Rama de Ban en los jardines del paraíso
غصن البان في رياض الجنان
Géneros
نصف الليل
إن صلواتك يا روفائيل قد أنزلت على قلبي بردا وسلاما، فقد ذكرت أمس الشجرة التي جلسنا عندها حيث رأيت جلال الله من خلال نفسك، فوجدت بهذه الذكرى تعزية وسلوة، ثم استدعيت كاهنا شيخا فكشفت له دخائل نفسي فعزاني كثيرا، وأظهر لي نعمة الله وفضله وشدة كفران الإنسان لإحسانه عليه، وكيف لا يكون محسنا وقد سمح لي بأن أحبك في هذه الحياة الدنيا ثم أكون ملاكك بعد الموت؟
ثم يتلوها رسالة أخرى مضطربة الحروف مشوشة الكتابة كأنها مخطوطة في الظلام، تقول فيها ما يأتي:
بعد منتصف الليل
أريد أن أقول لك كلمة بعد يا روفائيل؛ لأنني قد لا أقدر أن أقولها غدا، فإذا مت لا تمت علي حزنا، فإني سأدعو لك الله في السماء ويكون دعائي مقبولا متى تقربت من عرشه المجيد، وأحب بعدي من تشاء فإن الله سيرسل لك أختا ثانية تكون رفيقة حياتك من بعدي وأكون أنا الشفيعة فيها، فلا تحسب بذلك أنك تسوءني فإن الغيرة ممنوعة في جنان الخلود، وقبيح بي أن أغار من سعادة تنالها، وقد كلفت طبيبي بأن يشرح لك ما لا يقوى قلمي الآن على بيانه، ويؤدي إليك قطعة من شعري فاقبلها منه تذكارا، واسمح لي أن أنام قليلا.
ثم رسالة أخرى لا تكاد تقرأ لاختلال سطورها حاوية هذه العبارات:
أين أنت يا روفائيل، فإني قد شعرت بقوة قدرت بها أن أخرج من سريري، فقلت للمرأة الساهرة علي بأنني أريد الخلوة، ثم تحاملت على نور المصباح أنتقل من كرسي إلى كرسي حتى بلغت إلى المكتبة حيث أكتب لك، ولكنني لا أرى شيئا وكأن عيني لا يحيطهما إلا ظلام فلا تبصران إلا نقطا سوداء على القرطاس، ويلاه! لم أعد أقدر أن أكتب إلا هذه الكلمة. ثم خطت بعدها بحرف كبير في ذيل الرقعة هاتين الكلمتين: الوداع يا روفائيل.
ولما فرغت من هذه القراءة الهائلة سقطت الرسائل من يدي وجلست أشهق بالبكاء، وإذا بي أرى رسالة أخرى مخطوطة بخط أبيها الشيخ فتناولتها وإذا بها ما يأتي:
لقد ماتت من تحب بين يدي بعد أن كتبت لك وداعها الأخير ببضع ساعات، وبوفاتها فقدت ابنتي فكن أنت ابني ما بقي لي من أيام هذه الحياة. أكتب لك الآن وأنا أراها ممددة على سريرها كأنها نائمة والتبسم مطبوع على شفتيها كأنها ماتت وهي تفكر فيك، ولا أذكر أنني رأيت عليها مثل هذا الجمال قبل اليوم، فاعلم أنني أحببتك لأجلها فأحبني أنت كذلك. ا.ه.
أما أنا فلم أكد أصدق أنها ماتت؛ لأنني وجدت من الصعب على طبع الإنسان أن يصدق بهذا الفراق بينه وبين من يحب ولو كان حولي من شواهد موتها كل تلك الرسائل، بل كنت أرى صورتها وتقاطيعها ورنة صوتها وحلاوة ألفاظها وجمال وجهها حاضرة كلها لدي حتى كأنها لم تفارقني، وحتى كان مماتها حياة وغيابها حضور لدي، ولعل ذلك التصور نعمة من الله يضعها بين الشك واليقين فلا يخلص اليقين إلى القلب إلا بعد برهة كما لا يصل صوت الفأس البعيدة إلى الأذن إلا بعد وقوعها على جذع الشجرة بثوان، وهي مدة كافية لأن تصون القلب من هول تلك الصدمة، فلا يزال صاحبه يتصور وجود من فقد كما تتصور العين قرص الشمس بعد مغيبها إذا طال تحديقها فيها، وكأن الله أشفق علي من وقع هذا الخطب على فؤادي فزاد ذاكرتي تصورا لها حتى صرت أحسبها حاضرة ولا أصدق أنها ماتت وأنني لم أعد أراها.
Página desconocida