وقد أوضح الغزالي تلك الأمور بقوله:
أخذت أسأل المقصر: ما لك تقصر؟ إن كنت مؤمنا بالآخرة فلماذا لا تستعد لها؟ وإن كنت لا تؤمن بالآخرة وإنما لا تستطيع المجاهرة فأنت منافق ضائع الرأي! فكانت الأجوبة كما يأتي:
فمن قائل يقول: هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشاهير بين الفضلاء والعلماء لا يصلي، وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهود، وهؤلاء قد ضلوا بالقدوة السيئة.
وقائل ثان يدعي علم التصوف، ويزعم أنه قد بلغ مبلغا ترقى به عن الحاجة إلى العبادة.
وثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة، ويزعم أن مشايخه قد فعلوا وقد أفتوا، وهؤلاء ضلوا عن التصوف.
ورابع اشتغل بالعلوم والمذاهب، فيقول: الحق مشكل، والاختلاف فيه كثير، وليس بعض المذاهب أولى من بعض، وأدلة العقول متعارضة؛ فلا ثقة برأي أهل الرأي!
وخامس يقول: أنا أعظم من أن أقلد، فقد قرأت الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة، وقد بلغت مرتبة من الحكمة، والمقصود من العبادة ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات، فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل تحت نير التكليف، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة.
حتى إن بعضهم كان يشرب الخمر، ويقول: إنما نهي عن الخمر؛ لأنها تورث العداوة والبغضاء، وأنا بحكمتي متحرز عن ذلك، وإني أقصد بها شحذ خاطري. حتى إن ابن سينا كتب: «أنه عاهد الله أن لا يفعل كذا وكذا، ولا يشرب الخمر تلهيا، بل تداويا وتشافيا.»
فلما رأيت ذلك اعتزمت كشف أسرارهم، وتحطيم تلك الأصنام من العلماء والفلاسفة؛ لكثرة خوضي في علومهم وطرقهم، أعني الصوفية والفلاسفة ودعاة الفقه والعلم.
وإذن؛ ففساد القادة، وضلال الأتباع، والجهل بالشريعة؛ كانت دوافع الغزالي في تركه العزلة، وإعلانه الجهاد، وقيامه بالدعوة إلى تجديد الروح الإسلامي، والآداب الإسلامية والأخلاق النبوية.
Página desconocida