وما برح يتردد قدوما ويتحذر هجوما حتى رأيته خر لدى العرشين بأسلوب ما به شين، وإذا هو رجل أحرز سمة الوقار، وعلى وجهه تلوح حذاقة الأفكار، فهو ذو جبهة تشير برحابتها إلى تمام العلم والعمل، ونظرات أشد نفوذا من نبال بني ثعل، وكان لباسه جامعا بين المهابة والاحتشام جمع الحرف بين الصحة والإشمام، ذو قامة لا تغرب عن العامة، ورشاقة تتوقد بها النامة. أما سنه فلم تتجاوز آحاد الخمسين على ما كان يلوح لي ويستبين.
فلما صادفته لحظات الجالسين على مقام السلطنة، بثته أشاير التحية مظهرة دلائل الابتهاج بقدومه، ثم أومأت إليه الملكة أن يجلس حذاها، فتقرب وجلس مستريحا على ركبتيه، فأوعزت إليه براحة الجلوس ففعل.
وبعد فترة من السكوت التفتت إليه هذه السيدة وقالت له: هل عرفت كيفية نهاية الحرب؟ - نعم قد بلغني أن النهاية كانت انتصارا لكم، والله يعطي النصر لمن يشاء. - ولكن بعد موقعتين يحكيان العويرض بما تكلفناه من تعب شاق، لا راحة إلا بعد تعب. - ولا نعيم إلا بعد شقا. - وهل بلغك أن ملك العبودية وأعوانه قد أسروا وطرحوا في السجن تحت سطوتنا بعد أن أدرنا عليهم رحى المنايا وأمطرنا على هامهم البلايا؟ - لا، لم يبلغني أمر الأسر.
أجاب بدون عبء: نعم هكذا تم الأمر. وقد أنفذوا إلينا عرض حال ينطوي على ترك التمرد والعصيان، والوعد بعدم الرجوع إلى زرع الخلل في نظام مملكتنا، نادمين على ما اجترموه ضدنا، ومسترحمين منا أن نطلق سجنهم ونفك أسرهم. - لا شك أنه يجب إجابة استرحامهم. أجاب الفيلسوف رافعا كتفيه: ولا ينبغي معاملتهم بالقساوة حذرا من ملامة العموم.
فقاطعه الملك بعد صغي وإمعان قائلا: إن الأمارات التي بها نهجوا سبل التوحش والعبودية في مملكة التمدن والحرية تستحق النهوض ضدهم بكل قساوة؛ لأنهم أخذوا يسلبون حرية الناس ويزرعون بينهم الخصومات والخرافات، فلو لم تستدركني هذه السيدة بمشورة حكيمة لكنت أنفذت أمرا بشنق ملكهم وسجن أعوانه وأنصاره مؤبدا.
هكذا تم الأمر. أجابت الملكة: أما المشورة التي تنازلت عظمة الملك بقبولها هي أننا نستحضر أولئك الأثمة، ونضع قوانين وشرائع جديدة يسلكون بموجبها، ونرفقهم بنظار من طرفنا، ونمزج عساكرهم بعساكرنا؛ وبذلك نأمن غوائلهم ونستولي على ولاياتهم بالتدريج بدون إثارة الحروب وشن الغارات؛ فنخلص من فخاخ دولة العبودية.
فأطرق الفيلسوف ساعة ثم رفع عينيه إلى السماء وأخذ يتأمل قليلا، ثم أدار رأسه يمينا ويسارا، وأحاط جميع الغابة بنظره وهو يهمهم بكلام مترادف، ثم أعاد الأطراف ثانية وأسدل على عينيه براقع الجمود حتى صار لبواشق الأفكار فريسة.
فشرعت الملكة تتأمل في هذه الظواهر مندهشة كأنها ترى مشهدا عجيبا، وأخذ الملك يفاوض العدل والحلم، وما كان إلا كلمح البصر حتى نبر الفيلسوف من هواجسه، وقال: لم أفهم معنى الخلاص من دولة العبودية، وهل يمكن أن يوجد لأحد خلاص منها؟
أجابت الملكة: كيف لا يمكن ذلك؟ وهل يخفاك فعل المدافع والبنادق؟
إنني لا أرى وسيلة يمكن بها الخلاص لأحد من لزوم التعبد، على أنني أرى جميع الطبيعة مربوطة بسلسلة الاستعباد بعضها لبعض، أجاب الملك: وكيف ذلك؟ وهلا يوجد حرية في العالم؟ - لا. - ولا يوجد طريقة بها يحصل الإنسان على شبه الحرية لكي ينال لذة؟ - نعم يوجد. - أوضح لنا ذلك.
Página desconocida