ولا تخلو سيماء التمدن على أولئك الذين عندما يتكلمون أو يتخاصمون يفغرون أفواههم ويرفعون أصواتهم إلى درجة تمزيق أوتار حناجرهم، حتى يكادوا يشاركون الجمل بجعجعته والثور بعجعجته والحمار بنهيقه. مع أن غاية التمدن هي نزع كل سمة بهيمية عن الإنسان. ولا تحسن ثياب التمدن على كل أولئك الذين ينزلون الخرافات منزلة الحقائق وينذرون بها على الآفاق غير عالمين أنه لا شيء يدنس تلك الثياب النقية ويلطخها نظير اعتناق الأكاذيب والأباطيل وإشاعتها. فهم تارة ينسبون إلى بعض الحيوانات خاصيات لو أمكن وجودها لكان الإنسان خليقا بها، وكذلك كنباح الكلب دلالة على حدوث مصيبة، ونعق البوم إشارة إلى وقوع خراب، وهروب الطيور علامة على قدوم وباء. وتارة يتهمون الأفلاك بما تفعله الظروف والأقدار؛ إذ ينسبون إليها كل الحوادث التي تتم على الأرض عموما وخصوصا؛ فيعطون الحرب للمريخ والسعد للمشتري والنحس لزحل والذكاء لعطارد وخفة الروح للزهرة والصقاعة للقمر وطبخ المعادن للشمس. هذا عدا أمور لا تعد ولا تحصى ينسبونها إلى كل من هذه الأجرام التي تقسم بذواتها إنها لا تعرفهم، ولم تطرح عليهم قط لا حربا ولا سلامة ولا سعدا ولا نحسا ولا غير ذلك فضلا عما ينسبونه إلى العين من التأثيرات وإلى الأحلام من التفسيرات.
فلا يمكن لأحد أن يحسن عوائده وأخلاقه التمدنية إلا إذا رفع من فكره الاعتقاد بمثل هذه الأكاذيب عالما أنها واصلة إليه من خرافات اليونانيين الذين كانت عباداتهم ورسومهم تسمح لهم أن يعتقدوا بمثل هذه الأضاليل.
وبالإجمال نقول: إنه يوجد شوارد شتى مما يقتضيه مقام هذا الكلام العام قد عدلنا عن جمعها حبا في الاختصار، إلا أنا نختم سياقنا هذا قائلين: إنه لا يمكن للتمدن أن يقبل في نظامه أدنى عادة قبيحة أو خلق رديء، ولا يقدر أحد على الدخول تحت ألويته ما لم يحسن عاداته وأخلاقه.
الدعامة الرابعة: صحة المدينة
إن أول شيء يستدل به على تمدن أمة ما أو توحشها هو النظر إلى حالة مدينتها، فكلما كانت المدينة صحيحة كان التمدن صحيحا، وكلما كانت سقيمة كان سقيما، أما كيفية هذه الصحة المدنية فهي تقوم تحت جملة أحوال، وأخصها ثلاث:
أولا «النظافة»:
إنه لا مناص للمتمدنين من بذل مزيد من الاجتهاد والاعتناء بتنظيف أسواقهم ومنازلهم تسديدا لطلب الطبيعة نفسها؛ لأن المراد من ذلك ليس نوال الغاية الأدبية وحدها، بل الغاية الطبيعية أيضا وهي إراحة الطبيعة الحيوية مما يقلق نظامها ويزعج وظائفها، ولا يوجد خطب أشد تأثيرا على هذه الطبيعة من دخول المواد الغريبة عنها إليها لا سيما إذا كانت مفسودة، فكما أن بعض الجواهر المعدنية لغرابة تركيبه يزعزع أركان البناء العضوي للجهاز الحيواني ويسلب مجموع حياته متى دخل إليه؛ هكذا تفعل الانبعاثات الفاسدة بالأوخام والأقذار عندما يحملها الهواء ويدفعها إلى عضو التنفس حيثما يتناولها الدم ويمر بها إلى مواقع التغذية.
فكم تقاسي الطبيعة من الاضطرابات المرضية المميتة؟ وكم تلتمس الإنقاذ بلسان حال الانزعاج الوظائفي عندما تمازجها هذه المواد الغريبة؟ فهي السبب الأعظم لتهييج الحميات الخبيثة كأنواع التيفوس والتيفوئد، كما أنها سبب قوي لتمهيد طريق الوافدات الوبائية المهلكة كأنواع الطاعون والهواء الهندي.
وبالإجمال نقول: إن الغاية الوحيدة للطبيعة هي قبول ما يناسبها لقيام حياتها ودفع ما يستنزل عليها صاعقة الموت بمغايرته لها ولو كان صادرا عن ذات فعلها. ألا ترى كيف أنها تجتهد في طرد التراكيب الصديدية التابعة لالتهاب ما عضوي إلى الخارج بواسطة النفث أو الغائط أو الاستطراق من المركز الانفعالي إلى بعض جهات المحيط البدني، حتى إذا لم يمكنها تتميم هذه العملية ودخل الصديد الفاسد إلى التيار الدموي ألقى عليها رعدة الاضطراب بإفساد جميع كتلة الدم وأماتها بعد نزاع شديد.
فإذا كانت الطبيعة لا تقبل ما يغرب عنها ولو كان آخذا صدوره من ذات أجزائها لعدم نفعه لها، فكيف تقبل ما يكون غريبا وأجنبيا معا، ومن حيث إن الأقذار والأوساخ لها أشد الأفعال السمية كما سبق. فلا يسوغ - والحالة هذه - تغافل أرباب التمدن عن ملاشاتها، ويجب الاعتناء الوافر بحفظ النظافة العامة للأسواق والشوارع، والخاصة للبيوت والمساكن فرارا من تلك التأثيرات الرديئة ومراعاة لحق المدينة. ولا شك إذا نظرنا إلى العمل البديهي الذي تصنعه الحيوانات بتنظيف ذواتها نأخذه دليلا على ضرر القذارة ووجوب النظافة ومثالا يقتدي به كل متغافل؛ إذ إن الحيوان لا يفعل إلا ما ترشده الطبيعة إليه طلبا لما يصلح شأنها ودفعا لما يفجع بها.
Página desconocida