فالغزالي يقرر في ثقة يقينية ووضوح وصراحة بأن الحياة الفاضلة السعيدة هي معرفة الله وعبادة الله ومحبة الله؛ تلك هي الغاية العليا والهدف الأسمى؛ لأن كل لذة سواها فانية، وكل غاية سواها لاغية.
فإن كان «شوبنهور» لخص فلسفته كلها في كلمة واحدة هي جماع رسالته؛ إذ يقول: «إن الحياة إرادة»، وإذا كان «نيتشه» جعل آيته الذهبية قوله: «الحياة هي القوة»؛ فإن آية الغزالي ورسالته: «الحياة محبة وعبادة.»
وبذلك يلتقي الغزالي بالفيلسوف الروماني «سنكا» الذي كان يقول: «ولدنا خاضعين لأحكام الله، فمن أطاع الله كان حرا آمنا سعيدا»، ويتفق مع «أرسطو» في قوله: «الأشرار يطيعون خيفة، والصالحون على حب.»
وقد أعد الغزالي نفسه لتلك الرسالة بالتطهر والصفاء والاعتكاف الكامل، كان يتعبد تعبد العاشقين الوالهين.
ثم غادر محاريبه وخلواته ليزاحم الإنسانية في موكبها وليرشدها إلى طريقها. رأى الغزالي الناس يسيرون في مواكب الحياة لا يدرون لماذا هم سائرون، ولا يسألون لماذا يسيرون! شاهد القطيع البشري لا يعرف الراحة، ولا السعادة ولا السلام، ولا يدرك نعمة الاستقرار الكبرى، شاهد دنيا يمزقها التعب والبغضاء، فنادى بمعاني الحياة المقدسة ، وأرشد إلى غاية الوجود العليا، فأذاق المتعبين المجهدين الضالين رحيق الراحة، ونعيم المحبة، وسحر السلام.
هل للمعرفة طريق باطنية غير الحواس الخمس؟
الكشف الباطني يشغل جانبا ضخما من رسالة الغزالي؛ إذ هو في طليعة رجال الفكر الإسلامي، بل العالمي الذين آمنوا بإلهامات الروح، بل وجعلوا من تلك الإلهامات وسائل وغايات للإرشاد والهداية.
وقد اختلف المفكرون قديما وحديثا في طريق المعرفة، وهل تتأتى عن طريق الحواس الخمس فحسب؟ أم لها سبل وطرق باطنية إلهامية أخرى؟
فالماديون منهم لا يرون للمعرفة بابا إلا الحواس الخمس المتصلة بالعالم الخارجي، ويقررون أن لا مصدر فوق هذا تهبط منه المعرفة، غير الخيال والتصور، وهم شديدو التهكم برجال الكشف الباطني ومن سلك مسلكهم من أرباب القلوب أو الرياضة العقلية، ذلك سبيل أصحاب المذاهب المادية من الفلاسفة.
أما الصوفية والروحانيون، على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم، فيقررون أن للعلم وسائل باطنية تصل بين النفس الإنسانية والعالم الروحاني، يلمسها كل من صفت نفسه من أدران المادة، وتخلصت من شوائب الحياة، فيحصل من هذا الطريق على أسرار الوجود وخفايا الخلود، وحكم تعلو على الحواس الخمس والمعارف التي تدركها هذه الحواس.
Página desconocida