حالة الشخص الذي يتعاطى السياسة؛ فهو يجب أن يكون رجلا من أصل كريم وموسر؛ لأنه متى كان هكذا يوجد ذا تربية حسنة وصالحة، فيكون ذا صفات حميدة وأخلاق راضية حسبما يستلزم حسن التربية ويقتضي صلاح الأحكام. ثم يجب أن يكون مروضا بالعلوم الرياضية والأدبية ومثقفا بمعرفة واجبات الشرائع والقوانين؛ لأنه إذا كان جاهلا هذه الأمور لا يكون قادرا على تتميم خدمته ويعود حينئذ مضطرا إلى الاسترشاد من الأجانب أو تحكمهم، وهم ربما يضلونه أو يخونونه لأغراض ذاتية لهم؛ فتصير كل أحكامه عبثا ويقع في نتائج اشمئزاز الجمهور. ثم ينبغي أن يكون فطنا نبيها لأنه إذا كان خاملا لا تجد دقائق السياسة محلا في عقله فيضيع الحق وتضطرب الأحكام، ويروح المحقوق غالبا والمحق مغلوبا. ثم يقتضي أن يكون عادلا؛ لأن العدل يثبت الحكم ويوطده ويجعل الحاكم محبوبا من جميع الناس ممدوحا من الأخيار مهابا ومخافا من الأشرار الذين لا لجام لجماح شرهم سوى هيبة الحاكم. وخلاف ذلك الظلم لكونه يهدم بناء السياسة ويعارض اتجاهات الحق ويلقي المقت والكراهية في قلوب الشعب، وينهج سبيلا رحبا لهجوم العصاة وتمزيق الهيبة، ثم يجب أن يكون قنوعا؛ لأن الطمع نتيجة التوالع بالمال، وحيثما وجد الولع بالأموال يوجد الاحتشاد والارتشاد وهما الصفتان اللتان متى باشرتا قلب الحاكم أراغتاه عن الحق وجعلتا بينه وبين الصالح العام حجابا كثيفا، ثم أن يكون ذا أناة لأن الأناة هي الآلة الوحيدة لاستقصاء الحقائق من صدور الدعاوى حيث يقوم العلاج، أما العجلة فعليها يسافر الصواب.
ثم ينبغي أن لا يكون سكيرا؛ على أنه لا يوجد أعظم طارد للرشد والنباهة من مداناة الدن ومخامرة الخمر، فمتى ذهب رشد الحاكم فسدت الحكومة وبطل الحق.
ثم من الواجب أن يكون شجاعا؛ لأن الشجاعة درع للرؤساء ودرع للمرءوسين، ولا عار أعظم من جبانة الرئيس؛ لأنها تبقيه عاجزا عن اقتحام صعوبات الرياسة وتصيره ريشة ترتجف لدى هبوب كل ريح.
ثم من الضرورة أن يكون غير ممازح؛ لأنه متى لازم المزاح سخرت به الناس واستهجنته، وربما استقلت بعقله فلا يعود أحد يعتبر أحكامه مهما كان حازما.
ولا شك أن وجود صفات كهذه في الشخص الذي يتناول زمام الحكومة قد يستلزم وجود نتائجها ما بين تبعته وحواشيه، وهو الأمر الذي له دخل كبير في واجبات السياسة. أما العكس فبالعكس، وذلك كالمركز الذي تتوقف استقامة أقطاره على استقامة وضعه، فبمقدار كونه مستقيما تستقيم، وبمقدار كونه منحرفا تنحرف.
ثانيا:
حالة الاستواء؛ إن أعظم المقومات لصحة السياسة وإقامة الحق هو مجرى شرائعها متساوية على كل أبنائها بدون أدنى امتياز بين الأشخاص أو تفريق بين الأحوال. فلا يجب الأخذ بيد الكبير ودفع الصغير، ولا الالتفات إلى الغني والإعراض عن الفقير، ولا مؤازرة القوي ومواراة الضعيف، بل يجب معاملة الجميع على حد سواء كي لا يقع خلل في نظام الحق؛ لأن كل فئة من الناس لها منزلة في طريق السياسة تستدعي النظر إليها، فكما أن العظماء والأغنياء هم القوة الواصلة، كذلك الصغار والفقراء هم الآلة الموصلة، فلولا يد الصغير لم يطل ساعد الكبير، ولولا تعب ذوي الفاقة لم تسهل متاجر أرباب الغنى ولم تحرس أموالهم ولم تقم قصورهم العالية وسرادقهم المشيدة. لعل ذلك الغني عندما يأتي من محل ملاهيه ومراسحه إلى مسكنه الوسيع، ويضجع على فراشه المصنوع من ريش النعام، وينظر إلى رقوش حجرته ونقوشها، لا يفكر في ذاك المسكين الذي بعد أن يكد ويكدح طول النهار مقاسيا حر صيفه، ومتكبدا برد شتائه لأجل تشييد ذاك المسكن وتنميق تلك الحجرة، يذهب إلى كوخه الحقير ويأكل خبزته اليابسة مع أولاده العراة الجائعين، ثم يضجع على طراحته المنخرقة تحت لحاف الإعياء والوصب، فهل كل هذا التباين لا يكفيه حتى يرغب إيقاعه أيضا في موقف الحق الذي يستوي عنده الجميع؟ وهل يسوغ لأرباب السياسة أن يقبلوا وقوع هذا التباين ويجحفوا بذلك المسكين الذي بدونه لا تصل قوتهم إلى مواقعها فلا يخافون من وثوب التسعة والتسعين وفرط عقد الجمعية؟
ولماذا يوجد حق لأصوات الأغنياء فترن في قاعات السياسة، ولا يوجد هذا الحق لأصوات بقية الشعب الذين هم الجانب الأكبر والأهم، والذين بواسطتهم تقوم سطوة الممالك وقوات الملوك، وعليهم يتوقف مدار السياسات؟ فلا شك لسان السياسة نفسه ينادي بوجوب حالة الاستواء ويصرح ضد الضد.
ثالثا:
حالة المطابقة؛ إن منزلة السياسة من الهيئة الاجتماعية هي كمنزلة الدم من الجسد ، فكما أن هذا السائل يقوم بتغذية الجسد وبدونه لا تثبت الحياة، هكذا السياسة تقوم بعول تلك الهيئة، وبدونها لا يثبت النظام. وكما أن الدم يجب أن يكون مطابقا في مقداره ونسب أجزائه لما يحتاجه الجهاز العضوي بحيث إذا لم تحصل هذه المطابقة بزيادة أو نقصان أن لا تلبث الأعضاء على صحتها، وتقع في حالة الاضطراب الوظيفي. هكذا ينبغي أن تكون السياسة مطابقة بقوانينها وشرائعها لما يقتضيه واقع الحال بدون زيادة ولا نقصان، ومتى عدمت تلك المطابقة زاغت الهيئة عن واجباتها واضطرب كل نظامها، وكما أن السائل الدموي يستلزم التنقيص عند زيادته استدراكا لوقوع الأمراض الالتهابية والزيادة عند نقصانه دفعا لنهوض العاهات الافتقارية، هكذا يجب أن تعامل الأحكام السياسة في محكوماتها حذرا من وقوع البلبال؛ فلا يستعمل الصرامة والقساوة والجور والانتقام مكان الرفق والشفقة والحلم والإغضاء، وبالعكس. بل يجب توقيع كل في محله مطابقا؛ بحيث إذا زاد أو نقص يجب تعديله لإخلاله بالواجب السياسي.
Página desconocida