفردة، كما أنه ليس وحدة عضوية تيسر فيها الأجزاء غاية الكل. فما هو اجتماعي، بحسب قوله، ليس «ذاتا كلية» فحسب، بل إنه ليس حتى موحدا أو متسقا. وكما سيتضح لنا في الفصل الخامس، فما هو اجتماعي يكون بنية معقدة ومتعددة الأوجه بين ذواتية تشمل نطاقات متداخلة مميزة يتفاعل بداخلها الفاعلون. (2) نظرية المعنى البراجماتية عند هابرماس
بالنظر إلى التحول «اللغوي» عند هابرماس من وجهة نظر إيجابية، سنجده تحولا «براجماتيا» أيضا بالقدر نفسه. يحاول هابرماس أن يحدث تحولا في النظرية الاجتماعية بمساعدة ضرب خاص من نظرية المعنى؛ أي النظرية البراجماتية للمعنى. في السبعينيات، توصل هابرماس متأثرا بكارل-أوتو آبل زميله بجامعة فرانكفورت إلى رأي مفاده أن المعنى اللغوي لم يستنفده المعنى الافتراضي، وأن للمعنى «بنية مزدوجة أدائية-افتراضية»، أو أن المعنى الافتراضي والبراجماتي كانا متلازمين. ولتقدير هذا الموقف وأثره على نظرية هابرماس، سندرس كلا مما سبق على حدة. (2-1) المعنى الافتراضي
بحسب النظرية القياسية الشائعة للمعنى حاليا ، يتألف معنى الجملة من شروط صحتها، وفهم معنى جملة من الجمل ما هو إلا معرفة ما يجعلها صحيحة أو خاطئة. ولقد ثبت أن نظرية المعنى المشروطة بالصحة محكمة ومفيدة. فمن ناحية، هي قادرة على تفسير الحقيقة المميزة المتعلقة باللغة؛ ألا وهي أنه من بين عدد محدود من المفردات والعبارات ذات المغزى والقواعد النحوية التي تحكم المزج بينها، يمكن تشكيل عدد لا نهائي من الجمل الجديدة المفيدة الأكثر تعقيدا. ويفسر ذلك بدوره علة فهمنا لمعنى الجمل التي لم نسمعها من قبل قط.
ولكن، ثمة صعوبة واحدة تشوب نظرية المعنى النموذجية المشروطة بالصحة؛ ألا وهي أنها تبدو منطقية لجزء محدود من اللغة وحسب، وهو الجزء الافتراضي أو الوصفي. ولا بأس بها في تأكيدات على غرار «الثلج أبيض»، لكنها لا تناسب تعبيرات مثل «كيف حالك؟» يبدو من العبث أن نزعم بأنه لمعرفة معنى التعبير «كيف حالك؟» يتعين على المرء معرفة الشروط التي بموجبها تكون جملة «كيف حالك؟» صحيحة (أو خاطئة). هناك الكثير من الأمثلة الشبيهة نرى فيها اللغة ذات معنى، مع أنه يبدو من الغريب الزعم بأن معنى الجمل أو أجزاء الجمل يعول على شروط صحتها. ولهذا السبب، يعتقد هابرماس أن علم الدلالة المشروط بالصحة موصوم ب «مغالطة وصفية»؛ فهو يقع في خطأ توسعة نطاق نظرية المعنى التي تسري دون مشكلة على بعض أجزاء اللغة؛ ألا وهي الافتراضات، التي لها حقا وظيفة وصفية أو تمثيلية، بحيث تناسب اللغة بأسرها. وهذا واحد من الأسباب التي دعت هابرماس لتفضيل نظرية المعنى البراجماتية. (2-2) المعنى البراجماتي
نظرية هابرماس للمعنى براجماتية لأنها لا تركز على ما «تقوله» اللغة، بل على ما «تفعله»؛ فهي نظرية ل «استخدام» اللغة. وينطلق هابرماس من تعريف للغة عند كارل بوهلر (1879-1963)، المنظر اللغوي الألماني، باعتبارها «أداة ينقل بها المرء فكرة للآخر عن العالم.» وينسب بوهلر ثلاث وظائف للغة تقابل منظور المتكلم والمخاطب والغائب على الترتيب؛ ألا وهي: الوظيفة «المعرفية» لتمثيل الحال، ووظيفة «الالتماس» لتوجيه الطلبات إلى المتلقين، والوظيفة «التعبيرية» للإفصاح عن تجارب المتكلم. ويوضح مخطط بوهلر الطبيعة الثلاثية للتواصل.
شكل 3-1: نموذج الأورجانون لدى كارل بوهلر للغة.
يزعم بوهلر أن أي حدث من أحداث استخدام اللغة ينطوي على ثلاثية قوامها المتكلم والمستمع والعالم، وأن نظرية اللغة يجب أن تعاملهم جميعا بإنصاف. ويوافقه هابرماس الرأي؛ فهو يعتقد أنه من الخطأ أن ينصب تركيز نظرية المعنى المشروط بالصحة حصريا على الوظيفة المعرفية، بينما يتجاهل الوظيفتين الأخريين المتمثلتين في العلاقة بين المتكلم والمستمع. ومن ثم، فهي لا تستطيع أن تقدم تفسيرا وافيا لكيفية استخدام اللغة بعدة طرق مختلفة ليتواصل بعضنا مع بعض ولتنسيق أفعالنا.
يطور هابرماس هذه الفكرة قائلا إن الوظيفة البراجماتية للكلام هي الانتقال بالمتحاورين إلى نقطة فهم مشتركة، وتحقيق الإجماع الذاتي المشترك، وأن هذه الوظيفة تتمتع بأفضلية على وظيفة الدلالة على واقع العالم. وبينما تتبنى نظرية المعنى المشروط بالصحة الفرضيات باعتبارها الوحدات اللغوية الأساسية الحاملة للمعنى، تتبنى نظرية المعنى البراجماتية الملفوظات باعتبارها الوحدات اللغوية الأساسية الحاملة للمعنى. ويتكون اللفظ من كلمات ينطقها المتكلم ويتلقاها المستمع في موقف بعينه ولسبب محدد؛ على سبيل المثال، «النافذة مفتوحة». والفرضية هي المحتوى أو الفكرة التي تمثلها الكلمات، وهي «أن النافذة مفتوحة». في المواقف الواقعية، دائما ما تطمر الفرضيات في الملفوظات. لا يرفض هابرماس نظرية المعنى المشروط بالصحة بالمرة، بل إنه ينكر أولا أنها يمكن أن تكون تفسيرا عاما للمعنى، وينكر ثانيا كونها الضرب الأساسي للمعنى. ويرى بدلا من ذلك أن المعنى والفهم من الأفضل تناولهما عبر تحليل للوظيفة البراجماتية للكلام:
لا يعرف المرء ماهية فهم معنى تعبير لغوي إذا لم يكن يعرف أساسا كيف يستغله للوصول إلى فهم مشترك مع الآخر حيال شيء ما. «براجماتيات التواصل» (2-3) الإجماع والاتفاق
Página desconocida
يزعم هابرماس أن الوظيفة الأساسية للكلام هي تنسيق أفعال جمهور الفاعلين المفردين، وإتاحة المسارات الخفية التي يمكن للتفاعلات أن تتجلى فيها بطريقة منظمة وخالية من الصراعات. ويمكن للغة أن تفي بهذه الوظيفة نظرا لغايتها (أو مرادها) المتأصلة المتمثلة في الوصول إلى الفهم أو تحقيق الإجماع. ويرى هابرماس حقيقة لا مراء فيها؛ أن «الوصول إلى فهم يكمن في كلام البشر باعتباره مرادا له» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). ويستخدم هابرماس الكلمة الألمانية
Verständigung
إشارة إلى عملية الوصول إلى فهم أو اتفاق، وعبارة
rationales Einverständnis
إشارة إلى نتيجة هذه العملية؛ ألا وهي الإجماع أو الفهم العقلاني الذي يتم التوصل إليه. وتنبع هذه الكلمات من الفعل
sich verständigen
الذي يمكن أن يعني «أن يجعل المرء نفسه مفهوما للآخر»، لكنه يمكن أن يعني أيضا «الوصول إلى اتفاق مع الآخر». وهذا ازدواج مهم إذا ما نظرنا إلى حقيقة أن الاصطلاح محوري في تفسير النظام الاجتماعي. فيما يلي، سأستخدم كلمة «إجماع» كمراوغة مقبولة، لكننا ينبغي أن نحتاط فلا نغفل عن هذا الازدواج.
تنص نظرية هابرماس على أن المعنى البراجماتي للكلام يتألف من الطريقة التي يعمل بها الكلام على تشكيل إجماع بين ذواتي مشترك بين المتحاورين؛ إجماع يشكل أساس أفعالهم المترتبة عليه. ورؤية هابرماس هي أن الكلام يفي بهذه الوظيفة؛ لأن معنى الملفوظات يعتمد على الأسباب. وأسمي هذه الفكرة الأطروحة العقلانية؛ لأن وجهة النظر القائلة إن المعاني تتكئ على الدواعي هي صورة من صور العقلانية. ويسمي هابرماس وجهة النظر هذه «أساس صحة المعنى»، وهي تسمية أكثر دقة نوعا ما، لكنها أيضا يمكن أن تكون مضللة بسبب الطريقة الغريبة التي يستخدم بها اصطلاح «الصحة». وذلك لأن هابرماس يستخدم هذا الاصطلاح بطريقة براجماتية لا بالمعنى الصوري-المنطقي. في المنطق الاقتراحي، تشير الكلمة نفسها، «الصحة»، إلى علاقة استنباطية حامية للحقيقة بين العبارات المحكمة الصياغة. إن ما يطلق عليه هابرماس اسم الصحة (
Getlung
أو
Página desconocida
Gültigkeit ) شيء مختلف إلى حد ما؛ فهو العلاقة الوثيقة بين الأسباب والإجماع، أو بحسب تعبيره، «العلاقة الداخلية مع الأسباب» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول، الفصل التاسع).
النقطة المحورية فيما أسميه أطروحة هابرماس العقلانية هي أن المعنى البراجماتي لأحد الألفاظ يعتمد على صحته؛ أي على الإجماع الذي يقدم أسبابا يمكن أن يستشهد بها المتكلم. علاوة على ذلك، يزعم هابرماس أن معنى الأفعال والملفوظات والفرضيات عام أو مشترك بالضرورة، وأن هذا يرجع إلى أن المعنى يعتمد على الأسباب التي هي بدورها عامة أو مشتركة بالضرورة. وتعتمد المعاني المشتركة على أسباب مشتركة. (يمكن أن يرى المرء هنا كيف تعيد نظرية المعنى البراجماتية لهابرماس صياغة فكرة الدعاية في تعبير اصطلاحي مختلف كل الاختلاف، وعلى مستوى نظري أكثر تجريدا من أعماله السابقة.)
لنلق الآن نظرة أكثر تمحيصا على تفاصيل النظرية. يقول هابرماس إن أي فعل كلامي مخلص يطرح ثلاثة ادعاءات مختلفة لصحته: ادعاء صحة حقيقته، وادعاء صحة صوابه، وادعاء صحة صدقه. هذه هي الالتزامات التي شهدناها في نهاية الفصل السابق. وادعاءات الصحة «ضرورية» من حيث إنها تفهم دوما على اعتبار أنها طرحت أثناء فعل الكلام؛ لا يمكننا أن نجعل الآخرين يفهموننا ونشارك في حوار هادف دون افتراضات مسبقة، وإقناع الآخرين بالإيمان بأننا صادقون، وأن ما نقوله صواب وحقيقي. وانطلاقا من كون ادعاء الصحة التزاما بالتبرير، فهو التزام بتقديم الأسباب المناسبة. ويدعي هابرماس أنه في أي فعل تواصلي، يجب أن يقدم المتكلم ادعاءات الصحة الثلاثة كلها. ووفقا لنوع فعل الكلام - سواء أكان تأكيدا، على سبيل المثال، أم طلبا أو تصريحا - ثمة ادعاء صحة وحيد هو الذي يطرح كفكرة على المستمع، أو ادعاء صحة وحيد يستوعبه المستمع.
عندما يطرح المتكلم ادعاء بصحة حقيقة قول ما، على سبيل المثال «الثلج أبيض»، فهو يوحي بأن هناك أسبابا وجيهة لتصديق ادعائه، وأنه يستطيع، إذا دعت الحاجة، أن يقنع المستمع بصحته على أساس هذه الأسباب. سيفهم المستمع التأكيد في ضوء هذه الأسباب. وهذه نقطة أقل مباشرة مما تبدو في الواقع. فالسؤال هنا: عندما أطرح ادعاء بصحة حقيقة عبارة «الثلج أبيض»، هل أدعي أن محتوى التأكيد - أن الثلج أبيض - صحيح، أم أن الملفوظ نفسه - «الثلج أبيض» - صحيح؟ بداية، لم يحدد هابرماس؛ فالمتكلم - حسب زعمه - «يستطيع بشكل عقلاني تحفيز المستمع من أجل قبول فعله الكلامي؛ لأنه ... يستطيع أن يضطلع بتقديم «ضمانة» توفير ... أسباب وجيهة يرد بها على نقد المستمع لادعاء الصحة» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). موقفه الحالي هو أن الحقيقة تلتمس لمحتوى ما يقال وللفظ المنطوق في آن واحد .
وادعاءات صحة الصواب - إذا وجدت - أكثر تعقيدا بكثير. يزعم هابرماس أنه عندما يطرح المرء ادعاء بصحة صواب كلام ما، فإنه يدعي صواب العرف الكامن وراء الكلام. على سبيل المثال، إن قلت إن «السرقة إثم»، فإنني أزعم ضمنيا أني أستطيع تقديم حجج تقنع محاوري بأن السرقة إثم. ثمة مكمنان للصعوبة هنا. أولهما أن هابرماس يعتقد أن التصريحات الأخلاقية مثل «السرقة إثم» ليست افتراضات حقيقية، ولا تحمل قيم الحقيقة في طياتها. فالقول بأن «السرقة إثم» طريقة تضمر وراءها مقولة «لا تسرق»، وليس من المنطقي القول بأن «لا تسرق» عبارة صحيحة أو خاطئة بما أننا لا نستطيع أن ننسب الحقيقة أو الزيف إلى صيغة الأمر؛ ولذا، فإن محتوى المقولة الأخلاقية «القتل إثم» يشبه فرضية «أن القتل إثم»، لكن هذه طريقة مراوغة للقول بأن العرف الأساسي الذي تعبر عنه صيغة الأمر «لا تقتل» مبرر. ويترتب على ذلك أن ادعاء صحة الصواب يجب أن يكون ادعاء بصواب العرف الأخلاقي الضمني؛ أي التزاما بتقديم الأسباب التي تبرر هذا العرف.
موطن التعقيد الثاني يكمن في أن «الصواب» هنا كلمة ملتبسة؛ فمن الممكن أن تعني المناسب أو المبرر أو المسموح به أخلاقيا أو المطلوب أخلاقيا. والتقدم بادعاء صحة صواب شيء ما يمكن أن يوازي الادعاء بأن عرفا من الأعراف مناسب في الموقف المعني؛ ويمكن أن يوازي الادعاء بأن ذاك العرف مبرر، ويمكن أن يعني الادعاء بأن الأفعال التي يحددها العرف مباحة أو مطلوبة. ويبدو أن رأي هابرماس هو أن التقدم بادعاء صحة صواب شيء ما يوازي الادعاء بأن العرف الكامن وراءه مبرر، على أساس ضرب خاص جدا من المنطق وثيق الصلة بالخلقية. وعندما يتم تطبيق العرف تطبيقا صحيحا في موقف بعينه، سيكون واضحا لجميع المعنيين إن كان الفعل مسموحا به أو محظورا أو مطلوبا.
يكفي هذا القدر فيما يتعلق بادعاءات صحة الصواب الآن. سأتناولها بالنقاش مرة أخرى في الفصل السابع. تنص الأطروحة العقلانية على أن المعنى يعتمد على الصحة؛ لأنه لفهم معنى الكلام الملفوظ، يتعين على المستمع أن يكون قادرا على استحضار (وقبول أو رفض) الأسباب المتعلقة بتبريره في ذهنه. النقطة الأساسية هنا هي أن السبب والصحة، لا الحقيقة، هما اللذان ينجزان العمل كله. فبدلا من القول بأنه لفهم معنى فرضية ما، يجب أن أعرف الشروط التي تجعلها إما صوابا أو خطأ، يزعم هابرماس أنه لفهم معنى الكلام الملفوظ (والأمر نفسه ينطبق على الأفعال)، يجب أن أكون قادرا على أن أستحضر في ذهني، وأقبل أو أرفض، الأسباب التي من الممكن الاستدلال بها لتبريره. يقول هابرماس: «إننا نفهم معنى فعل الكلام عندما نعرف ما يجعله مقبولا» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). (2-4) الفهم والمعنى
حتى الآن عكفت على عرض ما يسميه هابرماس براجماتيته الشكلية كنظرية للمعنى. ولعلكم لاحظتم أننا أخذنا نناقش مسائل خاصة بالمعنى بالتوازي مع مسائل متعلقة بالفهم. ولا عجب في ذلك إذا ما نظرنا إلى أن أحد أسباب ابتكار هابرماس لنهجه الجديد للنظرية الاجتماعية هو حل مشكلة فهم المعنى. يعتقد هابرماس أن نظرية المعنى ينبغي أيضا أن تكون نظرية للفهم، وإلا فستجرد مسألة المعنى من السياق الذي يعطي فيه المتكلم المستمع شيئا ليفهمه. وبتعبير آخر، يعتقد هابرماس أن المعنى علاقة بين ذواتية لا علاقة موضوعية. (لاحظ كيف تمثل نظريته للمعنى رفضه لفلسفة الوعي. استنادا لرأي هابرماس، المعاني لا تحددها علاقة المتكلم بالعالم الخارجي، بل علاقته بمحاوريه؛ فالمعنى في الأساس يوصف بأنه بين ذواتي، لا موضوعي، وليس علاقة ثنائية القطب بين الكلمات والأشياء.)
استنادا لرأي هابرماس، هناك أربعة عوامل لفهم معنى الكلام الملفوظ: (1)
إدراك معناه الحرفي. (2)
Página desconocida