وصاح كلاهما كما لو كانت رصاصة قد أصابت كلا منهما: ماذا؟!
وفي هدوئه لا يزال يقول صديق: لقد غبت عنكما هذه السنوات وأنتما لا تعرفان أنني سمعت المؤامرة التي كنت تدبرها أنت يا عبد الغني والتي وافقت عليها أنت يا عبد الودود، وأنتما جالسان بمقهى الملاهي.
وصاح عبد الغني: سمعت ماذا؟ سمعت ماذا؟
وصاح عبد الودود: إذن فقد سمعت.
ويكمل صديق في ثبات: وجريت يومذاك مذعورا. ولو كنت قتلت لكنتما قاتلي. وانتظرت هذه السنوات أرفض العودة حتى أكون واثقا من نفسي، وأنفي عن نفسي خوف الأخ الأصغر يريد أخواه الكبيران أن يقتلاه، وأنتما اليوم كلاكما أضعف مني، وأنا أواجهكما.
وأجهش الأخوان باكيين؛ فقد كان البكاء هو كل ما يمكن أن يقال. وقال صديق: بعض دموع ستحمل إلى نفسيكما الراحة، أين هي من عذاب طفل وفتى وشاب يعيش على الصدقة في بيت لا يجمعه به نسب ولا تصله به قرابة؟ ما بعض دموع أمام ذل السنوات والشعور بالضياع والإحساس أنني في أي لحظة قد أطرد من البيت؟ ما بعض قطرات من ماء العين وأنا الذي وجدت السجن أحب إلي من الحرية، وعشت فيه لأقطع ما بيني وبين هؤلاء الناس؟ ابكيا ما شاء لكما البكاء، فقد ألقيتماني السنين الطوال إلى عالم لا أموت فيه ولا أحيا.
وقال عبد الغني: ألا نطمع في غفران؟ إن الحياة التي اختارها الله لتكون سخطة على آدم لا بد أن يكون فيها أمثالنا من الخاطئين، وهي غير جديرة بأن تعاش، إن لم يكن فيها أمثالك من الصديقين الغافرين. - وإن غفرت لحقي، فكيف أغفر لحق أبي؟ - لقد عاد إليه نظره. - لأني أرسلت إليه قميصي، لقد حطمتم رجلا لولا إيمانه لأحاط به الفزع الأكبر من الهول. - هو سيغفر. - لأنه أب، وأنه لم يعرف ما كنتما تدبران. - أو تقول له؟ - سنرى. هلم بنا إليه. •••
وارتمى صابر في أحضان صديق وعلا منهما بكاء الفرح، وأحاطت بالاثنين ذراعا هند وقلبها. وراح صديق يقبل رأس أمه ووجهها وعينيها، إنها أمه الحق التي لا يخاف عندها ولا يعرى، وحين هدأ اللقاء نظر صابر إلى صديق ثم نظر إلى عبد الغني وعبد الودود وقال لصديق: إنك لن ترد لي عندك طلبا. - حتى إن كانت عودتي إلى حيث كنت. - أنا أعلم أنك ما هربت إلا فزعا من أخويك.
وقف الإخوة الثلاثة، وأكمل صابر: أتذكر الرؤيا التي رويتها لي قبل أن نفترق؟ إنك في الرؤيا قد غفرت، فهل أرجو أن تغفر في الحياة؟ وكفاهما أنهما لم ينجبا ولدا ولا ابنة، إن السماء تعرف كيف توزع الأرزاق.
ويقول صديق مطرقا: اللهم إني أغفر، واللهم ارزقهما البنين والبنات، واللهم لك الحمد في الأولى والآخرة، اللهم تقبل دعاء.
Página desconocida