الافتتاحية
مقدمة مترجم النسخة الأصلية
المقدمة
الجزء الأول: قصة تجاربي مع الحقيقة
1 - المولد والنسب
2 - الطفولة
3 - الزواج طفلا
4 - ممارسة دور الزوج
5 - في المدرسة الثانوية
6 - حدث مأساوي
7 - حدث مأساوي (تابع)
8 - السرقة والتكفير عنها
9 - وفاة والدي والخزي المضاعف
10 - لمحات دينية
11 - استعدادات الرحيل إلى إنجلترا
12 - الخروج على الطائفة
13 - وأخيرا في لندن
14 - اختياري
15 - ممارسة دور السيد الإنجليزي
16 - تحولات في حياتي
17 - تجارب في الأنظمة الغذائية
18 - درع الخجل
19 - آفة الكذب
20 - الاطلاع على الأديان
21 - راما، نصير من لا نصير له1
22 - نارايان همشاندرا
23 - المعرض الضخم
24 - «عضو في النقابة»، وماذا بعد؟
25 - عجزي
الجزء الثاني: قصة تجاربي مع الحقيقة
1 - رايشاندباي
2 - كيف بدأت حياتي
3 - القضية الأولى
4 - الصدمة الأولى
5 - الاستعداد للرحيل إلى جنوب أفريقيا
6 - الوصول إلى ناتال
7 - بعض التجارب
8 - الطريق إلى بريتوريا
9 - المزيد من المتاعب
10 - اليوم الأول في بريتوريا
11 - التواصل مع الأصدقاء المسيحيين
12 - التواصل مع الهنود
13 - شعورك وأنت «قولي»
14 - التحضير للقضية
15 - الاضطراب الديني
16 - وتقدرون فتضحك الأقدار
17 - الاستقرار في ناتال
18 - نقابة المحامين والملونون
19 - المؤتمر الهندي لناتال
20 - بالاسوندارام
21 - ضريبة الثلاثة جنيهات
22 - دراسة مقارنة للأديان
23 - رب البيت
24 - العودة إلى الوطن
25 - في الهند
26 - عاطفتان
27 - اجتماع بومباي
28 - بونا ومدراس
29 - العودة فورا
الجزء الثالث: قصة تجاربي مع الحقيقة
1 - صرير العاصفة
2 - العاصفة
3 - الاختبار
4 - هدوء ما بعد العاصفة
5 - تعليم الأطفال
6 - روح الخدمة
7 - البراهماشاريا (1)
8 - البراهماشاريا (2)
9 - حياة بسيطة
10 - حرب البوير
11 - الإصلاح الصحي وانقشاع المجاعة
12 - العودة إلى الهند
13 - في الهند مرة أخرى
14 - العمل كاتبا وحمالا
15 - في الحزب
16 - حفل اللورد كورزون
17 - شهر مع جوخلي (1)
18 - شهر مع جوخلي (2)
19 - شهر مع جوخلي (3)
20 - في بنارس
21 - هل أستقر في بومباي؟
22 - اختبار الإيمان
23 - العودة إلى جنوب أفريقيا
الجزء الرابع: قصة تجاربي مع الحقيقة
1 - هل «خاب السعي»؟1
2 - مستبدو آسيا
3 - التغاضي عن الإهانة
4 - روح التضحية النشطة
5 - نتيجة تأمل الذات
6 - التضحية من أجل النباتية
7 - تجارب المعالجة بالطين والمياه
8 - التحذير
9 - الصراع مع السلطة
10 - الذكرى المقدسة والكفارة
11 - علاقات وثيقة بالأوروبيين
12 - علاقات وثيقة بالأوروبيين (تابع)
13 - الرأي الهندي
14 - أحياء القولي أم أحياء الجيتو؟
15 - الطاعون الأسود (1)
16 - الطاعون الأسود (2)
17 - احتراق الحي
18 - التعويذة السحرية لكتاب
19 - مزرعة فونيكس
20 - الليلة الأولى
21 - بولاك يقبل المخاطرة
22 - العناية الإلهية
23 - نظرة خاطفة على المنزل
24 - لزولو «ثورة »
25 - مراجعة النفس
26 - ميلاد الساتياجراها
27 - المزيد من التجارب الغذائية
28 - شجاعة كاستوربا
29 - الساتياجراها في المنزل
30 - نحو التحكم في شهوات النفس
31 - الصوم
32 - العمل كناظر
33 - التعليم الأكاديمي
34 - التدريب الروحاني
35 - زوان وسط الحنطة
36 - الصوم كفارة
37 - التوجه للقاء جوخلي
38 - دوري في الحرب
39 - معضلة روحانية
40 - نموذج مصغر للساتياجراها
41 - إحسان جوخلي
42 - علاج التهاب الغشاء البلوري
43 - العودة إلى الوطن
44 - بعض ذكرياتي مع المحاماة
45 - ألاعيب محامين؟
46 - تحول الموكلين إلى زملاء
47 - كيف نجا موكلي
الجزء الخامس: تجاربي مع الحقيقة
1 - التجربة الأولى
2 - مع جوخلي في مدينة بونا
3 - هل كان تهديدا؟
4 - شانتينيكيتان
5 - معاناة ركاب الدرجة الثالثة
6 - السعي للانضمام إلى الجمعية
7 - كومب ميلا
8 - جسر لاكشمان جولا
9 - تأسيس الجماعة
10 - الاختبار
11 - إلغاء الهجرة بعقود لأجل
12 - صبغ النيلة
13 - البيهاري النبيل
14 - مع الأهيمسا وجها لوجه
15 - إسقاط الدعوى
16 - أساليب العمل
17 - الرفقاء
18 - التوغل في القرى
19 - عندما يكون الحاكم عادلا
20 - الاختلاط بالعمال
21 - نظرة خاطفة على الجماعة
22 - الصوم
23 - الساتياجراها في خيدا
24 - سارق البصل
25 - نهاية الساتياجراها في خيدا
26 - الرغبة في الاتحاد
27 - حملة تجنيد المتطوعين
28 - على أعتاب الموت
29 - قانون رولات والمأزق
30 - ذلك المشهد الرائع!
31 - يا له من أسبوع لا ينسى! (1)
32 - يا له من أسبوع لا ينسى! (2)
33 - خطأ فادح
34 - جريدة «نافاجيفان» وجريدة «يانج إنديا»
35 - في البنجاب
36 - قضية الخلافة مقابل قضية حماية البقر
37 - حزب المؤتمر في أمريتسار
38 - بدء العمل في حزب المؤتمر
39 - نشأة الخادي
40 - وأخيرا وجدتها!
41 - حوار توجيهي
42 - المد المتزايد
43 - في ناجبور
الوداع
الافتتاحية
مقدمة مترجم النسخة الأصلية
المقدمة
الجزء الأول: قصة تجاربي مع الحقيقة
1 - المولد والنسب
2 - الطفولة
3 - الزواج طفلا
4 - ممارسة دور الزوج
5 - في المدرسة الثانوية
6 - حدث مأساوي
7 - حدث مأساوي (تابع)
8 - السرقة والتكفير عنها
9 - وفاة والدي والخزي المضاعف
10 - لمحات دينية
11 - استعدادات الرحيل إلى إنجلترا
12 - الخروج على الطائفة
13 - وأخيرا في لندن
14 - اختياري
15 - ممارسة دور السيد الإنجليزي
16 - تحولات في حياتي
17 - تجارب في الأنظمة الغذائية
18 - درع الخجل
19 - آفة الكذب
20 - الاطلاع على الأديان
21 - راما، نصير من لا نصير له1
22 - نارايان همشاندرا
23 - المعرض الضخم
24 - «عضو في النقابة»، وماذا بعد؟
25 - عجزي
الجزء الثاني: قصة تجاربي مع الحقيقة
1 - رايشاندباي
2 - كيف بدأت حياتي
3 - القضية الأولى
4 - الصدمة الأولى
5 - الاستعداد للرحيل إلى جنوب أفريقيا
6 - الوصول إلى ناتال
7 - بعض التجارب
8 - الطريق إلى بريتوريا
9 - المزيد من المتاعب
10 - اليوم الأول في بريتوريا
11 - التواصل مع الأصدقاء المسيحيين
12 - التواصل مع الهنود
13 - شعورك وأنت «قولي»
14 - التحضير للقضية
15 - الاضطراب الديني
16 - وتقدرون فتضحك الأقدار
17 - الاستقرار في ناتال
18 - نقابة المحامين والملونون
19 - المؤتمر الهندي لناتال
20 - بالاسوندارام
21 - ضريبة الثلاثة جنيهات
22 - دراسة مقارنة للأديان
23 - رب البيت
24 - العودة إلى الوطن
25 - في الهند
26 - عاطفتان
27 - اجتماع بومباي
28 - بونا ومدراس
29 - العودة فورا
الجزء الثالث: قصة تجاربي مع الحقيقة
1 - صرير العاصفة
2 - العاصفة
3 - الاختبار
4 - هدوء ما بعد العاصفة
5 - تعليم الأطفال
6 - روح الخدمة
7 - البراهماشاريا (1)
8 - البراهماشاريا (2)
9 - حياة بسيطة
10 - حرب البوير
11 - الإصلاح الصحي وانقشاع المجاعة
12 - العودة إلى الهند
13 - في الهند مرة أخرى
14 - العمل كاتبا وحمالا
15 - في الحزب
16 - حفل اللورد كورزون
17 - شهر مع جوخلي (1)
18 - شهر مع جوخلي (2)
19 - شهر مع جوخلي (3)
20 - في بنارس
21 - هل أستقر في بومباي؟
22 - اختبار الإيمان
23 - العودة إلى جنوب أفريقيا
الجزء الرابع: قصة تجاربي مع الحقيقة
1 - هل «خاب السعي»؟1
2 - مستبدو آسيا
3 - التغاضي عن الإهانة
4 - روح التضحية النشطة
5 - نتيجة تأمل الذات
6 - التضحية من أجل النباتية
7 - تجارب المعالجة بالطين والمياه
8 - التحذير
9 - الصراع مع السلطة
10 - الذكرى المقدسة والكفارة
11 - علاقات وثيقة بالأوروبيين
12 - علاقات وثيقة بالأوروبيين (تابع)
13 - الرأي الهندي
14 - أحياء القولي أم أحياء الجيتو؟
15 - الطاعون الأسود (1)
16 - الطاعون الأسود (2)
17 - احتراق الحي
18 - التعويذة السحرية لكتاب
19 - مزرعة فونيكس
20 - الليلة الأولى
21 - بولاك يقبل المخاطرة
22 - العناية الإلهية
23 - نظرة خاطفة على المنزل
24 - لزولو «ثورة»
25 - مراجعة النفس
26 - ميلاد الساتياجراها
27 - المزيد من التجارب الغذائية
28 - شجاعة كاستوربا
29 - الساتياجراها في المنزل
30 - نحو التحكم في شهوات النفس
31 - الصوم
32 - العمل كناظر
33 - التعليم الأكاديمي
34 - التدريب الروحاني
35 - زوان وسط الحنطة
36 - الصوم كفارة
37 - التوجه للقاء جوخلي
38 - دوري في الحرب
39 - معضلة روحانية
40 - نموذج مصغر للساتياجراها
41 - إحسان جوخلي
42 - علاج التهاب الغشاء البلوري
43 - العودة إلى الوطن
44 - بعض ذكرياتي مع المحاماة
45 - ألاعيب محامين؟
46 - تحول الموكلين إلى زملاء
47 - كيف نجا موكلي
الجزء الخامس: تجاربي مع الحقيقة
1 - التجربة الأولى
2 - مع جوخلي في مدينة بونا
3 - هل كان تهديدا؟
4 - شانتينيكيتان
5 - معاناة ركاب الدرجة الثالثة
6 - السعي للانضمام إلى الجمعية
7 - كومب ميلا
8 - جسر لاكشمان جولا
9 - تأسيس الجماعة
10 - الاختبار
11 - إلغاء الهجرة بعقود لأجل
12 - صبغ النيلة
13 - البيهاري النبيل
14 - مع الأهيمسا وجها لوجه
15 - إسقاط الدعوى
16 - أساليب العمل
17 - الرفقاء
18 - التوغل في القرى
19 - عندما يكون الحاكم عادلا
20 - الاختلاط بالعمال
21 - نظرة خاطفة على الجماعة
22 - الصوم
23 - الساتياجراها في خيدا
24 - سارق البصل
25 - نهاية الساتياجراها في خيدا
26 - الرغبة في الاتحاد
27 - حملة تجنيد المتطوعين
28 - على أعتاب الموت
29 - قانون رولات والمأزق
30 - ذلك المشهد الرائع!
31 - يا له من أسبوع لا ينسى! (1)
32 - يا له من أسبوع لا ينسى! (2)
33 - خطأ فادح
34 - جريدة «نافاجيفان» وجريدة «يانج إنديا»
35 - في البنجاب
36 - قضية الخلافة مقابل قضية حماية البقر
37 - حزب المؤتمر في أمريتسار
38 - بدء العمل في حزب المؤتمر
39 - نشأة الخادي
40 - وأخيرا وجدتها!
41 - حوار توجيهي
42 - المد المتزايد
43 - في ناجبور
الوداع
غاندي السيرة الذاتية
غاندي السيرة الذاتية
قصة تجاربي مع الحقيقة
تأليف
مهنداس كارامشاند غاندي
ترجمة
محمد إبراهيم السيد
مراجعة
مجدي عبد الواحد عنبة
الافتتاحية
لست أقدم تعاليم جديدة للبشرية؛ فالحقيقة واللاعنف قديمان قدم التاريخ.
تتسم كلمات غاندي تلك، المنقوشة على أحد جدران مؤسسة الساتياجراها التي أسسها في أحمد آباد، بالدقة والتواضع الجم. ولا شك أن مبدأي الحقيقة واللاعنف اللذين وهب حياته لهما ليسا بمستحدثين، فلطالما أكدت عليهما جميع التعاليم الأخلاقية والدينية العظيمة، إلا أنه كان يمتلك شيئا جديدا تماما ليعلمه للبشرية عن هذين المبدأين، ألا وهو كيفية تطبيقهما على نطاق واسع لممارسة مقاومة سلمية وفعالة أطلق عليها اسم «الساتياجراها».
ماذا كان يعني غاندي بالضبط بمصطلح «الساتياجراها»؟ لقد ظل غاندي يطور أساليب الساتياجراها ويوضحها ويبين هدفها وسماتها حتى وافته المنية.
1
وقد سألته لجنة تحقيق بريطانية في عام 1920م عما إذا كان هو مؤسس حركة الساتياجراها - الحركة التي أصبحت معروفة للعالم أجمع بكونها أول حملة عصيان مدني قومية تظهر في التاريخ تحت تلك الراية - وكيف يمكن أن يوضح كنهها. فأجاب بالإيجاب وأكد أنه مؤسس الحركة. أما توضيح كنهها، فيكمن في الغاية التي تنشدها الحركة، وهي «الاستعاضة عن أساليب العنف (وأن تكون) حركة تعتمد كليا على الحقيقة.»
2
إن لفظة «استعاضة» مهمة للغاية في هذا السياق. فبعد اختبار غاندي في البداية لمنهج تولستوي فيما يتعلق بالمقاومة السلبية في حملاته في جنوب أفريقيا، توصل إلى أنه غير كاف، ووجد أن المقاومة السلمية ينبغي ألا تنبذ اللجوء للعنف بالكلية فحسب، بل السلبية المجردة أيضا بحيث تضطلع المقاومة بدور قوي وفعال ومقاتل. ومن خلال تفسير الساتياجراها على ذلك النحو، سعى غاندي إلى إحداث تحول اجتماعي وفردي عميق دون وجود مشاعر التعصب والكره وأحداث القتل التي تلازم الكثير من الصراعات العنيفة. وكما أوضح جواهر لال نهرو، نجد أن غاندي أدخل روحا جديدة تماما تهدف إلى التغيير على الصعيدين السياسي والاجتماعي. وتلك القوة لم تؤد إلى تغيير تاريخ الهند وحدها، بل تغيير حياة جميع من اشتركوا في حملاته.
3
وقد ظل نموذج غاندي وكتاباته ومبدأ المقاومة السلمية الذي دافع عنه بمنزلة «درس يتعلمه العالم أجمع» حتى بعد موته في عام 1948م. وقد أثر على حركات التحرير المختلفة، مثل حركة الدفاع عن الحقوق المدنية الأمريكية، وحركة التضامن البولندية
، وثورة «سلطة الشعب»
بالفلبين التي أطاحت بنظام الرئيس ماركوس.
لم يكن لغاندي أن يتوقع تلك التطورات في عام 1925م، عندما شرع في كتابة سيرته الذاتية. فلقد شعر وهو في السادسة والخمسين من عمره بعدم ثقة، وفي بعض الأحيان بالكآبة، فيما يتعلق بمستقبله وإمكانية استقلال الهند.
4
وقبل ذلك بثلاث سنوات، كانت السلطات البريطانية قد حكمت عليه بالسجن لست سنوات، لكنها أطلقت سراحه في وقت مبكر عقب تعرضه لالتهاب حاد في الزائدة الدودية مما استدعى إدخاله المستشفى. وفي ذلك الوقت، أراد أن يعيد النظر في حياته ويحدد اتجاهاته المستقبلية. وكان يأمل بذلك في التعرف على ذاته بدرجة أكبر وأن يقترب أكثر من تحقيق إدراك الذات الذي يراه مرادفا للحقيقة والبصيرة الأخلاقية والدينية ورؤية «الإله وجها لوجه».
5
وتطلب منه ذلك السعي أن يصف خبراته بالتفصيل وبصدق مطلق ودون حذف أي حقائق بشعة «يجب ذكرها» (الصفحة الخامسة عشرة).
وكان نتاج ذلك وصفا رائعا لبحث أخلاقي وروحاني استمر طوال حياته. ونرى أنه يتناول كل الوقائع وكل خبراته التربوية والخبرات المتعلقة بالعمل وكل العلاقات الإنسانية من منطلق تأثيرها على ذلك البحث. وبذلك الإدراك على الأقل ، نجد أن كتاب غاندي يشبه إلى حد بعيد عمل القديس أوغسطينوس «اعترافات»
Confessions
والسيرة الذاتية للقديسة تريزا من كنيسة آبلة
Vita of St. Teresa of Avila
على نحو يفوق الكثير من كتب السير الذاتية المعاصرة.
6
ويشبه كتاب غاندي كتاب أوغسطينوس على وجه التحديد؛ لأنه يجمع بين التعبير عن تواضع جم ووعي تام بأهمية المعلومات الشخصية التي يزاح الستار عنها. وكأن غاندي يردد كلمات القديس أوغسطينوس:
يتمنى العديد ممن يعرفونني - أو من لا يعرفونني لكن سمعوا بي أو قرءوا كتبي - أن يستمعوا إلى ما يجول بداخلي الآن، في هذه اللحظة، وأنا أدون اعترافاتي. إنهم لا يستطيعون الاطلاع على ما في قلبي، مع أن حقيقتي تكمن في قلبي. لذلك، فهم يرغبون في الاستماع إلى حقيقتي تلك، التي لا تستطيع أعينهم أو آذانهم الوصول إليها.
7
اختار غاندي «قصة تجاربي مع الحقيقة» عنوانا فرعيا لكتابه. فقد ذكر أنه نظرا لأن حياته تتألف من تلك التجارب فقط، فسيكون سردها بمنزلة كتابة سيرته الذاتية. وكما يفعل العالم، خاض غاندي تجاربه بواسطة تعمد إدخال أفكار وأساليب معيشة، وتحديات وقيود جديدة على حياته أو حياة الآخرين، ثم دراسة نتائجها وأخذها في الاعتبار من أجل أي دراسة مستقبلية. ويشير غاندي إلى تلك التجارب على مدار الكتاب، مثل تجاربه الغذائية ووسائل التعامل مع المرض والممارسات الروحانية ونماذج الحياة الجماعية والتحزب السياسي. وسرعان ما تخلى عن بعضها، وأجرى تعديلات على البعض الآخر، في حين تبنى أخرى لأمد طويل.
علاوة على ذلك، ساعدت تجارب غاندي في اختبار شخصيته ذاتها وتوجيهها إلى اتجاهات رأى صحتها. وكثيرا ما ترد الكلمتان: «تجربة» و«اختبار» في وصفه لتلك التجارب. فيعرض كيف يمكن لجوانب حياته الأكثر دقة وطبيعية وأحيانا خصوصية أن توفر له فرصة لاختبار ذاته. ولا يلمح غاندي إلى ما يمنع القراء من النظر إلى حياتهم كحياة تقبل هي الأخرى الاختيار والتجريب، الأمر الذي يمكنهم من المشاركة في تغيير شخصي واجتماعي مذهل على حد سواء.
تتناول بعض تجارب غاندي الأولى تغيرا شخصيا بحتا، كما حدث في محاولته اتباع نظام غذائي يشتمل على اللحم لينبذه في النهاية. أو في سعيه، مراهقا، وراء أساليب عملية لدرء الشر بالخير، وتضمنت أيضا تجاربه مع زوجته كاستوربا التي تزوجها عن عمر يناهز الثالثة عشر. يسترجع غاندي في سيرته الذاتية بألم الدفع به إلى الزواج في ذلك السن المبكر، وإلى العاطفة والغيرة المتحكمة والرغبة في السيطرة على زوجته في السنوات الأولى لزواجهما. ويصف بالتفصيل جهوده الرامية للعزوف عن ممارسة الجنس وتحول علاقتهما إلى علاقة تعتمد اعتمادا أكبر على المشاركة والرفقة.
إن تجارب غاندي الشهيرة في المجال الجماعي والتربوي والسياسي ترتبط ارتباطا وثيقا بمساعيه للتغير على المستوى الشخصي. وبغض النظر عن الاختلاف بين تجاربه في تلك المجالات المتعددة، يرى غاندي أنه لا يمكن الفصل بينها لأنها جميعا في الأصل تجارب أخلاقية. وأنها اندمجت جميعا تحت مظلة نمط من أنماط البحث والتجريب أكثر شمولا: وهو البحث المستمر، وفقا لنشأته وخبراته، في المبادئ التي يمكن أن يتبناها أو ينبذها على المستوى الأخلاقي - مثل المعاملة الظالمة للمنبوذين في الهند. وفي الوقت ذاته، كان دائما ما يفكر في المبادئ التي يمكن أن يتقبلها من تعاليم الديانات الأخرى، مثل المسيحية والإسلام، والمبادئ التي يجب عليه التخلي عنها. وكانت كتابة «السيرة الذاتية»، أخيرا، في حد ذاتها تجربة تضمنت جميع التجارب الأخرى الخالدة في الذاكرة وأعادت تدبرها.
عند النظر إلى حياة غاندي وأهميتها لنا، ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين وبعد مرور ما يقرب من خمسة عقود على وفاته؛ نجد أنه ينبغي علينا أن نتبنى نفس الاتجاه إلى التجريب، واختبار أي التجارب يمكن أن تتجاوز الفحص الدقيق من عدمه، وأيها يمكن أن تخضع للتعديل لتتناسب مع الظروف المستحدثة. فيمكننا أن ننتقي من آرائه كما انتقى هو من آراء الآخرين. فعلى سبيل المثال، علينا أن نؤكد، أسوة به، على مبدأي الحقيقة واللاعنف المتلازمين إذا ما أخذنا منهجه في فض النزاعات والتغير الاجتماعي على محمل الجد. وذلك لا يعني أن علينا أن نتفق معه بيقين تام فيما يتعلق بآرائه الذاتية، والتي تتصف في بعض الأحيان بالمغالاة، حول الغذاء أو الحياة الجنسية أو العادات الصحية . وليس لزاما علينا أن نلتزم بالحقائق الاقتصادية التي توصل إليها، والتي تم تبسيطها وصياغتها على نحو رديء حتى في عهده. ويحق لنا ألا نأخذ بمعارضته لجميع وسائل تنظيم الأسرة وإن قبل منها العزوف عن ممارسة الجنس، وذلك ما كان هو نفسه سيفعله إذا ما عاش ليشاهد النمو السكاني غير المسبوق الذي تشهده الهند والعالم بأسره.
حتى وإن رغبنا في نبذ بعض آراء غاندي أو تعديلها، تبقى سيرته الذاتية قيمة لما أسهمت به من تقديم سبيل جديد للمقاومة الجماعية للظلم. علاوة على ذلك، يمكننا الاستفادة من ثلاثة من المبادئ العامة الأخرى التي تركها لنا، والتي ستؤدي دورا مهما في العقود القادمة لا يقل أهمية عن الدور الذي أدته في عهده. وربما كان غاندي سيقول لنا إن تلك المبادئ هي الأخرى «قديمة قدم التاريخ» مثل مبدأي الحقيقة واللاعنف اللذين سعى إلى تعزيزهما، إلا أنه يتناول تلك المبادئ في سيرته الذاتية على نحو قوي أخاذ.
إن أول تلك المبادئ يتمثل ببساطة في إيمانه القوي بأن البشر جميعا يمكنهم تخطيط حياتهم وتوجيهها وفقا للغايات الأسمى، بغض النظر عن مدى شعورهم بالضآلة أو الضعف. لقد عاش غاندي منذ طفولته مقتنعا بأن قراراته المتعلقة بأسلوب حياته ذات أهمية، وأنه يمتلك القدرة على جعلها تتوافق مع ما يراه صوابا.
أما المبدأ الثاني فيعنينا الآن أكثر من أي وقت مضى؛ نظرا لما نشهده من وحشية ترتكب ضد المدنيين باسم العرقية والدين - كما حدث في يوغسلافيا السابقة وفي العديد من دول العالم، ولا سيما الهند، مسقط رأس غاندي. إن غاندي يقدم نموذجا لشخص متعمق في ميراثه الثقافي والديني، ولا يزال معارضا تماما لجميع صور التعصب الاجتماعي والعرقي والديني. وقد أصر على أن وسائل الشر لا تفسد الغايات التي تهدف إلى تحقيقها وتحط من قيمتها فحسب، بل تحط من قدر الأشخاص الذين يلجئون إليها. إن التغلب على الرغبة الملحة في اللجوء لمثل تلك الوسائل يبلغ ذروة الصعوبة عندما يروم الإنسان إصلاح ما أفسده الظلم. ويرجع سبب «انتشار سم الكراهية في العالم» إلى ندرة الالتزام بالقاعدة السلوكية «ابغض الخطيئة وليس مقترفها» (الجزء الرابع - الفصل التاسع).
وثالث تلك المبادئ هو إصرار غاندي على ارتباط التغير الشخصي بالقدرة على إحداث تغير اجتماعي. ويحذر أيضا من عدم جدوى السعي إلى تطبيق مبادئ مثل اللاعنف والعدالة في القضايا العامة ما دام الفرد يتجاهل تطبيقها في حياته الشخصية. ومن الحكمة أن يبدأ المرء تطبيقها تدريجيا وبقدر صغير. يستطيع كل إنسان - إذا أراد - أن يخلق «مناطق سلمية» في حياته، حيث يبذل قصارى جهده بغية التخلص من العنف والزيف. وبذلك، سيمهد الفرد الطريق إلى «عالم الغد» الذي:
سيكون، ويجب أن يكون، مجتمعا يقوم على اللاعنف. وقد يبدو ذلك الهدف بعيد المنال، أو مثاليا غير عملي. لكن تحقيقه ليس مستحيلا لأنه يمكن البدء في تحقيقه من هنا والآن. يمكن للفرد أن يتبنى أسلوب حياة المستقبل - أسلوب اللاعنف - دون الاضطرار إلى انتظار تبني الآخرين له. وإذا كان الفرد يمكنه فعل ذلك، أوليس من السهل إذن أن تتمكن مجموعة من الأفراد أو أمة بأكملها من تبني ذلك الأسلوب؟
8
سيسيلا بوك
أبريل/نيسان 1993م
هوامش
مقدمة مترجم النسخة الأصلية
من الجوجراتية إلى الإنجليزية
نشرت أول طبعة من السيرة الذاتية لغاندي في مجلدين، نشر المجلد الأول منها في 1927م والثاني في 1929م. وسرعان ما نفدت خمس طبعات من النسخة الأصلية المكتوبة باللغة الجوجراتية والتي طرحت بسعر روبية، وبيع منها ما يقرب من 50000 نسخة. وكان سعر ترجمة الكتاب باللغة الإنجليزية (التي صدرت كطبعة مكتبات فقط) يمثل عائقا أمام القارئ الهندي. فكانت الحاجة إلى طبعة رخيصة الثمن. ويصدر الكتاب الآن في مجلد واحد. ومن الملاحظ أن النسخة المترجمة إلى الإنجليزية، في أثناء صدورها تباعا في جريدة «يانج إنديا»، قد حظيت بمراجعة غاندي، وحظيت الآن بمراجعة دقيقة. أما من الناحية اللغوية فقد حظيت بمراجعة صديق موقر اشتهر، في جملة ما اشتهر به، بكونه باحثا بارزا في اللغة الإنجليزية. وقبل أن يشرع في المهمة، اشترط ألا أبوح باسمه لأي سبب كان. وقد قبلت الشرط، الذي يزيد حتما من إحساسي بالامتنان له. وقد ترجم صديقي وزميلي بياريلال الفصول من الخامس والعشرين إلى الثالث والأربعين من الجزء الخامس في أثناء وجودي في باردولي في وقت إجراء تحقيق باردولي الزراعي الذي أجرته لجنة برومفيلد في 1928-1929م.
ماهديف ديساي
1940م
المقدمة
منذ أربع أو خمس سنوات، وافقت على كتابة سيرتي الذاتية بناء على طلب عدد من أعز رفقائي. شرعت في الكتابة، لكنني لم أكد أنتقل إلى الصفحة الثانية حتى اندلعت أعمال الشغب في بومباي وتوقف العمل. ثم توالت سلسلة من الأحداث التي انتهت بسجني في سجن ييرافدا. طلب مني السيد جيرامداس، الذي كان أحد زملائي بالسجن، أن أنحي كل الأمور جانبا وأنهي كتابة السيرة الذاتية، لكنني أخبرته بأنني وضعت لنفسي برنامجا للدراسة بالفعل، ولن يمكنني التفكير في أي شيء آخر حتى انتهاء ذلك البرنامج. وكان من المفترض أن أنتهي من كتابة السيرة الذاتية لو أنني أكملت مدة سجني في ييرافدا، ولكن أطلق سراحي قبل عام من انتهاء المدة. أعاد السيد أناند الاقتراح، فشعرت بميل لكتابة السيرة الذاتية في جريدة نافاجيفان، لا سيما وقد انتهيت من كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا. وأراد السيد أناند أن أكتبها بصورة مستقلة بغية نشرها ككتاب. لكن لم يكن لدي وقت فراغ كاف، ولم يكن في استطاعتي إلا كتابة فصل واحد أسبوعيا. فلقد كان علي الكتابة في النافاجيفان كل أسبوع، فلماذا لا أكتب سيرتي الذاتية؟ وافق السيد أناند على اقتراحي، وانهمكت في العمل.
ساورت الشكوك صديقا مشهودا له بالتقى، فأفضى إلي بشكوكه في اليوم الأسبوعي الذي كنت ألتزم فيه الصمت، فقال: «ماذا دفعك لخوض هذه المجازفة؟ إن كتابة السيرة الذاتية أمر يقتصر على الغرب. ولا أعرف أحدا في الشرق قام بكتابة سيرته الذاتية إلا من تأثر منهم بالغرب. وماذا عساك تكتب؟ ألن تتسبب في تضليل من يتبعون مبادئك، سواء التي تتلفظ بها أو تكتبها، إذا ما نبذت في المستقبل بعض المبادئ التي تتبناها اليوم أو قمت بتعديل الخطط التي وضعتها في الوقت الحالي؟ ألا تعتقد أنه من الأفضل ألا تكتب سيرتك الذاتية الآن بأي حال من الأحوال؟»
تأثرت بقدر ما بقول صديقي، لكنني لم أرغب في كتابة سيرة ذاتية بمعنى الكلمة، بل كنت أرغب في ذكر قصة تجاربي المتعددة مع الحقيقة. ونظرا لأن حياتي تتكون من تلك التجارب وحدها، فستأخذ القصة شكل سيرة ذاتية. لكنني لن أنزعج لو أن كل صفحة من صفحات الكتاب تتناول تجاربي فقط. أعتقد، أو أشبع غرور نفسي بالاعتقاد، أن القارئ سيستفيد من ذكر كل تلك التجارب متصلة. وإن خبراتي في مجال السياسة أصبحت معروفة الآن، ليس في الهند فحسب، بل في العالم «المتحضر» بدرجة ما. لا أجد أن تلك التجارب السياسية ذات قيمة عظيمة، بل أجد أن لقب «مهاتما» الذي منحتني إياه أقل منها قيمة. وكثيرا ما كان يجعلني ذلك اللقب أشعر بالأسى، ولا أذكر أنه سبق وأدخل علي السرور قط، لكنني، بلا شك، أود ذكر تجاربي الروحانية التي لا يعلمها أحد سواي. لقد استمددت من تلك التجارب القوة التي ساعدتني على العمل في مجال السياسة. ونظرا لكون الخبرات روحانية حقا، فلا يوجد مجال لتمجيد الذات، بل يمكن لتلك الخبرات فقط أن تزيد من تواضعي. فكلما تذكرت الماضي وأمعنت في أحداثه، ازداد شعوري بقصوري.
إن الهدف الذي أرغب في تحقيقه - والذي كنت أسعى وأتوق إلى تحقيقه على مدار هذه الثلاثين عاما - هو إدراك الذات، فأرى الإله وجها لوجه وأنال «الموكشا».
1
فأنا أحيا وأعمل لتحقيق ذلك الهدف، وكل ما أقول وأكتب، وكل المغامرات التي أقدمت عليها في مجال السياسة، موجهة لتحقيق نفس الغاية. لكن انطلاقا من إيماني بأن ما ينطبق على الفرد يمكن أن ينطبق على الجميع، لم أقم بتجاربي سرا وإنما علانية. ولا أعتقد أن تلك الحقيقة تحط من قيمتها الروحانية. فهناك بعض الأمور بين العبد وخالقه لا يعلمها سواهما، وتلك الأمور لا يمكن البوح بها. أما الخبرات التي أعتزم روايتها فلا تتعلق بمثل هذه الأمور. إنها خبرات روحانية، أو دعنا نقول أخلاقية، فالمبادئ الأخلاقية جوهر الدين.
ولن تتضمن القصة إلا المسائل الدينية التي يمكن للصغار والكبار على حد سواء استيعابها. إن استطعت أن أروي تلك المسائل بروح نزيهة ومتواضعة، فسيجد فيها الكثير من أصحاب التجارب زادا يساعدهم في سعيهم المتواصل. ولا أزعم أن هذه التجارب قد وصلت إلى حد الكمال بأي صورة من الصور. وشأني في هذه التجارب شأن العالم الذي يجري تجاربه بأكبر قدر من الدقة والروية والتدقيق، ومع ذلك لا يدعي مطلقا وجود حقيقة مطلقة في استنتاجاته بل يضعها دائما موضع الشك. لقد قمت بعملية استبطان عميقة لأفكاري ودوافعي ومشاعري، وفتشت في أعماق نفسي، وقمت بدراسة كل حالة نفسية وتحليلها. إلا أنني لا أزعم وجود أي حقيقة مطلقة أو غير مطلقة في استنتاجاتي. ولا أزعم إلا حقيقة واحدة، ألا وهي أن تلك الاستنتاجات تبدو لي صحيحة تماما وتبدو نهائية في الوقت الحاضر، ولو أنها غير صحيحة، لما جعلتها أساسا لأفعالي. لقد أجريت عملية القبول والرفض في كل خطوة قمت بها وكنت أتصرف وفقا لذلك. وما دامت أفعالي لا ينبذها عقلي ولا قلبي، فيجب أن أتمسك بشدة باستنتاجاتي الأصلية.
ولو كنت أريد تناول مبادئ نظرية لا غير، لما كتبت سيرة ذاتية. لكن نظرا لأن هدفي ذكر العديد من التطبيقات العملية لتلك المبادئ، أطلقت على كتابي اسم «قصة تجاربي مع الحقيقة». وبالطبع سيتضمن ذلك تجاربي مع اللاعنف والتحكم في شهوات النفس وغيرها من المبادئ التي يرى البعض أنها تختلف عن الحقيقة، لكنني أرى أن الحقيقة هي المبدأ المطلق الذي تندرج تحته شتى المبادئ الأخرى. إن الحقيقة لا تعني صدق الكلمات فحسب، وإنما صدق الفكر أيضا، ولا تعني الحقيقة النسبية التي ندركها فحسب، بل الحقيقة المطلقة والمبدأ الخالد، ألا وهو الإله. هناك العديد من الصفات التي تنسب للإله نظرا لأن قدرته تتجلى في العديد من المظاهر، التي تملؤني بالدهشة والرهبة، بل تذهلني في بعض الأحيان، ولكنني أجل الإله كحقيقة فحسب، ولم أجد الإله بعد لكنني لا أزال أبحث عنه، وأنا على استعداد لبذل كل عزيز وغال من أجل ذلك البحث، حتى إنني قد أبذل حياتي إذا لزم الأمر. ونظرا لعدم تمكني من التوصل إلى تلك الحقيقة المطلقة بعد، يجب أن أظل متمسكا بالحقيقة النسبية كما تتراءى لي، وفي غضون ذلك، يجب أن تكون تلك الحقيقة النسبية دليلي ودرعي الواقي. وقد كان ذلك الطريق الأسرع والأيسر مع صعوبته وضيقه، وكونه حادا كشفرة الموسى، حتى إن أخطائي الفادحة بدت لي تافهة لالتزامي بهذا الطريق؛ فقد أنقذني ذلك الطريق من الإخفاق، حيث سرت وفقا للهدى الذي تراءى لي. كنت أرى في سعيي خلف الحقيقة ومضات خافتة من الحقيقة المطلقة، الإله. ويوما بعد يوم بدأ ينمو لدي الاعتقاد بأن الإله هو الحقيقة الوحيدة وما عداه سراب. ومن شاء فليتتبع كيف نما لدي ذلك الاعتقاد وليشاركني في خبراتي وفي اعتقادي، إن استطاع. وتولد لدي اعتقاد آخر يستند إلى أسباب منطقية، هو أن ما ينطبق علي يمكن أن ينطبق حتى على طفل صغير؛ إذ إن وسائل البحث عن الحقيقة تتميز بالبساطة بقدر ما تتميز بالتعقيد، وقد تبدو تلك الوسائل مستحيلة تماما لشخص متغطرس، لكن ممكنة تماما لطفل بريء. إن الساعي خلف الحقيقة يجب أن يكون أكثر تذللا من التراب. إن العالم يسحق التراب تحت أقدامه، لكن الساعي خلف الحقيقة ينبغي أن يكون من التواضع بمكان حتى يسحقه التراب ذاته. ووقتها، ووقتها فقط، يمكن أن يرى وميضا من نور الحقيقة. إن الحوار بين فاسيشتا وفيشفاميترا يوضح تلك الحقيقة بإسهاب، وتسهب الديانة الإسلامية والمسيحية أيضا في تأييدها.
وإذا ما لمس القارئ في أي من صفحات الكتاب لمحات من كبرياء، فعليه حينها أن يظن أن هناك ما يشوب مسعاي، وأن ومضات نور الحقيقة تلك ليست إلا سرابا. فليهلك مائة ممن هم على شاكلتي، لكن لتبق الحقيقة سائدة. ودعونا لا نحط من قدر الحقيقة ولو قيد أنملة بسبب البشر الخطائين مثلي.
أدعو الإله ألا يأخذ أحد نصيحتي التي سأوردها في الفصول التالية على أنها إلزامية، بل يجب النظر إلى التجارب على أنها أمثلة توضيحية يمكن لكل شخص في ضوئها إجراء تجاربه الخاصة وفقا لميوله الشخصية وقدراته. وأنا على يقين من أن تلك الأمثلة التوضيحية، في مداها المحدود، ستكون نعم العون للقارئ، نظرا لأنني لن أخفي أو أزيف أي حقائق بغيضة يجب أن أخبر القارئ بها. فأنا أتمنى أن أطلع القارئ على جميع أخطائي وعيوبي. فليس هدفي الإطراء على نفسي، بل وصف تجاربي فيما يتعلق بعلم الساتياجراها، وسأكون قاسيا كالحقيقة في حكمي على نفسي، وأريد من الآخرين أن يكونوا كذلك. ويجب أن أهتف، وأنا أحاسب نفسي بهذا المقياس، بأبيات الشاعر سورداس:
هل من بائس يحمل ذلك القدر من الشر والبغض مثلي؟
لقد انصرفت عن خالقي،
يا لي من جحود.
إنني أعاني عذابا متواصلا لاستمرار بعدي عن الإله، الذي أعلم جيدا أنه هو الذي خلقني، وأن حياتي بيده. وأعلم أن ما يحول بيني وبين الإله هو الهوى الذي بداخلي، إلا أنني لا أستطيع التخلص منه.
والآن يجب أن أختم هذه المقدمة، فلا يسعني تناول السرد الفعلي للقصة إلا في الفصل التالي.
مهنداس كارامشاند غاندي
الأشرام، سابارماتي
26 نوفمبر/تشرين الثاني 1925م
هوامش
الجزء
قصة تجاربي مع الحقيقة
الفصل الأول
المولد والنسب
تنتمي عائلة غاندي إلى طبقة التجار بالهند (بانيا)
1
ويبدو أنهم كانوا في الأصل يشتغلون بالبقالة. لكنهم شغلوا منصب رئيس الوزراء لثلاثة أجيال متتابعة في ولايات عدة بكاثياوار
Kathiawar ، بداية بجدي. وقد كان جدي أوتمشاند غاندي، والمعروف باسم أوتا غاندي، بلا شك رجلا نزيها. وقد اضطرته الدسائس السياسية داخل الولاية إلى مغادرة بورباندار
حيث كان يشغل منصب رئيس الوزراء (ديوان)، ففر هاربا إلى ولاية جوناجاده
Junagadh . وعند وصوله إليها حيا حاكمها (نواب) بيده اليسرى. فسأله أحدهم، عندما لاحظ عدم لياقته، عن سبب ذلك، فأجاب قائلا: «إن اليد اليمنى تدين بالولاء إلى حاكم بورباندار.»
تزوج أوتا غاندي زواجه الثاني بعد وفاة زوجته الأولى. وقد رزق من زوجته الأولى بأربعة أبناء ومن زوجته الثانية باثنين. ولم أعلم في طفولتي قط أو أشعر أن أبناءه ليسوا إخوة من أم واحدة. وكان خامس أبنائه كارامشاند غاندي، والمعروف باسم كابا غاندي، أما الابن السادس فكان يدعى تولسيداس غاندي. وقد شغل هذان الأخوان منصب رئيس وزراء بورباندار في مدتين متتاليتين. كابا غاندي هو والدي، وكان عضوا في محكمة راجاسانيك
Rajasthanik Court ، التي لا وجود لها حاليا، لكنها في ذلك الحين كانت تضطلع بدور كبير في فض النزاعات التي تنشأ بين الزعماء وأفراد عشيرتهم. وقد شغل منصب رئيس الوزراء في راجكوت
Rajkot
لبعض الوقت ثم في فانكانر
Vankaner . وقد وافته المنية وهو متقاعد بولاية راجكوت.
تزوج كابا غاندي أربع زيجات متتالية، فكلما أفقده الموت زوجة تزوج بأخرى. وقد رزق من زوجتيه الأولى والثانية بفتاتين، ورزق من زوجته الرابعة، بوتليباي، بفتاة وثلاثة أبناء كنت أنا أصغرهم.
كان والدي محبا لعشيرته ويتسم بالصدق والشجاعة والكرم، لكنه مع هذا كله كان سريع الانفعال. ويمكن القول إنه كان يميل إلى الملذات الشهوانية بدرجة ما، حيث إنه تزوج زواجه الرابع وكان عمره قد جاوز الأربعين. كان والدي مستقيما، وقد عرف بنزاهته التامة داخل العائلة وخارجها، وكان ولاؤه للولاية معلوما للجميع. فحينما أهان مساعد المعتمد البريطاني أمير راجكوت، رئيس والدي، قام بالرد عليه، الأمر الذي أثار حفيظة مساعد المعتمد البريطاني، فطلب أن يعتذر والدي عما بدر منه، لكن كابا رفض الاعتذار فكانت النتيجة أنه ظل محتجزا لبضع ساعات، فلما لمس مساعد المعتمد البريطاني منه العناد، أمر بإخلاء سبيله.
لم يشغل والدي نفسه قط بجمع الثروة، وقد ترك لنا عند وفاته قدرا يسيرا من الأملاك.
ولم يتلق تعليما أكاديميا، بل تعلم من خبراته. وعلى أفضل تقدير، يمكن أن يكون قد درس حتى مستوى الصف الخامس الجوجراتي. ومع عدم معرفته بالتاريخ والجغرافيا، ساعدته خبرته العملية الغزيرة في حل أصعب المشكلات، وفي أن يسوس مئات الأشخاص. وقد تلقى تعليما دينيا متواضعا، ومع ذلك كان يتمتع بذلك النوع من الثقافة الدينية التي تمنحها الزيارات المتكررة للمعابد والاستماع إلى المحاضرات الدينية للعديد من الهندوس. في السنوات الأخيرة من عمره، بدأ كابا غاندي في قراءة «الجيتا»
2
بناء على طلب أحد أصدقاء العائلة ، وهو عالم ينتمي إلى طائفة البراهمة الهندوسية. واعتاد قراءة بعض الأجزاء منها بصوت عال كل يوم في أوقات الصلاة.
كان الورع هو أجل انطباع خلفته والدتي في ذاكرتي، فقد كانت على درجة كبيرة من التدين. فكانت لا تتناول الطعام قبل أن تتلو صلواتها اليومية، وكانت زيارة معبد الإله فيشنو (هافيلي) إليها بمنزلة فرض يومي، وأذكر أن والدتي لم تترك صيام أي من الشهور الأربعة المقدسة (شاتورماس)
3
قط، وكانت توجب على نفسها أصعب النذور وتحافظ عليها دون تهاون، حتى إن المرض لم يكن يوما عذرا للتفريط في ذلك الواجب المقدس، وأتذكر أنها ذات يوم سقطت مريضة في أثناء التزامها بعهد (شاندرايانا)،
4
ولكنها لم تسمح للمرض بأن يعوقها عن الالتزام بالعهد. لم يمثل الصيام ليومين أو ثلاثة أيام متتابعة صعوبة لها. وكان من عادتها أن تتناول وجبة واحدة يوميا في مدة الشاتورماس. وبسبب شعورها بعدم الرضا لصيامها جميع أيام إحدى فترات الشاتورماس بالتناوب، نذرت في فترة شاتروماس أخرى ألا تأكل حتى ترى الشمس، وقد اعتدنا نحن الأطفال في تلك الأيام أن نقف محدقين في السماء، في انتظار أن تظهر الشمس فنبلغ والدتنا بظهورها. ونعلم جميعا أن الشمس غالبا لا تظهر في ذروة الموسم المطير. وأتذكر أنه في بعض الأيام عندما كانت الشمس تظهر فجأة كنا نركض لنبلغ والدتنا بسطوعها، ولكنها كانت تصر على أن تذهب لتراها بأم عينيها، ولكن حينها تكون الشمس سريعة الزوال قد اختفت، حارمة إياها من تناول الطعام، فتقول بابتهاج: «هذا لا يهم، لم يرد الإله أن أتناول الطعام اليوم.» ثم تعود لممارسة مهامها.
كانت والدتي تتمتع برجاحة عقل شديدة، وكانت على دراية بجميع شئون الدولة، وكانت سيدات البلاط الملكي يقررن بذكائها. كنت كثيرا ما أرافقها، مستغلا كوني في طور الطفولة، ولا أزال أتذكر العديد من المناقشات المثيرة التي جرت بينها وبين الأرملة والدة الأمير.
ولدت في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 1869م في بورباندار، التي تعرف أيضا باسم سودامابوري، حيث أمضيت طفولتي. وأتذكر دخولي المدرسة، واجتيازي جداول الضرب بشق الأنفس. ولا أتذكر من هذه الأيام إلا قيامي، شأني شأن بقية الأولاد، بنعت المعلم بشتى الألفاظ البذيئة، وهذا يدل على قصور قدراتي الذهنية وضعف ذاكرتي.
هوامش
الفصل الثاني
الطفولة
لا بد أنني كنت في السابعة من عمري عندما رحل والدي عن بورباندار متجها إلى راجكوت ليصبح عضوا في محكمة راجاسانيك، وقد ألحقني بمدرسة ابتدائية في راجكوت، وما زلت أتذكر تلك الأيام جيدا، لا سيما أسماء المعلمين الذين درسوا لي وغيرها من التفاصيل. وكما كان الحال في بورباندار، لم يكن هناك أمر جدير بالذكر فيما يتعلق بدراستي، فقد كنت طالبا متوسط المستوى. وانتقلت من هذه المدرسة إلى مدرسة الضاحية، ثم إلى المدرسة الثانوية حين بلغت الثانية عشرة من عمري، ولا أذكر أني قد كذبت قط في تلك الفترة القصيرة، سواء على معلمي أو زملائي. لقد كنت شديد الخجل وكنت أتحاشى الرفقة، فلم يكن لي رفيق سوى كتبي ودروسي. واعتدت أن أكون في المدرسة مع قرع جرس بداية اليوم الدراسي، وأن أعود راكضا إلى المنزل فور انتهائه. وقد كنت أركض فعلا إلى المنزل لأنني لم أكن أطيق التحدث إلى أي شخص، وكنت أخشى - إلى حد بعيد - سخرية الآخرين.
وفي امتحان السنة الأولى من المدرسة الثانوية وقعت حادثة أرى أنها جديرة بالذكر، حضر السيد جيلز، المفتش التعليمي، في زيارة تفتيشية إلى المدرسة، ثم قام بإملاء خمس كلمات كتمرين على التهجي، وكانت إحدى تلك الكلمات الخمس كلمة
Kettle ، وقد أخطأت في تهجيها. حاول المعلم مساعدتي بوخزي بمقدمة حذائه، ولكن دون جدوى، فقد كان من الصعب علي أن أتخيل أن معلمي يريدني أن أغش من زميلي الذي بجواري، وذلك لأنني اعتقدت أن مهمة المعلم منعنا من الغش، ونتيجة لذلك، تهجى جميع الطلاب الكلمة بصورة صحيحة، ما عدا أنا بالطبع؛ فقد كنت الأحمق الوحيد بينهم، وقد حاول المعلم لاحقا أن يقنعني بتلك الحماقة ولكن هيهات، فلم أستطع قط تعلم مهارة «الغش».
ومع كل ما حدث، فلم تؤثر تلك الواقعة مطلقا على الاحترام الذي أكنه لمعلمي، فقد كان من طبيعتي ألا أنتقد نقائص من هم أكبر مني. وقد نمى إلى علمي فيما بعد الكثير من نقائص ذلك المعلم، ومع ذلك ظل احترامي له كما هو. وذلك يرجع إلى أنني تعلمت تنفيذ أوامر من هم أكبر مني، وليس إحصاء معايبهم.
ويعلق بذاكرتي حادثتان أخريان تعودان لنفس الفترة، فبصورة عامة، كنت أكره قراءة أي كتاب بخلاف الكتب المدرسية، وكان علي أن أؤدي الواجبات المدرسية نظرا لأنني كنت أكره أن أخدع معلمي بقدر كرهي لتكليفه إياي بفروض مدرسية، ولذلك، كنت أؤدي تلك الواجبات، لكن دون تركيز في أغلب الأحيان. ولذلك، حتى عندما كنت أعجز عن إنجاز واجباتي بصورة لائقة كان من المستحيل أن أطلع على أي كتب أخرى. وبطريقة ما وقعت عيني على كتاب كان قد اشتراه والدي، ويحمل اسم «شرافانا بيتريباكتي ناتاكا» (وكان مسرحية تتحدث عن بر شرافانا بوالديه)، وقد قرأت ذلك الكتاب بشغف شديد. وقد قدم إلى بلدتنا، تقريبا في المدة ذاتها، مجموعة متجولة من مقدمي العروض المسرحية. وقد رأيت شرافانا، في أحد المشاهد، وقد حمل والديه الكفيفين على كتفيه بواسطة حبل في أثناء رحلة الحج. ترك كل من الكتاب والمشهد لدي انطباعا لا ينسى، وقد حدثت نفسي قائلا: «هذا نموذج يحتذى.» ولا يزال مشهد حزن والدي شرافانا لموته حيا في ذاكرتي. لقد تأثرت كثيرا بالموسيقى العذبة التي استمعت إليها، حتى إنني لعبت تلك الموسيقى على آلة الكونسيرتينا التي كان والدي قد اشتراها من أجلي.
وهناك واقعة مماثلة تتعلق بمسرحية أخرى، في تلك المدة كان والدي قد أذن لي بمشاهدة مسرحية تؤديها إحدى الفرق المسرحية، وقد سلبتني لبي تلك المسرحية التي تحمل اسم «هاريش تشندرا»، فلم أمل أبدا من مشاهدتها، ولكن السؤال: كم مرة يمكن أن يسمح لي والدي بمشاهدتها؟ لقد استحوذت علي المسرحية، ومن المؤكد أنني أديتها لنفسي عددا لا حصر له من المرات، وقد كنت أسأل نفسي ليلا ونهارا: «لماذا لا نكون جميعا صادقين مثل هاريش تشندرا؟» وكانت أفضل قيمة غرستها داخلي المسرحية هي التمسك بالحقيقة وخوض جميع المحن التي مر بها هاريش تشندرا. لقد آمنت بقصة هاريش تشندرا تماما، وغالبا ما كانت الفكرة ككل تدفعني إلى البكاء، ويخبرني عقلي الآن بأن هاريش تشندرا لا يمكن أن يكون شخصية تاريخية، إلا أنه هو وشرافانا يمثلان لي حقيقة حية، وأنا على يقين من أنني سأتأثر إذا ما قرأت هاتين المسرحيتين الآن بنفس القدر الذي تأثرت به فيما مضى.
الفصل الثالث
الزواج طفلا
كم كنت أود ألا أكتب هذا الفصل، لكن ليس بوسعي إغفال هذا الجانب مهما كان حجم المرارة التي أتجرعها وأنا أكتب هذه السطور، وإن كنت أدعي أنني من أنصار الحقيقة فليس بوسعي أن أفعل خلاف ذلك، فمن واجبي أن أذكر زواجي في سن الثالثة عشرة بغض النظر عن الألم الذي قد أعانيه. حين أنظر إلى الأطفال الذين تقترب أعمارهم من ذلك العمر ممن هم تحت رعايتي، وأتذكر زواجي؛ أشعر بالشفقة على نفسي وبرغبة في تهنئتهم على النجاة من المصير الذي واجهته، فأنا لا أرى أي سبب أخلاقي يدعو إلى ذلك الزواج المبكر الذي ينافي المنطق.
أرجو ألا يخطئ القارئ الفهم، فقد كنت متزوجا ولم أكن خاطبا. فهناك في كاثياوار نوعان من الطقوس: الخطبة والزواج، والخطبة هي وعد أولي بالزواج بين والد الفتى ووالد الفتاة، ويمكن الرجوع عنه، ولا يترتب على وفاة الفتى أن تصبح الفتاة أرملة، فهو اتفاق بين الآباء فحسب، وليس للأبناء شأن به، وفي أغلب الأحوال لا يعلم الأطفال عنه شيئا. ويبدو أن والدي قد خطب لي ثلاث مرات دون علمي، حيث علمت بوفاة فتاتين كان والدي قد خطبهما لي. ومع ضعف ذاكرتي، فإنني أتذكر أن خطبتي الثالثة تمت وأنا في السابعة من عمري، لكنني لا أتذكر أن أحدا أخبرني بذلك. وسوف أتحدث في هذا الفصل عن زواجي الذي أتذكره بكل وضوح.
كنا ثلاثة إخوة، وكان أخونا الأكبر متزوجا. فقرر الكبار أن يزوجوني أنا وأخي الآخر الذي يكبرني بسنتين أو ثلاث، وابن عمي الذي كان يكبرني بعام تقريبا، وأن يكون ذلك في يوم واحد. ولم يأخذوا بعين الاعتبار سعادتنا، ولا حتى رغباتنا. فقد كان الأمر يتعلق بمصلحتهم وتوفيرهم للأموال.
إن الزواج عند الهندوس ليس بالأمر الهين؛ فوالدا العروسين غالبا ما يشرفان على الإفلاس بسبب حفل الزفاف، فيهدران أموالهما وأوقاتهما، فالأمر يستغرق شهورا للقيام بالاستعدادات، من إعداد الملابس والزخارف، وتوفير الأموال اللازمة للمآدب. ويحاول كل منهما التفوق على الآخر في عدد أصناف الأطعمة المقدمة وتنوعها، وتقوم النساء بالغناء، بغض النظر عن جمال أصواتهن أو قبحها، حتى تبح أصواتهن، ويمرضن. وكان ذلك يسبب إزعاجا للجيران، الذين كانوا يتحملون بدورهم كل تلك الجلبة والصخب بهدوء، ويتحملون كل القاذورات الناتجة من بقايا الاحتفالات. ويرجع ذلك إلى أن الجيران كانوا على علم بأنه في يوم ما سيتصرفون على نفس النحو.
وقد رأى الكبار أن يتخلصوا من كل ذلك الصخب في يوم واحد وبصورة واحدة، بحيث ينفقون مبالغ أقل ويحققون منفعة أكبر. ويرجع ذلك في نظرهم إلى أنه يمكن إنفاق الأموال بسخاء إذا كانت ستنفق في ليلة واحدة وليس في ثلاث ليال مختلفة. لقد كان والدي وعمي كبيرا السن، وكنا آخر أولادهم غير المتزوجين، وعلى الأرجح كانت غايتهم أن يشهدوا آخر أسعد لحظات حياتهم. ونظرا لكل هذه العوامل، جرى الاتفاق على إقامة زفاف ثلاثي. وكما سبق أن ذكرت استغرقت الاستعدادات للعرس عدة شهور.
وقد كانت تلك الاستعدادات هي الشيء الوحيد الذي أعلمنا بالحدث المنتظر. أعتقد أن الزواج كان لا يعني لي سوى ارتداء الملابس الأنيقة وقرع الطبول ومراسم الزفاف والمآدب الفخمة واللعب مع فتاة لا أعرفها، أما الرغبة الجسدية فجاءت لاحقا. وقد رأيت أن أسدل الستار على هذا الموضوع المخزي، فيما عدا بعض التفاصيل التي تستحق الذكر، والتي سوف أتعرض لها فيما بعد، وذلك مع أن تلك التفاصيل ليست وثيقة الصلة بالفكرة الرئيسية التي كانت تدور بخلدي عند كتابة هذه القصة.
وهكذا، انطلقنا أنا وأخي من راجكوت إلى بورباندار. وهناك بعض التفاصيل المضحكة التي وقعت في أثناء المراسم التمهيدية للعرس، مثل تلطيخ أجسادنا بمعجون الكركم، لكن يتعين علي التغاضي عن مثل هذه التفاصيل.
كان والدي يشغل منصب ديوان، لكنه لم يكن مجرد موظف حكومي لأنه كان موضع تقدير أمير الولاية. وحتى اللحظة الأخيرة، لم يكن الأمير موافقا على سفر والدي. ولكن عندما وافق، أمر لوالدي بعربة خاصة بأربع عجلات تجرها الخيول لتكون تحت تصرفه حتى يوفر يومين من زمن الرحلة، ولكن الأقدار شاءت غير هذا. إن بورباندار تبعد 120 ميلا عن راجكوت، أي أن الرحلة كانت ستستغرق خمسة أيام بواسطة العربة، وقد استغرقت الرحلة من والدي ثلاثة أيام فقط، لكن العربة انقلبت في اليوم الثالث، مما تسبب له في إصابات بالغة، عندما وصل والدي كانت الضمادات تغطي جسده كله، ولقد أدت إصابته إلى ضياع جزء كبير من شغفنا بالحدث المرتقب، لكن كان علينا أن نقيم المراسم. فكيف يمكن أن يتغير موعد الزواج؟ على كل حال، أنستني سعادتي الطفولية بالزواج الحزن على إصابة والدي.
لقد كنت بارا بوالدي، ولكنني كنت مولعا أيضا بالمشاعر الحسية. ومع ذلك، كان علي أن أتعلم أنه يجب التضحية بكافة أنواع السعادة والملذات من أجل خدمة والدي. وسوف أروي فيما بعد حادثة أخرى لا تزال عالقة في ذاكرتي، مع أنها كانت في صورة عقاب لرغباتي الشهوانية. يتغنى نيشكولاناند قائلا: «لا يدوم التخلي عن الأشياء المادية طويلا دون التخلي عن الشهوات مهما حاول المرء.» وكلما أنشدت هذه الأغنية أو استمعت إلى كلماتها، تذكرت تلك الحادثة المؤلمة وشعرت بالخجل يغمرني.
ومع الإصابات التي كان يعانيها أبي تظاهر بالتماسك وشارك في الزفاف. وعند استرجاعي للأحداث، أستطيع أن أتذكر بوضوح الأماكن التي كان يجلس فيها ويتابع منها تفاصيل مراسم الزفاف المختلفة. ولم يخطر ببالي حينها أنه سيأتي اليوم الذي أنتقد فيه والدي بشدة لتزويجي في تلك السن المبكرة؛ فقد بدا لي أن كل شيء في ذلك اليوم قد تم على نحو صحيح وكان مليئا بالجمال والبهجة، ذلك بالإضافة إلى لهفتي للزواج. ونظرا لأن كل ما فعله والدي آنذاك أثر في نفسي بدرجة لا تسمح لي بانتقاده، ما زلت أتذكر تلك الأحداث بوضوح، وحتى الآن أستطيع أن أتخيل كيف كنا نجلس على منصة الزفاف ، وكيف قمنا بخطوات السابتابادي،
1
وكيف وضع كل منا الكانسار
2
اللذيذ في فم الآخر، وكيف بدأنا العيش معا، والليلة الأولى، ويا لها من ليلة! طفلان بريئان قذف بهما إلى بحر الحياة دون أن يدركا. لقد أعطتني زوجة أخي نصائح بشأن ما علي فعله في تلك الليلة، لكني لا أعلم من الذي قدم النصح إلى زوجتي، فلم أسألها قط عن ذلك، ولا أرغب في أن أسألها الآن. لعل القارئ على يقين بأننا كنا متوترين للغاية بحيث لم يستطع أحدنا مواجهة الآخر. وكنا بالطبع شديدي الخجل. كيف كنت سأتحدث إليها، وماذا أقول؟ لم تنفعني النصائح كثيرا، فالنصائح ليس لها أهمية حقيقية في مثل هذه الأمور؛ لأن الأفكار الموروثة عن الحياة السابقة للإنسان تطغى على جميع النصائح وتجعلها غير ضرورية. وبدأنا نتعارف، ونتحدث تدريجيا بحرية أكبر. ومع أن أعمارنا كانت متقاربة، فلم أحتج وقتا طويلا كي أفرض سيطرتي كزوج.
هوامش
الفصل الرابع
ممارسة دور الزوج
ظهر، في المدة التي تزوجت فيها تقريبا، عدد قليل من الكتيبات التي تناقش موضوعات مثل: الحب بين الزوج والزوجة، والاقتصاد في النفقات، وزواج الأطفال، وغيرها من الموضوعات. وكانت تباع مقابل بايس أو باية
1 (لا يحضرني المبلغ بالضبط). وكنت كلما وقعت عيني على أي من تلك الكتيبات، أتصفحها بالكامل، ولكنني كنت أنفذ الأجزاء التي تروقني، أما الأجزاء التي كانت لا تروقني فكنت أنساها. فالإخلاص الأبدي للزوجة، الذي تصوره تلك الكتيبات على أنه واجب على الزوج؛ ظل مغروسا في قلبي إلى الأبد. ولما كان الصدق متأصلا في نفسي فقد كانت خيانة زوجتي مسألة مستحيلة؛ وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن أمامي الكثير من فرص الخيانة في تلك السن الصغيرة.
ولكن درس الإخلاص هذا كان له أثر مشئوم أيضا. حدثت نفسي قائلا: «إذا كنت سأخلص لزوجتي، فيجب عليها هي أيضا أن تخلص لي.» فجعلت تلك الفكرة مني زوجا غيورا، وتحول واجب إخلاصي لها ببساطة إلى حقي في الحصول على إخلاصها المطلق . ولتحقيق ذلك الإخلاص المطلق، كان علي أن أتمسك بحقي هذا بقوة ويقظة . بالطبع لم يكن هناك ما يدعوني للشك في إخلاص زوجتي، لكن الغيرة عمياء. كان علي أن أراقب تحركاتها باستمرار، فكانت لا تستطيع الخروج دون إذني، وغرست هذه المسألة بذور الشجار المر بيننا. وكانت القيود التي فرضتها عليها بمنزلة السجن، ولكن كاستوربا لم تكن من الفتيات اللاتي يمكن أن يتحملن مثل ذلك السجن، فقد حرصت على أن تخرج وقتما شاءت، وكلما فرضت عليها مزيدا من القيود، تصرفت هي بمزيد من الحرية، مما زاد من غضبي. فأصبح امتناع كل منا عن محادثة الآخر روتينا يوميا لحياتنا، ولا عجب فقد كنا مجرد أطفال. وأجد أن تصرف كاستوربا بهذه الطريقة كان طبيعيا جدا في ظل القيود التي فرضتها عليها، فكيف تتحمل فتاة بسيطة مثلها أي قيود تمنعها من زيارة المعبد أو زيارة صديقاتها؟ وإذا كنت أملك الحق في فرض القيود عليها، أليس من حقها هي أيضا أن تفرض علي قيودا؟ لقد أدركت كل هذه الأمور الآن فقط، ولكن آنذاك كان علي النجاح في فرض سيطرتي كزوج.
لا أريد أن يظن القارئ أن حياتنا كانت مسلسلا من التعاسة المطلقة؛ فقسوتي على زوجتي كانت بدافع الحب، فقد كنت أطمح في أن أجعلها مثالية، وأن تحيا حياة نقية وأن تتعلم ما لدي من علم وأن تتوحد حياتنا وأفكارنا.
لا أعلم ما إذا كان لدى كاستوربا مثل ذلك الطموح، فقد كانت أمية، إلى جانب أنها كانت بطبيعتها بسيطة ومستقلة ومحافظة ومثابرة، على الأقل حين تتعامل معي. وكانت متقبلة لجهلها، ولا أذكر أن دراساتي استطاعت قط أن تحفزها كي تخوض نفس تجربتي، ولذلك أعتقد أن طموحي كان أحادي الجانب. لقد كانت عاطفتي موجهة إلى امرأة واحدة فقط، وكنت أرغب في أن يكون الشعور متبادلا، ومع أن ذلك الشعور لم يكن متبادلا فإن الحياة لم تكن شقاء دائما لأن الحب كان موجودا على الأقل من طرف واحد.
يجب أن أعترف أنني كنت مغرما بها، حتى وأنا في المدرسة ، اعتدت أن أفكر فيها وكان دائما ما يراودني حلول الليل ولقاؤنا المقبل ، لم أكن أحتمل البعد عنها، وقد اعتدت أن أجعلها مستيقظة لساعات متأخرة من الليل وأنا أحدثها بكلام غير ذي قيمة. لو لم يصاحب هذه العاطفة الفياضة التزام شديد بالواجب، لكان من الممكن أن أقع فريسة للمرض والموت المبكر أو أن أغرق في ظلمات حياة مليئة بالهموم. كان علي أن أقوم بواجباتي صباح كل يوم. وكان من المستحيل أن أكذب على أي شخص، الأمر الذي أنجاني من الكثير من المصائب.
سبق أن ذكرت أن كاستوربا كانت أمية. وكنت أتوق لتعليمها، ولكن الحب الشهواني لم يبق لي وقتا كي أعلمها. فمن ناحية لم تكن ترغب في التعلم، ومن ناحية أخرى كان علي أن أعلمها ليلا، لم أكن أجرؤ على أن أقابلها في حضور الكبار، ولا أن أحدثها بالطبع. كانت كاثياوار حينذاك تتبنى، ولا تزال بقدر ما، عادة حجب النساء (البردة)، التي أراها غريبة وعقيمة وهمجية، ومن ثم، لم تكن الظروف مواتية لتعليمها. ويجب أن أعترف أن أغلب جهودي لتعليم كاستوربا في شبابنا باءت بالفشل، وعندما تحررت من أسر الشهوة، كنت قد انخرطت بالفعل في الحياة العامة التي لم تترك لي الكثير من وقت الفراغ. وفشلت أيضا في تعليمها بواسطة معلمين خصوصيين، ونتيجة لذلك، لا تستطيع كاستوربا حاليا إلا كتابة بعض حروف قليلة وبصعوبة، بالإضافة إلى فهم اللغة الجوجراتية البسيطة. وأنا على يقين بأنه لو كان حبي لها خاليا تماما من الشهوة، لأصبحت امرأة متعلمة الآن. ويرجع ذلك إلى أنني كنت سأستطيع حينها أن أقهر كرهها للدراسة، فلا شيء يستعصي على الحب الطاهر.
سبق أن ذكرت إحدى الوقائع التي حدثت لي وأسهمت بقدر ما في إنقاذي من مصائب الحب الشهواني، وقد وقع حدث آخر يستحق الذكر أثبت لي - بجانب العديد من الأمثلة الأخرى - أن الإله ينجي أصحاب الدوافع النبيلة في النهاية. تسيطر على المجتمع الهندي عادة أخرى تحد إلى درجة ما من شر عادة تزويج الأطفال الوحشية، وتتمثل هذه العادة في أن الوالدين لا يسمحان للزوجين الصغيرين بالبقاء معا لفترة طويلة. فتقضي الفتاة المتزوجة ما يزيد على نصف الوقت في منزل والدها، كما كان حالي مع زوجتي، ففي الخمس سنوات الأولى من زواجنا (من سن الثالثة عشرة إلى الثامنة عشرة)، لم نعش معا فترة تزيد على ثلاث سنوات في مجموعها، وكنا نادرا ما نكمل ستة أشهر معا دون استدعاء والديها لها، لقد كان ذلك الأمر يضايقنا كثيرا في تلك الأيام ولكنه مع هذا كان درعا لحمايتنا. وعند بلوغي سن الثامنة عشرة، رحلت إلى إنجلترا مما أدى إلى مدة طويلة وصحية من الانفصال. وحتى بعد عودتي من إنجلترا، كنا نادرا ما نمضي معا فترة تزيد على ستة أشهر حيث إنني كنت أتنقل بين راجكوت وبومباي. ثم كانت دعوة جنوب أفريقيا، وكنت وقتها قد تخلصت تماما من الشهوة الجسدية.
هوامش
الفصل الخامس
في المدرسة الثانوية
كما ذكرت فيما سبق، كنت أدرس في المدرسة الثانوية حين تزوجت، وكنت وأخواي ندرس في المدرسة ذاتها، وكان أخي الأكبر يسبقني في الصف الدراسي بكثير، أما أخي الذي تزوج في نفس يوم زفافي فكان يسبقني بصف دراسي واحد. ونتيجة لزواجنا، تخلفنا عن المدرسة سنة كاملة، ولكن الزواج كان له أثر أكثر سلبية على أخي حيث إنه ترك الدراسة نهائيا، وهناك الكثير من الشباب يعانون نفس محنته، فلم يسر التعليم والزواج جنبا إلى جنب إلا في المجتمع الهندي المعاصر.
بدأت في استئناف دراستي، ولم أكن بليدا في المدرسة الثانوية، بل كنت دائما ما أحوز على إعجاب معلمي، وكانت شهادات تفوقي العلمي والخلقي ترسل إلى والدي كل عام، ولم أحصل على شهادة سيئة قط، بل حصلت على جوائز بعد أن تجاوزت الصف الثاني. وفي الصفين الخامس والسادس، حصلت على منح دراسية بلغت إحداها 4 روبيات والأخرى 10 روبيات على الترتيب. ويرجع الفضل في حصولي على تلك المنح إلى حسن حظي أكثر منه إلى استحقاقي إياها. فلم تكن المنح متاحة للجميع، بل كانت مقصورة على الأولاد المتفوقين ممن ينتمون إلى مقاطعة سوراث
Sorath Division
التابعة لكاثياوار. وكان من الصعب في تلك الأيام وجود عدد كبير من الطلاب الذين ينتمون إلى سوراث في فصل يتراوح عدد طلابه بين أربعين وخمسين تلميذا.
أذكر أنني لم أكن أقدر ما لدي من قدرات، وكنت أدهش كلما حصلت على جائزة أو منحة دراسية، لكنني كنت أدافع عن تفوقي بغيرة شديدة، كنت أذرف الدمع إذا شاب تفوقي شيء ولو شائبة ضئيلة، لم أكن أحتمل استحقاقي للتعنيف أو أن يرى المعلمون أنني أستحق التعنيف. تحضرني واقعة تلقيت فيها عقابا بدنيا، ولم يكن العقاب هو ما آلمني، ولكن استحقاقي لذلك العقاب؛ فقد أخذت أبكي بمرارة، وكانت تلك الواقعة في أثناء دراستي في الصف الأول أو الثاني. وقد حدثت لي واقعة أخرى في دراستي بالصف السابع، وكان السيد دورابجي إدولجي جيمي يشغل منصب مدير المدرسة آنذاك، وقد كان السيد دورابجي معروفا بين الطلبة بكونه شخصية نظامية ومنهجية، وبكونه معلما جيدا. وقد جعل التربية الرياضية والكريكت إلزامية على الأولاد في الصفوف المتقدمة، وكنت أمقت رياضة الكريكيت أو كرة القدم، ولم أشارك قط في أي منهما قبل أن تصبح إلزامية. وكان خجلي أحد الأسباب التي منعتي من المشاركة في تلك الرياضة، وقد اتضح لي الآن أنني كنت مخطئا؛ فقد كان لدي مفهوم خاطئ حينها مفاده أن التربية الرياضية لا علاقة لها بالتعليم. أما الآن فأنا على يقين من أن التربية الرياضية يجب أن تحظى كمادة أساسية في برامج التعليم بنفس الاهتمام الذي تحظى به التربية الذهنية.
ولكنني مع ذلك لم أتضرر نتيجة لامتناعي عن التدريبات، ويرجع ذلك إلى قراءتي في بعض الكتب عن فوائد السير لمسافات طويلة في الهواء الطلق، فأصبح السير من عاداتي التي لا أزال أحرص عليها، وقد منحتني ممارستي لرياضة السير بنية قوية بقدر ما.
ويرجع عدم اكتراثي بالتربية الرياضية إلى رغبتي الشديدة في العناية بوالدي، ففور انتهاء المدرسة، كنت أهرع إلى البيت وأبدأ في خدمته. وكان التدريب الإلزامي الذي فرضه مدير المدرسة يحول بيني وبين تأدية هذه المهمة، لقد طلبت من السيد جيمي مدير المدرسة أن يعفيني من التربية الرياضية حتى أتمكن من خدمة والدي، لكنه لم يبال بطلبي. وفي أحد الأيام التي ذهبنا فيها إلى المدرسة في الصباح، كان علي أن أذهب من البيت إلى المدرسة مرة أخرى في الرابعة مساء لحضور درس التربية الرياضية، ولم أكن أمتلك ساعة يد، ولم أستطع تبين الوقت بالنظر إلى السماء، وهكذا وجدت أن جميع زملائي كانوا قد انصرفوا قبل وصولي إلى المدرسة. في اليوم التالي، اطلع السيد دورابجي على قائمة الأسماء، فوجدني قد تخلفت عن الحضور، وعندما سألني عن سبب تخلفي، أخبرته بما حدث، ولكنه أبى أن يصدقني وأمرني بدفع غرامة وصلت إلى آنة
1
أو آنتين (لا أتذكر المبلغ حاليا).
لقد اتهمني بالكذب! وهو الأمر الذي آلمني بشدة، كيف كان لي أن أثبت براءتي؟ لم يكن بيدي حيلة، فبكيت بحرقة، وأيقنت حينها أن الشخص الصادق يجب أن يتحلى أيضا بالالتزام. كانت هذه الواقعة أول وآخر حادثة أهمل فيها في المدرسة. وعلى ما أتذكر، نجحت في النهاية في إلغاء الغرامة التي كان قد فرضها علي، وأعفيت من التدريب أيضا، حيث إن والدي كتب إلى مدير المدرسة بنفسه يخبره بحاجته إلي في البيت بعد انتهاء المدرسة.
لم أتأثر نتيجة لإهمالي للتدريبات، ولكنني لا أزال مع ذلك أدفع ثمن إهمالي لشيء آخر. فلا أدري من أين تكونت لدي فكرة أن الخط الجيد في الكتابة لا يمثل جزءا ضروريا من عملية التعليم. على كل حال، لقد لازمتني هذه الفكرة حتى رحلت إلى إنجلترا. وعندما رأيت فيما بعد ما يتمتع به المحامون والشباب الذين ولدوا وتلقوا تعليمهم في جنوب أفريقيا من خط جميل في الكتابة، شعرت بالخجل من نفسي، وندمت على إهمالي لتحسين خطي في الكتابة. إن الخط السيئ يشير إلى عدم تلقي تعليم كامل. وحاولت بعد ذلك العمل على تحسين خطي في الكتابة، لكن بعد فوات الأوان، فلم أستطع قط أن أصلح ما أفسده تقصيري في شبابي. فليأخذ كل شاب وفتاة عبرة مما حدث لي وليعلموا أن الخط الجيد في الكتابة هو جزء لا يتجزأ من التعليم. وأعتقد أن على الأطفال تعلم فن الرسم قبل تعلم الكتابة. يجب أن يتعلم الطفل الحروف بالمشاهدة كما يتعلم غيرها من الأشياء المادية، مثل الزهور والطيور وغيرها. ويجب أن يتعلم الكتابة بعد أن يتعلم رسم الأشياء المادية، ولسوف يكتب وقتها بخط جميل.
حدثت واقعتان أخريان في أيام الدراسة يستحقان الذكر في هذا السياق، سبق أن ذكرت أنني أضعت سنة دراسية بسبب زواجي، لكن معلمي أرادني أن أعوض تلك السنة بتخطي صف دراسي، وهو امتياز يمنح غالبا للطلبة المجتهدين. وبناء على ذلك، قضيت ستة أشهر فقط في الصف الثالث ثم انتقلت إلى الصف الرابع بعد الامتحانات التي تعقبها العطلة الصيفية، وأصبحت اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس في معظم المواد الدراسية بداية من الصف الرابع، فوجدت نفسي في ضياع تام. كان علم الهندسة مادة جديدة ومن الصعب علي تعلمها، وزاد تدريسها باللغة الإنجليزية من صعوبة الأمر. لقد كان المعلم يشرح المادة بصورة جيدة، لكنني لم أستطع متابعته، وكنت في أحيان كثيرة أفقد الأمل وأفكر في العودة إلى الصف الثالث محدثا نفسي بأن تكديس مواد سنتين دراسيتين في سنة واحدة أمر بالغ الطموح. ولكنني إن فعلت ذلك فلن أجلب العار على نفسي فقط، بل على المدرس الذي وثق باجتهادي وأوصى بنقلي إلى الصف التالي، وأدى خوفي من ذلك الخزي المضاعف، إلى استمراري في الصف ذاته. عندما وصلت إلى مسلمة إقليدس الثالثة عشرة بعد جهد مضني، تجلت لي بساطة المادة. فأي مادة تتطلب من الشخص استخداما بسيطا لقدراته الاستدلالية، لا يمكن أن تعتبر صعبة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الهندسة سهلة وممتعة.
ومع ذلك، وجدت أن تعلم اللغة السنسكريتية مهمة أصعب؛ ففي الهندسة لم أكن أحفظ شيئا، أما في اللغة السنسكريتية فكنت أرى أن علي حفظ كل شيء عن ظهر قلب. وقد بدأت في دراسة هذه المادة بداية من الصف الرابع أيضا. وعند دخولي الصف السادس، كنت مثبط الهمة. كان المدرس شديدا في تعامله معنا ويثقلنا بالواجبات المدرسية، وكان هناك نوع من المنافسة بين مدرس اللغة السنسكريتية ومدرس اللغة الفارسية، فقد كان مدرس اللغة الفارسية متساهلا، واعتاد الطلبة أن يتحدثوا عن سهولة اللغة الفارسية وبراعة مدرسها ومدى مراعاته للطلبة. استهوتني «السهولة» التي كانوا يتحدثون عنها، فجلست في يوم من الأيام في فصل اللغة الفارسية، الأمر الذي أحزن مدرس اللغة السنسكريتية بشدة، فدعاني إلى جانبه وقال لي: «كيف نسيت أنك ابن لأب من أتباع الإله فيشنو؟ ألن تتعلم لغة ديانتك؟ أخبرني إذا كنت تواجه أي صعوبة، فأنا أريد أن أعلمكم اللغة السنسكريتية قدر استطاعتي، وكلما تعمقت في هذه اللغة اكتشفت أمورا ممتعة. يجب عليك ألا تحبط، عد واجلس في حصة اللغة السنسكريتية!»
لقد شعرت بالخجل من تلطفه معي، ولم أستطع تجاهل تأثره. والآن أشعر بالعرفان بالجميل لمدرسي كريشنا شانكر بانديا، فلولا القدر اليسير من اللغة السنسكريتية الذي تعلمته حينذاك، لكان من الصعب علي الاطلاع على أي من كتبنا المقدسة. في الحقيقة، أشعر بندم عميق لعدم إلمامي باللغة بطريقة أفضل لأنني أدركت منذ ذلك الحين أنه يجب على كل فتى وفتاة ينتمون إلى الهندوسية أن يمتلكوا معرفة سليمة باللغة السنسكريتية.
في رأيي، ينبغي أن تحتوي مناهج التعليم العالي على اللغات الهندية والسنسكريتية والفارسية والعربية والإنجليزية، وذلك بالطبع بالإضافة إلى اللغة المحلية. ولا داعي لأن تثير هذه القائمة من اللغات المخاوف؛ فلو أصبح التعليم لدينا نظاميا ولا يعاني الطلاب فيه عبء تعلم جميع المواد الدراسية بلغة أجنبية، لكان من السهل عليهم تعلم جميع هذه اللغات وكانوا سيجدون في تعلمها متعة مطلقة. فالمعرفة العلمية بلغة، تجعل معرفة غيرها من اللغات أسهل نسبيا.
في الواقع، يمكن أن نعتبر اللغات الهندية والجوجراتية والسنسكريتية لغة واحدة، والفارسية والعربية أيضا لغة واحدة، فهناك علاقة وطيدة بين اللغتين الفارسية والعربية، مع أن اللغة الفارسية تنتمي إلى عائلة اللغات الهندوأوروبية (الآرية)، وتنتمي اللغة العربية إلى عائلة اللغات السامية. وترجع هذه العلاقة إلى أن كلتا اللغتين وصلتا إلى أوجهما عن طريق نهضة الإسلام. لم أعتبر اللغة الأردية لغة مستقلة حيث إنها تبنت قواعد النحو الخاصة باللغة الهندية، وتتكون مفرداتها بصورة رئيسية من مفردات اللغتين الفارسية والعربية. وعلى من يرغب في تعلم اللغة الأردية بطريقة سليمة، أن يتعلم اللغتين الفارسية والعربية، ويجب أيضا على من يرغب في تعلم اللغة الجوجراتية أو الهندية أو البنغالية أو الماراثية بصورة سليمة أن يتعلم اللغة السنسكريتية.
هوامش
الفصل السادس
حدث مأساوي
من بين أصدقائي القليلين في المدرسة الثانوية، كان هناك - في فترات مختلفة - اثنان يمكن أن أعتبرهما صديقين حميمين. لم تستمر واحدة من هاتين الصداقتين طويلا مع أنني لم أتخل عن أصدقائي قط. لقد تركني صديقي الأول لأنني صادقت الآخر. تلك الصداقة الأخيرة أعتبرها مأساة في حياتي، فقد دامت طويلا وعشتها بروح المصلح.
كان رفيقي هذا في الأصل أحد أصدقاء أخي الأكبر وكان زميلا له في الصف الدراسي، وكنت على دراية بمساوئه، ولكنني كنت أرى فيه صديقا وفيا. حذرني كل من والدتي وأخي الأكبر وزوجتي من رفقته، ومنعني كبريائي من الإنصات إلى تحذير زوجتي، لكنني لم أجرؤ على معارضة رأي أمي وأخي الأكبر. ومع ذلك، دافعت عن نفسي أمامهم قائلا: «أعلم أن به ما ذكرتم من مساوئ، لكنكم لا تعلمون فضائله. لا يمكنه أن يضلني عن طريق الصواب، لأن علاقتي به هدفها أن أقوم معوجه، وأنا على يقين من أنه سيصبح إنسانا عظيما عندما أصلح من سلوكياته. أرجوكم لا تقلقوا بشأني.»
لا أعتقد أن دفاعي قد أقنعهم، لكنهم قبلوا تبريري للموقف، وتركوني أسلك الطريق الذي اخترته.
وبعد ذلك، اكتشفت أنني أخطأت في تقدير الأمور؛ فلا يمكن للمصلح أن يكون على علاقة وثيقة بالشخص الذي يسعى إلى إصلاحه، فالصداقة الحقيقية تعتمد على تطابق أرواح نادرا ما يوجد في هذا العالم. ولن تكون ذات قيمة أو تدوم سوى بين الطبائع المتآلفة. ويؤثر الأصدقاء بعضهم في البعض، فلا يوجد إذن سوى مجال ضئيل للغاية للإصلاح. وأرى أنه يجب تجنب الصداقات المستأثرة التي تحول دون مصادقة سائر البشر، فالإنسان يميل إلى الرذيلة أكثر منه إلى الفضيلة. والشخص الذي يتخذ من الإله صديقا له، عليه أن يظل وحيدا أو أن يتخذ العالم كله صديقا له. رأيي هذا قد يحتمل الخطأ، لكن أثبتت لي التجربة أن جهودي لترسيخ صداقة وطيدة باءت بالفشل.
كانت هناك موجة من «الإصلاح» تجتاح راجكوت في الوقت الذي تعرفت فيه إلى صديقي هذا، وأخبرني صديقي بأن هناك العديد من مدرسينا يأكلون اللحم ويشربون الخمر سرا. وقد ذكر لي العديد من الأسماء لأناس مشهورين في راجكوت، وأخبرني أنهم ينتمون لنفس تلك المجموعة. وأخبرني أيضا أن من ضمن هذه المجموعة طلبة من المدرسة الثانوية.
لقد أذهلني ما أخبرني به صديقي وجعلني أشعر بالألم. وسألت صديقي عن السبب وراء ذلك كله، فأجابني قائلا: «نحن شعب ضعيف لأننا لا نأكل اللحم، ويقدر الإنجليز على حكمنا وإخضاعنا لأنهم يأكلون اللحم. بالطبع تعلم كم أحتمل المشقات، بالإضافة إلى كوني عداء سريعا، كل ذلك لأنني آكل اللحم. إن آكلي اللحوم لا يصابون بالبثور أو الأورام، وحتى إذا أصيبوا بها فلا تلبث أن تلتئم بسرعة. إن مدرسينا وغيرهم من الأشخاص البارزين ممن يأكلون اللحم ليسوا بمغفلين، بل هم على علم بفوائد اللحم، ويجب عليك أنت أيضا أن تفعل مثلهم، فلا شيء أفضل من التجربة، جرب أكل اللحم وسوف ترى القوة التي سيمنحك إياها.»
هذه القائمة من الدفاعات عن أكل اللحوم لم أتلقها في لقاء واحد، وإنما هي خلاصة جدال طويل ومفصل كان يحاول صديقي أن يفرضه علي من وقت إلى آخر. اقتنع أخي بوجهة النظر تلك، وانضم إلى تلك المجموعة، ومن ثم كان يدعم وجهة نظر صديقي. بالطبع كنت أبدو ضئيل الجسم مقارنة بأخي وصديقي هذا، فقد كانا أكثر شجاعة وقوة وجرأة. لقد فتنتني مناقب صديقي هذا، فقد كان يستطيع العدو لمسافات طويلة وبسرعة فائقة، وكان ماهرا في القفز الطويل والوثب العالي. وكان يستطيع تحمل أي قدر من العقاب البدني، وكان كثيرا ما يستعرض مناقبه أمامي، وكنت أنبهر به كأي إنسان ينبهر عند رؤية الصفات التي تنقصه في غيره، وتبع ذلك الانبهار رغبة في أن أصبح مثله؛ فقد كنت لا أستطيع القفز أو الركض مثله . فلماذا لا أكون بنفس قوته؟
علاوة على ذلك، كنت جبانا. فقد كان يغشاني الخوف من اللصوص والأشباح والأفاعي، ولم أكن أجرؤ على الخروج في الليل خشية الظلام، وكان من الصعب أن أنام في الظلام لأنني كنت أتخيل الأشباح تتقدم نحوي من اتجاه، واللصوص من اتجاه آخر، والأفاعي من اتجاه ثالث، وهكذا لم أكن أستطيع النوم دون إضاءة الغرفة، وكيف أستطيع أن أبوح بمخاوفي لزوجتي التي تنام بجانبي، ولم تكن طفلة بل على أعتاب مرحلة الشباب؟ كنت أعلم أنها أكثر شجاعة مني، مما جعلني أشعر بالخزي. ولم تكن زوجتي تخاف الأفاعي أو الأشباح، وكان يمكنها الذهاب حيثما شاءت في الظلام. وكان صديقي يعلم عني كل جوانب الضعف هذه، وكان يخبرني أنه يستطيع الإمساك بأفعى حية بيده، وأن يهزم اللصوص، وأنه لا يهاب الأشباح. وبالطبع كان ذلك كله ثمرة أكله للحم.
كان هناك أبيات هزلية للشاعر الجوجراتي نارماد شائعة بين الطلبة، تقول:
انظر إلى الإنجليز الأقوياء،
يحكمون الهنود الضعفاء،
يأكلون اللحم وينعمون،
طولهم خمسة أذرع ويزيدون.
هذا كله كان له أثر مباشر علي. لقد تكونت لدي قناعة تدريجية بأن أكل اللحم أمر حسن، وأنه سيجعلني قويا وشجاعا، وأنه إن واظب الشعب كله على أكل اللحم، فسوف نقهر الإنجليز.
وعليه، جرى تحديد يوم لبداية التجربة، ولكن كان يجب أن تكون سرا. فقد كانت عائلة غاندي من أتباع الإله فيشنو، وكان والداي خاصة مخلصين لديانتهما. وكانا يزوران معبد هافيلي بانتظام، وكان للعائلة المعابد الخاصة بها. وكانت الديانة الجاينية
1
منتشرة بقوة في جوجرات، وكان أثرها جليا في كل مكان وفي كل مناسبة، ولم تكن المعارضة أو البغض الذي يكنه الجاينيون وأتباع الإله فيشنو ضد أكل اللحم في الهند أو أي مكان آخر بالشراسة التي كانت عليها في جوجرات. وكانت هناك التقاليد التي نشأت وترعرعت في ظلها. وقد كنت مخلصا لوالدي، وكنت أعلم أن صدمتهما في ستكون قاصمة عندما يعلمون أنني أكلت اللحم. بالإضافة إلى ذلك، جعلني حبي للصدق أكثر حذرا. لا أستطيع أن أدعي أنني لم أكن على علم بأنني سأضطر إلى خداعهما إذا بدأت في أكل اللحم، لكن عقلي كان عازما على «الإصلاح». ولم يكن الغرض من أكل اللحم الاستمتاع بطعمه الشهي، فلم أكن أعلم حتى أن مذاقه جيد، لقد كان كل مرادي أن أصبح قويا وشجاعا، وأن يصبح كل أبناء وطني أقوياء وشجعان حتى نتمكن من هزيمة الإنجليز وتحرير الهند. لم أكن قد سمعت كلمة «الحكم الذاتي» بعد، ولكنني كنت أعلم معنى الحرية. لقد عمتني نوبة «الإصلاح»، وعندما ضمنت سرية ما أقوم به، أقنعت نفسي بأن مجرد إخفاء أفعالي عن والدي لا يعني أنني غير صادق معهما.
هوامش
الفصل السابع
حدث مأساوي (تابع)
ثم جاء اليوم المنتظر، وإنني لأجد صعوبة في وصف حالتي حينها وصفا دقيقا. فمن ناحية، كانت هناك حماستي «للإصلاح» وحداثة فكرة القيام بتحول خطير في طريق حياتي، ومن ناحية أخرى، كان هناك شعوري بالخجل نتيجة الاختباء كاللصوص للقيام بذلك العمل. لا أدري أي الأمرين كان ذا أثر أكبر علي. أخذنا نبحث عن منطقة منعزلة على ضفاف النهر، وهناك رأيت للمرة الأولى في حياتي «اللحم»، وأحضر الخبز أيضا. ولكنني لم أستمتع بأي منهما، فقد كان لحم الماعز صلبا كالصخر، فلم أستطع أن أتناوله، وكنت مريضا فاضطررت للكف عن الأكل.
لقد عانيت في تلك الليلة كثيرا. فظل يراودني كابوس كلما غفوت، كان يتراءى لي كأن عنزة حية تثغو بداخلي، فكنت أستيقظ فزعا وأشعر بالندم يغمرني، ولكنني كنت أحدث نفسي بأن أكل اللحم إنما هو واجب، مما كان يدخل علي بعض السرور.
لم يكن صديقي من النوع الذي يستسلم بسهولة. فقد بدأ يطهو أنواعا متعددة من الأطعمة الشهية من اللحم، ويقدمها بصورة جميلة. وتغير مكان العشاء من المنطقة المنعزلة على ضفاف النهر إلى مبنى المجلس التشريعي بما يحويه من صالة الطعام والطاولات والكراسي، ولقد استطاع صديقي أن يصل إليه بترتيب الأمر مع رئيس الطهاة هناك.
وقد كان لذلك الإغراء جليل الأثر علي. فقد تجاوزت بغضي للخبز ورأفتي بالماعز وأصبحت من محبي أطعمة اللحوم ، بل أصبحت محبا للحم ذاته. وقد استمر هذا الوضع لقرابة العام، ولكننا لم نحظ إلا بحوالي ست ولائم على مدار العام. ويرجع ذلك إلى أن مبنى المجلس التشريعي لم يكن متاحا في جميع الأيام، ويرجع أيضا إلى صعوبة إعداد أطعمة اللحم باهظة الثمن بصورة متكررة، ولم أكن أمتلك المال اللازم لدفع مقابل هذا «الإصلاح»، ولذلك كان على صديقي دائما أن يجد المال الكافي. لا أعلم من أين كان يأتي بالمال، لكن ما يهم في الأمر هو أنه كان يأتي به لعزمه على تحويلي إلى آكل للحوم، ولكن موارده المالية كانت محدودة، لذلك كانت تلك الولائم قليلة وتقام على فترات متباعدة.
وكلما واتتني فرصة الانغماس في مثل هذه الولائم السرية، كان يستحيل أن أتناول العشاء في البيت، وكانت والدتي تطلب مني تناول عشائي، وعندما كنت أمتنع عن تناول الطعام، كانت تسألني عن السبب، فكنت أجيبها قائلا: «لا أشعر برغبة في تناول الطعام اليوم، وأشعر بتوعك في معدتي.» كنت أشعر بتأنيب الضمير وأنا أحيك هذه الأكاذيب، كنت أعلم أنني أكذب، وأنني أكذب على والدتي ذاتها! وكنت أعلم أنه عندما يعرف والداي أنني أصبحت من آكلي اللحوم، سيصابان بصدمة شديدة، وكان علمي بذلك كله ينهش قلبي.
حدثتني نفسي قائلة: «إن أكل اللحم أمر مهم، وكذلك تبني فكرة «الإصلاح»، ولكن خداع المرء لوالديه والكذب عليهما أسوأ من الامتناع عن أكل اللحم؛ ولذلك، علي أن أمتنع عن أكل اللحم ما داما على قيد الحياة، وسآكل اللحم كما أشاء فقط إذا واراهما التراب، وبعد أن أصبح حرا. وحتى ذلك الحين، سوف أمتنع عن أكل اللحم.»
أخبرت صديقي بالقرار الذي توصلت إليه، ومن وقتها لم أعد أتناول اللحم، ولم يعلم والداي قط أن اثنين من أبنائهما أصبحا من آكلي اللحوم.
إن ما دفعني للامتناع عن أكل اللحم هو صدق رغبتي في عدم الكذب على والدي، لكنني لم أتخل عن صديقي. وقد عادت حماستي لفكرة إصلاح صديقي علي بالمتاعب، لكنني لم أكن على دراية بتلك الحقيقة.
وكانت تلك الصداقة ذاتها ستؤدي بي إلى خيانة زوجتي، لكنني نجوت بالكاد، فقد اصطحبني صديقي في يوم من الأيام إلى أحد بيوت الدعارة، وأدخلني بعد أن أخبرني ببعض النصائح والتوجيهات الضرورية، وكان كل شيء معدا سلفا، فقد تكفل صديقي بدفع الأجر المطلوب بالفعل، وألقيت بنفسي بين براثن الرذيلة، لكن الإله حماني من نفسي برحمته الواسعة. لقد جلست بجانب المرأة على فراشها في وكر الرذيلة هذا دون حراك، كأن عيناي قد عصبت ولساني قد عقد، وبالطبع، نفد صبر المرأة، وطردتني وهي تنهال علي بالسباب المقذع، وحينها شعرت أن رجولتي قد جرحت، وتمنيت لو أن الأرض انشقت وابتلعتني من شدة خجلي، لكنني بعد ذلك توجهت إلى الإله بالشكر لإنقاذي من براثن الرذيلة. وأذكر على مدار حياتي أنني تعرضت لأربع وقائع من هذا النوع، وفي معظم تلك الوقائع كانت نجاتي تأتي نتيجة حظي الحسن وليس قوة إرادتي. إذا ما نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر أخلاقية بحتة، نجد أن جميع تلك الأحداث تعتبر زلات أخلاقية، فقد كانت لدي الرغبة الجنسية التي لا تقل إثما عن ممارسة الجنس. ومن وجهة النظر الدنيوية العادية، يعتبر المرء الذي ينجو من ارتكاب خطيئة، ناجيا. وقد نجوت بهذا المعنى فقط. هناك بعض الأفعال التي تكون النجاة منها بمنزلة حادثة سعيدة لكل من الشخص الذي نجا والأشخاص من حوله، وفور أن يعود المرء إلى رشده، يشكر الإله على تخليصه منها برحمته. ومن المعروف أن المرء كثيرا ما يركن إلى الإغواء مهما قاومه، ولكننا نعلم أن العناية الإلهية كثيرا ما تتدخل لتخلصه بغض النظر عن أهوائه. كيف يحدث كل ذلك؟ إلى أي مدى يكون الإنسان حرا وإلى أي مدى يتأثر بالظروف؟ ما مدى تدخل الإرادة الحرة وأين دور القدر في الأحداث؟ إن جميع هذه الأسئلة تمثل لغزا محيرا وستظل كذلك إلى الأبد.
نعود إلى سرد القصة، فأذكر أن كل هذه الأحداث لم تفتح عيني على الشر الذي يعود علي من تلك الصداقة، ونتيجة لذلك كان في انتظاري المزيد من الأحداث المؤلمة، حتى اكتشفت بعض زلاته التي لم تخطر لي ببال على الإطلاق، لكنني سوف أذكر تلك الزلات فيما بعد؛ للحفاظ على السرد الزمني للأحداث.
على كل حال، هناك أمر واحد يجب علي أن أذكره الآن لأنه يتعلق بهذه المرحلة، كانت علاقتي بصديقي هذا، بلا شك، أحد أسباب خلافاتي مع زوجتي، وكنت زوجا وفيا وغيورا في الوقت ذاته، وكان صديقي يشعل نيران الغيرة والشكوك تجاه زوجتي، ولم أكن أشك مطلقا في صدقه. لم ولن أسامح نفسي أبدا على الألم الذي كنت أسببه لزوجتي نتيجة لإصغائي لكلام صديقي. ربما لا توجد امرأة يمكن أن تتحمل كل هذه الصعاب غير الزوجة الهندية، ولذلك أعتبر المرأة تجسيدا لمعنى التسامح. إذا ما اتهم خادم بغير حق، فسيترك وظيفته، وكذلك إذا اتهم ابن فسيفر من منزل والده، وأيضا إذا اتهم الصديق فسينهي تلك الصداقة. أما الزوجة إذا ما شكت في زوجها، فستلزم الصمت، ولكن إذا شك فيها زوجها، فستكون نهايتها. فأين يمكن أن تذهب؟ لا تستطيع الزوجة الهندية أن تطلب الطلاق في المحاكم، فالقانون لا يحميها. ولا أستطيع أن أنسى أو أن أغفر لنفسي ما سببته لزوجتي من تعاسة.
لقد تخلصت من آفة الشك هذه عندما أدركت فحوى كلمة «أهيمسا»
1
بكل ما تحمله من معان. ورأيت وقتها عظمة «البراهماشاريا»،
2
وأدركت أن الزوجة ليست جارية لدى زوجها، بل رفيقته ومعينته، وشريكته في السراء والضراء، وتتمتع بنفس القدر من الحرية الذي يتمتع به الزوج في اختيار طريقة حياتها. كلما تذكرت تلك الأيام المظلمة، شعرت بالاشمئزاز من حماقتي وقسوتي الشهوانية، وشعرت بالأسف الشديد لثقتي العمياء بصديقي.
هوامش
الفصل الثامن
السرقة والتكفير عنها
أرى أنه يجب علي أن أروي بعض حالات الضعف التي مررت بها أثناء مدة أكل اللحم تلك والمدة التي سبقتها أيضا، والتي تعود إلى وقت ما قبل زواجي أو بعد زواجي بوقت قصير.
كنت أنا وقريب لي مولعين بالتدخين، ولم يكن حبنا للتدخين بدافع اقتناعنا بوجود فائدة للتدخين أو لإعجابنا برائحة السجائر مثلا، وإنما ببساطة كان نتيجة لاعتقادنا بأن انبعاث سحاب الدخان من أفواهنا يشعرنا بالسرور. اعتاد عمي أن يدخن السجائر، وعندما رأيناه يدخن، ظننا أنه يجب علينا أن نحذو حذوه، وكنا لا نملك المال، ومن ثم بدأنا في سرقة أعقاب السجائر التي يلقيها عمي.
لم تكن أعقاب السجائر متوفرة باستمرار، ولم تكن تبعث دخانا كثيفا، فبدأنا نسرق قطع النقود النحاسية من جيب الخادم كي نشتري السجائر الهندية. ولكن كان ما يحيرنا دائما هو المكان الذي سنحتفظ فيه بالسجائر. وبالطبع كنا لا نستطيع أن ندخن في حضور الكبار. ولقد استطعنا أن نعتمد لبضع أسابيع على تلك النقود التي سرقناها. وعندما سمعنا أن سيقان إحدى النباتات مسامية ويمكن أن تستخدم للتدخين كالسجائر، حصلنا عليها وبدأنا في تدخينها.
ولكننا لم نكن قانعين بمثل هذه الأشياء، بدأت رغبتنا في الاستقلال تؤلمنا، وكنا لا نستطيع احتمال فكرة الحصول على إذن من الكبار قبل القيام بأي عمل. في نهاية الأمر، ومع كرهنا التام لذلك، قررنا الانتحار!
ولكن كيف ننتحر؟ ومن أين نأتي بالسم؟ علمنا أن بذور نبات الداتورة تعد سما فعالا، فذهبنا بعيدا إلى الغابة بحثا عن هذه البذور حتى حصلنا عليها، وكان المساء هو الوقت المناسب لإنجاز الأمر، فذهبنا إلى معبد كيدارجي، ووضعنا السمن في مصباح المعبد وأخذنا البركة
darshan ، ثم اتجهنا إلى أحد جوانب المعبد المنعزلة. ولكننا لم نكن نمتلك الشجاعة الكافية للانتحار، فماذا يحدث لو لم نمت على الفور؟ وما الفائدة من قتل أنفسنا؟ أليس من الأولى أن نتحمل حريتنا المقيدة؟ ومع ذلك، تناولنا بذرتين أو ثلاث من البذور السامة، ولم نستطع أن نتناول أكثر من ذلك، وتجنب كل منا مواجهة الموت، وقررنا الذهاب إلى معبد رامجي لنستجمع قوانا ونصرف فكرة الانتحار عن أذهاننا.
أدركت حينها أن الإقدام على الانتحار ليس بقدر سهولة التفكير فيه. ومنذ ذلك الحين، وأنا قلما أتأثر عند سماعي لشخص يهدد بالانتحار، أو لا أتأثر بالمرة.
أدت فكرة الانتحار بصورة أساسية إلى إقلاعنا عن عادة تدخين أعقاب السجائر وعن سرقة نقود الخادم من أجل شراء السجائر.
ومنذ بلوغي ، لم أرغب في التدخين وطالما اعتبرت التدخين عادة همجية وقذرة وضارة بالصحة، ولم أستطع قط أن أفهم سبب الرغبة العارمة في التدخين التي تسود العالم؛ فأنا لا أستطيع تحمل السفر في عربة مليئة بالمدخنين، فهذا يصيبني بالاختناق.
ولكن هناك سرقة ارتكبتها فيما بعد وكانت أشد خطورة من سالفتها، فقد سرقت قطع النقود النحاسية من الخادم عندما كان عمري اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو ربما أقل، أما هذه السرقة فقد ارتكبتها في سن الخامسة عشرة. هذه المرة، كان أخي آكل اللحم يرتدي سوارا تتدلي منه قطع ذهبية فسرقت قطعة منها، وكان أخي مدينا بمبلغ خمس وعشرين روبية، وكان مع ذلك يرتدي في ذراعه سوارا من الذهب الخالص، ولم يكن من الصعب أن أنتزع جزءا ضئيلا منه.
لقد ارتكبت السرقة وأديت دين أخي، لكن الأثر الذي خلفته السرقة علي كان فوق طاقتي، وقررت عدم السرقة مرة أخرى أبدا. وفكرت في الاعتراف لوالدي بما حدث، ولكنني لم أجرؤ على إخباره، ولم يكن رجوعي عن إخباره بالسرقة نتيجة خوفي أن يضربني، فلا أذكر أنه ضرب أيا منا، وإنما كان ذلك نتيجة لخوفي عليه من الألم الذي سيصيبه، مع ذلك، شعرت أن علي أن أتحمل المخاطرة، فلا تطهير من الإثم دون اعتراف صريح به.
في نهاية الأمر، قررت أن أكتب الاعتراف وأسلمه إلى والدي طالبا منه العفو عني، فكتبت الاعتراف على قطعة من الورق وسلمته إياها بنفسي، لم تكن هذه الورقة مجرد اعتراف مني بذنبي، وناشدت والدي فيها أن يعاقبني بالجزاء الذي يتناسب وذنبي، وختمت اعترافي برجائي له ألا يعاقب نفسه على جريمتي. وقد أخذت عهدا على نفسي بألا أسرق بعد ذلك أبدا.
كانت فرائصي ترتعد وأنا أسلم والدي الاعتراف، كان والدي وقتها يعاني الناسور وكان أسير الفراش، الذي كان لوحا خشبيا بسيطا، فسلمته الورقة وجلست في الجهة المقابلة للفراش.
قرأ والدي الورقة مباشرة دون توقف، ورأيت دموعه المتلألئة تسيل على خديه مبللة الورقة، وأغلق والدي عينيه للحظة وأخذ في التفكير، ثم مزق الورقة. وبعد أن كان قد اعتدل في جلسته لكي يقرأها، عاد ليستلقي. لقد بكيت أنا الآخر، فقد كنت أشعر بمدى تألم والدي، ولو كنت رساما، لصورت ذلك المشهد بالكامل اليوم، فلا يزال المشهد حيا في ذاكرتي.
طهرت دموع والدي المتلألئة المليئة بالحب قلبي، ومحت خطيئتي. ولا يستطيع أن يفهم هذا الحب إلا من عاشه كما تقول الترانيم:
لا يعلم قوة الحب إلا من أصيب بسهامه.
كان هذا درسا واقعيا في مذهب الأهيمسا. في ذلك الوقت لم أكن أرى فيما فعله والدي إلا حب الأب لابنه، لكنني الآن أعلم أن ما فعله كان تطبيقا خالصا للأهيمسا. فعندما تصبح هذه الأهيمسا شاملة، تعمل على تغيير كل شيء تقترب منه، ولا يكون هناك حد يقيد قواها.
لم يكن هذا النوع من المغفرة السامية من طبائع والدي، كنت أظنه سيغضب مني ويسبني بكلمات جارحة ويضرب جبينه حزنا، ولكن على عكس ذلك كان هادئا للغاية، الأمر الذي يعود في رأيي إلى اعترافي الصريح، فأطهر اعتراف ذلك الذي يكون صريحا، ومتضمنا لوعد بعدم العودة إلى ارتكاب تلك الخطيئة، والذي يدلي به أمام الشخص المستحق له، وأنا على يقين بأن اعترافي جعل والدي يثق بي تماما، وأنه زاد من حبه لي إلى أقصى مدى.
الفصل التاسع
وفاة والدي والخزي المضاعف
كنت آنذاك في السادسة عشرة من عمري، وكان والدي كما ذكرت طريح الفراش إثر إصابته بالناسور، وكنت أنا ووالدتي وخادم كبير السن نقوم على خدمته. كنت أقوم بمهام التمريض، ولا سيما تضميد جراحه، وإعطائه الأدوية، وتركيبها في المنزل عند الضرورة. كنت أقوم بتدليك ساق والدي كل ليلة ولا أذهب إلى فراشي إلا عندما يطلب مني هو ذلك، أو بعد أن يغلبه النعاس. لقد كنت أعشق قيامي بهذه الخدمة، ولا أذكر أنني قد غفلت عنها قط. وكنت أقسم كل وقتي - بعد أداء الواجبات اليومية - بين المدرسة وخدمة والدي. وكنت أخرج للتنزه ليلا فقط إذا سمح لي والدي بذلك أو عندما يشعر بتحسن حالته.
كنت وزوجتي في تلك المرحلة في انتظار ميلاد طفلنا الأول، وهو الأمر الذي أراه اليوم خزيا مضاعفا؛ فمن ناحية، لم أستطع التحكم في شهوتي، وهو ما كان ينبغي لي فعله إذ لا أزال طالبا. ومن ناحية أخرى، تغلبت شهوتي على واجبي تجاه دراستي، بل أثرت فيما هو أعظم من ذلك؛ بري بوالدي، فقد كان شرافانا مثلي الأعلى منذ طفولتي. ففي الوقت الذي كانت فيه يداي مشغولتين بتدليك ساقي والدي كنت أسبح بخيالي نحو غرفة النوم كل ليلة، وحدث هذا في زمن كان الدين والطب والمنطق على حد سواء يمنعون ممارسة الجنس. كنت أشعر بالبهجة عند الانتهاء من مهامي، فأهرع مباشرة إلى غرفة النوم بعد أن أنحني إجلالا لوالدي.
كانت حالة والدي في تلك الأثناء تتدهور يوما بعد يوم، وجرب المتخصصون في علم الطب الهندي (آيورفيدا) جميع الدهانات الطبية، واستخدم الأطباء اللاصقات الطبية، واستخدم الدجالون المحليون عقاقيرهم السرية، وقد قام جراح إنجليزي بفحص والدي، وأوصى بخضوع أبي لعملية جراحية، بعد أن فشلت جميع الوسائل العلاجية الأخرى، ولكن طبيب العائلة رفض خضوع والدي للعملية في هذه السن المتقدمة. كان ذلك الطبيب متخصصا ومشهورا، فرجح رأيه في النهاية على رأي الجراح الإنجليزي. وتخلينا عن فكرة إجراء العملية، واشترينا أنواعا شتى من الأدوية ولكن دون جدوى. أعتقد أنه إذا كان الطبيب قد وافق على إجراء العملية لكان ذلك سيساعد على شفاء جروح والدي بسهولة، فقد كان الجراح الذي من المفترض أن يجري العملية من الجراحين المشهورين في بومباي. ولكن كان للإله مشيئة أخرى، فعندما يحين الأجل، لا يستطيع أي أحد مهما كان أن يفكر في العلاج الصحيح. عاد والدي من بومباي ومعه جميع الأدوات اللازمة للعملية، ولكن لم يكن لذلك قيمة وقتها. يئس والدي من العيش لمدة أطول، فقد كانت حالته تنتقل من سيئ إلى أسوأ، حتى طلب منه في نهاية الأمر أن يؤدي جميع احتياجاته الأساسية في السرير. لكنه أبى أن يفعل ذلك، وكان دائما يصر على أن ينزل عن سريره مع الإجهاد الذي كان يتعرض له . فقد كانت أحكام النظافة الخارجية في طائفتنا صارمة.
هذه النظافة أساسية بلا شك، ولكن الطب الغربي توصل إلى أن جميع احتياجاته الأساسية - بما في ذلك الاستحمام - يمكن أن تؤدى في الفراش، ودون أدنى إزعاج للمريض، ومع الإبقاء على السرير دائما نظيفا. ينبغي لي أن أعتبر هذه النظافة تتوافق تماما مع ديانة الإله فيشنو. كنت أندهش من إصرار والدي على مغادرة السرير، ولم أملك إلا الإعجاب بذلك.
ثم جاءت الليلة المشئومة، كان عمي في ذلك الوقت في راجكوت. أذكر أنه حضر إلى راجكوت إثر علمه باشتداد المرض على والدي. كان والدي وعمي شديدا التعلق ببعضهما. كان عمي يصر على الجلوس بجوار سرير والدي طوال اليوم، والنوم بجانب سريره بعد أن يطلب منا الذهاب للنوم. لم يكن أحد يتوقع أن تلك هي الليلة الموعودة، لكننا كنا نعلم بالطبع أن حياة والدي في خطر.
كانت الساعة تقترب من العاشرة والنصف أو الحادية عشرة مساء، وكنت أدلك والدي، فعرض علي عمي أن يدلكه بدلا مني، فشعرت بالسعادة وذهبت من فوري إلى غرفة النوم. وكانت زوجتي المسكينة قد عاجلها النعاس، لكن كيف لها أن تنام وأنا موجود؟ فأيقظتها. ولم تمر سوى خمس أو ست دقائق حتى قرع الخادم الباب، فهببت مذعورا، فحدثني الخادم قائلا: «استيقظ، إن المرض قد اشتد على والدك.» كنت أعلم بالطبع أن والدي شديد المرض، لذلك حدست وقتها ما وراء هذه الجملة من معان، فقفزت من على سريري، وسألته: «ما الخطب؟ أخبرني!»
فأجابني قائلا: «لقد توفي والدك.»
انتهى كل شيء! لم أملك إلا أن أشعر بالندم، لقد تملكني شعور عميق بالخزي والألم، وهرولت إلى حجرة والدي، أدركت حينها أنه لولا شهوتي لما كنت عانيت عذاب البعد عن والدي في لحظاته الأخيرة في الدنيا، فقد كان من المفترض أن أكون بجواره وقتها أدلكه، وأن يموت بين ذراعي، ولكن قدر لعمي أن يحظى بهذا الشرف، لقد كان عمي شديد الوفاء لأخيه الأكبر مما جعله يستحق شرف أن يكون آخر من قام على خدمته. كان والدي قد شعر باقتراب موته. فأشار طالبا ورقة وقلما، وكتب: «أعدوا الطقوس الأخيرة!» وقد انتزع تعويذته من ذراعه، وكذلك قلادته الذهبية المصنوعة من خرز الريحان، وألقاهما جانبا. ثم ما لبث أن فارق الحياة بعد ذلك بلحظات.
كان الخزي الذي أشرت إليه في فصل سابق، هو الخزي من شهوتي التي سيطرت علي حتى في الوقت العصيب الذي توفي فيه والدي الذي كان يحتاج لخدمة يقظة. هذه الواقعة وصمة عار لم أستطع أن أمحوها أو أنساها قط. كنت دائما ما أقول لنفسي إنه مع أن بري بوالدي لم يعرف أي حدود ومع أنني كنت على استعداد للتضحية بأي شيء من أجلهما، فقد كان هناك ما فاق ذلك البر الذي لم أجد مبررا لانهياره؛ وذلك لأن الشهوة كانت مسيطرة على عقلي في ذلك الوقت؛ ولذلك السبب طالما اعتبرت نفسي زوجا شهوانيا، ولكن مخلصا. لقد استغرقت مدة طويلة حتى أتخلص من قيود الشهوة، وقد مررت بالعديد من المحن قبل أن أتغلب عليها.
لعلي أذكر قبل أن أختم هذا الفصل أن المولود المسكين الذي أنجبته زوجتي عانى صعوبة في التنفس لما يزيد على ثلاثة أو أربعة أيام، وماذا كنت أتوقع غير ذلك؟ فليعتبر كل زوجين مما حدث لي.
الفصل العاشر
لمحات دينية
درست في سنوات المدرسة، من سن السادسة أو السابعة إلى سن السادسة عشرة، جميع أنواع العلوم ما عدا الدين، ويمكن القول بأنني فشلت في تعلم ما كان يمكن لمدرسي أن يعلموني إياه دون أدنى جهد منهم، لكنني مع ذلك واظبت على التعلم من المصادر الموجودة في البيئة المحيطة بي، وعندما أتحدث عن الدين، فأنا أعني مصطلح «الدين» بمفهومه الواسع، أي إدراك الذات أو معرفتها.
كنت كثيرا ما أذهب إلى معبد هافيلي، نظرا لأنني ترعرعت في ظل ديانة الإله فيشنو، لكنه لم يرق لي قط، فلم يعجبني تألقه وأبهته، وسمعت أن هناك من يمارسون الرذيلة بداخله، فامتنعت عن الذهاب إليه تماما. وهكذا ، لم يفدني الهافيلي بأي شيء.
لكنني حصلت من مربيتي على ما فشلت في الحصول عليه من الهافيلي. كانت مربيتي خادمة عجوزا تعمل لدى العائلة، ولا أزال أتذكر عطفها علي وحنوها. لقد ذكرت فيما سبق أنني كنت أخشى الأشباح والأرواح في طفولتي، فاقترحت علي مربيتي - وكان اسمها رامبها - أن أردد «الراماناما»
1
كنوع من العلاج، لقد كانت ثقتي بها تتعدى ثقتي بالعلاج الذي وصفته لي، فبدأت أردد «الراماناما» في سن صغيرة حتى أتخلص من خوفي من الأشباح والأرواح، ذلك العلاج لم يدم طويلا، لكن البذرة الصالحة التي غرست في الطفولة لم تضع هباء؛ فلقد أصبح ترديد «الراماناما» الآن علاجا مؤكد الفعالية، وأنا على يقين من أن الفضل في ذلك يرجع للبذرة التي غرستها تلك المرأة الصالحة.
تدبر أحد أبناء عمومتي - وكان من المتحمسين لملحمة «رامايانا» - أمر تعليمي أنا وأخي الثاني «الراما راكشا». لقد حفظناها عن ظهر قلب، وجعلنا من عادتنا أن نرددها في صباح كل يوم بعد الاستحمام. وقد حافظنا على هذه العادة طوال مدة إقامتنا في بورباندار، لكننا غفلنا عنها فور انتقالنا إلى راجكوت، فلم أكن مؤمنا بها بدرجة كبيرة، لكنني كنت أرددها لشعوري بالفخر لكوني أردد الراما راكشا بنطق سليم.
كان الأمر الذي أثر في بشدة هو قراءتي للرامايانا أمام والدي. قضى والدي فترة من فترات مرضه في بورباندار، حيث اعتاد أن يستمع إلى الرامايانا كل مساء. كان القارئ من أتباع راما المخلصين، وهو لادها مهراج من بيلشفار. وقيل إنه شفى نفسه من الجذام بدون أي عقاقير، وإنما بتقديم أوراق نبات السفرجل إلى تمثال الإله الأعظم في معبد بيلشفار وأخذ ما تناثر منها ثم وضعه على الأماكن المصابة، مع الاستمرار في ترديد اسم الإله راما. وقيل إن إيمانه جعله كاملا. وهذا الكلام قد يكون صادقا أو كاذبا، لكننا آمنا بالقصة على أي حال، وما أجزم به هو أنه عندما شرع لادها مهراج في القراءة، كان جسده خاليا تماما من الجذام، وكان يتمتع بصوت عذب، فينشد المقاطع الشعرية المكونة من بيتين وأربعة أبيات، ويشرحها مستغرقا في القراءة ويجعل المستمعين إليه يستغرقون معه. كان عمري في ذلك الحين يناهز الثالثة عشرة، لكني أذكر سعادتي عند استماعي لقراءته. لقد غرس ذلك الحدث بذور إخلاصي للرامايانا، في الوقت الحاضر، إنني أعتبر الرامايانا التي كتبها تولاسيداس أعظم كتاب في تاريخ الأدب التعبدي.
انتقلنا بعد ذلك ببضعة أشهر إلى راجكوت حيث لم يكن هناك من يقوم بقراءة الرامايانا، ومع ذلك، كان هناك من يقومون بقراءة الباجافاد في يوم «الإكاداشي»
2
وكنت أحضر القراءة في بعض الأحيان، غير أن القارئ لم يكن ملهما. لكنني أرى الآن أن كتاب الباجافاد قادر على إلهاب الحماسة الدينية، فلقد قرأت الباجافاد باللغة الجوجراتية بشغف شديد، لكن عندما استمعت إلى بانديت مدان موهان مالفيا وهو يقرأ أجزاء من النص الأصلي في أثناء صيامي للأيام الإحدى والعشرين، تمنيت لو أنني استمعت إليها من شخص مخلص مثله منذ طفولتي حتى يتشبع قلبي بحبها في سن مبكرة. إن الانطباعات والأفكار التي تتكون لدى المرء في تلك السن المبكرة، تترسخ في أعماقه، ولطالما ندمت على عدم تمتعي بالحظ الكافي للاستماع إلى المزيد من الكتب الجيدة من ذلك النوع في ذلك الوقت.
تعلمت في راجكوت المعلومات الأساسية عن التسامح بين جميع الطوائف الهندوسية والأديان الأخرى، فقد كان والداي يزوران الهافيلي ومعبد الإله شيفا ومعبد الإله راما، وكانا يصحباننا ونحن صغار إلى تلك المعابد أو يرسلاننا إلى زيارتها. وكان كهنة الديانة الجاينية يزورون والدي كثيرا، بل كانوا يخرجون على أعرافهم بأن يتقبلوا منا الطعام، مع أننا لسنا من أتباع الديانة الجاينية. وكانوا يتجاذبون أطراف الحديث مع والدي حول مختلف الموضوعات الدينية والدنيوية.
كان لدى والدي أصدقاء مسلمون وبارسيون،
3
اعتادوا أن يحدثوه عن دياناتهم، وكان والدي ينصت إليهم باحترام واهتمام، ونظرا لقيامي بتمريض والدي، فكان كثيرا ما تتاح لي فرصة الاستماع إلى تلك الأحاديث، وقد اجتمعت كل هذه الأشياء لتغرس في ذهني التسامح مع جميع الأديان.
كانت الديانة المسيحية الاستثناء الوحيد من تسامحي هذا، حيث نما لدي نوع من الكره المبرر تجاهها، اعتاد المبشرون بالمسيحية أن يقفوا في جانب على مقربة من المدرسة ويخوضوا في الحديث مسيئين إلى الهندوس وآلهتهم، لم أستطع تحمل تلك الأفعال، لقد استمعت إليهم مرة واحدة فقط، ولكنها كانت كافية لتثنيني عن تكرار التجربة. وسمعت في ذلك الوقت عن اعتناق شخص هندوسي مشهور الديانة المسيحية. وقد كان حديث المدينة حول اضطراره لأكل لحم البقر وشرب الخمر عند تعميده، واضطراره أيضا إلى تغيير ثيابه، فأخذ يرتدي زيا أوروبيا وقبعة، وقد شعرت بالغيظ عند سماعي كل هذه الأشياء. إن أي دين يلزم المرء بأكل لحم البقر وشرب الخمر وتغيير زيه، في رأيي، لا يستحق بلا شك أن يطلق عليه دين. وعلمت أن ذلك الشخص الذي اعتنق المسيحية حديثا قد بدأ في الإساءة إلى دين أسلافه والعادات التي ساروا عليها والبلد الذي عاشوا فيه؛ خلقت لدي كل تلك الوقائع شعورا بالكره تجاه الديانة المسيحية.
لا يعني تعلمي التسامح وتقبل الأديان الأخرى أنني كنت مؤمنا بوجود الإله. لقد وقع بين يدي في تلك المدة كتاب «مانوسمريتي»،
4
وقد وجدته في مجموعة الكتب الخاصة بوالدي. لم تؤثر في قصة بداية الخلق والقصص المشابهة لها كثيرا، بل على العكس فقد جعلتني أنزع إلى الإلحاد.
كنت أكن احتراما شديدا لفكر أحد أبناء عمومتي، وهو لا يزال حيا حتى وقتنا هذا؛ فعرضت عليه شكوكي، ولكنه لم يتمكن من تخليصي منها، فصرفني قائلا: «عندما تكبر، ستتمكن من التخلص من تلك الشكوك بنفسك، لا يجب أن تطرح مثل هذه الأمور في تلك السن.» سكت عن الرد على قوله، ولكنني لم أشعر بالراحة. ثم بدا لي أن الفصول التي تتحدث عن الحمية الغذائية والمواضيع المماثلة المذكورة في الكتاب تتعارض مع ممارساتنا اليومية. ولم تختلف الإجابة عن شكوكي حول ذلك الأمر عن الإجابة عن شكوكي السابقة، فقلت لنفسي: «كلما نما عقلي، وكلما قرأت أكثر، سأستطيع أن أدرك الأمور بصورة أفضل.»
لم يعلمني المانوسمريتي بأي حال الأهيمسا، وقد بدا أن المانوسمريتي يؤيد القصة التي ذكرتها عن أكل اللحم. كنت أؤمن أن قتل الأفاعي والحشرات فعل أخلاقي، وأتذكر قتلي للبعوض وغيره من الحشرات في تلك السن معتقدا أن قتلها واجب علي.
لكن الكتاب غرس في أمرا واحدا هو الإيمان بأن الأخلاق هي أساس كل شيء، وأن الحقيقة هي جوهر جميع الأخلاق. فأصبحت الحقيقة غايتي الوحيدة، التي أخذت تنمو يوما بعد يوم، واتسع مفهومي عن الحقيقة.
وقد استحوذ على لبي وقلبي مقطع شعري وعظي باللغة الجوجراتية، وأصبحت تعاليمه، المتمثلة في مقابلة الإساءة بالإحسان، نهجا أسير عليه. فكنت شغوفا بهذه التعاليم حتى إنني بدأت في تجربتها مرات كثيرة. والآن سأدع القارئ مع هذه السطور الرائعة (في رأيي):
أعط وجبة شهية لمن منحك جرعة ماء،
وانحن بحماسة لمن انحنى لك بتواضع،
وأعط الذهب لمن أعطاك يوما فلسا،
وإذا أنقذت حياتك يوما فلا تسفك الدماء،
تلك كلمات الحكماء وأفعالهم،
كل خدمة صغيرة تجازى بعشرة أضعافها،
لكن النبيل الحقيقي لا يفرق في معاملة الجميع
ويدفع، بسرور، الشر بالخير.
هوامش
الفصل الحادي عشر
استعدادات الرحيل إلى إنجلترا
اجتزت امتحان القبول بالجامعة في 1887م، وكان يعقد في مركزي أحمد آباد وبومباي، ونظرا للفقر العام الذي كان يسود البلاد، كان يفضل طلاب كاثياوار الذهاب إلى المركز الأقرب والأرخص، وقد اضطرني فقر عائلتي أنا أيضا إلى اللجوء لنفس الاختيار. كانت هذه أول رحلة أقوم بها من راجكوت إلى أحمد آباد، وكنت بلا رفيق.
أراد الكبار أن أستكمل دراستي بالجامعة بعد نجاحي في امتحان القبول، حيث كانت هناك كلية في بهافناجار وأخرى في بومباي. ونظرا لرخص مصروفات أولاهما، قررت الذهاب إليها والالتحاق بكلية سامالداس. ذهبت إلى بهافناجار، لكنني وجدت نفسي تائها تماما. وواجهتني الصعاب في كل مكان، لم أستطع متابعة محاضرات الأساتذة، ناهيك عن استمتاعي بها. لم يكن ذلك نتيجة لخطأ من جانبهم؛ فهم من أفضل الأساتذة. لكن المشكلة كانت تتمثل في عدم نضوجي بصورة كافية. وعدت إلى المنزل فور نهاية الفصل الدراسي الأول.
تصادفت زيارة مافجي دافي لبيتنا مع قضائي للعطلة الدراسية، وكان مافجي برهميا حكيما وعالما، وكان صديقا للعائلة وناصحا لها. وقد استمرت علاقته بعائلتنا حتى بعد وفاة والدي. وفي خضم الحديث سأل مافجي والدتي وأخي الأكبر عن دراستي. وعندما أخبره أخي بأنني أدرس في كلية سامالداس علق قائلا: «لقد تغير الزمان، ويجب أن تتلقوا التعليم المناسب إذا كان منكم من يأمل في خلافة أبيكم. وبما أن هذا الفتى لا يزال يدرس فيجب أن تتطلعوا جميعا إليه للحفاظ على منصب أبيكم. سوف يحتاج إلى أربع أو خمس سنوات لكي يحصل على الشهادة الجامعية، التي ستؤهله للالتحاق بوظيفة براتب يصل إلى ستين روبية على أفضل تقدير، وليس الالتحاق بوظيفة ديوان. بالإضافة إلى ذلك، لو فعل مثل ولدي والتحق بكلية الحقوق، فإن ذلك سوف يستغرق منه عددا أكبر من السنوات، وسيجد وقتها حشدا من المحامين الذين يتطلعون لشغل وظيفة ديوان. ولذا أرى أن ترسلوه إلى إنجلترا، فابني كيفالرام يقول: إنه من السهل في إنجلترا أن يصبح المرء محاميا. وسوف يعود بعد مرور ثلاث سنوات، ولن تتجاوز المصروفات أربعة أو خمسة آلاف روبية. أرأيتم الترف الذي يعيش فيه ذلك المحامي الذي عاد لتوه من إنجلترا؟ وكان يمكنه الحصول على وظيفة ديوان لو أراد ذلك. أقترح عليكم إرسال «مهنداس» إلى إنجلترا هذا العام. لدى كيفالرام العديد من الأصدقاء هناك، وسوف يقدم «مهنداس» إليهم، ولن تواجهه أية عقبات.»
التفت إلي جوشي جي، وهو الاسم الذي اعتدنا أن ننادي به مافجي دافي، بحزم تام وسألني: «ألا تفضل الذهاب إلى إنجلترا على الدراسة هنا؟» رحبت بالاقتراح جدا، فقد كنت أود تجنب المواد الدراسية الصعبة؛ فقفزت فور أن لفظ بالاقتراح وأخبرته أنه كلما كان ذهابي إلى إنجلترا أسرع، كان ذلك أفضل. لم يكن من السهل اجتياز الامتحانات بسرعة. فتساءلت: «ألا يمكنني التقدم للالتحاق بكلية الطب؟»
قاطعني أخي قائلا: «إن والدي لم يمل إلى كلية الطب قط، وكان يعنيك عندما قال إن أتباع فيشنو لا ينبغي أن يكون لهم شأن بتشريح جثث الأموات. فقد كان والدي يريدك أن تصبح محاميا.»
تدخل جوشي جي قائلا: «أنا لا أعارض الطب كما كان يفعل والدك، فلا تتعارض تعاليم ديننا مع الطب، لكني أرى أن الطب لن يهيئك لوظيفة ديوان وهو المنصب الذي أريد أن تشغله، بل أن تشغل منصبا أفضل إن أمكن، وبهذه الطريقة وحدها يمكنك أن تحمي عائلتك الكبيرة. إن الأحوال تتغير بسرعة مع مرور الأيام، والظروف تصبح أكثر قسوة يوما بعد يوم.» ثم توجه بالحديث إلى والدتي قائلا: «يجب أن أنصرف الآن. فكري فيما أخبرتك به. أتوقع أن أسمع منكم في المرة القادمة عن استعدادات الرحيل إلى إنجلترا. لا تترددي في التحدث إلي إذا ما احتجت إلى أي مساعدة.»
ثم رحل جوشي جي، وبدأت أسبح في بحور الخيال.
وانشغل أخي الأكبر في التفكير، فكيف سيدبر المال اللازم لدراستي؟ وهل من الحصافة منح الثقة إلى شاب مثلي وتركه يذهب إلى الخارج بمفرده؟
كانت والدتي مضطربة الفكر، فلم تحبذ فكرة مفارقتي لها. وهكذا، حاولت والدتي أن تؤخر سفري قائلة: «إن عمك هو الآن كبير العائلة، ويجب علينا استشارته أولا. وسندرس الأمر إذا ما وافق.»
كان لدى أخي فكرة أخرى. فقال لي: «يمكن أن نلجأ إلى ولاية بورباندار. إن السيد ليلي هو المدير، ويحترم عائلتنا ويقدر عمي، ويمكنه أن يوصي بمساعدة الولاية في تعليمك في إنجلترا.»
أعجبتني فكرة أخي، واستعددت للرحيل إلى بورباندار. لم تكن هناك آنذاك سكك حديدية، فكانت الرحلة تستغرق خمسة أيام باستخدام عربة يجرها الثور. ولقد ذكرت سابقا أنني كنت أتسم بالجبن، ولكن ذلك الجبن قد زال أمام رغبتي العارمة في الذهاب إلى إنجلترا. استأجرت عربة إلى دوراجي، ومن هناك امتطيت ناقة إلى بورباندار كي أوفر يوما من السفر. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أمتطي فيها ناقة.
وصلت أخيرا إلى بورباندار، فحييت عمي ثم أخبرته بالأمر. ففكر مليا ثم قال لي: «لا أعلم ما إذا كان من الممكن أن يمكث المرء في إنجلترا دون الإخلال بتعاليم دينه؛ فالأمور التي سمعتها، خلفت لدي الشكوك. فعندما أقابل كبار المحامين هؤلاء، لا أجد أي فرق بين حياتهم وحياة الأوروبيين، فهم لا يتقيدون بقيد فيما يأكلونه، ولا تفارق السجائر أفواههم. وهم يلبسون مثلما يلبس الإنجليز دون خجل. وكل ذلك لن يتماشى مع تقاليد العائلة. سوف أذهب قريبا في رحلة حج وليس في العمر الكثير لأحياه، فكيف أعطيك إذنا بالذهاب إلى إنجلترا وبأن تعبر البحار وأنا على أعتاب الموت؟
على كل حال، لن أعترض طريقك، إن رأي والدتك هو الفيصل في هذا الأمر، فإذا وافقت على سفرك فلترحل، مع تمنياتي لك بالتوفيق. أخبرها أنني لن أعارض سفرك، وأنني سأباركه.» فأجبته قائلا: «لم أكن آمل في أكثر من ذلك يا عمي. سأحاول الآن إقناع والدتي، ولكن ألن تزكيني لدى السيد ليلي؟»
أجابني عمي: «وكيف لي أن أفعل ذلك؟ عل كل حال، السيد ليلي رجل صالح. فاذهب واطلب مقابلته، وأنا على يقين أنه سيلبي طلبك، ويمكن أن يساعدك.»
لا أعلم لماذا لم يزكني عمي لدى السيد ليلي، لكني أعتقد أن الأمر كان يتعلق بعدم رغبته بمعاونتي على السفر إلى إنجلترا بصورة مباشرة، لأن ذلك كان في نظره عملا مخالفا للدين.
بعثت برسالة إلى السيد ليلي، الذي طلب مني موافاته في منزله. ولما رآني السيد ليلي وهو ينزل درجات السلم، قال بطريقة حادة: «احصل على شهادتك الجامعية أولا، ثم احضر لمقابلتي. لا يمكنني مساعدتك الآن.» ثم صعد السلم مسرعا. لقد بذلت جهدا مضنيا استعدادا لتلك المقابلة، وتعلمت بعض الجمل بدقة، وانحنيت له بشدة، وقدمت له التحية بكلتا يدي، ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح!
لقد فكرت في بيع جواهر زوجتي، وفي اللجوء إلى أخي الأكبر الذي أثق به تماما؛ فقد كان أخي كريما بصورة مفرطة وكان يحبني كابن له.
عدت إلى راجكوت، وأخبرتهم بكل ما حدث في بورباندار، واستشرت جوشي جي، الذي أشار علي باقتراض المال إذا لزم الأمر، فاقترحت بيع جواهر زوجتي، التي قد توفر ألفين أو ثلاثة آلاف روبية، ووعد أخي بإحضار المال بطريقة ما.
ومع كل هذا، كانت والدتي لا تزال رافضة لسفري، وقامت بالاستعلام عن الأمر بدقة. هناك من أخبروها بأن الشباب يضلون السبيل في إنجلترا، وآخرون أخبروها أن الشباب يأكلون اللحم، وغيرهم قالوا بأن الشباب في إنجلترا لا يستطيعون العيش دون الخمر. فسألتني: «ما قولك في ذلك كله؟» فأجبتها: «ألا تثقين بي؟ لن أكذب عليك. أقسم لك أنني لن أقرب تلك الأشياء أبدا. وهل تعتقدين أن جوشي جي كان سيتركني أرحل لو علم أن هذا الخطر يمكن أن يلحق بي؟»
ردت والدتي بقولها: «أنا أثق بك وأنت بالقرب مني، لكن كيف أثق بك وأنت بعيد عني؟ أنا في حيرة من أمري ولا أعلم ما العمل. سأسأل بيشارجي سوامي.»
كان بيشارجي سوامي في الأصل من طبقة التجار الذين ينتمون إلى مدينة الموديرا، وأصبح الآن كاهنا في الديانة الجاينية، وقد كان هو أيضا ناصحا للعائلة، مثل جوشي جي. وساعدني بيشارجي، وقال لوالدتي: «سآخذ هذا الشاب وأجعله يأخذ العهود الثلاثة، ثم يمكنه الرحيل بعد ذلك.» أدار جوشي جي مراسم أخذ العهود، وتعهدت بعدم شرب الخمر أو أكل اللحم أو إقامة علاقة مع النساء. وأخيرا، سمحت لي والدتي بالرحيل بعد انتهاء هذه المراسم.
أقامت المدرسة الثانوية حفل وداع كنت ضيف الشرف فيه. لم يكن من الشائع أن يذهب شاب من راجكوت إلى إنجلترا. وقد كتبت بعض الكلمات التي تعبر عن شكري، لكنني كنت أتلعثم بشدة وأنا ألقيها. وما زلت أتذكر كيف شعرت بدوار في رأسي وكيف كان ينتفض جسدي كله عندما هممت بإلقاء تلك الكلمات.
ورحلت إلى بومباي بعد مباركة الأهل لي، وكانت هذه هي رحلتي الأولى من راجكوت إلى بومباي، وقد رافقني فيها أخي. لكن كان لا يزال هناك العديد من الأحداث القاسية في انتظاري، فقد واجهتنا بعض الصعوبات في بومباي.
الفصل الثاني عشر
الخروج على الطائفة
بعد حصولي على مباركة والدتي وموافقتها، رحلت إلى بومباي تاركا زوجتي مع طفلي الرضيع الذي لم يتجاوز عمره بضعة أشهر، وعند وصولنا إلى بومباي، أخبرنا بعض الأصدقاء أن المحيط الهندي يكون مضطربا في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز، ونظرا لكون هذه أول رحلة بحرية أقوم بها، فلن يسمح لي بالإبحار قبل شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وقد حكى لنا أحد الأشخاص أن باخرة قد غرقت مؤخرا إثر تعرضها لعاصفة، وكان هذا سببا في قلق أخي، فرفض المخاطرة ومنعني من الإبحار على الفور. ثم عاد هو إلى راجكوت ليؤدي بعض الأعمال بعد أن تركني مع صديق في بومباي، وترك المصروفات اللازمة لسفري في عهدة صهري، وطلب من أصدقائه أن يقدموا لي كل المساعدة التي قد أحتاجها.
ومر وقت إقامتي في بومباي ثقيلا، وأخذت أحلم باستمرار بذهابي إلى إنجلترا.
في تلك الأثناء، ثارت طائفتي بسبب سفري للخارج. فلم يسافر أي من أبناء طبقة التجار الذين ينتمون إلى مدينة الموديرا إلى الخارج من قبل، ولو أردت أن أذهب إلى إنجلترا، فيجب علي أن أخضع للمساءلة! عقدت الطائفة اجتماعا عاما، واستدعيت للمثول أمامها، ولا أعلم من أين واتتني الشجاعة للذهاب، فمثلت أمام الطائفة دون أن أشعر برهبة ودون أدنى تردد. كانت تربطني بزعيم الطائفة صلة قرابة بعيدة، وكان على علاقة طيبة بوالدي. فبادرني بالكلام قائلا: «ترى الطائفة أن فكرة ذهابك إلى إنجلترا غير مقبولة، فديننا يحرم السفر إلى الخارج، فقد علمنا أنه من المستحيل الحفاظ على أحكام ديننا هناك، فالشخص يضطر لتناول الطعام والشراب مع الأوروبيين.»
أجبته قائلا: «لا أعتقد أن الذهاب إلى إنجلترا يتعارض مع أحكام ديننا. فأنا أنوي الذهاب إلى هناك كي أستكمل دراستي، بالإضافة إلى ذلك، قد عاهدت والدتي ثلاثة عهود مقدسة تقضي بأن أبتعد عن أكثر ثلاثة أشياء تخافون علي منها. وإني لعلى يقين من أن العهود التي أخذتها على نفسي سوف تحفظني.»
فاستدرك حديثه قائلا: «لكني أخبرك أن من يذهب إلى إنجلترا لا يستطيع الحفاظ على دينه، وأنت تعلم مدى علاقتي بوالدك، ويجب أن تستمع لنصيحتي.»
فأجبته: «نعم، أعلم مدى علاقتك بوالدي، وأنك لي بمنزلة أحد أفراد العائلة، لكن هذا الأمر خارج عن إرادتي، ولا أستطيع أن أعدل عن رأيي وأتخلى عن فكرة الذهاب إلى إنجلترا. علاوة على ذلك، لا يرى صديق والدي - وهو العالم البرهمي الذي طالما وثق والدي في رجاحة رأيه - ما يمنع ذهابي إلى إنجلترا. وكذلك وافقت والدتي وأخي على ذهابي.»
قال لي: «لكنك بذلك ستخالف أوامر الطائفة!»
فأجبته: «لا حيلة لي حقا. وأعتقد أنه على الطائفة ألا تتدخل في هذا الشأن.»
أثار جوابي سخط زعيم الطائفة، فانهال علي بالسباب، مما جعلني أجلس بلا حراك. ثم نطق بالحكم: «اعتبارا من اليوم، يعامل هذا الفتى كخارج عن الطائفة. ويعاقب كل من يساعده أو يذهب لوداعه في الميناء بغرامة قدرها روبية وأربع آنات.»
لم أتأثر بحكم زعيم الطائفة، واستأذنته بالانصراف. لكنني كنت قلقا حيال ردة فعل أخي عند سماعه للحكم. ولحسن الحظ، ظل أخي ثابتا على موقفه وكتب لي مؤكدا موافقته على رحيلي بغض النظر عن أوامر زعيم الطائفة.
عقب هذه الواقعة، أصبحت أكثر تلهفا للسفر، فماذا سيحدث لو استطاعوا الضغط على أخي؟ وماذا لو حدث أمر غير متوقع؟ وبينما كنت أفكر في هذا المأزق، سمعت أن محاميا من ولاية جوناجاده مسافر إلى إنجلترا على ظهر سفينة تبحر في الرابع من سبتمبر/أيلول، حيث أصبح محاميا معتمدا للترافع أمام المحاكم العليا، فالتقيت بأصدقاء أخي الذين سبق أن طلب منهم الاعتناء بي، وقد طلبوا مني ألا أضيع فرصة السفر مع مثل هذه الرفقة، ولم يكن هناك وقت لأضيعه، فأرسلت إلى أخي تلغرافا أطلب فيه الإذن بالسفر، وبعد أن أذن لي بالرحيل طلبت من صهري المال، لكنه رفض متعللا بحكم زعيم الطائفة خوفا من أن يخرج عن الطائفة. وحينها لم أجد بدا من أن أطلب من أحد أصدقاء العائلة أن يقرضني المال اللازم للسفر، على أن يسترد نقوده من أخي لاحقا، ولم يكن ذلك الصديق من الكرم بأن يوافق على إقراضي المال فحسب، بل حاول التسرية عني أيضا، وقد جعلني هذا أعبر له عن جزيل شكري على كل ما فعله من أجلي. فاشتريت على الفور تذكرة السفر بجزء من المال الذي اقترضته، ثم بدأت أجهز نفسي للسفر. كنت أعرف صديقا مر بهذه التجربة من قبل، وكانت لديه الملابس وغيرها من الأشياء اللازمة للسفر. ولم ترق لي جميع الملابس التي كانت في حوزته، فقد كنت أكره ارتداء رابطة العنق التي أحببت ارتداءها فيما بعد، وكنت أرى ارتداء السترة القصيرة غير لائق، لكن رغبتي الأسمى في السفر إلى إنجلترا تغلبت على كل ذلك. وحصلت على مؤن تكفيني طوال الرحلة. وحجزت مكانا بجانب أصدقائي في قمرة مماثلة لتلك التي يجلس بها السيد تريمبك راي مازمودار، المحامي من ولاية جوناجاده، وقد قدمني أصدقائي إليه. كان ذلك المحامي رجلا ناضجا وذا خبرة، وفي الوقت الذي كانت لديه فيه معلومات عن جميع دول العالم، كنت أنا ما زلت شابا مراهقا في الثامنة عشرة من عمري دون أي خبرة بالعالم الخارجي. وطمأن السيد تريمبك راي مازمودار أصدقائي.
وأخيرا، أبحرت بعيدا عن بومباي في الرابع من سبتمبر/أيلول.
الفصل الثالث عشر
وأخيرا في لندن
لم أشعر بدوار البحر نهائيا طوال الرحلة، لكن مع مرور الأيام أصبحت عصبيا. وشعرت بالخجل حتى من التحدث إلى الخادم، فلم أكن معتادا على التحدث بالإنجليزية، وكان جميع الركاب في الدرجة الثانية، ما عدا السيد مازمودار، من الإنجليز، ولم أكن أستطيع التحدث معهم، لأني نادرا ما كنت أفهم كلامهم، وحتى عندما كنت أفهم ما يحاولون إخباري به، كنت لا أستطيع الرد عليهم. وكنت أكون كل جملة في ذهني قبل أن أنطق بها. ولم أكن أعرف كيفية استخدام الشوكة والسكين، وكنت أجبن من أن أسأل أي الأنواع الواردة في قائمة الطعام خالية من اللحم، ولهذا السبب لم أتناول الطعام قط على مائدة الطعام، بل كنت أتناوله في قمرتي. وكان طعامي يتكون بصورة أساسية من الحلوى والفواكه التي أحضرتها معي من الهند. أما السيد مازمودار فلم يواجه أي صعوبة في الانخراط والتعامل مع الجميع. كان يتحرك بحرية على ظهر السفينة، وأختبئ في قمرتي طوال اليوم، ولا أخرج إلى ظهر السفينة إلا في وجود عدد قليل من الركاب. وظل السيد مازمودار يحفزني على التفاعل مع الركاب الإنجليز والتحدث إليهم بطلاقة، وأخبرني بأنه يجب أن يتمتع المحامون بلسان فصيح، وقص علي خبراته القانونية. ونصحني باستغلال كل فرصة يمكنني التحدث فيها بالإنجليزية دون الاكتراث بارتكابي الأخطاء التي لا يمكن تجنبها عند التحدث بلغة أجنبية. ولكن كل ذلك الحديث لم يستطع تخليصي من خجلي.
استطاع راكب إنجليزي، كان يكبرني سنا، اجتذابي إلى محادثة معه بطريقته اللطيفة في الحديث، فسألني عن نفسي والطعام الذي كنت أتناوله ووجهتي وسبب خجلي وغير ذلك من الأسئلة. ونصحني بتناول الطعام معهم على الطاولة، وسخر من إصراري على عدم تناول اللحم. وقال لي بلطف ونحن في البحر الأحمر: «حتى الآن لا ضرر من التزامك بالامتناع عن اللحم، لكن عليك أن تعيد النظر في قرارك هذا عند وصولنا إلى خليج بسكاي؛ فالطقس شديد البرودة في إنجلترا لدرجة أن المرء لا يمكنه العيش دون تناول اللحم.»
فقلت له: «ولكنني سمعت أن الناس في إنجلترا يمكنهم العيش دون أكل اللحم.» فأجابني: «تأكد من أن ذلك ما هو إلا أكذوبة، فلم أسمع قط أن أحدا قد عاش في إنجلترا دون أن يأكل اللحم. ألا تلاحظ أنني لا أطلب منك شرب الخمر مع أنني أشربه؟ إنما أطلب منك أكل اللحم لأنك لن تستطيع العيش دون تناوله.»
فرددت قائلا: «أشكرك على هذه النصيحة الصادقة، لكنني أخذت على نفسي عهدا مقدسا أمام والدتي ألا أقرب اللحم، ولذلك لا أستطيع حتى التفكير في تناوله. وإذا وجدت استحالة العيش في إنجلترا دون تناول اللحم، فسأفضل وقتها العودة إلى الهند على تناول اللحم.»
وصلنا خليج بسكاي، لكنني لم أشعر بالحاجة إلى تناول اللحم أو شرب الخمر، وكان قد نصحني البعض بجمع شهادات تثبت امتناعي عن أكل اللحم. فطلبت من صديقي الإنجليزي أن يمنحني شهادة بذلك، وقد منحني إياها بكل سرور، حافظت على هذه الشهادة لبعض الوقت لاعتقادي بأنها ذات قيمة، لكنها فقدت قيمتها عندما اكتشفت لاحقا أن المرء يمكنه الحصول على مثل هذه الشهادة حتى ولو كان يأكل اللحم. فما فائدة تلك الشهادات إذا لم يثق الآخرون في صدق كلامي؟
ثم وصلنا إلى ساوث هامبتون في يوم الأحد على ما أتذكر، وكنت أرتدي البزة السوداء على متن السفينة، وكنت أحتفظ بالبزة البيضاء المصنوعة من الصوف كي أرتديها خصيصا عند النزول إلى الشاطئ، فقد كنت أرى أن الملابس البيضاء ستناسبني أكثر عند نزولي، ولذلك ارتديتها عندما نزلت. كنا وقتها في أواخر شهر سبتمبر/أيلول، وكنت الشخص الوحيد الذي يرتدي مثل هذه الملابس. وتركت أمتعتي، بما في ذلك المفاتيح، لدى أحد مندوبي شركة جريندلاي وشركائه
Grindlay and Co. ، وذلك حين وجدت الكثير من الركاب يفعلون هذا وكان علي أن أفعل مثلهم.
كان لدي أربعة خطابات توصية: إلى الطبيب بي. جي. ميهتا، وإلى المحامي دالبترام شوكلا، وإلى الأمير رانجيت سينج، وإلى دادبهاي ناوروجي. ونصحنا أحد الركاب على متن السفينة بالإقامة في فندق فيكتوريا بلندن، وعليه توجهت أنا والسيد مازمودار إلى الفندق. لم أكن أحتمل الخجل الذي شعرت به بسبب كوني الشخص الوحيد الذي يرتدي ملابس بيضاء، وشعرت بالغضب عندما أخبروني، عند وصولي إلى الفندق، بأنني لن أستطيع الحصول على أمتعتي من شركة جريندلاي قبل اليوم التالي؛ لأن اليوم كان الأحد.
زارني الدكتور ميهتا، الذي كنت قد أرسلت إليه تلغرافا من ساوث هامبتون، في الساعة الثامنة مساء من نفس اليوم. ورحب بي بحفاوة، ثم ابتسم عند ملاحظة ملابسي. وكنت ألتقط قبعته من حين إلى آخر أثناء حديثنا، وأمرر يدي عليها لأرى مدى نعومتها، لكن ذلك كان يبعثر نسيجها، فنظر إلي بغضب ومنعني من الاستمرار في العبث بقبعته، لكن بعد فوات الأوان. وكانت هذه الواقعة بمنزلة تحذير كي أحترس من أفعالي في المستقبل. وكان ذلك هو الدرس الأول في آداب اللياقة الأوروبية، التي لقنني الدكتور ميهتا مبادئها بالتفصيل وبطريقة لطيفة. فكان يقول: «لا تلمس الأشياء الخاصة بالآخرين! لا توجه الأسئلة في أثناء التعارف الأول كما نفعل عادة في الهند! لا تتحدث بصوت عال! لا تخاطب الناس مستخدما كلمة «سيدي» كما نفعل في الهند! فالخدم والمرءوسون فقط يخاطبون أسيادهم بهذه الكلمة.» إلى غير ذلك من النصائح. وأخبرني بأن العيش في الفندق مكلف للغاية ، ونصحني بالعيش مع إحدى الأسر. وقد أرجأنا الحديث في هذه المسألة حتى يوم الإثنين.
وجدنا أنا والسيد مازمودار أن الإقامة في الفندق مرهقة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعاره. وعلى كل حال، كان السيد مازمودار قد تعرف إلى راكب سندي من مالطا في السفينة. فعرض علينا أن يبحث لنا عن مسكن لنقيم به؛ نظرا لدرايته بمدينة لندن. وقمنا بسداد فواتير الفندق فور حصولنا على أمتعتنا يوم الإثنين، وانتقلنا إلى المسكن الذي أجره لنا الصديق السندي. وأذكر أن فاتورتي بلغت ثلاثة جنيهات إسترلينية، وقد صدمت عندما علمت بالمبلغ؛ فقد كانت الفاتورة مرتفعة مع أنني كنت تقريبا أتضور جوعا، فلم أكن أشتهي أيا من الأطعمة التي يقدمها الفندق، وعندما كنت أجد لونا من الطعام غير شهي، كنت أطلب غيره، وكنت أدفع مقابل الاثنين في النهاية. والحقيقة هي أنني طوال هذه المدة اعتمدت على المؤن التي أحضرتها معي من بومباي.
لم أشعر بالراحة حتى في المسكن الجديد. وكنت أفكر في منزلي والوطن باستمرار. وكان حب والدتي يلازمني دوما، فعند حلول الليل، كانت دموعي تسيل على وجنتي. وقد أقضت الذكريات المختلفة التي عشتها بالوطن مضجعي. وكان من الصعب علي أن أشرك أي شخص في معاناتي، وما الفائدة من إشراك أي شخص في تلك المعاناة؟ لم أجد ما يخفف عني محنتي. وبدا لي كل شيء غريبا: الناس، وأساليب معيشتهم، وحتى منازلهم. لقد كنت حديث عهد بآداب اللياقة الإنجليزية، وكان علي دوما أن أتوقع الأسوأ. فضلا عن ذلك، كان هناك عبء الالتزام بالوعد بعدم أكل اللحوم، ولم تكن الأطعمة التي أتناولها لذيذة أو شهية. وهكذا وجدت نفسي في اختيار صعب. فلم أكن أطيق العيش في إنجلترا، ولكني مع ذلك كان من المستحيل أن أفكر في العودة إلى الهند، ووجدت صوتا يهتف بداخلي: «لأنني حضرت إلى إنجلترا بالفعل، فيجب علي إكمال السنوات الثلاث.»
الفصل الرابع عشر
اختياري
توجه الدكتور ميهتا في يوم الإثنين إلى فندق فيكتوريا متوقعا أن يجدني هناك. وعندما علم بمغادرتنا، حصل على عنواننا الجديد ووافانا. لقد تسببت حماقتي في إصابتي بمرض الثعلبة ونحن على متن السفينة، فقد كنا نستخدم مياه البحر في الاغتسال والغسيل، ومن المعروف أن الصابون لا يذوب في مياه البحر، ومع ذلك، استخدمت الصابون كعلامة على التحضر، مما ترتب عليه امتلاء جسمي بالبقع وإصابتي بمرض الثعلبة بدلا من أن يصبح نظيفا. وقد عرضت إصابتي على الدكتور ميهتا، الذي نصحني بوضع حمض الخليك عليها، ولا أزال أذكر كيف صرخت من أثر الحمض المحرق. تفحص الدكتور ميهتا غرفتي والأثاث الموجود بها، وأبدى استياءه، ثم توجه إلي قائلا: «هذا المكان ليس جيدا. لقد أتينا إلى إنجلترا كي نكتسب الخبرة من أساليب الحياة والعادات الإنجليزية، ولذلك، عليك أن تعيش مع عائلة إنجليزية. ولكن قبل ذلك، أرى أن تقضي مدة كمتمرن لدى ... سوف آخذك إلى هناك.»
قبلت عرض الدكتور ميهتا بامتنان، وانتقلت إلى مسكن صديقه، الذي شملني بالرعاية والعطف، وعاملني كأحد أبنائه، ولقنني العادات والتقاليد الإنجليزية، وجعلني أيضا أعتاد التحدث باللغة الإنجليزية. وبمرور الوقت، أصبح طعامي مشكلة حقيقية، فلم أستطع تذوق الخضروات المسلوقة المطهوة دون ملح أو بهارات، واحتارت ربة المنزل في أنواع الأطعمة التي يمكن أن تعدها من أجلي. كنا نتناول في وجبة الإفطار عصيدة الشوفان المجروش، التي كانت تشعرني بالشبع، أما في وجبتي الغداء والعشاء، فكنت دائما أتضور جوعا. وكان صديق الدكتور ميهتا يحاول باستمرار أن يقنعني بأكل اللحم، لكنني كنت دائما أذكر العهد الذي أخذته على نفسي، ثم أركن إلى الصمت. كان الغداء والعشاء يشملان السبانخ والخبز والمربى، وقد اعتدت الأكل بنهم، وكانت شهوتي إلى الطعام كبيرة، ولكنني مع ذلك كنت أخجل من طلب ما يزيد على شريحتين أو ثلاث شرائح من الخبز، فكنت أعتقد أن مثل ذلك السلوك غير لائق. بالإضافة إلى ذلك، لم يحتو الغداء أو العشاء على الحليب. ذات مرة، شعر ذلك الصديق بالضيق لما رأى من حالتي، وقال لي: «لو كنت أخي، لطردتك شر طردة. ما قيمة عهد أخذته على نفسك أمام والدتك الأمية التي لا تعلم شيئا عن ظروف المعيشة هنا؟ فحتى من وجهة النظر القانونية، لا يعتد بمثل هذا العهد، ولن يكون التزامك به إلا تمسكا بوهم، وأحذرك من أن هذا العناد لن يجعلك تحقق أي نجاح هنا. لقد اعترفت لي بأنك أكلت اللحم من قبل. فهل يعقل أن تأكل اللحم في وقت لم يكن لك حاجة إليه، وتمتنع عن أكله في الوقت الذي يكون فيه ضرورة أساسية؟ يا للأسف!»
مع كل ذلك، صممت على عنادي.
ظل الصديق يحاول إقناعي ليلا ونهارا، لكنني كنت دوما أواجهه بالرفض، وكلما زاد جداله لي، زاد عنادي. كنت أدعو الإله كل يوم أن يحفظني، وقد حفظني بالفعل، ولا أدعي أن ذلك كان نتيجة لمعرفتي بالإله، ولكن كان نتيجة الإيمان الفعال، الإيمان الذي غرست بذرته المربية الصالحة رامبها.
ذات يوم، بدأ ذلك الصديق يقرأ لي نظرية بينثام
Bentham
عن النفعية، وشعرت حينها بضياع تام، لقد كانت اللغة من الصعوبة بحيث لم أفهمها، فلم يكن منه إلا أن أخذ في شرحها لعلي أفهم. فقلت له: «اعذرني، لا أستطيع استيعاب مثل هذه المفاهيم المبهمة، فأنا أقر بضرورة أكل اللحم، لكنني مع ذلك لا أستطيع أن أحنث بعهدي. وأعلم أنني لا أستطيع أن أقنعنك بوجهة نظري، وأن لا طاقة لي بالدخول معك في جدال. لذا أرجو منك أن تتقبل وجهة نظري هذه وإن اعتبرتني أحمق أو عنيدا، وأنا أقدر حبك لي، وأعلم أنك تتمنى لي كل الخير. وأعلم أنك تصر على نصحي مرارا وتكرارا لشعورك بالشفقة علي، لكن هذا الأمر خارج عن إرادتي، فالعهد عهد ولا يمكن نقضه.»
نظر لي الصديق مندهشا، ثم أغلق الكتاب الذي كان يقرأ منه وقال: «حسنا، لن أجادلك في هذا الأمر بعد الآن.» شعرت حينها بالسعادة، وبالفعل لم يناقشني في الأمر منذ ذلك الحين، ولكن ذلك لم يمنعه من القلق بشأني. كان يدخن السجائر ويشرب الخمر، لكنه لم يطلب مني أن أفعل مثله أبدا، بل على العكس فقد طلب مني أن أبتعد عن كليهما. إنما كان يقلقه أن يهزل جسدي نتيجة لعدم تناولي اللحم، والذي قد يؤدي إلى شعوري بالغربة في إنجلترا.
وهكذا أمضيت مدة تمريني التي استمرت لمدة شهر. كان منزل الصديق الذي كنت أمكث لديه يقع في ريتشموند، ومن ثم لم يكن من الممكن أن أذهب إلى لندن غير مرة أو مرتين في الأسبوع. ونتيجة لذلك، قرر الدكتور ميهتا والمحامي دالبترام شوكلا أن أنتقل للعيش مع أسرة أخرى؛ فأرسلني السيد شوكلا إلى منزل أسرة إنجليزية هندية يقع في ويست كينسينجتون، ووعدتني صاحبة المنزل الأرملة بالاعتناء بي عندما أخبرتها بالعهد الذي أخذته على نفسي، وبدأت إقامتي في منزلها، وكان علي أن أعاني ويلات الجوع هنا أيضا، لقد أرسلت إلى أهلي ليبعثوا لي بالحلويات وغيرها من الأطعمة، لكني لم أتلق شيئا بعد، وبدت لي جميع الأطعمة بلا طعم، وكانت صاحبة المنزل تسألني كل يوم عن رأيي في الطعام، لكن لم يكن في وسعها فعل شيء لإرضائي، وكنت لا أزال أشعر بالخجل من طلب طعام يزيد عما يقدم لي، وكان لصاحبة المنزل ابنتان، وكانتا تصران على إعطائي شريحة أو شريحتين إضافيتين من الخبز، وفي الحقيقة كنت أحتاج رغيفا على الأقل كي أشعر بالشبع.
إلا أنني تعودت أخيرا على ظروف المعيشة تلك. ولم أكن قد بدأت دراستي الفعلية بعد، وكنت قد بدأت في قراءة الصحف فقط بفضل السيد شوكلا، فلم أكن أقرأ الصحف في الهند قط، لكنني نجحت في إنجلترا في أن أخلق ميلا تجاه الصحف بالقراءة المنتظمة. وكنت دائما أمر بعيني على صحف «ذا دايلي نيوز» و«ذا دايلي تيليجراف» و«ذا بول مول جازيت». ولم يكن ذلك يستغرق ما يزيد على الساعة. لذلك بدأت أتجول في المكان، فبدأت في البحث عن مطعم نباتي حيث أخبرتني صاحبة المنزل بوجود مثل هذه المطاعم في المدينة. وكنت أسير مهرولا لمسافة عشرة أميال أو اثني عشر ميلا يوميا، وأذهب إلى مطعم رخيص فآكل الخبز حتى تمتلئ معدتي، لكني مع ذلك لم أكن أشعر بالشبع. وفي أثناء تجوالي في المدينة، وجدت مطعما للأطعمة النباتية في شارع فارينجدون، عندما وقع نظري على المطعم، شعرت بالفرح كالفرحة التي يشعر بها طفل عثر على شيء تعلق به قلبه. وقبل أن أدخل إلى المطعم، رأيت بعض الكتب المعروضة للبيع موضوعة خلف نافذة زجاجية قرب الباب، وجدت ضمن هذه الكتب، كتاب هنري سالت «دعوة إلى النباتية»
Vegetarianism ، فاشتريته بشلن ثم ذهبت مباشرة إلى غرفة الطعام. وفقني الإله أخيرا، وتناولت أول وجبة شهية منذ قدومي إلى إنجلترا.
أخذت في قراءة كتاب «سالت» من الألف إلى الياء، وتأثرت بما فيه بدرجة كبيرة، ومنذ أن قرأت هذا الكتاب، يمكنني القول بأنني اخترت أن أكون نباتيا بكامل إرادتي. وقد مجدت اليوم الذي أخذت على نفسي فيه العهد أمام والدتي. وكنت فيما مضى أمتنع عن أكل اللحم من أجل الحفاظ على العهد الذي أخذته على نفسي، لكنني كنت في الوقت ذاته أتمنى لو تناولت اللحم بحرية وحثثت غيري من الهنود على أن يحذو حذوي، أما الآن فقد اختلف الوضع، فأصبحت أؤيد النباتية وأصبح نشرها مهمتي.
الفصل الخامس عشر
ممارسة دور السيد الإنجليزي
زاد إيماني بالنباتية يوما بعد يوم، وقد حفزني كتاب «سالت» كي أدرس الأنظمة الغذائية، وأولعت بجميع الكتب المتوفرة عن النظام النباتي وقرأتها. وكان أحد هذه الكتب يحمل اسم «آداب الغذاء»
The Ethics of Diet
لكاتبه هوارد ويليام، كان الكتاب «سردا لتاريخ المطبوعات التي تتناول علم الأنظمة الغذائية الإنسانية منذ القدم وحتى الآن.» يحاول الكتاب إثبات أن جميع الفلاسفة والرسل بداية بفيثاغورس والمسيح ومن أتى بعدهم من فلاسفة ورسل إلى يومنا هذا كانوا نباتيين. وكان كتاب «أفضل طريقة غذائية»
The Best Way in Diet
للدكتورة آنا كينجسفور مشوقا هو أيضا. وساعدتني أيضا كتابات الدكتور ألينسون عن الصحة والعادات الصحية كثيرا، دافع ألينسون عن نظام علاجي يعتمد على نظام غذائي منتظم للمرضى. ونظرا لكونه نباتيا وصف للمرضى نظاما غذائيا نباتيا صارما. ونتيجة قراءتي لجميع هذه الكتب احتلت التجارب الغذائية جزءا مهما من حياتي. كان الهدف الرئيسي من تلك الخبرات هو دافع الحفاظ على الصحة، لكن فيما بعد أصبح الدين هو الدافع الأسمى.
في غضون ذلك، لم يتوقف صديقي عن القلق بشأني، فقد قاده حبه لي إلى الظن بأنني إذا داومت على إصراري على الامتناع عن أكل اللحم، فإن ذلك لن يجعل جسدي هزيلا فحسب، بل سيجعل مني شخصا أخرق لأنني لن أتكيف مع المجتمع الإنجليزي. وعندما علم باهتمامي بالكتب التي تتناول النظام الغذائي النباتي، خشي أن تلوث تلك الكتب أفكاري، ومن ثم أضيع حياتي في التجارب وأنسى عملي وأصبح مهووسا؛ لذلك، كان عليه أن يبذل محاولة أخيرة لإصلاحي، فدعاني ذات مرة إلى المسرح، وقبل حضور المسرحية تناولنا عشاءنا معا في مطعم هولبورن، وكان أول مطعم فخم أدخله منذ أن تركت فندق فيكتوريا مع أن إقامتي في ذلك الفندق لم تعد علي بخبرة مفيدة. لقد خطط صديقي لاصطحابي إلى ذلك المطعم معتقدا أن خجلي سيمنعني من طرح الأسئلة؛ فقد كنا نجلس على طاولة وسط حشد من الأشخاص الذين يتناولون طعامهم، وكان الحساء هو أول ألوان الطعام الذي قدم لنا، فتساءلت في نفسي عن مصدره، لكنني لم أجرؤ على سؤال صديقي. فاستدعيت النادل، لكن صديقي سألني بوجه عبوس عن سبب استدعائي للنادل، فأجبته بتردد واضح إنني أرغب في الاستفسار عما إذا كان هذا الحساء نباتيا أم لا. فصرخ في بشدة قائلا: «إنك أخرق لدرجة لا تستطيع بها العيش في مجتمع مهذب. إذا لم تكن قادرا على التصرف بلياقة، فمن الأفضل أن تنصرف، اذهب وتناول طعامك في مطعم آخر، ثم انتظرني بالخارج.» أسعدني ذلك الاقتراح، فخرجت من المطعم. كان هناك مطعم نباتي قريب لكنه كان مغلقا، فعدت وقتها دون أن أتناول أي طعام. رافقت صديقي إلى المسرح، ولم يتفوه بكلمة تعليقا على ما بدر مني في المطعم، ولم يكن لدي أنا أيضا ما أقوله.
كانت هذه الواقعة هي آخر مشادة بيننا، ولم تؤثر إطلاقا على علاقتنا، وكنت أعلم أن جميع محاولات صديقي كانت تتم بدافع حبه لي، وكنت أقدر ذلك. وزاد احترامي له مع اختلافنا في الأفكار والسلوكيات.
بعد ذلك قررت أن أخفف عن صديقي، وأن أؤكد له أنني لن أكون أخرق بعد الآن، وأنني سأعمل على أن أكون مهذبا وأعوض كوني نباتيا بتحقيق إنجازات أخرى تجعلني قادرا على العيش في مجتمع مهذب. ومن أجل ذلك، خضت المهمة المستحيلة التي تمثلت في أن أتصرف كسيد إنجليزي.
وجدت أن الملابس التي كنت اشتريتها من بومباي لا تتناسب مع المجتمع الإنجليزي، فاشتريت ملابس جديدة من محلات أرمي آند نيفي ستورز
Army and Navy Stores . واشتريت قبعة حريرية كلفتني تسعة عشر شلنا، وهو ثمن باهظ في تلك الأيام. ليس ذلك فحسب، بل أهدرت عشرة جنيهات إسترلينية على حلة خاصة للسهرات صنعت في شارع بوند الذي يعد مركز الحياة العصرية في لندن. وطلبت من أخي الذي يتسم بالكرم وطيبة القلب أن يرسل لي بسلسلة مزدوجة من الذهب لساعة الجيب. ولم يكن من اللائق ارتداء ربطة عنق معقودة سلفا؛ فتعلمت عقدها بنفسي. وفي حين كانت المرآة في الهند نوعا من الرفاهية فلا أنظر فيها إلا عندما يأتي حلاق العائلة ليقص شعري، كنت أضيع في إنجلترا عشر دقائق يوميا أمام مرآة ضخمة، وأنظر إلى نفسي وأنا أعقد ربطة العنق وأصفف شعري بالطريقة اللائقة، ولم يكن شعري ناعما بأي حال من الأحوال، فكنت أخوض معركة مع الفرشاة كل يوم حتى يستقيم شعري، وكلما ارتديت القبعة أو خلعتها، تحركت يدي بصورة تلقائية لكي تمشط شعري، ناهيك عن العادة الحضارية المتمثلة في تحريك اليد لتسوية الشعر من حين إلى آخر عند الجلوس في مجتمع مهذب.
ثم اتجهت إلى تفاصيل أخرى كان من المفترض أن تجعل مني سيدا إنجليزيا، وكأن كل ما سبق لم يكن كافيا! فأخبرني البعض بأنني يجب أن أتلقى دروسا في الرقص واللغة الفرنسية وفن الخطابة، ولم تكن الفرنسية مجرد لغة دولة فرنسا المجاورة فقط، بل كانت أيضا اللغة الشائعة في القارة التي أرغب في السفر خلالها. وقررت أن أتلقى دروسا في الرقص في أحد الفصول التعليمية، ودفعت ثلاثة جنيهات إسترلينية مقابل فصل دراسي، أعتقد أنني حضرت نحو ست حصص في ثلاثة أسابيع، لكنني لم أستطع تعلم مهارات مثل الحركة الإيقاعية، فقد كنت أجد صعوبة في متابعة إيقاع البيانو، ولذا كان من المستحيل أن أحافظ على الإيقاع، ولم يكن بيدي حيلة. وقد نما طموحي بنفس الطريقة التي نمت بها عائلة الناسك في القصة الخرافية التي تشير إلى أن الناسك أحضر قطة لتبعد الفئران، ثم بقرة لتدر الحليب اللازم لغذاء القطة، ثم شخصا ليعتني بالبقرة، وهكذا. ثم فكرت في أن أتعلم العزف على آلة الكمان كي أصقل أذني بالموسيقى الغربية، وأنفقت ثلاثة جنيهات إسترلينية لشراء آلة الكمان، وما يزيد على ذلك المبلغ في دروس العزف. ولجأت كذلك إلى معلم ثالث ليعلمني فن الخطابة، ودفعت له جنيها إسترلينيا كأجر أولي، وقد نصحني بدراسة كتاب ألكسندر ميلفيل بيل «مبادئ الخطابة»
Standard Elocutionist ؛ فاشتريت الكتاب بالفعل، وبدأت بخطبة ويليام بيت (الصغير).
لكن السيد بيل أطلعني على حقيقة الأمر وأيقظني من غفلتي.
قلت لنفسي: «لن أقضي عمري كله في إنجلترا، فما فائدة تعلمي فن الخطابة؟ وكيف كان من المفترض أن يساعدني الرقص في أن أكون سيدا؟ أما آلة الكمان، فكان يمكنني تعلم العزف عليها حتى في الهند.» ففي نهاية الأمر، كنت طالبا ويجب علي أن أتابع دراستي. وكان علي أن أؤهل نفسي لأصبح عضوا في إحدى جمعيات القانون المعتمدة بإنجلترا. وإذا كانت شخصيتي تؤهلني لأن أكون سيدا، فسيكون ذلك عظيما، وإلا فينبغي أن أتخلى عن ذلك الطموح.
تملكتني هذه الأفكار وغيرها من الأفكار المماثلة؛ فبعثت إلى معلم فن الخطابة برسالة أعبر له فيها عن هذه الأفكار، وأطلب منه أن يعفيني من تلقي أي دروس أخرى. وكان مجمل الدروس التي حضرتها معه درسين أو ثلاثة. وكتبت رسالة مماثلة إلى مدرس الرقص. ثم ذهبت إلى مدرسة الكمان شخصيا وطلبت منها بيع الكمان الخاص بي بأي ثمن. لقد كانت تعاملني بلطف، مما جعلني أخبرها بكيفية اكتشافي أنني كنت أسعى خلف وهم زائف، وقد شجعتني على متابعة ما صممت عليه من تغيير حياتي تغييرا كليا.
أعتقد أن هذا الهوس لازمني لما يقرب من ثلاثة أشهر. واستمر حرصي في المحافظة على هندامي لسنوات. لكن منذ ذلك الحين أصبحت طالبا لا غير.
الفصل السادس عشر
تحولات في حياتي
لا يجب أن يظن أحد أن تجاربي في الرقص وغيرها من الأشياء كانت مرحلة انغماس في الملذات؛ فحتى في تلك المرحلة سيلاحظ القارئ أنني كنت مالكا لكل قوى نفسي. فلم تكن فترة هوسي بهذه التجارب مملة؛ نظرا لأني في تلك الفترة كنت أتأمل أفكاري ومشاعري الفينة بعد الفينة. لقد كنت أسجل جميع مصروفاتي وأحسبها بدقة، حتى القليل منها مثل أجرة المواصلات ورسوم البريد حتى لو كانت قطعتين نحاسيتين من النقود أدفعها ثمنا للصحف، وكان ذلك الحساب يطاردني كل يوم قبل أن أخلد إلى النوم، وقد لازمتني هذه العادة منذ ذلك الحين. وأعتقد أن الفضل في نجاحي في ترشيد الإنفاق في العديد من الأموال العامة التي أدرتها، والتي كان حجمها يصل إلى مئات الآلاف؛ يرجع إلى تلك العادة. وبذلك، أصبح لدى جميع الحركات التي قدتها فائض ثابت، بدلا من الديون المتراكمة، فليأخذ كل شاب تجربتي هذه كمثال يقتدي به، فيحرص على أن يحسب كل النقود التي يكسبها أو ينفقها وليتأكد من أنه سيكون رابحا في النهاية، مثلي.
نظرا لمراقبتي الدقيقة لأسلوب معيشتي، وجدت أنه من الضروري الاقتصاد في مصروفاتي، وهكذا قررت خفض نفقاتي إلى النصف. كانت حساباتي مليئة بالمصروفات التي علي تحملها. فالعيش في منزل أسرة يعني دفع فاتورة أسبوعية بصورة منتظمة، وهو ما يشتمل أيضا على دعوة أفراد الأسرة من حين إلى آخر لتناول العشاء بدافع اللياقة، وكذلك حضور الحفلات معهم. كان يترتب على ذلك إنفاق مبالغ هائلة على وسائل المواصلات، خاصة إذا خرجت مع سيدة؛ فالعادات هنا تقتضي أن يدفع الرجل جميع مصروفات المرأة. أما تناول العشاء بالخارج، فكان يعني تكاليف إضافية حيث لا يخصم ثمن الوجبات التي أتناولها خارج المنزل من الفاتورة الأسبوعية. ففكرت في إمكانية توفير جميع هذه النفقات، بالإضافة إلى النفقات التي أهدرها بحجة اللياقة الزائفة.
وكانت تلك الفكرة سببا في اتخاذي قرار الانتقال للعيش في مسكن خاص بي بدلا من العيش مع أسرة، وأن أنتقل للعيش من مسكن إلى آخر وفقا للعمل الذي أشتغل به ، ومن ثم أكتسب مزيدا من الخبرة في الوقت ذاته، وقد اخترت مسكني بالقرب من العمل، بحيث يمكنني الذهاب إلى العمل مشيا على الأقدام في نصف الساعة، الأمر الذي وفر لي أجرة المواصلات. وفيما مضى، كنت أضطر إلى استخدام وسائل المواصلات للذهاب إلى أي مكان، وكنت ألتمس وقتا إضافيا لممارسة رياضة المشي، فجمع النظام الجديد بين رياضة المشي والتوفير، بحيث وفر لي أجرة وسائل المواصلات وضمن لي المشي لمسافة ثمانية أو عشرة أميال يوميا. ويرجع الفضل الرئيسي في عدم إصابتي بالأمراض في أثناء إقامتي بإنجلترا إلى عادة المشي لمسافات طويلة هذه، والتي منحتني أيضا بنية قوية إلى حد ما.
استأجرت مسكنا يتكون من غرفة للجلوس وأخرى للنوم، وكانت هذه هي المرحلة الثانية من التحولات في حياتي، أما المرحلة الثالثة فلم تأت بعد.
وفرت لي هذه التغيرات التي طرأت على نمط حياتي نصف نفقاتي، ولكن كيف لي أن أستغل وقتي؟ كانت امتحانات نقابة المحامين لا تتطلب الكثير من المذاكرة، ولذلك كان لدي متسع من الوقت. وكانت مشكلتي الأبدية تتمثل في ضعفي في اللغة الإنجليزية، ولا يزال صدى كلمات السيد ليلي (الذي أصبح السير فريدريك فيما بعد) يتردد في أذني: «احصل على شهادتك الجامعية أولا، ثم احضر لمقابلتي.» فكرت في أنني يجب أن أحصل على شهادة أكاديمية بالإضافة إلى طموحي في أن أصبح محاميا معترفا به؛ فاستعلمت عن الدورات التعليمية بجامعتي أوكسفورد وكامبريدج، واستشرت عددا من الأصدقاء، فوجدت أن التحاقي بدورات أي من هاتين الجامعتين سيترتب عليه مصروفات أضخم وإقامة أطول في إنجلترا، أشار علي أحد الأصدقاء باجتياز امتحان القبول بجامعة لندن إذا كنت أرغب في خوض امتحان صعب، وكان ذلك يعني أنه ينبغي لي بذل الكثير من الجهد، ولكنه سيؤدي في نفس الوقت إلى اكتسابي مزيدا من المعلومات العامة دون نفقات إضافية تذكر، فرحبت باقتراح صديقي، ولكن المنهج الدراسي أرهبني؛ فقد كانت دراسة اللغة اللاتينية بالإضافة إلى لغة حديثة أمرا إلزاميا. فكيف سأستطيع تعلم اللاتينية؟ لكن صديقي قدم تبريرا قويا لدراسة اللغة اللاتينية، فقال: «إن اللغة اللاتينية تمثل أهمية كبيرة للمحامين؛ فهي تساعدهم على فهم الكتب القانونية، وهناك وثيقة كاملة من القانون الروماني مكتوبة باللغة اللاتينية، علاوة على أن تعلم اللغة اللاتينية سيساعدك على التمكن من اللغة الإنجليزية بصورة أكبر.» فعدت إلى المنزل وقررت أن أتعلم اللاتينية مهما كانت شاقة. ونظرا لأنني كنت قد بدأت بالفعل في تعلم اللغة الفرنسية، فقد قررت أن تكون الفرنسية هي اللغة الحديثة التي سأدرسها. والتحقت بفصول خاصة للإعداد لامتحانات القبول، ولم يكن يفصلني عن موعد الامتحانات، التي تعقد كل ستة أشهر، إلا خمسة أشهر، وكانت هذه المهمة مستحيلة تقريبا، لكن طموحي أن أصبح سيدا إنجليزيا تحول إلى أن أصبح طالبا مجتهدا. وضعت جدولا زمنيا دقيقا لمذاكرتي، لكنني لم أمتلك الذكاء اللازم أو الذاكرة الكافية لتعلم اللغة اللاتينية والفرنسية بجانب المواد الدراسية الأخرى في الوقت المتبقي، فما كان مني إلا أن شققت طريقي في دراسة اللغة اللاتينية بجد، وكنت حزينا، لكنني لم أفقد رباطة جأشي. نما لدي ميل للغة اللاتينية، وفكرت في أن اللغة الفرنسية ستتحسن لدي إذا حاولت تعلمها مرة أخرى، وقررت أن أختار مادة جديدة في مجموعة العلوم، فلم تعد الكيمياء - وهي المادة العلمية التي كنت أدرسها - جذابة؛ لعدم وجود تجارب عملية، مع أنه من المفترض أن تكون دراستها مشوقة للغاية. وقد كانت الكيمياء من المواد الإلزامية في الهند، لذلك اخترتها ضمن مواد امتحانات القبول بجامعة لندن. لكن هذه المرة اخترت مادة الحرارة والضوء بدلا من الكيمياء؛ لأنني سمعت عن مدى سهولتها، وقد كانت كذلك بالفعل.
بذلت جهدا لجعل حياتي أكثر بساطة في أثناء استعدادي لخوض تجربة أخرى. وشعرت بأن أسلوب معيشتي لا يتماشى مع الموارد المتواضعة لعائلتي. لقد آلمني تخيل صورة أخي المكافح، الذي لم يتوان في الاستجابة بكرم إلى طلباتي المتكررة للأموال. ووجدت أن أغلب الذين ينفقون من ثمانية إلى خمسة عشر جنيها إسترلينيا شهريا هم الذين يتمتعون بمنحة دراسية . وكان أمامي أمثلة على أساليب معيشة أكثر بساطة، فقد شاهدت عددا ليس بقليل من الطلاب الفقراء الذين يعيشون حياة أكثر تواضعا من حياتي، وكان أحد أولئك الطلاب يعيش في غرفة في حي الفقراء تكلفه شلنين في الأسبوع، وكان يشترى وجبات طعامه من أرخص المحلات في المدينة بسعر بنسين للوجبة الواحدة التي تتكون من الكاكاو والخبز. لقد كان من الصعب علي أن أحذو حذوه، لكنني فكرت في الاحتفاظ بغرفة واحدة بدلا من غرفتين وأن أطهو بعض الأطعمة بنفسي في المنزل، وكان ذلك سيوفر أربعة أو خمسة جنيهات إسترلينية شهريا. واطلعت على كتب تتناول المعيشة البسيطة، فتخليت عن الغرفتين واستبدلت بهما غرفة واحدة، واشتريت فرنا، وبدأت أطهو إفطاري في المنزل. وكان إعداد طعام الإفطار لا يستغرق أكثر من عشرين دقيقة، فقد كان علي فقط أن أطهو عصيدة دقيق الشوفان وأن أغلي المياه اللازمة للكاكاو. وكنت أتناول الغداء خارج المنزل، وفي وجبة العشاء كنت أتناول الخبز والكاكاو بالمنزل. وهكذا استطعت أن أوفر من نفقاتي حتى أصبحت أعيش بتكلفة يومية تصل إلى شلن وثلاثة سنتات. وكان لدي في تلك المدة كم هائل من الدراسة. لقد وفر لي أسلوب المعيشة البسيط الكثير من الوقت، وبالفعل اجتزت امتحانات القبول.
على القارئ ألا يظن أن هذا النمط من المعيشة قد جعل حياتي موحشة بأي وجه من الوجوه، بل على العكس، فقد ألف هذا التغيير بين جسدي وروحي. وكما كان هذا التغير أكثر تمشيا مع إمكانيات عائلتي، كانت حياتي بلا شك أكثر صدقا، وغمرت روحي سعادة لا توصف.
الفصل السابع عشر
تجارب في الأنظمة الغذائية
بعد أن توغلت في البحث في أعماق نفسي، وجدت أن ضرورة التغيير الداخلي والخارجي أخذت في النمو. وفور قيامي بتغييرات في نفقاتي وأسلوب حياتي، بل قبل ذلك، بدأت في تغيير نظامي الغذائي. ووجدت أن مؤلفي الكتب التي تتناول النظام النباتي تعرضوا للقضية بكل تفاصيلها، وتناولوها من الناحية الدينية والعلمية والعملية والطبية. من الناحية الأخلاقية، توصل أولئك المؤلفون إلى استنتاج أن سيادة الإنسان على الحيوانات الدنيا لا تعني أن يفترس الإنسان تلك الحيوانات، بل تعني حمايته لها وأن يكون هناك تعاون متبادل بينهما بالصورة التي يتعاون بها الإنسان مع أخيه الإنسان. وتناولوا حقيقة أن الإنسان لا يأكل للاستمتاع بالأكل، بل ليعيش. فقام بعضهم بالامتناع، ليس عن تناول اللحم فحسب، بل عن البيض وشرب الحليب أيضا. ومن الناحية العلمية، استنتج البعض أن التكوين الطبيعي للإنسان أثبت أن طبيعته تميل إلى أكل الثمار وليس إلى الطعام المطهو، وأن الإنسان يمكنه فقط أن يتناول الحليب من ثدي أمه، ثم عندما تنمو أسنانه يبدأ في تناول الأطعمة الصلبة. ومن وجهة النظر الطبية، اقترح بعضهم العزوف عن شتى أنواع التوابل والبهارات. ووفقا لوجهة النظر العملية والاقتصادية، أوضح المؤلفون أن النظام الغذائي النباتي هو الأرخص. وقد كان لكل هذه الأسباب أجل الأثر علي، وقد رأيت هذه الأنواع المختلفة من النباتيين في مطاعم الأغذية النباتية. كانت إحدى الجمعيات النباتية في إنجلترا تمتلك صحيفة أسبوعية خاصة بها، فاشتركت في الصحيفة الأسبوعية، ثم التحقت بالجمعية، ووجدت نفسي في وقت وجيز عضوا في اللجنة التنفيذية بها، وهناك تعرفت إلى رواد النظام النباتي. وبدأت خبراتي الخاصة في علم الأغذية.
توقفت عن تناول الحلوى والبهارات التي أحضرتها معي من الهند. وكان تغيير آرائي وأفكاري سببا في القضاء على ولعي بالبهارات، وأصبحت أستمتع بالسبانخ المسلوقة دون بهارات، التي كنت لا أشتهيها في ريتشموند. وعلمتني كل هذه التجارب أمرا بالغ الأهمية؛ أن العقل هو مركز التذوق الحقيقي وليس اللسان.
لا شك أن العامل الاقتصادي كان يشغل خاطري باستمرار. كان هناك في تلك الآونة آراء تنادي بضرر الشاي والقهوة، وتدعو إلى تناول مشروب الكاكاو. وبما أنني مقتنع بأن على المرء أن يتناول الأغذية والمشروبات التي تحافظ على صحته، توقفت عن تناول الشاي والقهوة بصورة عامة، واستعضت عنهما بتناول الكاكاو.
كان هناك نوعان من المطاعم التي اعتدت التردد عليهما، أحدهما يقدم أي عدد من الأطعمة يختاره الزبون، ويدفع ثمنا منفصلا لكل لون من ألوان الطعام، وكان يتردد على ذلك النوع من المطاعم من هم على قدر من الغنى، حيث كان العشاء هناك يكلف قرابة شلن أو شلنين. أما النوع الآخر من المطاعم، فكان يقدم عشاء يتكون من ثلاثة ألوان من الأطعمة وشريحة خبز بثمن ستة بنسات. وكنت عادة ما أتناول طعامي في النوع الثاني من المطاعم في المدة التي اتبعت فيها النظام الاقتصادي الصارم.
وخضت أيضا عددا من التجارب الثانوية إلى جانب التجربة الرئيسية، مثل: الإقلاع عن تناول النشويات في مرحلة ما، والعيش على تناول الخبز والفواكه فقط في مرحلة أخرى، والعيش أحيانا على الجبن والحليب والبيض. وتستحق هذه التجربة الأخيرة السرد والتوضيح: استمررت في هذه التجربة أقل من أسبوعين، فقد دافع المصلح المؤيد للأطعمة غير النشوية عن البيض، وقال معللا ذلك بأنه لا علاقة للبيض باللحوم. وكان من الواضح أن تناول البيض لا يسبب أي ضرر للكائنات الحية، فاقتنعت بوجهة النظر هذه، وبدأت في تناول البيض بغض النظر عن عهدي لوالدتي، لكن ذلك لم يدم طويلا؛ فأنا لا أملك الحق في إضافة تفسير جديد إلى العهد، في ظل وجود تفسير والدتي له. فكنت أعلم أنها تؤمن بأن البيض يدخل ضمن أطعمة اللحوم. وفور إدراكي للمعنى الحقيقي للعهد، أقلعت عن تناول البيض وتخليت عن التجربة ككل.
هناك نقطة تتعلق بوجهة النظر تلك أرى ضرورة ذكرها: خلال إقامتي في إنجلترا، صادفت ثلاثة تعريفات للحم، يشير أولها إلى أن اللحم يعني لحوم الطيور والحيوانات فقط. وقد تجنب النباتيون الذين تبنوا هذا التعريف تناول لحوم الطيور والحيوانات لكنهم تناولوا الأسماك، ناهيك عن البيض. أما التعريف الثاني، فيشير إلى أن المقصود باللحم هو جميع لحوم الكائنات الحية، ولذا كان السمك يدخل ضمن اللحوم وفقا لهذا التعريف، لكنه لم يدرج البيض. وأشار التعريف الثالث إلى أن جميع لحوم الكائنات الحية ومنتجاتها تندرج تحت تعريف اللحم، ومن ثم اشتمل التعريف على البيض والحليب على حد سواء. فإذا تبنيت التعريف الأول، فلن آكل البيض فحسب، بل السمك أيضا. ولكنني كنت مقتنعا بأن تعريف والدتي هو التعريف الملزم لي؛ فيجب علي إذا قررت الالتزام بالعهد الذي قطعته على نفسي أن أمتنع عن تناول البيض. كان هذا الأمر شاقا نظرا لأنني علمت أنه حتى في مطاعم الأغذية النباتية هناك العديد من الأطعمة تحتوي على البيض. وذلك يعني أنه لو لم تتوافر لدي الخبرة في الحكم على الأشياء، فسأضطر إلى التحقق من مكونات الأطعمة، وهل تحتوي على البيض أم لا، حيث إن العديد من حلوى البودنج والكعك لا تخلو من البيض. ومع أن التزامي بعهدي لوالدتي تسبب لي في هذه المشقة، إلا أنه جعل طعامي بسيطا. وقد سببت لي تلك البساطة بعض الضيق، حيث اضطررت إلي الامتناع عن الكثير من الأطعمة التي كنت أشتهيها. إلا أن هذه الصعاب كانت عابرة، حيث نتج عن التزامي الصارم بوعدي استمتاع داخلي صحي ولذيذ ودائم.
ومع ذلك، لم تكن المشكلة الحقيقية قد ظهرت بعد، فقد كانت المشكلة الحقيقية تتعلق بوعدي الآخر. ولكن من يجرؤ على إيذاء من يعيش في حفظ الإله؟
قد تكون بعض الملاحظات حول تفسير العهود أو الوعود ذات صلة في هذا السياق، فلطالما كان تفسير الوعود سببا في نشأة النزاعات في جميع أنحاء العالم؛ فمهما كان نص الوعد صريحا، سيحرفه الناس ويغيرونه ليتماشى مع مصالحهم الخاصة. ونجد هذا قائما بين جميع الطبقات الاجتماعية من غني وفقير، وأمير وفلاح. فالأنانية تعصب أعين الناس، فيخدعون أنفسهم باللجوء إلى الغموض ويحاولون خداع العالم والإله. ومن القواعد الذهبية في العهود أن تقبل بصدق تفسير الطرف الذي تعطيه الوعد. وهناك قاعدة أخرى تقول بقبول تفسير الطرف الأضعف عند وجود تفسيرين للوعد. وعند الإخلال بهاتين القاعدتين، ينشأ النزاع والظلم المتأصلان في الكذب. ويسهل على من ينشد الحقيقة وحده أن يتبع القاعدة الذهبية دون الحاجة إلى طلب مشورة علمية حول تفسير الوعد، فكان تفسير والدتي لتعريف اللحم - وفقا للقاعدة الذهبية - هو التفسير الحقيقي الوحيد، وليس التعريف الذي تعلمته من خبراتي الأوسع أو معرفتي الأفضل.
لقد خضت تجاربي في إنجلترا من وجهة النظر الاقتصادية والصحية. ولم أتناول المسألة من الناحية الدينية حتى رحيلي إلى جنوب أفريقيا، حيث مررت بتجارب شاقة سوف أرويها فيما بعد. ولكن كل هذه التجارب كانت ثمارا لبذور غرست في إنجلترا.
إن حماسة المعتنق لدين جديد أقوى من حماسة من ولدوا وهم على الدين نفسه، وكانت النباتية حينها تعد دينا جديدا على إنجلترا، وكذلك علي، فرأينا كيف ذهبت إلى إنجلترا وأنا مقتنع بأكل اللحم، ومن ثم تحولت معتقداتي بعد ذلك إلى النباتية. وجعلتني حماسة المعتنق الجديد للنباتية التي كانت تغمرني أقرر تأسيس جمعية للنباتيين في حي بايز واتر
Bayswater
الذي كنت أعيش فيه، وقد وجهت دعوة إلى السير إدوين أرنولد، الذي كان يعيش في نفس الحي، ليتولى منصب نائب رئيس الجمعية. وشغل الدكتور أولدفييلد، رئيس تحرير جريدة «ذا فيجيتيريان»
The Vegeterian ، منصب رئيس الجمعية. وتوليت أنا منصب أمين السر. كانت الجمعية في بادئ الأمر تسير على ما يرام، لكنها انهارت في بضعة أشهر، ويرجع ذلك إلى انتقالي من الحي الذي كنت أعيش فيه وفقا لعادتي في الانتقال من وقت إلى آخر. على كل حال، زودتني هذه التجربة القصيرة الأجل والمتواضعة ببعض الخبرة المتعلقة بكيفية تنظيم وإدارة المؤسسات.
الفصل الثامن عشر
درع الخجل
انتخبت عضوا في اللجنة التنفيذية للجمعية النباتية، وقد واظبت على حضور جميع اجتماعاتها لكنني كنت دائما ما ألزم الصمت. قال لي الدكتور أولدفييلد ذات مرة: «إنك تجيد التحدث عندما نتكلم معا، فلماذا لا تتحدث أثناء اجتماعات الجمعية؟ إنك كسول كذكر النحل.» لقد أدركت المزحة، فأنثى النحل دائما ما تعمل بجد، أما ذكر النحل فكسول تماما. لم يكن من الغريب أن أجلس صامتا ويعبر الآخرون عن آرائهم في هذه الاجتماعات. وليس ذلك بسبب عدم رغبتي في الكلام، ولكن بسبب عدم قدرتي على التعبير عن آرائي. بدا لي أن جميع الأعضاء الآخرين على درجة أكبر مني من التعليم والثقافة. وعندما كنت أستجمع شجاعتي لأتحدث، كثيرا ما كان يتغير الموضوع وتبدأ مناقشة موضوع جديد. في غضون ذلك، طرحت مسألة خطيرة للنقاش، فرأيت أنه لا يصح أن أتغيب، وأن من الجبن أن أسجل صوتا صامتا، وقد أثيرت المناقشة على النحو الآتي: كان السيد هيلز ، رئيس الجمعية، يمتلك شركة التيمز لصناعة الحديد
Thames Iron Works ، وكان بيوريتانيا.
1
ويمكن القول بأنه لولا دعمه المادي، لما كان للجمعية وجود. وكان العديد من أعضاء اللجنة بطريقة أو بأخرى يخضعون لحمايته. وكان الطبيب أليسون أيضا عضوا في اللجنة؛ لما له من باع في النظرية النباتية، وكان من أنصار حركة تنظيم النسل الحديثة، وينشر وسائله بين طبقات العمال، لكن السيد هيلز كان يرى أن هذه الوسائل تتعارض مع المبادئ البيوريتانية، وكان يؤمن بأن الغرض من الجمعية لا يتعلق بالغذاء فقط ولكن بالإصلاح الأخلاقي أيضا، وأنه يجب ألا تضم الجمعية أشخاصا لهم أفكار مناهضة للبيوريتانية مثل أفكار الدكتور ألينسون. وهكذا قدم اقتراحا يقضي بإلغاء عضويته في الجمعية، فأثار الاقتراح انتباهي، فقد كنت أرى أن ما يروج له الطبيب حول تنظيم النسل بوسائل اصطناعية هي أفكار خطيرة، وأن من حق السيد هيلز كرجل بيوريتاني أن يعارضه، وكنت أكن للسيد هيلز وافر الاحترام وأقدر سخاءه. لكنني وجدت أن من الخطأ اعتبار استبعاد شخص من جمعية نباتية؛ لمجرد رفضه اعتبار الأخلاقيات البيوريتانية جزءا من غايات الجمعية. كانت وجهة نظر السيد هيلز المتمثلة في استبعاد المخالفين للأخلاقيات البيوريتانية من الجمعية شخصية، ولا تمت بصلة إلى هدف الجمعية المعلن، وهو ببساطة: الترويج للفكر النباتي وليس اتباع أي نظام أخلاقي. فرأيت أنه يمكن لأي شخص نباتي أن يصبح عضوا في الجمعية بغض النظر عن آرائه المتعلقة بالأخلاقيات الأخرى.
وكان هناك في اللجنة من شاركني الرأي، لكنني شعرت بأنني مطالب بصورة شخصية بالتعبير عن رأيي، وكانت المشكلة في كيفية تعبيري عن ذلك الرأي. ونظرا لأنني لم أكن أمتلك الشجاعة للتحدث، قررت كتابة ما يجول بخاطري، فذهبت إلى الاجتماع حاملا الورقة التي كتبت فيها رأيي، ولم أقدر حتى على قراءتها بنفسي، فكلف رئيس الجمعية أحدهم بقراءتها. وفي ذلك اليوم رجحت كفة السيد هيلز على كفة الدكتور ألينسون، وهكذا وجدت نفسي في صفوف الطرف الخاسر في أول معركة أخوضها من هذا النوع، وكان عزائي الوحيد هو علمي بصدق قضيتي. على ما أتذكر، استقلت من اللجنة بعد هذه الحادثة.
وظل هذا الخجل يلازمني طوال إقامتي بإنجلترا، حتى عندما كنت أقوم بزيارة اجتماعية، كان وجود ستة أشخاص أو أكثر يلجم لساني.
ذهبت ذات مرة مع السيد مازمودار إلى مدينة فينتنور
Ventnor ، ومكثنا هناك مع أسرة نباتية. وهناك قابلنا السيد هوارد، مؤلف كتاب «آداب الغذاء»، الذي كان مقيما في نفس المنتجع المائي. دعانا السيد هوارد إلى إلقاء كلمة في اجتماع للترويج لمبادئ النباتية، وتأكدت من أنه من المقبول أن يقرأ الشخص كلمته بدلا من ارتجالها، وعلمت أن العديد من الأشخاص يفعلون ذلك للتعبير عن أنفسهم بترابط منطقي وإيجاز، وكان من المستحيل أن أرتجل! لذا كتبت الكلمة التي سألقيها، ووقفت لألقي الكلمة، لكن لساني أبى الانطلاق، وأصبحت لا أرى بوضوح وارتجفت مع أن الكلمة التي كتبتها كانت بالكاد تملأ صفحة كبيرة، واضطر السيد مازمودار لقراءتها نيابة عني، كانت الكلمة ممتازة بالطبع، واستقبلها المستمعون بتصفيق حاد. وحينها شعرت بالخجل من نفسي وبالحزن يملأ فؤادي نتيجة لعجزي.
كانت آخر محاولة قمت بها لإلقاء كلمة في إنجلترا في عشية عودتي إلى الهند، ولكن حتى في هذه المرة جعلت من نفسي أضحوكة، فقد دعوت أصدقائي النباتيين إلى تناول الطعام في مطعم هولبورن الذي أشرت إليه في هذه الفصول، وقلت في نفسي: «بالطبع يمكن تناول الطعام النباتي في مطاعم الأطعمة النباتية، لكن لماذا لا نتناول الأطعمة النباتية في المطاعم غير النباتية أيضا؟» اتفقت مع مدير المطعم على تقديم وجبة نباتية خالصة، ورحب أصدقائي النباتيون بالتجربة الجديدة. إن الاستمتاع بالطبع هو الغرض من جميع المآدب، لكن الغربيون جعلوا إعداد تلك المآدب فنا، فهم يحتفلون بتلك المآدب بأبهة شديدة وموسيقى وخطب، ولم تخل المأدبة الصغيرة التي أقمتها من بعض تلك المظاهر، فكان يجب إلقاء الخطب في أثناء المأدبة، وعندما حان دوري في التحدث، وقفت لألقي كلمتي، وقد فكرت في إلقاء كلمة موجزة تتكون من بضع جمل، لكنني لم أستطع أن أتخطى الجملة الأولى. قرأت فيما سبق أن أديسون عندما ألقى أول كلمة له في مجلس العموم، أخذ يردد «أعتقد» ثلاث مرات، وعندما عجز عن استكمال كلمته، وقف أحدهم ساخرا وقال: «لقد اعتقد هذا السيد ثلاث مرات، لكنه مع ذلك لم يصل إلى شيء.» فكرت في إلقاء كلمة طريفة مستعينا بهذه القصة الطريفة. فبدأت في التحدث، ولكنني لم أستطع المتابعة. فقد خانتني ذاكرتي تماما وجعلت من نفسي محلا للسخرية. فقلت بعجالة: «أشكركم أيها السادة على تلبيتكم لدعوتي.» ثم جلست على الفور.
ولم أستطع تجاوز هذا الخجل إلا في جنوب أفريقيا، إلا أنني في الحقيقة لم أتجاوزه كليا؛ فقد كان يستحيل أن أقوم بالارتجال، وكنت أتردد عند مواجهة جمهور غريب، وكنت أتجنب إلقاء الخطب قدر المستطاع. وحتى الآن، لا أعتقد أنه يمكنني أن أجتمع بأصدقائي لنخوض في حديث لا طائل فيه، ولا أميل إلى ذلك.
ويجب أن أعترف أن خجلي الفطري لم يمثل لي أي عائق، لكن الأمر لم يخل من تعرضي للسخرية في بعض الأحيان، بل على العكس، أعتقد أن ذلك الخجل كان في مصلحتي؛ فقد أصبحت حيرتي عند التحدث - التي كانت في يوم ما مصدر إزعاج لي - مصدر بهجة. وأعظم فائدة عاد علي الخجل بها هي تعليمي الاقتصاد في الكلام، فقد تكونت لدي عادة التحكم في أفكاري. وأستطيع أن أجزم أنه نادرا ما زل لساني أو قلمي. لا يحضرني أنني ندمت قط على أي كلمة قلتها أو مقالة كتبتها. وهكذا نجوت من الكثير من الحوادث المؤسفة وتجنبت إهدار الوقت. علمتني التجربة أن الصمت جزء من الانضباط الروحاني الذي يجب على نصير الحقيقة أن يتسم به، وأن الميل للمبالغة في الحقيقة، أو كتمها، أو تحريفها سواء عمدا أو بغير عمد؛ هي نقائص بشرية ويجب أن يتحلى الإنسان بالصمت كي يتغلب عليها. فالشخص قليل الكلام، نادرا ما يخطئ في كلامه لأنه يحسب حساب كل كلمة قبل أن يتفوه بها. ومع ذلك نجد العديد من الأشخاص يتوقون للحديث حيث تنهال مذكرات طلب الكلمة على جميع رؤساء مجالس الإدارة، وعندما يأخذ أحدهم الكلمة، دائما ما يتجاوز المدة الزمنية الممنوحة له ويطالب بمد الوقت، ويستمر في الحديث دون إذن. كل هذا اللغو لا يعود على العالم بأي نفع، ولا يزيد على كونه مضيعة للوقت. وفي حقيقة الأمر كان خجلي هو درعي الواقي. فقد سمح لي بالنضوج وساعدني على تمييزي للحقيقة.
هوامش
الفصل التاسع عشر
آفة الكذب
كان عدد الهنود المقيمين في إنجلترا منذ أربعين عاما قليلا نسبيا، وكان من عادتهم التظاهر بالعزوبة حتى وإن كانوا متزوجين، وكان جميع طلاب المدارس والجامعات في إنجلترا عزابا؛ لإيمانهم بأن الدراسة لا تتفق مع الحياة الزوجية، وكان لدينا هذا التقليد في الهند في العصور المزدهرة السالفة، حين كان يطلق على الطالب «براهماشاري»،
1
ولكن الآن لدينا زواج الأطفال، وهي عادة غير معروفة تقريبا في إنجلترا؛ لذلك كان يشعر الطلاب الهنود بالخزي من الاعتراف بزواجهم، علاوة على ذلك، إذا أفصح أولئك الشباب عن حقيقة زواجهم، فلن يتمكنوا من التودد إلى فتيات العائلات التي يعيشون معها أو مغازلتهن، كانت هذه المغازلة عفيفة بقدر ما، حتى إن الآباء أنفسهم كانوا يشجعونهم عليها. وربما يمكن القول إن تلك العلاقة بين الشباب والفتيات تعد ضرورة في إنجلترا في ظل وجهة النظر التي تقول بأن على كل شاب أن يختار رفيقته. غير أن انغماس الشباب الهنود في مثل هذه العلاقات فور وصولهم إلى إنجلترا - وهو الأمر الطبيعي عند الشباب الإنجليز - غالبا ما كان يسفر عن وقوع كارثة. ووجدت أن شبابنا خضعوا للإغواء، واختاروا أن يحيوا حياة مليئة بالكذب من أجل الحصول على الرفقة غير المناسبة لهم، والبريئة للشباب الإنجليزي. ومع ذلك أصابني ما أصاب جميع الشباب، فلم أتردد في أن أزعم أنني عازب وأنا متزوج ولدي طفل، لكن زعمي هذا لم يجعلني أكثر سعادة، فلم ينجني من التمادي في هذا الطريق إلا تحفظي وقلة كلامي، فسكوتي عن الكلام، سيجعل أي فتاة تعتقد أن تحدثها إلي أو خروجها معي إهدارا لوقتها. كان مدى جبني لا يقل عن تحفظي، وكان من المألوف لدى العائلات - كالتي كنت أعيش معها في فينتنور - أن تخرج ابنة مالكة المسكن مع الضيوف للمشي، وقد اصطحبتني ابنة مالكة المسكن ذات يوم للتنزه حول تلال فينتنور الخلابة، ولم أكن ممن يسيرون ببطء، ومع ذلك كانت ابنة مالكة المسكن أسرع مني، فكانت تجذبني خلفها وتثرثر طوال الوقت، لعلي كنت أجيب على ثرثرتها في بعض الأحيان بقولي هامسا «نعم» أو «لا» أو في أغلب الأحوال «أجل، هذا رائع!» كانت تنطلق كالعصفورة، وكنت أتوق أنا للعودة إلى المنزل. ونجحنا في الوصول إلى قمة أحد التلال، لكن المشكلة كانت في نزولنا عنها، وانطلقت هذه الفتاة المفعمة بالحيوية ذات الخمسة والعشرين عاما إلى أسفل التل كالسهم، على الرغم من الحذاء ذي الكعب العالي الذي كانت ترتديه، أما أنا فقد اعتلت وجهي حمرة الخجل وأنا أجاهد لأنزل. وظلت هي واقفة عند سفح التل تبتسم وتناديني وتعرض علي أن تأتي وتجذبني إلى الأسفل. كيف أكون بهذا الجبن؟ استطعت بطريقة ما، ولكن بصعوبة بالغة وزحفا في بعض الأحيان، أن أنزل إلى السفح. أخذت تسخر مني بصوت عال صائحة: «مرحى» فجعلتني أشعر بالخجل أكثر من ذي قبل.
ومع ذلك لم أستطع النجاة في جميع المواقف، فقد أراد الإله أن يخلصني من آفة الكذب. ذهبت ذات مرة إلى برايتون
Brighton ، وهو منتجع مائي آخر مثل فينتنور، لكنني زرته قبل أن أذهب إلى فينتنور. وهناك قابلت أرملة عجوزا متوسطة الحال في أحد الفنادق. كان ذلك في السنة الأولى من إقامتي في إنجلترا، وكانت الوجبات المدرجة في قائمة الطعام مكتوبة باللغة الفرنسية التي لم أكن ملما بها. كنت أجلس على ذات الطاولة التي كانت تجلس عليها السيدة العجوز، فلاحظت أنني غريب ومتحير، فهمت على الفور بمساعدتي. قالت لي: «تبدو غريبا عن إنجلترا ومرتبكا. لماذا لم تطلب شيئا؟» كنت أتهجى قائمة الطعام وأستعد لسؤال النادل عن مكونات الأطعمة عندما أتت السيدة وحدثتني، فتوجهت لها بالشكر، وأوضحت لها المشكلة التي أواجهها حيث إنني لا أستطيع معرفة الأطعمة النباتية لعدم معرفتي باللغة الفرنسية .
فأجابت قائلة: «اسمح لي أن أساعدك، سأشرح لك قائمة الطعام وأخبرك بما يمكنك تناوله.» شعرت بالامتنان، وبالفعل كانت لي خير عون. وكانت هذه الواقعة بداية لتعارف تطور إلى صداقة دامت طوال إقامتي في إنجلترا وما بعد ذلك بمدة طويلة. وأعطتني صديقتي عنوانها في لندن، ودعتني لتناول العشاء في منزلها يوم الأحد من كل أسبوع، وكانت تدعوني في المناسبات الخاصة وتساعدني على التغلب على حيائي، فتعرفني إلى الفتيات وتجعلني أتحدث معهن، وأتذكر من بينهن بوضوح محادثاتي مع فتاة كانت تقيم معها، وكنا كثيرا ما نجلس معا بمفردنا.
كنت أجد هذا شاقا في بادئ الأمر، فلم أكن أستطيع بدء محادثة أو إطلاق النكات، لكنها دلتني على الطريق، فبدأت أتعلم تلك الأمور. وبمرور الوقت، أصبحت أتطلع إلى يوم الأحد ونما لدي ميل للحديث مع الصديقة الشابة.
أخذت السيدة العجوز تظلل علينا برعايتها يوما بعد يوم، وكانت مهتمة بلقاءاتنا، ويبدو أنها كانت تفكر في ارتباطنا.
فوجدت نفسي في مأزق. حدثت نفسي قائلا: «كم كنت أتمنى لو أنني أخبرت السيدة بأنني متزوج! فحينها لم تكن لتفكر في ارتباطي بصديقتها الشابة. على كل حال، لم يفت الأوان بعد على إصلاح ذلك، فإعلاني الحقيقة يمكن أن يقلل من حدة المشكلة.»
وعليه، كتبت رسالة إليها تحمل هذا المعنى:
منذ التقينا في برايتون، وأنت تشملينني بعطفك. لقد اعتنيت بي كما تعتني الأم بولدها، واعتقدت أنني بحاجة إلى الزواج، ولذلك كنت تساعدينني على التعرف إلى الفتيات، وبدلا من انتظار تفاقم الأمور، أود أن أعترف لك بأنني لا أستحق كل ذلك العطف؛ فقد كان يجب علي أن أخبرك عندما بدأت في زيارتك بحقيقة زواجي، فعندما علمت أن الشباب الهنود المقيمين في إنجلترا يخفون حقيقة زواجه، لم أملك إلا أن أحذو حذوهم. والآن أقر بأن ما فعلته كان خطأ. وأريد أن أخبرك بأنني تزوجت وأنا لا أزال طفلا، وقد رزقني الإله بطفل. وما يؤلمني حقا هو إخفائي هذه الحقيقة عنك طوال هذه المدة. لكنني أشعر بالسعادة الآن حيث منحني الإله الشجاعة كي أكشف لك عن الحقيقة. فهلا سامحتني؟ أؤكد لك أنني التزمت بحدود الأدب مع الفتاة التي تفضلت وعرفتني بها ولم أسئ استغلال الحرية التي منحتني إياها، فطالما عرفت حدودي التي يجب ألا أتعداها. وأقدر أنك بدورك فكرت في ارتباطنا لعدم علمك بزواجي. وأنا الآن أخبرك بالحقيقة لكيلا تتعقد الأمور أكثر من ذلك.
وأؤكد لك أنني لن أشعر بالاستياء إذا ما وجدت - بعد قراءتك لهذه الرسالة - أنني لم أكن جديرا بحسن ضيافتك. إن عطفك ورعايتك يغمراني بالامتنان، وبالطبع سيسعدني ألا تغضبي مني وأن تستمري في اعتباري جديرا بضيافتك، التي لن أتوانى عن فعل أي شيء كي أستحقها، وسأعتبر موقفك هذا مثالا آخر على عطفك.
وليعلم القارئ أنه لم يكن من السهل علي كتابة مثل هذه الرسالة، إذ كان علي تنقيحها عدة مرات، لكنها في النهاية أزاحت عن كاهلي عبئا ثقيلا. أعتقد أنني تسلمت ردها في البريد التالي مباشرة، وكان نصه:
لقد تسلمت رسالتك الصريحة، وقد شعرنا بالسرور عندما قرأناها واستغرقنا في الضحك. إن الحقيقة التي أخفيتها عنا وتعتقد أنك أجرمت بإخفائها يمكن الصفح عنها، وقد أحسنت في إخبارنا بحقيقة الأمور، ولا تزال دعوتي لك قائمة. سننتظرك الأحد القادم، ونتطلع لسماع قصة زواجك وأنت طفل، والاستمتاع بالتندر عليك. لا أعتقد أن هناك حاجة إلى أن أؤكد لك أن صداقتنا لم تتأثر قط بهذه الواقعة.
وهكذا طهرت نفسي من آفة الكذب. ومنذ ذلك الحين وأنا لا أتردد في ذكر زواجي متى اضطرتني الظروف.
هوامش
الفصل العشرون
الاطلاع على الأديان
مع قرب انتهاء السنة الثانية لإقامتي في إنجلترا، تعرفت إلى أخوين ثيوصوفيين، وكان كلاهما عزبا، وقد تحدثا معي عن «الجيتا»، فقد كانا يقرآن ترجمة السيد إدوين أرنولد - الأنشودة السماوية
The Song Celestial ، ودعوني إلى قراءة النسخة الأصلية معهما، فشعرت وقتها بالخزي حيث إنني لم أقرأ الأنشودة المقدسة لا باللغة السنسكريتية ولا الجوجراتية. فاضطررت إلى أن أخبرهما بأنني لم يسبق لي قراءة «الجيتا»، لكنني أود أن أقرأها معهما بكل سرور. كان الأمل لا يزال يراودني في أن أتمكن من فهم الأجزاء التي فشلت الترجمة في نقلها، وذلك مع أن معرفتي باللغة السنسكريتية كانت متواضعة. فبدأت في قراءة «الجيتا» معهما. ورد في الفصل الثاني من الكتاب:
من يعكف على مدركات الحواس يميل إليها،
ومن الميل تولد الرغبة،
ومن الرغبة تتولد نيران الشهوة الجامحة،
ومن الشهوة يولد الطيش والتهور،
وبذلك تخون المرء الذاكرة،
فتقضي على الغايات النبيلة،
وتستنزف العقل،
فتمحق الغاية والعقل والإنسان.
وقد تركت هذه الكلمات عظيم الأثر في قلبي، ولا يزال صداها يتردد في أذني، فوجدت أن قيمة الكتاب لا تقدر بثمن، وقد أخذ هذا الانطباع في النمو حتى أصبحت أؤمن بأن هذا الكتاب هو الأكثر واقعية في تناول معرفة الحقيقة، وقد قدم لي مساعدة جليلة في الأوقات العصيبة. قرأت تقريبا جميع الترجمات الإنجليزية التي تناولت «الجيتا»، وأرى أن أفضلها ترجمة السير إدوين أرنولد. فقد كان أمينا في نقل النص، بالإضافة إلى أن ترجمته تبدو كنص إبداعي وليس عملا مترجما. ومع أني قرأت «الجيتا» مع هذين الصديقين، لا أزعم أنني تدارستها وقتها، فلم أبدأ في قراءة الكتاب بصورة يومية إلا بعد مرور بضع سنوات.
واقترح علي الأخوان قراءة كتاب «ضياء آسيا»
The Light of Asia
لكاتبه إدوين أرنولد، وقد كنت وقتها لا أعلم أن للسيد أرنولد كتبا غير الأنشودة السماوية. وقد قرأت الكتاب بلهفة أكبر من «الباجافاد جيتا»، ومنذ أن بدأت في قراءته لم أستطع الكف عن القراءة، وفي إحدى المرات، اصطحبني الأخوان إلى بلافاتسكي لودج، وهناك تعرفت إلى السيدة بلافاتسكي والسيدة بيسانت. كانت السيدة بيسانت قد التحقت حديثا بالجمعية، وقد تابعت المناقشة التي دارت حول اعتناقها للثيوصوفية باهتمام بالغ. ونصحني الأصدقاء بالانضمام للجمعية، لكنني رفضت بلباقة، وقلت لهم: «نظرا لمعرفتي المتواضعة بديني، لا أرغب في الانضمام إلى أي منظمة دينية.» يحضرني أنني قد قرأت - بناء على اقتراح الأخوين - كتاب السيدة بلافاتسكي الذي يحمل عنوان «مدخل إلى الثيوصوفية»
Key to Theosophy
فأثار في الرغبة لقراءة الكتب التي تتناول الهندوسية، وحررني من الفكرة التي يروج لها المبشرون التي تقول بأن الهندوسية حافلة بالخرافات.
قابلت، في نفس الوقت تقريبا، مسيحيا صالحا من مانشستر في فندق يقدم الأطعمة النباتية. وحدثني عن المسيحية ، وأخبرته عن ذكرياتي في راجكوت عن المسيحية. وقد آلمه ما قصصت عليه من أحداث. قال لي: «أنا نباتي، ولا أشرب الخمر. ولكن للأسف يتناول الكثير من المسيحيين اللحم ويشربون الخمر، لكن الكتاب المقدس لم يأمرنا بذلك. من فضلك، اقرأ الإنجيل.» قبلت نصيحته، فأحضر لي نسخة من الإنجيل، وأظن أنه كان يبيعه، فاشتريت منه نسخة تحتوي على خرائط وفهرس أبجدي وغيرها من الوسائل الإيضاحية المساعدة. وبدأت في قراءة الكتاب، لكنني لم أستطع قراءة العهد القديم، فقرأت «سفر التكوين»، أما الفصول التي تلته فكانت دائما ما تجعلني أشعر بالنعاس. إلا أنني قرأت الأسفار الأخرى بقدر أكبر من الصعوبة ودون اهتمام أو فهم، وذلك فقط لأستطيع القول بأنني قرأت الكتاب. وكذلك أعيتني قراءة «سفر العدد».
ومع ذلك، خلف العهد الجديد لدي انطباعا مختلفا تماما، خاصة «عظة الجبل» التي أشرب قلبي حبها. قارنت ما جاء بموعظة الجبل بما ورد في «الجيتا». وكم أسعدني الجزء الذي يقول فيه المسيح: «وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا. ومن أخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا.» فتذكرت قول الشاعر الجوجراتي شامال بات: «أعط وجبة شهية لمن منحك جرعة ماء» وغيره. حاول عقلي الصغير أن يدمج تعاليم الجيتا وكتاب «ضياء آسيا» وتعاليم موعظة الجبل، فكان الإنكار للذات أجل موعظة دينية أعجبت بها.
حفزتني قراءة موعظة الجبل على دراسة حياة المعلمين الدينيين الآخرين، فرشح لي أحد الأصدقاء كتاب كارليل «الأبطال وعبادة الأبطال»
Heroes and Hero-Worship
فقرأت الفصل الذي يتحدث عن البطل كرسول، وعلمت عظمة الرسول وشجاعته وبساطته.
ولم أتمكن من الاطلاع على المزيد من الأديان في ذلك الوقت نتيجة لانشغالي بالمذاكرة استعدادا للامتحانات. ولكن رسخت في ذهني أهمية قراءة المزيد من الكتب الدينية والاطلاع على جميع الديانات الرئيسية.
ولم أستطع منع نفسي من الاطلاع على كتب الإلحاد. فمن من الهنود لم يسمع عن تشارلز برادلاف وإلحاده المزعوم. فقرأت كتابا ما عن الإلحاد، لا يحضرني اسمه الآن، لكنني لم أتأثر بالكتاب؛ فقد تجاوزت تيه الإلحاد بالفعل، وزاد تحول السيدة بيسانت، التي كانت مشهورة حينها، من الإلحاد إلى الإيمان بوجود الإله من بغضي للإلحاد. وقرأت كتابها الذي يحمل عنوان «كيف أصبحت ثيوصوفية»
How I became a Theosophist .
في ذات الوقت تقريبا، توفي برادلاف، ودفن في مقبرة ووكينج، وشيعت الجنازة كما شيعها - على ما أظن - جميع الهنود المقيمين بلندن، وحضر عدد من رجال الدين لتأدية القداس الأخير، وكان علينا انتظار القطار في طريق عودتنا من الجنازة، فقام أحد الملحدين وحاول إحراج أحد رجال الدين قائلا: «حسنا يا سيدي، هل تؤمن بوجود الإله؟»
قال الرجل الصالح بصوت منخفض: «أجل.»
قال الملحد بابتسامة مليئة بالثقة: «وتتفق معي أن محيط الأرض يبلغ 28000 ميل، أليس كذلك؟»
قال رجل الدين: «بالطبع.»
قال الملحد: «إذن أخبرني ما حجم إلهك وأين هو؟»
قال رجل الدين: «حسنا، إننا لو عرفناه حقا لعرفنا أنه يسكن قلبي وقلبك.»
قال الملحد متوجها إلينا وتعلو وجهه نظرة النصر: «لا تسخر مني الآن كأني طفل.»
فلزم رجل الدين الصمت بتواضع.
كانت هذه الواقعة من الأمور التي زادت من استنكاري للإلحاد.
الفصل الحادي والعشرون
راما، نصير من لا نصير له1
لقد اكتسبت معرفة طفيفة عن الهندوسية وغيرها من أديان العالم، ومع ذلك، كان علي إدراك أن ذلك لا يكفي لتخليصي من محني، فالمرء لا يعرف ما ينجيه في وقت المحن ولا يملك وقتها أدنى فكرة عنه، فإن كان ملحدا، فسيعول نجاته على الحظ، وأما إن كان مؤمنا فسيرجع الفضل في إنقاذه إلى الإله. وقد يعتقد أن دراسته الدينية أو ممارساته الروحانية هي السبب فيما أنعم به الإله عليه. لكنه لا يعلم وقت إنقاذه هل كانت ممارساته الروحانية هي التي أنقذته أم غيرها. وكم ممن يفتخرون بقوة إيمانهم رأوا تلك القوة وهي تخر إلى التراب؟ فالمعرفة بالدين، مقارنة بالخبرة العملية به، ليس لها قيمة في أوقات المحن.
شهدت إنجلترا أولى لحظات اكتشافي لحقيقة عبث المعرفة الدينية المجردة من التجربة العملية. ولا أعلم الأسباب التي أنقذتني من محني السابقة، فقد كنت شديد الصغر، لكنني الآن أبلغ من العمر عشرين عاما، واكتسبت مزيدا من الخبرة كزوج وأب.
دعيت أنا وصديق هندي في السنة الأخيرة من إقامتي في إنجلترا في عام 1890م إلى مؤتمر نباتي عقد في بورتسماوث
، وهي مدينة ساحلية تضم عددا هائلا من المجندين في البحرية، وتنتشر في بورتسماوث المنازل التي تقطنها سيدات سيئات السمعة، لا أقول إنهن عاهرات، ولكن من ناحية أخرى تثار حول أخلاقهن كثير من الشكوك، وقد أنزلنا القائمون على المؤتمر بأحد هذه المنازل، وبالطبع لم تكن لجنة الاستقبال على علم بحقيقة المكان؛ فليس من السهل على مسافرين عابرين مثلنا معرفة أي المساكن حسنة السمعة وأيها سيئ السمعة في مدينة مثل بورتسماوث.
عدنا من المؤتمر في المساء. وجلسنا بعد تناول العشاء للعب الورق (الكوتشينة)، فانضمت إلينا مالكة المنزل، وهذا أمر مألوف في إنجلترا حتى في المنازل المحترمة. وأخذ كل لاعب في إطلاق النكات البريئة لتمضية الوقت، لكن رفيقي ومالكة المنزل أخذا في إطلاق المزاحات البذيئة، ولم أكن أدري أن صديقي ماهر في مثل هذه الأمور. راقتني تلك المزاحات، فانضممت إليهما، وما إن هممت بتجاوز حدود الأدب، وتركت أوراق اللعب وانصرفت عن اللعبة، حتى أجرى الإله على لسان رفيقي التحذير المبارك: «من أين يأتي هذا الشر الذي بداخلك يا فتى؟ انصرف على الفور!»
شعرت حينها بالخزي، فتقبلت التحذير وشعرت بالامتنان لصديقي. وفررت من المكان حين تذكرت عهدي الذي قطعته لوالدتي. وذهبت إلى غرفتي وأنا أرتعد وقلبي يخفق كطريدة فرت من مطاردها.
أتذكر أن هذه كانت المرة الأولى التي تثيرني امرأة غير زوجتي. لم أنم تلك الليلة، وراودتني أفكار شتى. فهل يجب علي مغادرة هذا المنزل؟ هل ينبغي لي أن أهرب من المكان؟ أين كان عقلي؟ ماذا كان سيحدث لو لم أتمالك نفسي؟ فقررت من وقتها أن أتصرف بحذر أكبر، وألا أغادر المنزل فحسب بل بورتسماوث كلها. لم يتبق على المؤتمر سوى يومين على أكثر تقدير، فرحلت عن بورتسماوث في الليلة التالية. أما صديقي، فمكث في المدينة لبعض الوقت.
لم أكن في ذلك الوقت على دراية بجوهر الدين أو الإله وكيف يتدخل في مصائرنا. واستطعت فقط أن أدرك، بصورة مبهمة، أن الإله هو الذي أنقذني من هذه المحنة، وكان هو الذي طالما أنقذني من جميع محني. أعلم أن عبارة «أنقذني الإله» تحمل معنى أعمق بداخلي الآن، مع أنني لا أزال أشعر بأنني لم أدرك معناها كليا حتى الآن، فأنا في حاجة إلى المزيد من الخبرة كي أستطيع فهمها بصورة أكثر شمولا. لكن ما أدركه حقا هو أن الإله أنجاني في جميع المحن التي مررت بها - المحن ذات الطبيعة الروحانية، وكمحام، وعند إدارة المؤسسات، وفي السياسة. عندما كنت أفقد الأمل «وعندما يفشل الأصدقاء في مساعدتي وتتبدد محاولات مواساتي»، كنت أجد العون يأتيني من العدم. التضرع والعبادة والصلاة ليست خرافات، بل هي أفعال حقيقية أكثر واقعية حتى من الأكل والشرب والجلوس والسير. ولن أكون مبالغا إذا قلت إنها الأفعال الوحيدة الحقيقية وما عداها زائف.
تلك العبادة أو الصلاة ليست عبارة عن فصاحة أو ثناء كاذب، بل أفعال تنبع من القلب. وهكذا، إذا ما نجحنا في تطهير قلوبنا بأن «نملأها بالحب، والحب فقط»، ونجحنا في المحافظة على جميع الأوتار في لحن متناغم، «نجدها تذوب في الموسيقى مختفية بذلك عن الأنظار.» فالصلاة لا تحتاج إلى الكلام، لأنها غنية بذاتها عن أي مجهود حسي. ولا يساورني أدنى شك حول كون الصلاة وسيلة ناجحة لتطهير القلب من الأهواء، لكن يجب أن يصاحبها تواضع تام.
هوامش
الفصل الثاني والعشرون
نارايان همشاندرا
زار إنجلترا في ذلك الوقت رجل هندي شهير هو نارايان همشاندرا. وقد علمت أنه يعمل كاتبا، فقابلته في منزل الآنسة مانينج، العضوة في الجمعية الوطنية الهندية، والتي كانت على علم بعدم قدرتي على التواصل الاجتماعي. فعندما كنت أزورها، كنت أجلس دون أن أتفوه بكلمة، ولا أتحدث إلا إذا خاطبني أحد. فقدمتني الآنسة مانينج إلى نارايان همشاندرا، ولم يكن نارايان يتحدث الإنجليزية. وكان زيه غريبا، يرتدي سراويلا يعوزه الذوق، ومعطفا بني اللون متسخا ورثا على الطراز الباريسي. ولم يكن مرتديا ربطة عنق أو ياقة، وكان يرتدي قبعة من الصوف يتدلى منها زر كبير. وكان ذا لحية طويلة.
كان نارايان رشيق القوام، قصير القامة، تغطي البثور الصغيرة وجهه الدائري، وأنفه بين مدببة وغير مدببة. وقد كان يمرر يده باستمرار على لحيته.
كان هذا الشخص ذو المظهر الغريب والزي العجيب مميزا في مجتمع الأناقة.
تحدثت إليه قائلا: «لقد سمعت عنك الكثير، وقرأت بعض كتاباتك، ويسعدني أن تتكرم بزيارتي في منزلي.»
كان صوت نارايان أجش إلى حد ما. فقال لي بابتسامة ترتسم على شفتيه: «بالطبع يسعدني ذلك، أين تقيم؟» - «في شارع ستور.» - «إذن نحن جيران. إني بحاجة إلى تعلم اللغة الإنجليزية، فهلا ساعدتني؟» - «يسعدني أن أعلمك كل ما لدي، وسأبذل قصارى جهدي. ويمكنني، إن كنت ترغب، أن آتي إلى منزلك.» - «لا، بل أنا الذي سوف آتي إليك، وسوف أحضر معي كتاب تمرينات على الترجمة.»
وهكذا حددنا موعدا، ثم أصبحنا صديقين مقربين في مدة وجيزة.
كان نارايان همشاندرا جاهلا بالقواعد النحوية. فكان يعتقد أن كلمة
Horse (حصان) فعل، والفعل
run (يجري) اسم، ويحضرني العديد من الأمثلة الطريفة الأخرى. لكن جهل نارايان لم يزعجه. ولم أستطع بما لدي من معرفة متواضعة بالقواعد النحوية أن أعلمه شيئا. وبالطبع، لم يعتبر أن جهله بالقواعد النحوية يمثل أي نوع من الخجل.
قال لي بعدم اكتراث تام: «لم أذهب يوما إلى المدرسة مثلك قط، ولم أشعر قط بالحاجة إلى تعلم القواعد النحوية للتعبير عن أفكاري. حسنا، هل تعرف اللغة البنجالية؟ أنا أعرفها، فقد سافرت إلى البنجال، فأنا من ترجم أعمال ماهارشي ديفندراناث طاغور إلى اللغة الجوجراتية. وأتمنى أن أترجم كنوز اللغات الأخرى أيضا إلى اللغة الجوجراتية. وإنك لتعلم أن ترجماتي لا تتسم بالحرفية، بل دائما ما أضفي عليها روح النص. بالطبع، يمكن أن يتمكن آخرون، بما لديهم من معرفة أفضل، من تقديم المزيد في هذا المجال، لكنني راض عما حققته دون الحاجة إلى القواعد النحوية. فأنا أعرف اللغة الماراثية والهندية والبنجالية ، وبدأت للتو تعلم اللغة الإنجليزية. فكل ما أحتاج إليه هو مجموعة غزيرة من المفردات. ولا تظن أن طموحي سيقف عند هذا الحد، بل أطمح في الذهاب إلى فرنسا وتعلم اللغة الفرنسية؛ فقد علمت أن اللغة الفرنسية غنية بالأدب. وأرغب في الذهاب إلى ألمانيا وتعلم الألمانية.» وهكذا أخذ يتحدث دون توقف، فقد كان يتمتع بطموح لا حد له في تعلم اللغات والسفر.
فقلت له: «لعلك سوف تذهب بعد ذلك إلى أمريكا أيضا؟» - «بالطبع، فكيف أعود إلى الهند دون أن أرى «العالم الجديد»!» - «ولكن من أين لك بالمال؟» - «وما حاجتي للمال؟ أنا لست شخصا متأنقا مثلك. فيكفيني أقل قدر من الطعام والملبس. ويمكنني أن أغطي مثل هذه المصاريف من النقود التي أحصل عليها نظير كتبي ومن أصدقائي. أنا دائما ما أسافر في الدرجة الثالثة، وعند الذهاب إلى أمريكا سأسافر على ظهر السفينة.»
كانت بساطة نارايان همشاندرا فريدة، وكانت تتماشى مع ما يتمتع به من صراحة. ولم يشب تصرفاته أي كبرياء، ما عدا تقديره المفرط لقدرته ككاتب.
كنا نتقابل يوميا، فقد كان يجمع بين أفكارنا وتصرفاتنا قدر كبير من التوافق. وكان كل منا نباتيا، فكنا كثيرا ما نتناول الغداء معا. كانت هذه المدة هي التي كنت أنفق فيها على معيشتي 17 شلنا أسبوعيا، وأطهو بنفسي. كنت في بعض الأحيان أذهب إلى مسكنه، وفي أوقات أخرى يأتي هو إلى مسكني. كنت أطهو على الطريقة الإنجليزية، وكان لا يرضى بغير الطريقة الهندية، ويحب تناول وجبة الدال الهندية. وكان يأسف على ذوقي عندما أعد شربة الجذر أو غيرها. وكان كلما وجد نبات المنج
1
طهاه وأحضره إلى مسكني، فألتهمه بشهية. أصبح هذا نظام تبادل منتظما، فكنت آخذ أطعمتي الشهية وأذهب إليه، وكان هو يحضر أطعمته الشهية إلي.
ذاع صيت الكاردينال مانينج في تلك الآونة؛ فقد أسفرت مساعيه هو وجون بيرنز عن إنهاء إضراب عمال الميناء. وأخبرت نارايان همشاندرا عن تقدير ديزرائيلي
2
لبساطة الكاردينال، فأجابني قائلا: «إذن، يجب أن أرى ذلك الرجل الحكيم.» فقلت له: «إنه من الشخصيات المهمة . فكيف ستستطيع مقابلته؟» فرد قائلا: «لا أجد صعوبة في الأمر، وأنا أعلم كيف سأقابله. سأجعلك تكتب له خطابا باسمي، تخبره فيه بأنني كاتب وأريد تهنئته شخصيا على عمله الإنساني. وأخبره أيضا أنني سأصطحبك معي كمترجم نظرا لعدم معرفتي باللغة الإنجليزية.»
كتبت الخطاب، وفي غضون يومين أو ثلاثة أيام وصل رد الكاردينال مانينج، وكان يحمل موعد مقابلته. وعليه، قمنا بزيارة الكاردينال. ارتديت حلة الزيارات المعتادة، أما نارايان فارتدى - كعادته - نفس المعطف ونفس السراويل. حاولت أن أسخر منه، لكنه استهزأ بي قائلا: «أنتم معشر المتمدنين جبناء. فالعظماء لا ينظرون إلى المظهر الخارجي للشخص وإنما ينظرون إلى قلبه.»
دخلنا إلى قصر الكاردينال. ولم نكد نجلس، حتى خرج علينا سيد نحيف طويل القامة وصافحنا. فتقدم نارايان بالتحية قائلا: «لا أريد أن أضيع وقتك. لقد سمعت الكثير عنك مما أشعرني بضرورة زيارتك والتوجه إليك بالشكر على كل ما قدمت إلى العمال المضربين. ويرجع سبب إزعاجي لك بهذه الزيارة إلى عادتي المتمثلة في زيارة حكماء العالم.» وبالطبع كانت هذه ترجمتي لما قاله باللغة الجوجراتية.
فرد عليه الكاردينال قائلا: «أنا مسرور بزيارتك. وأتمنى لك إقامة سعيدة في لندن، وأن تختلط بالناس هنا. فليباركك الرب!» ثم وقف وودعنا.
ذات مرة زارني نارايان مرتديا قميصا و«دهوتي».
3
وعندما فتحت له مالكة المنزل الجديدة الباب - ولم تكن قد رأته من قبل - هرعت نحوي فزعة وقالت: «هناك مخبول يريد أن يراك.» فذهبت إلى الباب وإذا بي أجد نارايان همشاندرا. لقد صدمت حقا. ومع ذلك، كانت تعتلي وجهه نفس الابتسامة التي عهدتها، فقلت له: «لكن ألم يسخر الأطفال منك في الشارع؟»
فرد علي قائلا: «حسنا، لقد ركضوا خلفي، لكنني لم آبه بهم، فسكتوا عني.»
رحل نارايان إلى باريس بعد أن أمضى بضعة أشهر في لندن. فبدأ في دراسة اللغة الفرنسية، مع ترجمة الكتب الفرنسية في الوقت نفسه. وكنت أعلم من اللغة الفرنسية ما يؤهلني لمراجعة ترجمته، لذلك كان يعرض علي تراجمه لكي أقرأها. ولم يكن ما يفعله ترجمة بمعنى الكلمة، بل كان ينقل فحوى النص.
وأخيرا، عزم نارايان على زيارة أمريكا. واستطاع بالكاد الحصول على تذكرة على ظهر سفينة. وقد حوكم في أمريكا بتهمة «ارتداء ملابس غير محتشمة» عندما خرج ذات مرة مرتديا قميصا ودهوتي. لكن برئت ساحته، حسبما أذكر.
هوامش
الفصل الثالث والعشرون
المعرض الضخم
أقيم معرض ضخم في باريس في عام 1890م. وكنت قد قرأت عن تفاصيل الإعداد له، وكنت أرغب في مشاهدة باريس. فرأيت أن من الأفضل أن أجمع بين الأمرين وأذهب في ذلك الوقت، فأحضر المعرض وأشاهد باريس. وقد جذبني إلى المعرض بصورة خاصة برج إيفل الذي شيد بأكمله من الحديد، وبلغ ارتفاعه 1000 قدم. بالطبع كانت هناك أشياء أخرى جذبتني لزيارة باريس، لكن البرج كان أهمها، حيث إنه من المفترض عدم إمكانية ثبات أي بناء بذلك الارتفاع حتى ذلك الوقت.
علمت أن هناك مطعما نباتيا في باريس، فحجزت غرفة ومكثت سبعة أيام. استطعت ترشيد مصروفاتي بصورة كبيرة سواء في رحلتي إلى باريس أو في زيارتي للمعالم السياحية هناك، فقد كنت أذهب إلى هذه المزارات السياحية سيرا على الأقدام مستعينا بخريطة باريس، التي استعنت بها للوصول إلى المعرض. فقد كانت مثل هذه الخرائط كافية لتدل الشخص على الشوارع الرئيسية والأماكن المهمة.
في الواقع، لا أذكر عن المعرض إلا ضخامته وتنوعه. لكنني أذكر جيدا برج إيفل نظرا لأنني صعدته مرتين أو ثلاث. كان هناك مطعم بالطابق الأول، فأهدرت سبعة شلنات لمجرد نيل شرف القول: إنني تناولت غدائي على مثل هذا الارتفاع الشاهق.
لا تزال صورة الكنائس القديمة بباريس مطبوعة في ذاكرتي، فهي تتمتع بفخامة وسكينة لا يمكن نسيانها. ولا يمكن نسيان روعة بناء كاتدرائية نوتردام والزخارف المتقنة للواجهة الداخلية للمبنى وما تحويه من نحوت جميلة. شعرت وقتها أن من ينفق هذه الملايين على مثل هذه الكاتدرائيات المقدسة لا يمكن أن يحتوي قلبه إلا على حب الإله.
قرأت الكثير عن أزياء باريس وعبثها، وقد كان ذلك العبث جليا في كل شارع بها، لكن الكنائس كانت تقف بارزة بعيدة عن هذه المشاهد . فما إن يدخل المرء إحدى هذه الكنائس، حتى ينسى ما عاناه من ضوضاء وصخب خارجها. وسيجد تصرفاته مختلفة، فسيتصرف بوقار وتبجيل وهو يمر بأحد الأشخاص الراكعين أمام تمثال السيدة مريم العذراء. لقد ظل الشعور الذي أحسست به حينها يلازمني، حتى إنني موقن أن الركوع والصلاة ليسا مجرد خرافات، فلا أتخيل أن تكون تلك الأرواح المخلصة الراكعة أمام السيدة مريم تعبد مجرد تمثال من الرخام. لقد التهبت في قلوبهم نيران الإخلاص الحقيقي، فهم لا يعبدون الحجر وإنما الإله الذي يمثله هذا التمثال. شعرت حينها أنهم لا ينتقصون من عظمة الإله بهذا النوع من العبادة، وإنما يزيدون في تمجيده.
وأرغب في أن أذكر ملحوظة حول برج إيفل. إلى الآن لا أعلم الغاية التي يستخدم البرج من أجلها، لكنني سمعت وقتها أن البعض مجده والبعض الآخر انتقده. وكان تولستوي أهم من انتقد تشييده. فقال: إن برج إيفل هو نصب تذكاري يخلد حماقة الإنسان لا حكمته. وزعم تولستوي أن التدخين هو أشر المسكرات؛ حيث إن مدمن التدخين يشرع في ارتكاب جرائم لا يجرؤ السكير أبدا على اقترافها. فالخمر يجعل من الإنسان مجنونا، أما التدخين فيحجب عقله ويجعله يبني قلاعا في الهواء. برج إيفل هو نتاج الإنسان وهو تحت مثل ذلك التأثير. فما الفن الذي يمثله برج إيفل؟ لا يمكن القول بأنه أسهم في إضافة لمسة جمال حقيقية إلى المعرض. اندفعت حشود الناس لمشاهدة البرج وتسلقوه لأنه كان شيئا جديدا وفريدا من حيث حجمه. فكان البرج اللعبة المسلية في المعرض التي ننجذب إليها ما دمنا أطفالا. وقد كان البرج إثباتا جيدا لحقيقة كوننا جميعا أطفالا ننجذب إلى الألعاب. إن هذا هو الغرض من برج إيفل.
الفصل الرابع والعشرون
«عضو في النقابة»، وماذا بعد؟
لم أتطرق حتى الآن إلى الغرض الذي سافرت من أجله إلى إنجلترا، ألا وهو أن أصبح عضوا في نقابة المحامين. والآن سأشير إلى هذه الجزئية بإيجاز.
كان على الطالب أن يستوفي شرطين قبل أن يصبح محاميا معترفا به: أولهما، «الحفاظ على حضور الفصول الدراسية»، وهي اثنا عشر فصلا دراسيا، وهو ما يعادل ثلاث سنوات. والشرط الثاني هو اجتياز الامتحانات. «الحفاظ على حضور الفصول الدراسية» كان يقصد به حضور ست مآدب على الأقل من أصل أربعة وعشرين مأدبة في كل فصل دراسي، ولا يعني هذا ضرورة تناول الطعام، وإنما تسجيل الحضور في الأوقات المحددة والمكوث طوال مدة المأدبة. وبطبيعة الحال، كان الطلاب يأكلون أفضل أنواع الطعام الذي يقدم ويتناولون أجود أنواع النبيذ. كانت الوجبة تتكلف من شلنين وستة بنسات إلى ثلاثة شلنات وستة بنسات، وهو ما يعادل روبيتين أو ثلاث روبيات. كانت هذه التكلفة معقولة، فالشخص يمكن أن يدفع المبلغ ذاته للحصول على النبيذ وحده في أي فندق. وقد يمثل هذا الأمر صدمة لنا، من غير «المتمدنين»، في الهند. فكيف تتجاوز تكلفة الشراب تكلفة الطعام؟ لقد صدمت بشدة عند علمي لأول مرة بهذا الأمر، وعجبت من الذين ينفقون كل هذه الأموال على الشراب، لكنني أدركت السبب فيما بعد. كثيرا ما كنت أمتنع عن تناول أي أطعمة في هذه المآدب، ولكن كان من الممكن أن أتناول الخبز والبطاطس المقلية والكرنب فقط. في بادئ الأمر لم أتناول حتى هذه الأطعمة لأنني لم أشتهها، لكن فيما بعد أصبحت أستسيغ طعمها، بل واتتني الشجاعة لطلب المزيد من ألوان الطعام.
كان الطعام الذي يقدم لأعضاء مجلس إدارة الجمعية القانونية أفضل من الطعام المقدم للطلبة، فقمت أنا وطالب بارسي بالتقدم بطلب للحصول على وجبات نباتية كتلك التي كانت تقدم إلى أعضاء مجلس الإدارة، وتمت الموافقة على الطلب وبدأنا في تناول الفاكهة وغيرها من الخضروات من طاولة أعضاء المجلس.
كان من حق كل مجموعة من أربعة طلاب الحصول على زجاجتين من النبيذ. ونظرا لعدم تناولي للخمر كان الطلاب يتكالبون علي للانضمام إلى مجموعتهم ومن ثم تقسم الزجاجتان على ثلاثة بدلا من أربعة. وفي كل فصل دراسي كانت تقام «حفلة ضخمة» حيث تقدم الخمور الممتازة كالشمبانيا، بالإضافة إلى البورت والشيري.
1
فكان الطلاب يطلبونني بالاسم كي أحضر معهم تلك «الحفلة الضخمة».
لم أدرك حينها أهمية إقامة هذه المآدب في تأهيل الطلبة على نحو أفضل للالتحاق بالنقابة. وفي وقت ما، كان يحضر هذه المآدب عدد قليل فقط من الطلبة، ولذا كانت هناك فرصة أكبر للتحدث إلى أعضاء مجلس الإدارة بالإضافة إلى إلقاء الخطب. وساعد هذا على اكتساب الطلبة معرفة عامة عن الحياة بصورة مهذبة ودقيقة، وساعد أيضا على تحسين مهارات التحدث لديهم، لكن هذا لم يكن ممكنا في الوقت الذي كنت أدرس فيه في جمعية القانون، فقد كان أعضاء المجلس وقتها يجلسون على طاولة منفصلة. وأخذت الجمعية تفقد أهميتها تدريجيا لكن إنجلترا المحافظة أبقت عليها.
كان المنهج الدراسي سهلا، وكان يطلق على المحامين استخفافا «محامو المآدب». فكنا نعلم أن لا قيمة فعلية للامتحانات. وكنا نخضع وقتها إلى امتحانين، أحدهما في القانون الروماني والآخر في القانون العام. كان علينا مذاكرة كتب دراسية بعينها لاجتياز تلك الامتحانات، وكان من الممكن قراءتها كتابا كتابا، لكن نادرا ما كان يقرؤها الطلبة. أعرف الكثير من الطلبة الذين استطاعوا اجتياز امتحان القانون الروماني بتصفح ملخصات دراسية تتناول المادة في أسبوعين، واجتياز امتحان القانون العام بالاطلاع على ملخصات تتناول الموضوع في شهرين أو ثلاثة أشهر. كانت أسئلة الامتحانات سهلة، وكان الممتحنون كرماء للغاية، فكانت نسبة النجاح في امتحان القانون الروماني من 95 إلى 99٪، وأما في الامتحان النهائي فكانت النسبة تصل إلى 75٪ أو ما يزيد على ذلك. وبذلك لم يكن هناك ما يدعو إلى الخوف من الإخفاق. وكانت الامتحانات تعقد على أربع فترات في العام الدراسي وليس مرة واحدة. فلم يكن الأمر صعبا.
ومع كل ذلك، نجحت في الجمع بينها جميعا. فرأيت أنه من الضروري أن أقرأ جميع الكتب الدراسية، وذلك لأن عدم قراءتي لها يعتبر خداعا، وقد أنفقت الكثير من المال على هذه الكتب. قررت أن أقرأ القانون الروماني باللغة اللاتينية، وساعدني على ذلك ما تعلمت من اللغة اللاتينية استعدادا لامتحان القبول بجامعة لندن. وقد عادت علي هذه القراءات بعظيم النفع عندما رحلت إلى جنوب أفريقيا، حيث كان القانون الروماني الهولندي هو القانون العام. وساعدتني قراءة قوانين الإمبراطور جستنيان الأول على استيعاب قانون جنوب أفريقيا.
لقد استغرقت قراءة القانون العام الإنجليزي تسعة أشهر من الجهد المضني. وقد استغرقت وقتا كثيرا في قراءة كتاب «القانون العام»
Common Law
الذي يذكر فيه هيربرت بروم تعليقاته على القانون العام، وهو كتاب شيق مع ضخامته. أما كتاب سنيل الذي يحمل عنوان «المساواة»
Equity ، فكان زاخرا بالمعلومات، لكنني كنت أجد بعض الصعوبة في فهمه. وكان كتاب «قضايا وايت وتودور الرئيسية»
White and Tudor’s Leading Cases
مليئا بالمعرفة والتوجيهات. علاوة على ذلك، قرأت أيضا كتاب ويليامز وإدواردز «الملكية العقارية»
Real
، وكتاب جوديف «الملكية الشخصية»
، وكانت طريقة عرض كتاب ويليامز تشبه الرواية. أما الكتاب الوحيد الذي أذكر قراءته بعد أن عدت إلى الهند بنفس التشويق، فهو كتاب «القانون الهندي»
Hindu Law
لماين. على كل حال، ليس هذا مقام تناول القوانين الهندية.
اجتزت الامتحانات، وأصبحت عضوا في النقابة في العاشر من يونيو/حزيران 1891م، وأدرجت اسمي في المحكمة العليا في الحادي عشر من نفس الشهر. وفي يوم الثاني عشر، أبحرت عائدا إلى الوطن.
ومع دراستي في إنجلترا، لم أستطع وضع حد لعجزي وخوفي. فشعرت بأنني غير مؤهل لممارسة المحاماة.
أما ذلك العجز فيحتاج فصلا كاملا لتناوله.
هوامش
الفصل الخامس والعشرون
عجزي
لم يكن من الصعب الالتحاق بالنقابة، لكن المشكلة كانت تتمثل في ممارستي للمهنة، فقد قرأت القوانين، لكنني لم أتعلم كيف أمارس المحاماة. وقرأت أيضا «أحكام القانون»، لكنني لم أتعلم كيفية تطبيقها عمليا، ومن هذه الأحكام: «يحق للشخص استخدام ملكيته، شريطة ألا يضر بملكية الغير.» لكنني لم أعرف كيف أستغل هذا الحكم لصالح موكلي. وقرأت جميع القضايا الرئيسية المتعلقة بهذا الحكم، إلا أن ذلك لم يمنحني الثقة بتطبيقه في الحياة المهنية.
إضافة إلى ذلك، لم أكن أعلم شيئا عن القانون الهندي، فلم يكن لدي أدنى فكرة عن القانون الهندوسي أو الشريعة الإسلامية، ولم أتعلم حتى كيفية رفع الدعوى. وكنت أشعر كأني غريق في بحر خضم. سمعت أن السيد فيروزشاه ميهتا من المحامين الذين يزأرون كالأسود في قاعة المحكمة. تعجبت كيف استطاع أن يتعلم التحدث بهذه الفصاحة في إنجلترا! كان يستحيل أن أكتسب مثل خبرته القانونية، لكن ساورتني الهواجس حول ما إذا كنت سأتمكن من كسب عيشي بممارسة مهنة المحاماة أم لا.
لقد أعيتني هذه الهواجس والظنون وكنت لا أزال أدرس القانون، أسررت بهذه العقبات إلى بعض أصدقائي، فاقترح علي أحدهم طلب النصيحة من السيد دادبهاي ناوروجي. ذكرت سابقا في أحد الفصول أنه عند ذهابي إلى إنجلترا كنت أحمل خطاب توصية إلى السيد دادابهاي، لكنني استخدمته في مرحلة متأخرة، فقد اعتقدت أنه لا يصح أن أزعج مثل ذلك الرجل العظيم بمقابلتي. وكنت كلما سمعت عن إلقائه لكلمة، ذهبت واستمعت إليه من أحد أركان القاعة، ثم أرحل بعد أن أملي نظري ومسامعي منه. وقد أنشأ السيد دادابهاي جمعية ليتقرب من الطلبة، واعتدت حضور اجتماعاتها، وأسعدني اهتمام السيد دادابهاي بالطلبة، واحترام الطلبة له. وبمرور الوقت، واتتني الشجاعة لأقدم له خطاب التوصية، فقال لي: «يمكنك طلب النصيحة مني وقتما شئت.» لكنني لم أستغل هذا العرض مطلقا. فقد كنت أرى أنه من غير اللائق أن أزعجه دون ضرورة ملحة. وهكذا، لم أجرؤ على المخاطرة بقبول اقتراح صديقي بعرض العقبات التي أواجهها على السيد دادابهاي في ذلك الوقت. ولا أذكر إذا كان صديقي هذا نفسه أو صديق غيره هو الذي نصحني بمقابلة السيد فريدريك بينكت الذي كان من المحافظين، ومع ذلك كان ولعه بالطلبة الهنود خالصا ويتسم بالإيثار. كان العديد من الطلاب يلجئون إليه طالبين النصيحة، وقد طلبت مقابلته، فوافق، لا أستطيع أن أنسى أبدا هذه المقابلة. فقد استقبلني كواحد من أصدقائه، وصرف عني شقائي بالضحك. قال لي: «هل تعتقد أنه يجب أن يكون جميع الناس مثل فيروزشاه ميهتا؟ إن أمثال فيروزشاه وبدر الدين قلما تجدهم. تأكد من أن الأمر لا يستلزم مهارة فائقة لتصبح محاميا متوسط المستوى، فيكفي النزاهة والمثابرة كي تكسب رزقك، وتأكد أنه لا توجد قضايا معقدة. حسنا، أطلعني على قراءاتك.»
رأيت في عينيه خيبة أمل عندما أخبرته بحجم قراءاتي المتواضع. ولكن ما هي إلا لحظات حتى أشرق وجهه بابتسامة مشعة قائلا: «أنا أدرك مشكلتك، فقراءاتك العامة ضئيلة، ولا تعرف شيئا عن العالم من حولك، وهذا عنصر أساسي يجب أن يتحلى به كل محام. أنت لم تقرأ حتى عن تاريخ الهند. يجب أن يكون المحامي عالما بالطبيعة البشرية، وأن يكون قادرا على قراءة الشخص من مجرد النظر إلى وجهه. ويجب على كل هندي أن يعرف تاريخ بلاده، وهو الأمر الذي لا يتعلق بممارسة المحاماة، وإنما معرفة عامة يجب أن تحيط بها. أرى أنك لم تقرأ حتى تاريخ «ثورة 1857م» لكاي وماليسون. ابدأ على الفور في قراءة ذلك الكتاب، بالإضافة إلى كتابين آخرين لتفهم الطبيعة البشرية.» وقد كان الكتابان هما كتابا لافاتور وشيميلبينيك حول علم الفراسة.
كنت ممتنا للغاية لهذا الصديق الجليل، فكانت تذهب عني جميع مخاوفي وهو معي، لكن ما إن أتركه حتى تعود. وفي طريق عودتي إلى المنزل وأنا أفكر في الكتابين طاردتني عبارة «قراءة الشخص من مجرد النظر إلى وجهه». في اليوم التالي، اشتريت كتاب لافاتور، لكنني لم أستطع شراء كتاب شيميلبينيك لأنه لم يكن متاحا في المتجر. عندما قرأت كتاب لافاتور وجدته أكثر صعوبة من كتاب سنيل «المساواة»، وغير مشوق إلى حد بعيد. درست فراسة شكسبير، إلا أنني لم أستطع اكتساب مهارة اكتشاف سبب هيامه في شوارع لندن.
لم يضف كتاب لافاتور إلى معلوماتي. فنصيحة السيد بينكت لم تقدم لي مساعدة مباشرة، لكن عطفه ساعدني كثيرا. طبعت في ذاكرتي طلعته البشوشة ووجهه الباسم، وآمنت بنصيحته حين أخبرني أن فراسة السيد فيروزشاه ميهتا نادرة، وأنه ليس من الضروري التمتع بالذاكرة والقدرة، بل النزاهة والمثابرة يكفيان لصناعة محام ناجح. وقد شعرت ببعض الطمأنينة نتيجة لتوافر هاتين الصفتين في.
لم أتمكن من قراءة كتب كاي وماليسون في إنجلترا، لكنني تمكنت من ذلك في جنوب أفريقيا حيث جعلتها من أولوياتي.
هكذا، وبقليل من الأمل ممزوجا باليأس، رست السفينة «إس إس أسام»
S. S. Assam
في بومباي. وكان البحر مضطربا في الميناء، فاضطررت لبلوغ الرصيف بواسطة زورق بخاري .
الجزء
قصة تجاربي مع الحقيقة
الفصل الأول
رايشاندباي
ذكرت في الفصل السابق أن البحر كان مضطربا في ميناء بومباي، وهو أمر كثيرا ما يحدث في بحر العرب في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز. وكان البحر متلاطم الأمواج طوال الطريق من ميناء عدن. عانى جميع الركاب تقريبا دوار البحر ما عداي. فقد كنت على ظهر السفينة أراقب الموج العاصف، وأستمتع برذاذ الأمواج. في وقت الإفطار، كنت أجد واحدا أو اثنين فقط من الركاب يتناولون عصيدة الشوفان المجروش ويمسكون الأطباق بحذر خشية أن تنسكب العصيدة.
كانت هذه العاصفة الخارجية رمزا للعاصفة التي اجتاحتني من الداخل، ويمكنني القول: إن تلك العاصفة الداخلية عجزت عن زعزعتي، وهو ما عجزت عنه العاصفة الخارجية أيضا. فقد كان علي مواجهة الطائفة، وكان هناك مشكلة البدء في ممارسة المحاماة، التي سبق أن أشرت إلى عجزي عنها. ونظرا لولعي بالإصلاح وممارستي لدور المصلح، ألقيت على كاهلي أعباء ثقيلة لإنجاز بعض الإصلاحات. لكن هذا لم يكن كل شيء، فلقد كان القدر يخبئ لي في جعبته أحداثا تخطت جميع توقعاتي.
حضر أخي لاستقبالي على رصيف الميناء، فتعرف إلى الطبيب ميهتا وأخيه الأكبر. أصر الدكتور ميهتا على استضافتي في منزله، فذهبنا جميعا إلى هناك. وهكذا، استمرت الصداقة التي بدأت في إنجلترا وتطورت حتى صارت صداقة دائمة بين العائلتين.
كنت أتوق بشدة لرؤية والدتي، ولم أكن أعلم أنها قد فارقت الحياة ولن تستطيع أن تحتضنني بين ذراعيها وتضمني إلى صدرها مرة أخرى. قمت بالاغتسال
1
عند سماعي الخبر. وكان أخي قد أخفى عني خبر الوفاة التي وقعت أثناء إقامتي بإنجلترا حرصا منه على ألا أعاني ويلات تلك الفاجعة وأنا بعيد عن الوطن. على كل حال، كان وقع الخبر علي شديدا، لكن من الأفضل ألا أسهب في الحديث عن هذه الحادثة، فقد كان حزني على وفاة والدتي أشد منه على وفاة والدي، حيث تبددت أغلب آمالي الغالية، غير أنني أذكر أني لم أتماد في التعبير عن حزني إلى الحد الذي يخرجني عن الوقار. واستطعت أن أكتم دموعي وأحزاني وأن أمارس حياتي كأن شيئا لم يكن.
قدمني الدكتور ميهتا إلى العديد من الأصدقاء ، من ضمنهم أخيه شري ريفاشانكار جاجيفان الذي نشأت بيني وبينه صداقة استمرت مدى الحياة. ومن أهم من قدمني إليهم الدكتور ميهتا هو الشاعر رايشاند أو راجشاندرا، وهو صهر أحد إخوة الطبيب ميهتا الكبار وشريك في شركة تجارة الجواهر التي كانت تحمل اسم ريفاشانكار جاجيفان. لم يكن رايشاند قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره آنذاك، لكنني كنت على قناعة تامة منذ أول لقاء لنا أنه رجل ذو شخصية عظيمة وعلم واسع. وكان يعرف باسم «شاتافاداني» (من يمتلك ملكة تذكر الكثير من الأشياء في وقت واحد)، واقترح علي الدكتور ميهتا أن أختبر بعض مهارات الذاكرة التي يتمتع بها، فتحدثت مستنفدا جميع ما لدي من مفردات في جميع اللغات الأوروبية التي أعرفها، ثم طلبت من رايشاند أن يكررها، وكان من المذهل حقا أنه أعادها بنفس الترتيب الذي تلوتها به. لقد غبطته على موهبته لكن دون الافتتان بها. كان ما أذهلني حقا هو إلمامه الواسع بالكتب المقدسة وشخصيته النقية وعاطفته المتوهجة لتحقيق الذات. وقد اكتشفت فيما بعد أن هدفه الأوحد في الحياة كان تحقيق الذات. كان دائما ما يردد الأبيات التالية للحكيم موكتاناند:
لن أعتبر نفسي مباركا حتى أراه في كل أفعالي اليومية،
حقا إنه الخيط الذي يدعم حياة موكتاناند.
بلغت معاملات رايشاندباي التجارية مئات الآلاف حيث كان يعمل خبيرا في اللؤلؤ والماس، ولم تكن تستعصي عليه أي مشكلة في العمل. لكن كل هذا لم يكن المحور الرئيسي لحياته، إنما كان رؤية الإله وجها لوجه. تجد باستمرار - ضمن ما تجد من متعلقات على طاولته - بعض الكتب الدينية ودفتر مذكراته. وكان كلما انتهى من العمل اطلع على هذه الكتب الدينية أو فتح دفتر مذكراته. وتعد معظم كتاباته المنشورة نسخة طبق الأصل من هذه المذكرات. الشخص الذي يبدأ في الكتابة عن جوانب الروح الخفية مباشرة بعد أن ينهي حديثه عن الأعمال التجارية الضخمة، لا يمكن أن يكون رجل أعمال على الإطلاق، بل هو باحث عن «الحقيقة». وهكذا كنت أراه مستغرقا في السعي خلف الحقائق الإلهية في غمرة الأعمال التجارية، وليس لمرة أو مرتين فحسب بل في أغلب الأحيان. ولم أر رايشاندباي يفقد توازنه قط. كانت تربطني به علاقة قوية مع عدم وجود أي منفعة شخصية أو تجارة بيننا تلزمه بالحفاظ على علاقته بي. كنت في ذلك الوقت لا أزال محاميا بلا موكلين، وكان كلما رآني حدثني عن مسألة دينية، وكنت لا أزال أتخبط حينها ولم يكن لدي أي اهتمام حقيقي بالمناقشات الدينية، لكنني مع ذلك وجدت حديثه مشوقا. ومنذ ذلك الحين قابلت عددا من الزعماء والمعلمين الدينيين. وحاولت لقاء زعماء الكثير من الديانات، لكنني مع ذلك لم أتأثر بأي منهم مثلما تأثرت برايشاندباي، لقد مست كلماته شغاف قلبي. ولقد شعرت بالإجلال العظيم لفكره بنفس القدر الذي شعرت به نحو التزامه الأخلاقي. وكان لدي إيمان راسخ بداخلي أنه لن يضللني، وأنه سيفضي إلي بأعمق أفكاره. ومن ثم، كان هو ملجئي في أوقات الأزمات الروحانية.
ومع كل هذا الإجلال الذي كنت أكنه له، لم أستطع أن أتخذه معلما روحيا (جورو)، فقد ظل العرش المخصص لمعلمي الروحي في قلبي شاغرا واستمر بحثي.
أنا أؤمن بالنظرية الهندوسية التي تتناول فكرة المعلم الروحي وأهميته في الإدراك الروحاني، وأعتقد أن المذهب الذي يقول إن المعرفة الحقيقية مستحيلة دون وجود معلم روحي ينطوي على الكثير من الصحة. فيمكن أن يتسامح المرء إذا ما وجد معلما متواضعا للأمور الدنيوية، إلا أنه لا مجال للتسامح عند التطرق إلى الأمور الدينية. فلا يستحق أن يعتلي عرش المعلم الروحي إلا معلم مثالي. ولذلك يجب أن يكون هناك سعي دائم خلف الكمال حتى يجد المرء المعلم الروحي الحق. والسعي اللانهائي خلف الكمال هو حق للجميع، وهو الجزاء الذي ينتظرونه. أما ما تبقى فهو بيد الإله.
ومع أني لم أتمكن من تتويج رايشاندباي على عرش معلمي الروحي، فسنرى كيف كان مرشدي ومعاوني في الكثير من الحوادث. تأثرت حياتي للغاية بثلاثة من المعاصرين: رايشاندباي بعلاقتي المباشرة به، وتولستوي من كتابه «مملكة الإله تكمن بداخلك»
The Kingdom of God is Within You ، وراسكين في كتابه «حتى الرجل الأخير »
Unto this Last .
هوامش
الفصل الثاني
كيف بدأت حياتي
بنى أخي علي آمالا عريضة. وكان لديه طموح كبير للثروة والسمعة والشهرة. وقد كان طيب القلب وكريما لدرجة قد تؤخذ عليه، وقد أدى هذا مقترنا بطبيعته البسيطة إلى انجذاب عدد كبير من الأصدقاء إليه، الذين كان يأمل في أن يحضروا موكلين لأعمل لمصلحتهم. وافترض أنني سأحظى بالكثير من القضايا، فزاد من نفقات المنزل بصورة ضخمة. لقد ذلل لي جميع العقبات التي قد تعترض طريق ممارستي للمهنة. وكانت ثورة الطائفة بسبب رحلتي إلى الخارج لا تزال قائمة. وقد انقسمت الطائفة إلى مجموعتين، قبلت إحداهما عودتي على الفور، أما الأخرى فصممت على نبذي من الطائفة. ولإرضاء المجموعة السالفة، أخذني أخي إلى ناسيك
Nasik
قبل التوجه إلى راجكوت، واغتسلت في مياه النهر المقدس، وعند بلوغنا راجكوت، أقام مأدبة للطائفة. لم يعجبني كل هذا، لكن حب أخي لي كان بلا حدود وكذلك كان إخلاصي له. وهكذا، تصرفت بصورة تلقائية وفق رغبته ملتزما بإرادته كأنها قانون ملزم. وبذلك انتهت المشكلة المتعلقة بعودتي إلى الطائفة تقريبا.
لم أحاول قط الحصول على قبول المجموعة التي رفضت قبول عودتي. ولم أشعر حتى بالاستياء تجاه أي من زعماء تلك المجموعة. ومع أن بعض هؤلاء الزعماء قابلوني ببغض، حرصت على ألا أجرح مشاعرهم. احترمت أحكام الطائفة التي تتناول العزل تماما. وبموجب هذه الأحكام، لا يمكن لأي من أقربائي استضافتي، ولا سيما والد ووالدة زوجتي، وحتى أختي وزوجها، فلا يمكنني حتى أن أتناول كوبا من الماء في منزل أي منهم. وكان أقربائي مستعدين لمساعدتي سرا وتجنب الحظر، لكنني لم أشأ أن أفعل في السر ما لا أستطيع فعله في العلانية.
ساعدني تصرفي هذا في عدم تعرض الطائفة لي قط، بل إنني حزت إعجاب وكرم غالبية المجموعة التي كان أعضاؤها لا يزالون يعتبرونني معزولا. بل إن هؤلاء ساعدوني في عملي دون توقع مقابل يعود مني على الطائفة. أعتقد أن كل هذه الأشياء الطيبة ترجع لعدم مقاومتي لقرارهم، فلو كنت ثرت من أجل إعادتي للطائفة أو حاولت شقها إلى أقسام أو استثرت رجالها، لسعوا للانتقام مني. وحينها كنت سأجد نفسي عند عودتي من إنجلترا وسط دوامة من الاهتياج وربما طرفا في خداع بدلا من تجنب العاصفة.
لم تصبح علاقتي بزوجتي كما كنت أتمنى. فحتى إقامتي في إنجلترا لم تطفئ نيران الغيرة التي تلتهب بداخلي. فاستمرت وساوسي وشكوكي فيما يتعلق بكل التفاصيل الصغيرة، ومن ثم ظلت الأماني التي كنت أنشدها مجرد آمال، فقررت أن تتعلم زوجتي القراءة والكتابة، وأن أساعدها في دراستها، لكن شهوتي حالت دون ذلك، فكان عليها أن تعاني جراء ضعفي. ذات مرة مددت مدة إقامة زوجتي لدى والديها، ولم أوافق على عودتها إلى المنزل إلا بعد أن أجعلها تشعر بالأسى التام، وقد اكتشفت بعد ذلك أن كل ما كنت أفعل إنما هو حماقة مني.
سعيت إلى إحداث إصلاح في مجال تعليم الأطفال، فكان لدى أخي أطفال وكان ابني الذي تركته عندما ذهبت إلى إنجلترا قد ناهز الرابعة حينها، وأردت أن أعلم هؤلاء الصغار التدريبات البدنية وأن أجعلهم أقوياء، بالإضافة إلى مساعدتهم بتوجيهي الشخصي، وقد أعانني أخي على ذلك، فنجحت في مسعاي بقدر ما. وكنت أحب رفقة الأطفال، وها هي عادة اللعب والمزاح معهم تلازمني حتى وقتنا هذا، ومنذ ذلك الحين، اعتقدت أنه يمكنني أن أكون معلما جيدا للأطفال.
وكانت هناك حاجة ملحة «للإصلاح» الغذائي، كان المنزل يحوي الشاي والقهوة بالفعل، ورأى أخي أنه يجب أن يوفر لي نوعا من المناخ الإنجليزي عند عودتي، ومن ثم أصبح استخدام الآنية الفخارية وغيرها من الأشياء التي كنا نستخدمها فقط في المناسبات الخاصة أمرا مألوفا، لكن «إصلاحاتي» أضافت اللمسة الأخيرة، فقدمت عصيدة الشوفان المجروش واستبدلت الكاكاو بالشاي والقهوة، لكنه في الواقع أصبح إضافة إلى الشاي والقهوة. وكان استخدام الأحذية والأحذية طويلة الرقبة شائعا بالفعل، لكنني أكملت إضفاء صبغة الحياة الأوروبية بإضافة الزي الأوروبي.
أدى كل ذلك إلى زيادة نفقاتنا، وكان هناك أشياء جديدة تضاف يوما بعد يوم، ولا عجب إذ إننا قد أسرفنا في النفقات، أو كما يقال ربطنا فيلا أبيض على باب منزلنا، ولكن من أين لنا أن نسدد تلك النفقات؟ إن بداية ممارسة المحاماة في راجكوت ستعتبر بلا شك أمرا سخيفا. فلم أكن أمتلك إلا معرفة ضئيلة بالنسبة لمحام مؤهل، ومع ذلك كنت أنتظر تلقي مقابل أتعاب يصل إلى عشرة أضعاف أتعابه! لا يمكن أن يوجد موكل بهذه الحماقة كي يوكلني، وفي حالة وجود مثل هذا الموكل، فهل أضيف إلى جهلي الغطرسة والخداع، وأزيد من الدين الذي أدين به إلى العالم؟
نصحني الأصدقاء بالذهاب إلى بومباي لبعض الوقت كي أكتسب الخبرة بالمحكمة العليا، وكي أدرس القانون الهندي وأحصل على أكبر قدر من القضايا، فأخذت بهذه النصيحة ورحلت إلى بومباي.
وهناك، بدأت تأسيس منزل، فاستأجرت طاهيا لا يختلف عني في عدم كفاءته، وكان الطاهي ينتمي إلى البراهمة، فكنت أعامله كفرد من الأسرة وليس كخادم. كان يسكب المياه على جسده، لكنه لم يكن يغتسل قط، وكان مئزره متسخا وكذلك القلادة المقدسة،
1
وكان جاهلا تماما بالكتب المقدسة. ولكن كيف كان يمكنني أن أحصل على طاه أفضل؟
كنت أخاطبه قائلا: «حسنا رافيشانكار، يمكن أن تكون جاهلا بكيفية الطبخ، لكنك بالطبع تعرف «السانديا» (الصلاة اليومية) وغيرها.» - «السانديا يا سيدي! المحراث هو السانديا التي نعرفها والمجرفة هي صلاتنا اليومية، فهذا هو النوع الذي أنتمي إليه من البراهمة. أنا أعيش على خدمتك أو أعمل بالزراعة.»
وهكذا كان علي أن أصبح معلم رافيشانكار، وكان لدي متسع من الوقت، فكنت أقوم بنصف أعمال الطهي وأطلعه على فن الطبخ النباتي الذي تعلمته في إنجلترا. اشتريت فرنا وبدأت في إدارة المطبخ بمساعدة رافيشانكار، ولم يكن لدي ولا لديه هواجس طبقية تحول دون تناول الطعام سويا، وهكذا استطعنا التواصل بصورة جيدة. والمشكلة الوحيدة التي واجهتنا هي أن رافيشانكار كان قد أقسم على أن يظل متسخا وأن يحافظ على الطعام غير نظيف!
لم أستطع البقاء في بومباي لما يزيد على أربعة أو خمسة أشهر نظرا لأن العائد الذي كنت أجنيه لم يكن متناسبا مع النفقات المتزايدة باستمرار.
هكذا بدأت حياتي. وجدت أن مهنة المحاماة سيئة، فقد كانت استعراضا أكثر منها معرفة، وقد شعرت بلعنة المسئولية الملقاة على كاهلي.
هوامش
الفصل الثالث
القضية الأولى
أثناء إقامتي في بومباي، بدأت دراسة القانون الهندي من جهة، ومن جهة أخرى بدأت تجاربي الغذائية التي انضم إلي فيها صديقي فيرشاند غاندي. أما أخي، فقد كان يبذل كل ما في وسعه كي يحصل لي على موكلين. وكان تعلم القانون الهندي مسألة مملة، فلم أستطع أن أتقدم في دراسة قانون الإجراءات المدنية، على عكس قانون الإثبات. كان فيرشاند غاندي يذاكر من أجل اجتياز امتحان المحاماة، فكان يخبرني بشتى القصص عن المحامين، وكان يقول: «إن براعة السيد فيروزشاه تكمن في معرفته العميقة بالقانون، فهو يحفظ قانون الإثبات عن ظهر قلب ويعرف جميع القضايا الواردة في القسم الثاني والثلاثين. أما بدر الدين طيابجي، فيدهش القضاة بقوته الجدلية المذهلة.»
كانت القصص عن مثل هؤلاء المحامين تثبط من عزيمتي.
وكان يستطرد قائلا: «ليس من الغريب على المحامي المعتمد من النقابة أن يظل لخمس أو سبع سنوات دون عمل. وهذا هو ما جعلني ألتحق بالتدريب على المحاماة. سوف تكون محظوظا إن استطعت أن تستقل ماليا في ثلاث سنوات.»
كانت المصاريف تتزايد شهرا بعد شهر. لم أستطع تحمل أن ينظر إلي كمحام خارج المنزل، في حين لا أزال أعد نفسي لأكون محاميا داخله. لهذا لم أستطع أن أخصص اهتمامي كله لدراستي. نما لدي شغف بقانون الإثبات وقرأت كتاب ماين «القانون الهندي» باهتمام بالغ، لكن مع هذا كله لم تواتني الجرأة كي أتولى أي قضية. وكنت أشعر بعجز تام كالذي تشعر به العروس في أول يوم لها في بيت زوجها.
في ذلك الوقت، توليت قضية لموكل من ممباي
Mambai ، لكنها كانت «قضية بسيطة». وقد قال لي البعض إنه يجب أن أدفع عمولة إلى سمسار القضايا، فرفضت بشدة. فقالوا لي: «ولكن حتى أعظم المحامين الجنائيين ممن يجنون من ثلاثة إلى أربعة آلاف روبية شهريا، يدفعون تلك العمولة!»
فأجبت قائلا: «أنا لست في حاجة إلى أن أصبح مثل هؤلاء المحامين. يكفيني أن أجني 300 روبية شهريا، فوالدي لم يكن يتحصل على أكثر من هذا.»
فقال لي أحدهم: «كان هذا فيما مضى، أما الآن فقد زادت تكاليف المعيشة في بومباي للغاية، ويجب أن تنظر إلى الأمور نظرة عملية.»
تمسكت بموقفي، ولم أدفع العمولة، ومع ذلك، حصلت على قضية ذلك الموكل من ممباي. كانت القضية بسيطة، وتقاضيت عنها 30 روبية، ولم تستغرق مني القضية أكثر من يوم.
كان هذا أول مثول لي أمام محكمة المطالبات الصغيرة، وكنت المحامي الموكل عن المدعى عليها، وكان علي استجواب شاهد الادعاء، وما إن وقفت حتى شعرت باضطراب جم، كانت رأسي تدور، وشعرت كأن القاعة بأسرها تدور معها، ولم أستطع التفكير في أي سؤال لأوجهه للشاهد. ضحك القضاة بلا شك، واستمتع المحامون بالمشهد. لكنني كنت قد فقدت القدرة على الرؤية بوضوح، فجلست في مقعدي ونصحت موكلتي باسترداد أتعابها وتوكيل السيد باتل، الذي قبل القضية نظير 51 روبية. وبالطبع، كانت القضية بالنسبة له شيئا لا يذكر. وهرعت خارجا من المحكمة دون أن أعلم هل ربحت موكلتي القضية أم خسرتها. وشعرت بالخزي وقررت ألا أقبل أي قضية أخرى حتى أتحلى بالشجاعة الكافية. وبالفعل لم أذهب إلى قاعة المحكمة مجددا إلا بعد رحيلي إلى جنوب أفريقيا. ولم يعد علي قراري هذا بأي نفع، لكنني وبكل بساطة حاولت أن أكون واقعيا. فما من أحمق سيوافق على توكيلي بقضية، ليخسرها.
كانت هناك قضية أخرى في انتظاري في بومباي، وكان علي أن أكتب مذكرة حول أرض جرى مصادرتها في بورباندار يمتلكها أحد المسلمين، لقد حدثني موكلي كما يحدث الوالد الجليل ابنه، ومع أن قضيته بدت واهية، فقد وافقت على صياغة المذكرة من أجله، وتحمل هو تكاليف الطباعة. كتبت المذكرة ثم قرأتها على بعض الأصدقاء، فأثنوا عليها، وجعلني هذا الثناء أشعر بالثقة بمقدرتي على كتابة المذكرات، وقد كنت قادرا على ذلك بالفعل.
كان يمكن أن يزدهر عملي لو ركنت إلى كتابة المذكرات دون تلقي أية أتعاب، لكن هذا لن يدر علي أي أرباح، لذلك فكرت في أن أشتغل بالتدريس. كانت معرفتي باللغة الإنجليزية جيدة إلى حد بعيد، وكنت أفضل أن أدرسها لطلبة المدارس الذين يرغبون في الالتحاق بالجامعة، وبذلك استطعت أن أغطي جزءا من نفقاتي. وقعت عيني على إعلان في الصحيفة، ورد فيه: «مطلوب مدرس لغة إنجليزية للعمل لمدة ساعة يوميا، براتب 75 روبية.» وكان صاحب الإعلان مدرسة ثانوية مشهورة، فتقدمت إلى الوظيفة وطلب مني إجراء مقابلة شخصية، فذهبت بمعنويات مرتفعة، لكن مدير المدرسة لم يقبلني في الوظيفة آسفا عندما علم أنني لم أتخرج بعد.
فقلت له: «لكنني اجتزت امتحان القبول بجامعة لندن، وكانت اللاتينية لغتي الثانية.»
فأجابني: «هذا صحيح، لكننا في حاجة إلى شخص يحمل شهادة جامعية.»
لم أجد أي حلول أخرى، فشعرت باليأس، وشعر أخي بالقلق، ثم توصلت أنا وأخي في النهاية إلى أنه لا طائل في بقائنا في بومباي مدة أطول. فينبغي أن أستقر في راجكوت، حيث يعمل أخي محاميا صغيرا، فقد يستطيع أن يكلفني ببعض المهام المتمثلة في تحرير العرائض والمذكرات. ونظرا لوجود منزل قائم بالفعل في راجكوت، فذلك سيساعد على توفير الكثير من المال عند ترك منزل بومباي. وهكذا قبلت بالاقتراح وأغلقت مكتبي الصغير بعد قضاء ستة أشهر في بومباي.
كنت قد اعتدت الذهاب للمحكمة العليا يوميا طوال مدة إقامتي في بومباي، ولكنني لم أتعلم شيئا. فلم أكن أمتلك المعرفة الكافية كي أستزيد من العلم. وكنت كثيرا ما أعجز عن متابعة القضايا وأغفو. وكان آخرون يعانون ما أعانيه، الأمر الذي خفف عني وطأة الخجل. وبمرور الوقت، فقدت الإحساس بالخزي تماما وتعلمت أن أنظر إلى الغفوة في المحكمة العليا على أنها أمر عادي.
إذا كان الجيل الحالي يعاني وجود محامين بلا موكلين كما كنت في بومباي، فأنا أقدم إليهم نصيحة عملية صغيرة عن الحياة. ومع أنني كنت أعيش في مدينة جيرجاوم، كنت نادرا ما أستقل القطار أو الترام، فقد جعلت من عادتي السير إلى المحكمة العليا، وكانت المسافة تستغرق قرابة خمس وأربعين دقيقة، وبالطبع كنت أعود إلى المنزل سيرا على الأقدام، فجعلت نفسي تعتاد حرارة الشمس، واستطعت أن أوفر مبلغا كبيرا من المال بالسير إلى المحكمة ذهابا وإيابا. وذلك بالإضافة إلى حمايتي من الأمراض في حين كان الكثير من أصدقائي يصابون بها. لم أتوقف عن عادة السير هذه حتى بعد أن توافر لدي المال الوفير، فقد استمررت في السير من وإلى المكتب، وحتى الآن لا أزال أحصد ثمار تلك العادة المثمرة.
الفصل الرابع
الصدمة الأولى
تركت بومباي يائسا، واتجهت إلى راجكوت لتأسيس مكتبي الخاص، وهناك أخذت أتقدم على نحو معتدل، لقد عادت علي كتابة العرائض والمذكرات بمتوسط ربح يصل إلى 300 روبية شهريا. ويرجع الفضل في حصولي على ذلك العمل إلى نفوذ شريك أخي أكثر منه إلى كفاءتي، فقد كان لدى شريك أخي عمل مستقر، لكنه كان يرسل جميع العرائض والمذكرات وغيرها الخاصة بشخصيات ذات شأن أو التي يراها ذات أهمية إلى كبار المحامين، أما أنا فقد كنت أكتب العرائض الخاصة بموكليه من الفقراء.
يجب أن أعترف بأنني كنت مضطرا للتنازل بعض الشيء فيما يتعلق بأمر العمولة التي رفضت أن أدفعها في بومباي، أخبرني البعض أن الأمر يختلف في الحالتين، ففي حين كانت العمولة تدفع إلى سماسرة القضايا في بومباي، فهي تدفع هنا إلى المحامين الذين يسندون إليك القضايا. وقيل لي إن جميع المحامين هنا، دون استثناء، يدفعون نسبة من أتعابهم كعمولة. كانت مناقشة أخي لي في هذا الأمر مفحمة، فقال لي: «ألا ترى أن لدي شريكا آخر، وسوف أميل دائما إلى أن أعهد إليك بجميع القضايا التي يمكنك التعامل معها، وسيضعني امتناعك عن دفع العمولة في موقف حرج أمام شريكي، ولأننا نشترك معا في معيشة واحدة، فإن أتعابك تعد دخلا مشتركا لكلينا، وأنا أحصل تلقائيا على نصيب منها، لكن أين نسبة شريكي؟ ألن يحصل على عمولته إذا ما أسند القضية إلى محام آخر؟» اقتنعت برأي أخي، وشعرت بأنه إذا كنت سأمارس المحاماة فلا يمكن أن أفرض مبادئي التي تتعلق بالعمولات في هذه القضايا. هكذا أقنعت نفسي، أو دعني أقول خدعت نفسي. ويجب أن أشير هنا إلى أنني لا أذكر دفع أي عمولة في أي قضية أخرى.
ومع نجاحي في الجمع بين الأمرين، حدثت لي أول صدمة في حياتي في ذلك الوقت. كثيرا ما سمعت عن الضباط الإنجليز لكنني لم أقابل أحدهم وجها لوجه من قبل.
كان أخي يعمل سكرتيرا ومستشارا لأمير بورباندار الراحل قبل أن يعتلي العرش، وكان ما يقض مضجع أخي حينذاك اتهامه بإعطاء مشورة خاطئة أثناء شغله لتلك الوظيفة، وصل الأمر إلى المعتمد البريطاني الذي كان متحاملا ضد أخي، لقد كنت أعرف ذلك الضابط عندما كنت في إنجلترا، وكان يعاملني بلطف إلى حد بعيد، فرأى أخي أن أستفيد من تلك المعرفة وأن أحاول أن ألفت نظره إلى خطأ تحامله عليه، لم ترق لي تلك الفكرة بالمرة؛ فلا ينبغي لي استغلال معرفة سطحية نشأت في إنجلترا، وما النفع من تزكيتي لأخي لدى المعتمد البريطاني إن كان مذنبا؟ وإذا كان بريئا، فعليه أن يقدم التماسا باتباع الإجراءات المعتادة ويرى ما تسفر عنه الإجراءات، لم ترق هذه النصيحة لأخي. فقال لي: «أنت لا تعلم شيئا عن الحياة في كاثياوار، ولم تعرف حقيقة العالم بعد؛ فالنفوذ وحده له قيمة هنا، ولا يصح أن تتهرب من واجبك كأخ لي، في حين يمكنك تزكيتي لدى ضابط، لك سابق معرفة به.»
لم أستطع أن أخذل أخي، فذهبت إلى الضابط على مضض، وكنت أعلم أنه لا يحق لي أن أذهب إليه، وكنت على دراية كاملة بأن هذا يعد تنازلا عن احترامي لذاتي، لكنني طلبت مقابلته، وبالفعل ذهبت إليه. حينما جلست معه، أخذت أذكره بمعرفتنا القديمة، ولكن سرعان ما أدركت أن كاثياوار تختلف تماما عن إنجلترا، وأن شخصية الضابط تختلف عندما يكون في الخدمة عنها في الحياة اليومية. تذكر المعتمد السياسي البريطاني علاقتنا وأقرها، ولكن ما أخبرته به بعدها جعله يتجمد في مكانه، وكأن لسان حاله يقول: «لا أظن أنك أتيت إلى هنا كي تستغل معرفتك بي، أليس كذلك؟» ومع ذلك، عرضت عليه مشكلة أخي، لكنه كان نافد الصبر . قال لي: «إن أخاك متآمر. لا أريد أن أسمع المزيد، فليس لدي متسع من الوقت. إذا كان لدى أخيك أي أقوال يريد أن يدلي بها، فليفعل ذلك عن طريق الإجراءات المتبعة.» كانت إجابته وافية وكنت أستحقها، ولكن أنانيتي عصبت عيني، فاستمررت في رواية قضيتي، فقام المعتمد السياسي من مجلسه وقال: «يجب أن تنصرف على الفور!»
فأجبته: «أرجوك، استمع إلي.» لكن ردي زاد من غضبه، فاستدعى أحد الحراس وطلب منه أن يخرجني. كنت لا أزال مترددا عندما دخل الحارس ووضع يده على كتفي وأخرجني من الغرفة.
انصرف كل من المعتمد السياسي والحارس، ورحلت وأنا أستشيط غضبا. فكتبت على الفور رسالة مفادها: «لقد أهنتني، وجعلت الحارس يعتدي علي، وإذا لم تصلح ما حدث، فسأضطر إلى مقاضاتك.»
وقد جاء الرد سريعا مع أحد الفرسان:
لقد كنت وقحا في حديثك معي، وقد طلبت منك الانصراف فلم ترضخ لطلبي، ولم يكن هناك بد من أن أطلب من الحارس أن يخرجك، وحتى عندما طلب منك الحارس الانصراف، رفضت، فما كان منه إلا أن استخدم القوة اللازمة لإخراجك، ولك مطلق الحرية في مقاضاتي.
عدت أحمل هذا الرد في جيبي وأجر ذيول خيبة الأمل، فشعر أخي بالحزن عندما قصصت عليه ما حدث، ولكنه لم يدر ماذا عساه أن يفعل لمواساتي، فتحدث أخي إلى أصدقائه من المحامين لعدم معرفتي بكيفية مقاضاة المعتمد السياسي، وتصادف وجود السيد فيروزشاه ميهتا في راجكوت في ذلك الحين لحضور قضية ما، ولكن كيف لمحام مبتدئ مثلي أن يقابله؟ فبعثت له بأوراق القضية مع الوكيل الذي أوكل له القضية، ورجوته أن يشير علي في أمري، فأجاب ذلك الوكيل قائلا: «أبلغ غاندي بأن ما حدث له أمر يتعرض له الكثير من المحامين، إنه حديث الوصول من إنجلترا وسريع الغضب، ولا يعرف طبيعة الضباط الإنجليز. أخبره أن يمزق الورقة ويسكت عن الإهانة إذا كان يريد أن يكسب رزقه هنا ويعيش دون مشاكل؛ فلن تعود مقاضاة المعتمد السياسي عليه بشيء، بل على العكس سوف تدمره. وأخبره أنه ما زال أمامه الكثير ليتعلمه عن الحياة.»
ابتلعت النصيحة كأنني أبتلع سما مرا، وسكت عن الإهانة، لكنني تعلمت منها درسا لن أنساه، فقلت في قرارة نفسي: «لن أحاول أبدا أن أستغل صداقاتي بهذه الطريقة ثانية.» ومنذ ذلك الحين لم أخل بهذا القرار قط. لقد غيرت هذه الصدمة مجرى حياتي.
الفصل الخامس
الاستعداد للرحيل إلى جنوب أفريقيا
بالطبع كان ذهابي إلى الضابط أمرا غير لائق، لكنه تلقى كلامي بنفاد صبر وغطرسة تجاوزت خطئي، فمهما كان خطئي فلا يستدعي طردي، فأنا لم آخذ من وقته ما يزيد على الخمس دقائق، ولكنه في هذه المدة الوجيزة لم يستطع أن يتحمل كلامي، وقد كان يمكنه أن يطلب مني الانصراف بلطف، لكن نفوذه جعله جامحا. وعلمت بعد ذلك أن هذا الضابط لا يتسم بشيمة الصبر، وكان كثيرا ما يهين زائريه، لقد كان يثور غضبا من أقل شيء.
وكان معظم عملي بطبيعة الحال في المحكمة التي يشرف عليها، ولم أستطع أن أصلح الأمر بيني وبينه أو أرغب في تملقه، ونظرا لتهديدي بمقاضاته، كان يجب ألا أظل صامتا.
في غضون ذلك، تعلمت شيئا عن الحياة السياسية في البلاد: تتمتع كاثياوار بمجموعة غنية من السياسيين نتيجة أنها تتكون من مجموعة من الولايات الصغيرة، وكانت المؤامرات التي تحاك بين هذه الولايات والمؤامرات التي يقوم بها الضباط من أجل توسيع نطاق سلطتهم جزءا من الحياة اليومية، وكان الأمراء ينساقون لآراء الآخرين، ومستعدين للأخذ بآراء أي متملق، حتى إن حارس المعتمد السياسي كان يجب تملقه. وكان نفوذ مسئول الحسابات يفوق رئيسه بكثير، فقد كان هو عينه التي يرى بها وأذنه التي يسمع بها وكان أيضا مترجمه، كانت رغبات مسئول الحسابات بمنزلة قانون، وكان يشاع أن دخله يتعدى دخل المعتمد السياسي، ربما يكون هذا القول مبالغا فيه، لكنه بلا شك كان يحيا حياة تستلزم راتبا أكثر مما يتقاضاه، وبدا لي هذا المناخ مسمما، ولم أعلم كيف أتجنب التعرض للضرر.
كنت أشعر بإحباط تام، وقد لاحظ أخي ذلك بوضوح، وقد كنا نؤمن بأن حصولي على وظيفة أخرى سيخلصني من مناخ المؤامرات هذا، ولكن دون الخوض في هذه المؤامرات كان يستحيل أن أطمح في منصب وزاري أو قضائي، وظلت مشكلتي مع المعتمد السياسي تحول دون ممارستي للمحاماة.
كانت بورباندار وقتها لا تزال تحت الإدارة الحكومية، وكلفت ببعض المهام هناك تتمثل في الحصول على المزيد من الصلاحيات لصالح الأمير، وكان علي أن أقابل المسئول عن الإدارة لمناقشة مسائل تتعلق بالإيجار الباهظ المفروض على أراضي سكان المير.
1
لقد فاق غرور ذلك المسئول - مع أنه هندي - غرور المعتمد السياسي. لقد كان يمتلك السلطة والمقدرة، ولكن هذا لم يجعل المزارعين أفضل حالا، ونجحت في الحصول على بعض الصلاحيات للأمير، لكنني لم أستطع التخفيف من معاناة سكان المير، وقد صدمني حقا التهاون الذي عوملت به قضيتهم.
وقد أدى عدم حصول موكلي على حقوقهم إلى إحساسي بخيبة أمل نسبية حتى في هذه المهمة، لكنني وقفت عاجزا عن فعل أي شيء، وكان جل ما يمكنني القيام به هو التقدم بالتماس إلى المعتمد السياسي أو الحاكم والذي كان سيرفض الالتماس قائلا: «ليس لنا حق في التدخل.» لو كانت هناك أي قاعدة تحكم مثل هذه القرارات لاستطعت مساعدتهم، لكن إرادة المستعمر هنا كانت هي القانون، وجعلني هذا كله أستشيط غضبا.
في غضون ذلك، أرسلت شركة تابعة لطائفة الميمان
2
يقع مقرها في بورباندار عرضا إلى أخي، ذكرت فيه: «نحن شركة كبيرة ولدينا أعمال في جنوب أفريقيا، ولدينا قضية كبيرة تنظرها المحكمة هناك، حيث نطالب بمبلغ 40000 جنيه إسترليني، إن المحكمة تنظر القضية منذ وقت طويل، وقد كلفنا نخبة من المحامين والوكلاء بتولي القضية، وإذا ما وافقت على إرسال أخيك إلى هناك، سوف يعود ذلك بالنفع علينا وعلى أخيك على حد سواء، وسيكون قادرا على توجيه مجموعة المحامين التابعين لشركتنا أفضل منا، وسيتمكن من رؤية جزء جديد من العالم وتكوين علاقات جديدة.»
ناقشت العرض المقدم من تلك الشركة مع أخي، لكنني لم أكن متأكدا هل كانت مهمتي تقتضي توجيه مجموعة المحامين فقط، أم أنني يجب أن أمثل أمام المحكمة، على كل حال، أغراني العرض.
قدمني أخي إلى الراحل السيد عبد الكريم جهافيري، الشريك في شركة دادا عبد الله وشركائه - الشركة صاحبة العرض. وقد طمأنني قائلا: «إن المهمة لن تكون صعبة»، وقال لي: «لن تكون مهمتك صعبة، ولدينا علاقات مع شخصيات أوروبية بارزة سوف تتعرف إليها، ويمكن أيضا أن نستفيد من معرفتك باللغة الإنجليزية، فكثير من مراسلاتنا تكتب باللغة الإنجليزية. وبالطبع سوف تكون ضيفنا في جنوب أفريقيا، مما يعني أنك لن تتكلف أي نفقات.»
فسألته: «ما هي المدة التي تحتاجني فيها للعمل معك؟ وكم سأتقاضى نظير خدماتي؟» - «ما لا يزيد على السنة. وسوف ندفع لك قيمة تذكرة الذهاب والعودة في الدرجة الأولى، بالإضافة إلى مبلغ 105 جنيهات إسترلينية، مع توفير الطعام والإقامة مجانا.»
وكانت مهمتي هناك لا ترقى إلى منزلة المحامي، بل موظف لدى الشركة، لكنني شعرت بالحاجة إلى الرحيل عن الهند، وأغرتني فرصة رؤية بلد جديد، واكتساب المزيد من الخبرة، وكنت وقتها سأتمكن من إرسال مبلغ 105 جنيهات إسترلينية إلى أخي كي أساعده في نفقات المنزل، فقبلت العرض دون أي مساومة، واستعددت للذهاب إلى جنوب أفريقيا.
هوامش
الفصل السادس
الوصول إلى ناتال
لم أشعر عند رحيلي إلى جنوب أفريقيا بالأسى الشديد الذي شعرت به عند رحيلي إلى إنجلترا؛ فقد توفيت والدتي، بالإضافة إلى اكتسابي لبعض المعرفة بالعالم والسفر. ولم يكن السفر من راجكوت إلى بومباي علي بجديد.
لم أشعر بالأسى هذه المرة إلا لفراق زوجتي، وكنا قد رزقنا بطفل آخر عقب عودتي من إنجلترا، ولم يخل حبنا بعد من الشهوة، لكنه تدريجيا أصبح أنقى، ولم نمض معا إلا وقتا قليلا منذ عودتي من أوروبا. ونظرا لأنني أصبحت معلمها، مع عدم اكتراثي، وأخذت أساعدها على إجراء بعض الإصلاحات، شعرنا بضرورة بقائنا معا لمدة أطول، ولو حتى لاستكمال هذه الإصلاحات، لكن انجذابي لعرض جنوب أفريقيا جعل الفراق محتملا. فواسيت زوجتي قائلا: «لا تقلقي ، سنلتقي بعد عام.» ثم رحلت إلى بومباي.
كان من المفترض أن يوفر لي وكيل الشركة تذكرة السفر، لكن لم يكن هناك مكان شاغر في السفينة. وإن لم أتمكن من الرحيل الآن، فسأعلق هنا في مومباي. قال لي الوكيل: «لقد بذلنا قصارى جهدنا لتوفير مكان لك في الدرجة الأولى لكننا لم ننجح، فلن يمكنك السفر إلا إذا كنت مستعدا للسفر على ظهر السفينة، ويمكن تحضير وجباتك في حجرة الطعام.» أهكذا يكون أول عهدي بالسفر في الدرجة الأولى؟ وكيف يسافر محام على ظهر السفينة؟ نتيجة لذلك رفضت العرض، وساورني الشك حول ما أخبرني به الوكيل، فلا يعقل أن تنفد جميع تذاكر الدرجة الأولى، فأخبرت الوكيل بأنني سوف أحاول الحصول عليها بنفسي، فوافق. صعدت على متن السفينة وقابلت الضابط المسئول، الذي أخبرني بكل صراحة: «عادة لا يكون لدينا مثل هذا الزحام، ولكن نظرا لأن الحاكم العام لموزمبيق سيسافر على متن هذه السفينة، لا توجد أماكن شاغرة.»
فسألته: «أليس هناك أي طريقة لكي أحصل على مكان؟» فأخذ يتفحصني من رأسي حتى أخمص قدمي، ثم ابتسم قائلا: «هناك طريقة واحدة، يوجد في قمرتي فراش إضافي عادة لا نستخدمه للمسافرين، وأنا على استعداد أن أعطيك إياه.» شكرت الضابط جدا ودفع الوكيل مقابل ذلك المكان. ورحلت في أبريل/نيسان من عام 1893م مفعما بالحيوية منتظرا تجربة حظي في جنوب أفريقيا.
وصلنا إلى لامو
Lamu ، أول ميناء توقف للسفينة، في ثلاثة عشر يوما، وفي ذلك الوقت، كنت أنا والربان قد أصبحنا صديقين مقربين، وكان الربان مولعا بلعب الشطرنج، ولكن حداثة عهده باللعبة جعلته يبحث عمن هو أكثر منه حداثة بها لكي يشاركه اللعب، وقد وجد في بغيته فدعاني للعب معه، لقد سمعت الكثير عن لعبة الشطرنج لكنني لم أمارسها قط، وكان اللاعبون يقولون: إن اللعبة تساعد على تنمية الذكاء، وعرض علي الربان أن يعطيني دروسا في اللعبة، ووجدني نعم المتلقي فقد كنت أتمتع بصبر لا حدود له، كنت أخسر في كل مرة، الأمر الذي زاد من إصراره على تعليمي . راقتني اللعبة، لكنني لم أمارسها بعد أن نزلت من السفينة، ولم أتعلم منها غير كيفية تحريك القطع.
ظلت السفينة في ميناء لامو لما يقرب من ثلاث أو أربع ساعات، فنزلت من السفينة لأشاهد الميناء، ونزل الربان إلى الشاطئ، لكنه حذرني من التأخر عن موعد الإبحار.
كان المكان صغيرا للغاية، وشعرت بالسرور عندما ذهبت إلى مكتب البريد ووجدت الموظفين الهنود هناك، فتجاذبت أطراف الحديث معهم. ورأيت الأفارقة وحاولت التعرف على أساليب معيشتهم التي شدتني للغاية، وقد استغرق هذا بعض الوقت.
كنت قد تعرفت إلى بعض الركاب المسافرين على ظهر السفينة، وتوجه هؤلاء الركاب إلى الشاطئ بهدف طهي طعامهم وتناوله في جو يسوده الهدوء، وعندما وجدتهم يستعدون للعودة إلى السفينة لحقت بهم وركبنا في نفس القارب. كان المد قد بلغ ذروته في الميناء، والقارب يحمل ما يزيد على الحمولة المقررة، وكان التيار من القوة بحيث يستحيل إبقاء القارب مربوطا في سلم السفينة، وكلما لمس القارب سلم السفينة، جعله التيار يرتد مبتعدا عنها، وقد أطلقت بالفعل أول صفارة رحيل؛ مما جعلني أشعر بالقلق، وكان الربان يشاهد محنتنا وهو واقف على الجسر، وأمر البحارة بالانتظار لخمس دقائق أخرى. وكان هناك قارب آخر بالقرب من السفينة، قد استأجره صديق لي نظير عشر روبيات، فانتشلني هذا القارب من القارب المكدس الذي كنت على متنه، وكان سلم السفينة قد رفع بالفعل، مما اضطرني إلى الصعود مستخدما حبلا، وما إن صعدت على ظهر السفينة، حتى انطلقنا. لقد خلفنا بقية المسافرين وراءنا، وحينها أدركت قيمة تحذير الربان لي.
كان ميناء التوقف التالي هو مومباسا ثم ميناء زنجبار، حيث توقفنا لوقت طويل، ما يقرب من ثمانية إلى عشرة أيام. ثم انتقلنا بعد ذلك إلى سفينة أخرى.
نمت بيني وبين الربان علاقة قوية، لكنها اتخذت اتجاها سيئا. ذات مرة دعاني الربان وأحد أصدقائه الإنجليز إلى الخروج في نزهة، فأخذنا قاربه واتجهنا إلى الشاطئ، ولم أكن أدري ما تتضمنه هذه النزهة، ولم يكن الربان على علم بجهلي هذا، فذهبنا إلى بيت تقطنه نساء زنجيات بصحبة أحد القوادين، وحصل كل منا على غرفة، وعندما خطوت بقدمي داخل الغرفة، وقفت مكاني دون أن أتفوه بكلمة وقد أعجز لساني الخزي الذي شعرت به، فالإله وحده يعلم ماذا ظنت بي المرأة المسكينة، وقد خرجت عندما ناداني الربان للانصراف وأنا على نفس الحال الذي دخلت عليه، وقد لاحظ الربان براءتي. في بداية الأمر، شعرت بخزي شديد، لكن ذلك الشعور ما لبث أن زال لأنني كنت أنظر للأمر بنظرة اشمئزاز، ثم توجهت إلى الإله بالشكر لأن مظهر المرأة لم يثرني البتة. لقد كرهت ضعفي وأشفقت على نفسي لعدم تملكي الشجاعة الكافية لكي أرفض الدخول إلى الغرفة.
كانت تلك التجربة هي الثالثة من نوعها في حياتي. من الممكن أن يقع الكثير من الشباب السذج في الخطيئة نتيجة خوف زائف من الخجل. لا أستطيع أن ادعي أنني نجوت دون ضرر، لكن كان من الممكن أن أزعم ذلك لو رفضت دخول الغرفة. أشكر الإله الرحيم الذي نجاني من الخطيئة، لقد رسخت هذه الواقعة إيماني بالإله وعلمتني، إلى حد بعيد، أن أنحي جانبا الخجل الزائف.
انتظرنا في هذا الميناء لمدة أسبوع، فاستأجرت مسكنا وتعرفت على العديد من الأماكن بالتجول في أرجاء المدينة. لا يوجد مكان يمكن أن يعكس صورة الحياة النباتية الغنية التي تتمتع بها زنجبار مثلما تعكسها مالبار
Malabar ، لقد أذهلني حجم الأشجار الضخم وحجم الثمار.
وكانت المحطة التالية موزمبيق، ثم وصلنا إلى ناتال في نهاية شهر مايو/أيار.
الفصل السابع
بعض التجارب
كانت مدينة دربان هي ميناء ناتال، وكان السيد عبد الله في انتظاري بالميناء، وعند وصول السفينة إلى الرصيف، نظرت إلى الناس الذين يصعدون إلى السفينة لمقابلة أصدقائهم، ولاحظت أن الهنود لا يعاملون بالاحترام اللازم، ولاحظت أن السيد عبد الله يعامل بطريقة لا تخلو من الغطرسة ممن يعرفونه، ولكم آلمني ذلك، لكن السيد عبد الله كان قد اعتاد الأمر، وكان البعض يرمقني بقدر من الفضول، فقد كانت ثيابي تميزني عن غيري من الهنود، فقد كنت أرتدي معطفا وعمامة، على غرار العمامة البنجالية.
ذهبت إلى المقر السكني للشركة ووجدت أن الغرفة المخصصة لي تقع بجوار غرفة السيد عبد الله، ولم يستطع أحدنا فهم الآخر، وقد زادت حيرته عندما أطلعته على الأوراق التي أرسلها أخوه معي، لقد ظن السيد عبد الله أن أخاه قد أرسل له شخصا مترفا عديم القيمة. فقد أذهله أسلوب لبسي ومعيشتي نظرا لكونها باهظة تماما كملبس ومعيشة الأوروبيين. ولم يكن هناك وقتها عمل بعينه لأقوم به، فكانت القضية تنظر في إقليم الترانسفال، ولم يكن هناك داع لإرسالي على الفور إلى هناك. فكيف يثق حينئذ بقدراتي ونزاهتي؟ فهو لن يكون معي في بريتوريا
1
ليراقبني، وكان المدعى عليهم يقيمون في بريتوريا، وكان السيد عبد الله يرى أنهم قد يحاولون الضغط علي. وإذا افترضنا أنه لا يمكنه الثقة بي كي أعمل في مثل هذه القضية، فما العمل الذي ينبغي لي أن أقوم به؟ فجميع الأعمال الأخرى يمكن أن يقوم بها الكتبة الذين يعملون لديه على نحو أفضل مني، وإذا ارتكبوا أي خطأ، يمكن عندئذ محاسبتهم. لكن هل يمكن أن يحاسبوني إن أخطأت؟ وإذا لم يكن لي عمل في هذه القضية، فما فائدة قدومي إلى هنا؟ وكان السيد عبد الله غير متعلم تقريبا، لكنه كان ذا خبرة واسعة. وكان يتمتع بذكاء حاد، وكان يدرك امتلاكه لهذه الموهبة، وبالممارسة، استطاع أن يكتسب من اللغة الإنجليزية ما يكفي ليستطيع التحدث بها. وقد ساعده ذلك على القيام بجميع أعماله، من التعامل مع مديري البنوك والتجار الأوروبيين أو شرح قضيته على مجموعة المحامين الذين يعملون لمصلحته، وكان الهنود يكنون له جليل الاحترام والتقدير. كانت شركته أكبر الشركات الهندية، أو على الأقل من أكبرها، ولكن كان يعيبه شيء واحد مقابل كل هذه المميزات، ألا وهو الشك.
كان السيد عبد الله فخورا بالإسلام، وكان يحب أن يتحدث عن الفلسفة الإسلامية، وكانت معرفته بالقرآن الكريم والأدب الإسلامي جيدة بوجه عام، وذلك مع جهله باللغة العربية. وقد كان يمتلك فيضا من الأمثلة الإيضاحية الجاهزة، وأدت معرفتي به إلى اكتسابي معرفة عملية جيدة عن الإسلام، وعندما أصبحت علاقتنا أكثر وثاقة، كنا نجلس في مناقشات مطولة نتناول فيها الموضوعات الدينية.
في اليوم الثاني أو الثالث من وصولي، اصطحبني لرؤية محكمة دربان، حيث تعرفت إلى كثير من الأشخاص، وأجلسني بجانب محاميه، لكن القاضي أخذ يحدق في، وفي النهاية طلب مني نزع عمامتي، لكنني رفضت وغادرت المحكمة.
وهكذا كان ينتظرني هنا أيضا في جنوب أفريقيا العديد من المعارك.
أوضح لي السيد عبد الله سبب مطالبة بعض الهنود بنزع عماماتهم؛ حيث يمكن للمسلمين أن يرتدوا مثل هذه العمامات ويحتفظوا بها، لكن يجب على غيرهم من الهنود أن ينزعوها عن رءوسهم قبل الدخول إلى قاعة المحكمة.
وهنا لا بد أن أتطرق لبعض التفاصيل لتوضيح أصل هذا التمييز: كنت قد لاحظت، أثناء اليومين أو الثلاثة أيام هذه، أن الهنود مقسمون إلى فرق مختلفة، يمثل إحدى هذه الفرق التجار المسلمون الذين يطلقون على أنفسهم اسم «العرب»، وكان هناك فريق يتكون من الهندوس، وآخر من البارسيين الذين يعملون كتبة. لم يكن الكتبة من الهندوس يميلون إلى أي من الفريقين إلا في بعض الأحيان التي يتعاونون فيها مع «العرب»، وكان البارسيون يطلقون على أنفسهم اسم «الفارسيون». وكانت هناك بعض العلاقات الاجتماعية التي تجمع الفرق الثلاثة. وكانت أضخم طبقة اجتماعية على الإطلاق هي التي تتكون من سكان جنوب الهند وشمال سريلانكا (تاميل) وسكان وسط الهند (تيلوجو) وسكان شمال الهند من العمال العاملين بعقود لأجل أو العمال الذين يعملون دون عقود. وكان العاملون بعقود لأجل هم الذين ذهبوا إلى ناتال بناء على اتفاق يقضي بالعمل لمدة خمس سنوات، وقد عرفوا هناك باسم «جيرميتياس»
girmitiyas
المشتقة من الكلمة «جيرميت»
girmit
وهي صيغة محرفة للفظة الإنجليزية
agreement (اتفاق) ولم يكن يربط هذه الطبقة بالطبقات الاجتماعية الثلاثة الأخرى إلا العلاقات التجارية، وقد أطلق عليهم الإنجليز اسم «قولي»،
2
ونظرا لانتماء أغلبية الهنود إلى الطبقة العاملة، أطلق على جميع الهنود اسم «قوليز» أو «ساميز». إن اللفظة «سامي»
sami
لاحقة تاميلية تقع في نهاية الكثير من الأسماء التاميلية، وما هي إلا اللفظة
swami
في اللغة السنسكريتية التي تعني «سيد». وهكذا كان عندما يضيق أحد الهنود ذرعا بمناداته باللفظة
sami
وكان يتحلى بشيء من خفة الظل، يرد قائلا: «يمكنك أن تدعوني
sami
ولكن لا تنسى أنها تعني «سيد»، وأنا لست بسيدك!» كان بعض الإنجليز يستاءون من هذه الدعابة، وكان البعض الآخر يثورون غضبا وينهالون بالسباب على الهنود، ويتعدون عليهم بالضرب إذا سنحت لهم الفرصة؛ فاللفظة
sami
في نظرهم لا تتعدى كونها مصطلحا للازدراء، ويعتقدون أن تفسيرها على أنها تعني «سيد» يعد إهانة!
ونتيجة لهذا كانوا يدعونني «المحامي القولي»، وكان التجار يعرفون باسم «التجار القولي». وهكذا غاب المعنى الأصلي للكلمة «قولي» وأصبحت الكلمة لقبا لجميع الهنود، ومع ذلك كان التجار المسلمون يبغضون هذا اللقب فيقول أحدهم: «أنا لست «قولي»، أنا عربي» أو «أنا تاجر» وكان بعض الإنجليز المهذبين يعتذرون عن ذلك.
كانت مسألة ارتداء العمامة تمثل أهمية كبيرة في ظل تلك الظروف، فاضطرار الهنود لنزع عماماتهم يعد بمنزلة السكوت عن الإهانة، ففكرت في أنه من الأفضل أن أضع العمامة الهندية جانبا، وأبدأ في ارتداء القبعة الإنجليزية وبذلك أتجنب الإهانة والمناقشات البغيضة.
لكن السيد عبد الله لم يحبذ الفكرة، فقال لي: «سوف يكون لفكرتك أثر سلبي للغاية إذا نفذتها، فستتسبب في زعزعة عزيمة الهنود المتمسكين بارتداء العمامة الهندية. ضف إلى ذلك أن مظهرك يبدو أنيقا بالعمامة الهندية، أما إذا ارتديت القبعة الإنجليزية فستبدو مثل النادل.»
كانت نصيحة السيد عبد الله تتضمن حكمة عملية ووطنية والقليل من ضيق الأفق. فقد كانت الحكمة التي حوتها نصيحة السيد عبد الله جلية من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن ليصر على ارتدائي للعمامة الهندية إلا بدافع الوطنية، أما الإشارة إلى التشبيه بالنادل فتعكس نوعا من ضيق الأفق. وكان هناك ثلاث طوائف تشكل الهنود العاملين بعقود الأجل، وهي: الهندوس والمسلمون والمسيحيون. وتشكلت الطائفة المسيحية من أبناء الهنود الذين كانوا يعملون بعقود لأجل ممن اعتنقوا المسيحية، وقد كانت أعدادهم ضخمة حتى عام 1893م، وكانوا يرتدون الزي الإنجليزي، وكان معظمهم يتكسبون من العمل بوظيفة النادل في الفنادق، وهذه هي الطائفة التي كان يشير إليها السيد عبد الله عندما انتقد القبعة الإنجليزية، وكان العمل نادلا في الفنادق حينها يعتبر أمرا مهينا، ولا يزال هذا الاعتقاد يسيطر على كثير من الأشخاص حتى يومنا هذا.
على كل حال، لقد راقتني فكرة السيد عبد الله بصورة عامة، فكتبت إلى الصحف عن الواقعة، ودافعت عن حقي في ارتداء العمامة في المحكمة، ولقد تداولت الصحف الأمر بكثرة، حيث وصفتني الصحف بقولها «زائر غير مرغوب فيه». وهكذا، منحتني هذه الواقعة دعاية غير متوقعة في الأيام القليلة الأولى من وصولي إلى جنوب أفريقيا، ولقد حظيت بدعم البعض، في حين انهال علي البعض الآخر بالانتقاد اللاذع واتهموني بالتهور.
لقد حافظت على ارتداء عمامتي حتى نهاية إقامتي في جنوب أفريقيا تقريبا، وسوف أعرض لاحقا الوقت الذي قررت فيه عدم ارتداء أي غطاء للرأس على الإطلاق في جنوب أفريقيا والأسباب التي دفعتني إلى اتخاذ مثل ذلك القرار.
هوامش
الفصل الثامن
الطريق إلى بريتوريا
لم يمر كثير من الوقت، حتى احتككت بالهنود المسيحيين المقيمين في دربان، فتعرفت إلى مترجم المحكمة، السيد باول، الذي كان كاثوليكيا، والراحل السيد سبان جودفري، الذي أصبح بعد ذلك مدرسا تابعا للكنيسة البروتستانتية، ووالد السيد جيمس جودفري الذي زار الهند في عام 1924م بصفته عضوا في وفد جنوب أفريقيا. وقابلت الراحل بارسي روستومجي والراحل أدامجي مياخان في ذات الوقت تقريبا. وكما سنرى فيما يأتي، أصبح هؤلاء الأصدقاء جميعا على صلة وثيقة بعضهم ببعض مع أنهم لم يتقابلوا من قبل قط إلا أثناء العمل.
وبينما كنت أوسع دائرة معارفي، تلقت الشركة خطابا من محاميها يخبرها بأنه يجب إجراء استعدادات للقضية، وأن على السيد عبد الله أن يذهب إلى بريتوريا بنفسه أو أن يبعث نائبا عنه.
أعطاني السيد عبد الله الخطاب لأقرأه، وسألني عن إمكانية ذهابي إلى بريتوريا. فأجبته: «كل ما يمكنني قوله بعد أن أطلعتني على القضية أنني الآن في حيرة من أمري ولا أعلم ماذا عساي أن أفعل هناك.» فقام وطلب من الكتبة العاملين لديه أن يشرحوا لي القضية.
عندما شرعت في دراسة القضية، شعرت بأن علي أن أعود إلى أصل موضوع القضية، كنت قد اعتدت في الأيام القليلة التي قضيتها في زنجبار أن أذهب إلى المحكمة لكي أتعلم كيفية سير العمل بها، وذات مرة كان هناك محام بارسي يستجوب أحد الشهود ويسأله عن قيود الدائن والمدين في دفاتر الحسابات، ولم أفهم منها شيئا، فلم أتعلم مسك الدفاتر في المدرسة ولا في أثناء إقامتي في إنجلترا، في حين أن القضية التي جئت من أجلها إلى جنوب أفريقيا تدور بصورة أساسية حول الحسابات، ولا يستطيع أن يفهمها أو يشرحها إلا عالم بالحسابات. أخذ الكاتب يتحدث عما قيد في الحساب وما قيد على الحساب، وشعرت بالارتباك والحيرة، فلم أفهم معنى اللفظة
Note
وفشلت في أن أجدها في القاموس، فأخبرت الكاتب عن جهلي بالكلمة، فأخبرني بأن الكلمة تشير إلى
promissory note (سند إذني). فاشتريت كتابا حول مسك الدفاتر ودرسته، فمنحني هذا بعض الإحساس بالثقة وساعدني على فهم القضية. واكتشفت أن السيد عبد الله، مع جهله بكيفية مسك الحسابات، يمتلك من المعرفة العملية ما يمكنه من حل أعوص المشكلات المتعلقة بالحسابات بسرعة، فأخبرته أخيرا أنني مستعد للذهاب إلى بريتوريا.
سألني السيد عبد الله: «أين ستقيم؟»
فأجبته: «في أي مكان تريدني فيه.» - «إذن سأكتب إلى المحامي التابع لنا هناك وأجعله يدبر مكانا لإقامتك. وسأكتب إلى أصدقائي من طائفة الميمان المقيمين هناك، ولكن لا أنصحك بالإقامة معهم؛ فالطرف الخصم في القضية له نفوذ كبير في بريتوريا، وسيعود علينا تسرب مراسلاتنا السرية إليهم بأضرار جسيمة، وكلما تجنبت التقرب إليهم، كان هذا أفضل لعملنا.» - «سوف أقيم في المكان الذي سيدبره المحامي، أو سأجد مسكنا مستقلا. لا تقلق، لن أدع مخلوقا على وجه البسيطة يعلم سرا من أسرارنا. لكنني أعزم على ترسيخ علاقتي بالطرف الخصم وأن نصبح أصدقاء، وسوف أحاول إذا أمكن تسوية النزاع دون اللجوء إلى المحكمة؛ فالسيد طيب هو قريبك في نهاية الأمر.» فقد كان السيد طيب حاجي خان محمد أحد الأقرباء المقربين للسيد عبد الله.
لقد ذهل السيد عبد الله إلى حد بعيد عند سماعه فكرة إجراء التسوية، حينها كنت قد قضيت في دربان ما يقرب من ستة أو سبعة أيام، فكان كل منا يعرف الآخر ويفهمه، فلم أعد في نظره «الشخص المترف عديم القيمة». فأجابني: «حسنا ... لا يوجد ما هو خير من تسوية النزاع دون اللجوء إلى القضاء، لكننا أقرباء ويعرف كل منا الآخر حق المعرفة، فالسيد طيب ليس ممن يوافقون على التسوية بسهولة، فسوف يستغل أقل غفلة من جانبنا لينتزع منا كل شيء، ثم يخدعنا في النهاية. لذلك أنصحك بالتفكير مليا قبل أن تتخذ أي قرار.»
فأجبته: «لا تقلق، لن أتحدث إلى السيد طيب أو إلى أي شخص آخر عن القضية، كل ما سأفعله هو أن أقترح عليه أن نتوصل إلى اتفاق، وبهذا نوفر الكثير من الدعاوى والمقاضاة غير الضرورية.»
رحلت عن دربان في اليوم السابع أو الثامن من وصولي إلى جنوب أفريقيا، وكان السيد عبد الله قد حجز لي مقعدا في الدرجة الأولى، وكانت تضاف خمسة شلنات في حالة الرغبة في الحصول على بطانية، وأصر السيد عبد الله على أن أحجز تذكرة تشتمل على غطاء، لكنني رفضت بدافع العناد والاعتزاز بالنفس، بالإضافة إلى توفير الخمسة شلنات. وحذرني السيد عبد الله فقال لي: «انتبه الآن، هذه ليست الهند، والحمد للإله أننا نمتلك المال الوفير، أرجو منك ألا تبخل على نفسك بأي شيء قد تحتاجه.»
فشكرته وطلبت منه ألا يقلق حيال ذلك.
وصل القطار إلى مارتزبرج، عاصمة ناتال، في التاسعة مساء. وكانت الأغطية تقدم إلى الركاب في هذه المحطة، فأتاني أحد العاملين بالخدمة في السكة الحديدية وسألني إذا كنت أرغب في فراش، فأجبته: «شكرا، لدي غطاء.» فرحل العامل. ثم جاء أحد الركاب وتفحصني، فانزعج عندما رأى أنني «ملون». خرج الراكب ثم عاد ومعه واحد أو اثنان من موظفي القطار، لزموا جميعا الصمت في حين أتاني موظف آخر وقال لي: «تعال معي، يجب أن تذهب إلى العربة المخصصة للملونين.»
فرددت قائلا: «لكنني أمتلك تذكرة بالدرجة الأولى.»
فاستطرد الآخر: «هذا لا يهم، يجب أن تذهب إلى عربة الملونين.» - «وأنا أخبرك بأنه سمح لي بالسفر في هذه المقصورة في دربان، وأنا أصر على تكملة الرحلة بها.»
فقال الموظف: «لا، لن تفعل. يجب أن ترحل عن هذه المقصورة أو سأضطر إلى استدعاء الشرطة لتلقي بك إلى الخارج.» - «إذن استدع الشرطة، فأنا أرفض الخضوع والخروج طوعا.»
جاء الشرطي وأخذني من يدي ودفعني وأمتعتي إلى خارج المقصورة، فرفضت الانتقال إلى العربة الأخرى، وانطلق القطار. ذهبت للجلوس في غرفة الانتظار ممسكا بحقيبة يدي وتاركا بقية أمتعتي حيث ألقيت، وقد تولت سلطات السكك الحديدية أمرها.
كنا في فصل الشتاء، وكان البرد قارسا في المناطق المرتفعة من جنوب أفريقيا، وكان الطقس في مارتزبرج زمهريرا؛ حيث تقع المدينة على ارتفاع شاهق، وكان معطفي في حقيبة الأمتعة، لكنني لم أجرؤ على طلبها خشية أن أتعرض للإهانة مجددا، فجلست وجسمي يرتجف من شدة البرد، وكانت الغرفة مظلمة والوقت قد دنا من منتصف الليل، فجاءني أحد الركاب وأعتقد أنه كان يريد تجاذب أطراف الحديث، لكنني لم أكن في مزاج يسمح بالكلام.
بدأت أفكر في واجبي، وقلت لنفسي: «هل أحارب من أجل الحصول على حقوقي أم أعود إلى الهند؟ أم أكمل رحلتي إلى بريتوريا دون الاكتراث بالإهانات التي أتعرض لها، ثم أعود إلى الهند بعد انتهاء القضية؟» سيكون من الجبن أن أهرع إلى الهند دون إنجاز واجبي. فالمشقة التي تعرضت لها كانت سطحية، وما هي إلا إشارة إلى مرض التمييز العنصري المستوطن، يجب علي أن أقضي على هذا المرض غير مكترث بالعقبات أو الشدائد التي يمكن أن تواجهني، سأسعى إلى إصلاح الأوضاع المختلة بالقدر اللازم للتخلص من التمييز العنصري.
وهكذا قررت أن أستقل أول قطار متجه إلى بريتوريا.
وفي اليوم التالي، أرسلت شكوى مطولة إلى رئيس السكك الحديدية، وأخبرت السيد عبد الله الذي قام بدوره بمقابلة رئيس السكك الحديدية على الفور، وبرر رئيس السكك الحديدية ما فعله موظفو القطار معي، وأخبر السيد عبد الله أنه أعطى تعليماته إلى ناظر المحطة ليتأكد من وصولي إلى وجهتي سالما، وأرسل السيد عبد الله إلى أصدقائه من التجار الهنود في مارتزبرج وغيرهم في أماكن أخرى لكي يستقبلوني ويعتنوا بي. وبالفعل استقبلني التجار في المحطة، وحاولوا التخفيف عني بإخباري بما لاقوه من شدائد وصعاب قائلين إن ما حدث لي ليس بالأمر الغريب، وأخبروني بأن من يسافر من الهنود في الدرجة الأولى أو الثانية، عليه أن يتوقع التعرض للمضايقة من قبل موظفي القطار والركاب البيض. وهكذا، قضيت اليوم في الاستماع إلى هذه الحكايات المليئة بالأسى. ووصل قطار المساء، وكانت هناك مقصورة محجوزة من أجلي، فقد حجزت الآن التذكرة التي تشمل الحصول على غطاء والتي كنت قد رفضت شراءها في دربان.
وقد أقلني القطار إلى مدينة تشارلز تاون.
الفصل التاسع
المزيد من المتاعب
وصل القطار إلى تشارلز تاون في صباح اليوم التالي، ولم يكن هناك في تلك الأيام خط سكك حديدية يصل بين تشارلز تاون وجوهانسبرج، وكانت وسيلة المواصلات الوحيدة هي عربة تجرها الخيول وتتوقف ليلا في ستاندرتون، وكنت أحمل تذكرة للسفر في إحدى هذه العربات، التي لم تلغ مع تأخر الرحلة يوما كاملا في مارتزبرج، وكان السيد عبد الله قد أرسل برقية إلى وكيل شركة العربات بتشارلز تاون.
لكن الوكيل كان يبحث عن أي ذريعة كي يؤخرني، لذلك عندما علم بأنني غريب أخبرني بأن تذكرتي ملغاة، لكنني أفحمته بردي، ولم يكن السبب وراء ادعائه إلغاء تذكرتي عدم توفر أماكن، وإنما كان سببا آخر تماما. كان من المفترض أن يجلس جميع الركاب داخل العربة، لكن «قائد» العربة - كما يطلق على المسئول عن العربة - رأى أنه من الأفضل ألا أجلس مع الركاب البيض لأنني ملون وغريب. وكان من المعروف أن ظهر العربة يحتوي على مقعدين أحدهما للسائق والآخر للقائد، لكن في ذلك اليوم جلس القائد داخل العربة وطلب مني الجلوس على مقعده بجوار السائق، وكنت أعرف أن ما فعله القائد يعد ظلما وإهانة، لكنني مع ذلك رأيت أن من الأفضل السكوت عنها. فلم يكن لي أن أفرض نفسي بالجلوس داخل العربة بالقوة، وفي حالة احتجاجي على ما فعله كان يمكن أن ترحل العربة من دوني . وكان ذلك سيؤدي إلى إهدار يوم آخر، والإله وحده يعلم ماذا كان يمكن أن يحدث في اليوم التالي، ومع أنني كنت أستشيط غضبا من داخلي، فقد جلست بجانب السائق هادئا.
وصلت العربة إلى بارديكوف في نحو الساعة الثالثة. حينها أراد قائد العربة أن يجلس مكاني لتدخين السيجار وربما لاستنشاق بعض الهواء المنعش، فأخذ قطعة من القماش المتسخ من السائق ووضعها على مكان موطئ الأقدام بالعربة، ثم خاطبني قائلا: «أيها السامي،
1
اجلس هنا! فأنا أرغب في الجلوس بجوار السائق.» لم أستطع تحمل هذه الإهانة، فأجبته وأنا أرتجف من الخوف: «ألم تطلب مني الجلوس هنا مع أنه من حقي الجلوس داخل العربة؟ وقد تغاضيت عن إهانتك. والآن تطلب مني أن أجلس مكان موطئ الأقدام لمجرد أنك ترغب في تدخين السيجار، لن أستجيب لمثل هذا الطلب، لكن يمكنك الجلوس بجانب السائق إذا تركتني أجلس داخل العربة.»
وبينما أنا أقذف بهذه الجمل، إذ بقائد العربة يدنو مني وبدأ يصفعني على أذني صفعا شديدا، وأمسك بذراعي وحاول أن يجرني. ولكنني تمسكت بعارضة نحاسية في العربة، ولم أتركها مع أن عظام رسغي كادت أن تكسر. كان الركاب يشاهدون القائد وهو يسبني ويجرني ويتعدى علي بالضرب، وأنا راسخ في مكاني. وكان قائد العربة قوي البنية وكنت هزيلا، الأمر الذي دفع بعض الركاب إلى الشفقة علي، فصرخوا فيه قائلين: «دعه وشأنه، فليس الخطأ خطأه بل معه كل الحق. فإن لم يكن في وسعه الجلوس بجانب السائق، فدعه يدخل إلى العربة ويجلس معنا.» فصرخ القائد: «بالطبع لن أسمح بذلك.» إلا أنه بدا عليه الخجل وتوقف عن ضربي. فترك ذراعي وأخذ يسبني قليلا، ثم طلب من الخادم الذي ينتمي للهوتنتوت
2
والذي كان يجلس على الجانب الآخر من المقعد أن يجلس مكان موطئ الأقدام وجلس هو مكانه.
عاد الركاب إلى مقاعدهم وانطلقت الصفارة إيذانا بانطلاق العربة التي اندفعت مسرعة. كان قلبي يخفق بشدة، وكنت أتساءل هل سأصل إلى وجهتي حيا. كان قائد العربة يرمقني بنظرة غاضبة من حين إلى آخر، ثم أشار إلي بأصبعه وقال غاضبا: «احذر، سأريك ما سأفعله بك عندما نصل إلى ستاندرتون.» وجلست في مكاني صامتا ودعوت الإله كي ينجيني.
عندما وصلنا إلى ستاندرتون كان الليل قد أسدل ستائره، وتنهدت مستبشرا عندما رأيت بعض الهنود، وما إن نزلت عن العربة، حتى أتاني هؤلاء الأصدقاء قائلين: «نحن هنا لاستقبالك واصطحابك إلى محل عمل السيد عيسى حاجي سومار بناء على البرقية التي أرسلها السيد دادا عبد الله.» كنت حينها في غاية السرور، وعند وصولي إلى محل عمله، تجمع حولي السيد عيسى والعاملون لديه، فأخبرتهم بما مررت به أثناء رحلتي، فشعروا جميعا بشديد الأسف، وحاولوا مواساتي برواية تجاربهم المريرة.
كتبت إلى وكيل شركة العربات أشكو إليه مما حدث وأخبرته بتفاصيل الواقعة، ووجهت انتباهه إلى التهديد الذي وجهه لي قائد العربة، وطلبت منه أن يضمن لي أن يدخلني مع غيري من الركاب داخل العربة عند تحركنا في اليوم التالي. فجاءني رد الوكيل: «سوف تستقلون من ستاندرتون عربة أكبر حجما وسيتولى مسئولية العربة أشخاص آخرون، ولن يكون الشخص الذي شكوت منه في العربة غدا، وستحصل على مقعدك داخل العربة مع غيرك من الركاب.» أراحني هذا الرد إلى حد بعيد، وبالطبع لم أكن أنوي مقاضاة قائد العربة الذي تعدى علي، وهكذا انتهى مشهد الاعتداء عند هذا الحد.
في اليوم التالي، اصطحبني أحد رجال السيد عيسى إلى العربة، حيث حصلت على مقعد مريح، ووصلت إلى جوهانسبرج في تلك الليلة بسلام.
كانت ستاندرتون قرية صغيرة، أما جوهانسبرج فكانت مدينة كبيرة. أرسل السيد عبد الله برقية إلى أصدقائه في جوهانسبرج أيضا، وأعطاني اسم وعنوان مؤسسة السيد محمد قسام قمر الدين، وأتى أحد العاملين بالشركة لاستقبالي بالمحطة، لكنني لم أره ولم يتمكن هو من التعرف إلي، فقررت الذهاب إلى أحد الفنادق، فقد كنت أعرف أسماء كثير منها. فركبت في عربة أجرة وطلبت من السائق توصيلي إلى فندق «جراند ناشونال»، حيث قابلت مدير الفندق وطلبت حجز غرفة. أخذ المدير يتفحصني بعينه للحظة، ثم قال بلطف: «أنا في غاية الأسف ، لا توجد لدينا غرف شاغرة.» ثم استأذن وانصرف. فطلبت من سائق العربة أن يقلني إلى شركة السيد محمد قسام قمر الدين، وهناك وجدت في انتظاري السيد عبد الغني الذي رحب بي بحفاوة، ولقد تملكه الضحك عندما سمع بما حدث لي في الفندق، وقال لي: «كيف خيل لك أنه يمكن قبول إقامتك في فندق؟»
فسألته: «ولم لا؟»
فأجابني: «ستعرف عندما تمكث هنا بضعة أيام، فنحن يمكننا العيش فقط في مثل هذه البلاد، لأننا من أجل كسب المال لا مانع لدينا من السكوت عن الإهانات التي نتعرض لها.» ثم أخذ يروي لي المآسي والصعاب التي يعانيها الهنود في جنوب أفريقيا.
وسأروي فيما بعد المزيد عن السيد عبد الغني.
قال لي: «هذه البلاد لا تصلح لشخص مثلك، يجب أن ترحل غدا إلى بريتوريا، وسوف يتعين عليك أن تركب في الدرجة الثالثة؛ فالأحوال في الترانسفال أسوأ منها في ناتال؛ فتذاكر الدرجة الأولى والثانية لا تمنح للهنود أبدا.» - «من المؤكد أنكم لم تسعوا بجد لإصلاح هذا الأمر.» - «لقد أرسلنا ممثلين عنا، لكن صراحة لم يرغب رجالنا من الهنود أيضا أن يكون سفرهم في الدرجة الأولى والثانية قاعدة ثابتة.»
أرسلت في طلب لوائح وقوانين السكك الحديدية واطلعت عليها، فوجدت ثغرة في تلك القوانين، وكانت لغة تشريعات الترانسفال القديمة غير واضحة وغير دقيقة، ولا سيما قوانين السكك الحديدية.
توجهت إليه قائلا: «أرغب في السفر في الدرجة الأولى، وإلا فأنا أفضل استئجار عربة للسفر إلى بريتوريا التي تبعد سبعة وثلاثين ميلا.»
لفت السيد عبد الغني نظري إلى الوقت والمال الإضافيين اللذين سيتطلبهما السفر بواسطة عربة مستأجرة، لكنه وافق على طلبي السفر في الدرجة الأولى. وبناء على ذلك، بعثنا برسالة إلى ناظر المحطة ذكرت فيها أنني أعمل محاميا وأنني معتاد على السفر في الدرجة الأولى. وذكرت أنني في حاجة إلى الوصول إلى بريتوريا في أسرع وقت ممكن، وأنه نتيجة لضيق الوقت لن أستطيع انتظار رسالة منه بل سأستلم رده شخصيا في المحطة متوقعا حصولي على تذكرة في الدرجة الأولى . وبالطبع كان هناك سبب يكمن خلف طلبي استلام رده بصورة شخصية، فلقد رجحت أنه في حالة قيامه بالرد علي كتابة ستكون الإجابة بلا شك بالرفض، خاصة وأنه يحمل في ذهنه صورة المحامي «القولي». أما عندما أقابله بشخصي مرتديا الزي الإنجليزي وأتحدث إليه، ربما أقنعته بمنحي تذكرة في الدرجة الأولى. فذهبت إلى المحطة مرتديا معطفا وربطة عنق، ثم وضعت جنيها ذهبيا على شباك التذاكر وطلبت تذكرة في الدرجة الأولى.
فسألني: «أنت من أرسل لي تلك الرسالة؟» «نعم، هو أنا، وسأكون ممتنا للغاية إذا أعطيتني التذكرة؛ فيجب أن أصل إلى بريتوريا اليوم.»
ابتسم الرجل، ثم ظهرت على وجهه تعبيرات الأسف وقال: «أنا لا أنتمي إلى الترانسفال، بل أنا هولندي، أقدر ما تشعر به، وأشعر بالتعاطف معك، وأنا فعلا أريد أن أعطيك التذكرة لكن بشرط واحد، ألا تورطني في الأمر إذا طلب منك موظف القطار أن تنتقل إلى عربة الدرجة الثالثة، فحينها عليك ألا تقاضي شركة السكك الحديدية. أتمنى لك رحلة سعيدة، فأنا أراك حقا سيدا نبيلا.»
حجز لي ناظر المحطة التذكرة، فشكرته وطمأنته.
جاء السيد عبد الغني لتوديعي في المحطة، وقد ذهل عندما علم بما حدث، ولكنه حذرني قائلا: «أرجو أن تصل إلى بريتوريا سالما. أخشى أن موظف القطار لن يدعك بسلام في الدرجة الأولى، وحتى إن فعل، فلن يفعل الركاب.»
تبوأت مقعدي في عربة الدرجة الأولى، وانطلق القطار، وجاء موظف القطار للتحقق من التذاكر في جيرميستون، وقد غضب عندما وجدني في عربة الدرجة الأولى، وأشار لي بإصبعه لأنتقل إلى الدرجة الثالثة، لكنني عرضت عليه تذكرتي التي تثبت حقي في الدرجة الأولى، فقال لي: «لا قيمة لهذه التذكرة، اذهب إلى الدرجة الثالثة.»
لم يكن معي في المقصورة سوى رجل إنجليزي، فقال لموظف القطار: «لماذا تزعج الرجل؟ ألم تر أنه يملك تذكرة للدرجة الأولى؟ أنا لا أمانع في سفره معي.» ثم توجه لي وقال: «استرح حيث أنت.»
أخذ موظف القطار يهمهم قائلا: «لن أزعج نفسي إذا كنت ترغب في السفر مع «قولي».» ثم رحل.
ووصل القطار إلى محطة بريتوريا قرابة الثامنة مساء.
هوامش
الفصل العاشر
اليوم الأول في بريتوريا
توقعت أن يكون في انتظاري على المحطة مندوب عن محامي السيد دادا عبد الله، وكنت أعلم أنه لن يكون في انتظاري أي من الهنود؛ نظرا إلى وعدي الذي قطعته للسيد عبد الله بعدم الإقامة في منزل أي من الهنود. على كل حال، لم يرسل المحامي أحدا لاستقبالي، وقد علمت فيما بعد أن ذلك يرجع لوصولي يوم الأحد، حيث كان إرساله أي شخص لاستقبالي سيشكل إزعاجا كبيرا له، وكنت في حيرة من أمري ولم أكن أدري إلى أين أذهب، وخشيت ألا تقبل الفنادق استضافتي.
كانت محطة قطار بريتوريا في عام 1893م تختلف تماما عنها في عام 1914م. فقد كان الضوء خافتا وكان عدد الركاب قليلا، فتركت جميع الركاب يخرجون، وانتظرت حتى يفرغ الموظف المسئول عن جمع التذاكر كي أسأله عن مكان فندق صغير أمضي فيه الليلة، وإلا سأضطر إلى تمضية الليلة في المحطة، ويجب أن أقر بأنني كنت أرتجف من مجرد فكرة توجيه مثل هذه الأسئلة إليه خشية تعرضي للإهانة.
وعندما أصبحت المحطة خالية من الركاب، قدمت تذكرتي إلى موظف التذاكر وبدأت أوجه استفساراتي، فأجابني الموظف بلطف، لكنه لم يقدم لي أي مساعدة تذكر. كان هناك رجل أمريكي من الزنوج واقف بالقرب منا، فقطع حديثنا قائلا: «أرى أنك غريب تماما وليس لديك أصدقاء، تعال معي وسوف أدلك على فندق صغير يملكه أمريكي أعرفه تمام المعرفة، وأعتقد أنه سيقبل استضافتك لديه.»
كانت الشكوك تساورني بشأن ذلك العرض، ولكنني شكرته وقبلت بعرضه، وأخذني الرجل إلى فندق «عائلة جونستون»، وأخذ السيد جونستون وتحدث إليه على انفراد، فوافق الأخير على استضافتي تلك الليلة، شريطة أن أتناول عشائي في غرفتي.
قال لي السيد جونستون: «أؤكد لك أنني لا أميز بين ألوان البشر، لكن المشكلة هي أن لدي نزلاء أوروبيين ، وقد يشعرون بالإهانة أو ربما يغادرون الفندق إذا ما سمحت لك بتناول العشاء معهم في غرفة الطعام.»
فقلت له: «شكرا لك على الأقل لاستضافتك لي هذه الليلة، وأنا على دراية بدرجة ما بالأوضاع هنا، وأقدر موقفك ولا مانع لدي من تناول الطعام بغرفتي. أتمنى أن أتمكن من تدبر أمري غدا.»
ذهبت إلى غرفتي وجلست منتظرا العشاء ومتأملا، فقد كنت وحيدا تماما، ولم يكن عدد نزلاء الفندق بكثير، فتوقعت أن يحضر النادل الطعام سريعا، لكن ذلك لم يحدث، بل وجدت السيد جونستون أمامي، فقال لي: «لقد شعرت بالخزي عندما طلبت منك تناول طعامك هنا في غرفتك، لذا تحدثت إلى النزلاء وسألتهم عن رأيهم في أن تتناول الطعام معهم في غرفة الطعام، فما كان منهم إلا أن وافقوا على أن تأتي إلى غرفة الطعام وأن تمكث معنا كما تشاء، لذلك، أرجو منك أن ترافقني إلى غرفة الطعام إذا لم يكن لديك مانع، وأن تقيم في الفندق كما تشاء.»
شكرت السيد جونستون مرة أخرى، ثم ذهبت إلى غرفة الطعام وتناولت وجبة شهية.
في اليوم التالي، توجهت إلى السيد ألبرت فير بيكر
Albert Weir Baker
المحامي، الذي كان السيد عبد الله قد وصف لي بعض ملامحه، ولذلك لم يدهشني استقباله الحار لي، فقد استقبلني بحفاوة وأخذ يسألني عن نفسي وأحوالي، فأخبرته بكل شيء عن نفسي، فقال: «ليس هناك ما تفعله في هذه القضية كمحام، فقد وكلنا أفضل المحامين بالفعل. القضية التي نحن بصددها طويلة ومعقدة، لذلك سأحتاج إلى مساعدتك في الحصول على المعلومات الضرورية فقط، وبالطبع ستجعل اتصالي بموكلي أسهل حيث سأطلب كل المعلومات التي أحتاجها منه عن طريقك، وهذه ميزة بلا شك. لم أجد مسكنا لتقيم فيه بعد، فقد رأيت أنه من الأفضل أن أبحث لك عن مسكن بعد أن أراك. هنا يسود تمييز عنصري متطرف، لذلك ليس من السهل إيجاد مسكن للملونين مثلك، لكنني أعرف امرأة فقيرة، يعمل زوجها خبازا، وأعتقد أنها ستقبل استضافتك، ومن ثم تزيد من دخلها. هيا بنا نذهب إلى مسكنها.»
وهكذا اصطحبني السيد بيكر إلى منزل تلك السيدة، وقبلت السيدة - بعد أن تحدث إليها على انفراد - أن أنزل بمنزلها مقابل 35 شلنا أسبوعيا مقابل الإقامة والطعام.
كان السيد بيكر، بجانب عمله في المحاماة، واعظا مخلصا. ولا يزال السيد بيكر حيا وهو مشترك الآن في عمل تبشيري بعد أن تخلى عن المحاماة. ويتمتع السيد بيكر بالثراء. وحتى الآن لا يزال الاتصال قائما بيني وبينه، وفي جميع رسائله دائما ما يؤكد على الموضوع ذاته ألا وهو تفوق المسيحية من أوجه شتى. ويؤكد دائما أنه من المستحيل أن يتذوق المرء طعم السلام الأبدي إلا بالإيمان بأن المسيح ابن الإله ومخلص البشرية.
وقد سألني السيد بيكر في أول مقابلة لي معه عن معتقداتي الدينية، فقلت له: «أنا هندوسي المولد، لكنني مع ذلك لا أفقه الكثير عن الهندوسية، وما أعلمه عن غيرها من الديانات أقل. في الحقيقة، أنا في حيرة من أمري، فلا أعلم ما عقيدتي أو ما العقيدة التي يجب أن أعتنقها. على كل حال، أعزم على دراسة ديانتي بعناية، بالإضافة إلى الاطلاع على غيرها من الديانات قدر المستطاع.»
سر السيد بيكر بما ألقيت على مسامعه من كلمات، فقال لي: «أنا أحد أعضاء مجلس إدارة الإرسالية العامة بجنوب أفريقيا، وقد بنيت كنيسة على نفقتي الخاصة، حيث ألقي المواعظ بصورة منتظمة، أنا لست من أنصار التمييز العنصري، ولي بعض الزملاء الذين أجتمع بهم يوميا في الواحدة ونمضي دقائق معدودة في الصلاة وندعو من أجل أن يعم السلام ونور الحق. ويسعدني أن تنضم إلينا في صلواتنا، سيسر زملائي سرورا عظيما لمقابلتك، وأعتقد أنك ستحب رفقتهم أيضا. علاوة على ذلك، سأزودك بعدد من الكتب الدينية لتطلع عليها، ولكن تذكر أن أجل هذه الكتب هو الكتاب المقدس الذي أنصحك بالاطلاع عليه بصورة خاصة.»
توجهت إلى السيد بيكر بالشكر ووافقت على الانتظام في حضور صلاة الساعة الواحدة قدر المستطاع.
فتوجه إلي السيد بيكر قائلا: «إذن سأكون في انتظارك هنا غدا في الواحدة، وسنذهب معا للصلاة.» ثم ودع كل منا الآخر.
لم يكن لدي الكثير من الوقت للتفكير حينها. فذهبت إلى السيد جونستون لدفع حسابي، ثم انتقلت إلى المسكن الجديد، حيث تناولت غدائي. كانت مالكة المسكن سيدة لطيفة، حتى إنها أعدت وجبة نباتية من أجلي. وما هي إلا أيام معدودات حتى اعتدت المكان وشعرت بالدفء العائلي.
كان السيد دادا عبد الله قد أرسل معي رسالة إلى أحد أصدقائه، فعرجت عليه، وعلمت من ذلك الصديق الكثير عن معاناة الهنود في جنوب أفريقيا. وقد أصر على أن أقيم معه، لكنني شكرته وأخبرته بأنني حصلت بالفعل على مسكن، فطلب مني ألا أتردد في طلب أي شيء قد أحتاجه.
خيم الظلام، فعدت إلى البيت وتناولت عشائي، ثم ذهبت بعد ذلك إلى غرفتي واستلقيت مستغرقا في تفكير عميق، ولم يكن لدي عمل لأقوم به، وقد أخبرت السيد عبد الله بذلك. ثم فكرت وتساءلت عن سبب اهتمام السيد بيكر بي، وماذا عساي أن أستفيد من التعرف إلى زملائه المتدينين؟ وإلى أي مدى ينبغي لي أن أتعمق في دراسة المسيحية؟ وكيف لي أن أتعلم المزيد عن الهندوسية؟ وكيف لي أن أفهم المسيحية على نحو صحيح إذا لم أكن على علم بديانتي؟ فوصلت إلى استنتاج واحد: أن أدرس جميع المعارف التي تعرض علي بصورة حيادية، وأن أتعامل مع مجموعة السيد بيكر على النحو الذي يهديني إليه الإله، وينبغي لي ألا أعتنق أي دين آخر حتى أعي ديانتي بصورة كلية. وقد غلبني النعاس وأنا آخذ في التفكير.
الفصل الحادي عشر
التواصل مع الأصدقاء المسيحيين
وفي الواحدة من ظهر اليوم التالي، ذهبت إلى اجتماع السيد بيكر للصلاة، وقدمني السيد بيكر إلى السيدة هاريس والسيدة جاب والسيد كوتس وغيرهم. ركع الحضور جميعا على ركبهم للصلاة، فحذوت حذوهم. وكانت الصلاة عبارة عن التوجه إلى الإله بتضرعات لطلب أشياء عدة، كل حسب ما يرغب فيه من أمنيات. وكانت الصلوات المعتادة تتضمن مرور اليوم بسلام أو أن يفتح الإله القلوب لنور الإيمان.
وقد كان لي نصيب من الصلاة، فأخذوا يدعون: «إلهنا، أنر الطريق أمام أخينا الذي انضم إلينا حديثا، واملأ قلبه بالطمأنينة التي أنعمت علينا بها، ولينجه المسيح كما نجانا، ونحن نتضرع إليك باسم المسيح.» لم تتضمن هذه الاجتماعات أي ترانيم أو أي شكل من أشكال الموسيقى، وكان يذهب كل منا لتناول الغداء بعد التضرع إلى الإله بدعوة خاصة كل يوم، ولم تكن الصلاة تستغرق ما يزيد على خمس دقائق.
كانت السيدة هاريس والسيدة جاب عجوزين فاتهما قطار الزواج، وكان السيد كوتس ينتمي لطائفة «الكويكرز»
Quakers
1
وكانت السيدتان تعيشان معا، وقدمتا لي دعوة دائمة بتناول الشاي في منزلهما في الرابعة من كل أحد.
وقد اعتدت أن أطلع السيد كوتس كلما التقينا يوم الأحد على دفتر أعمالي الدينية في الأسبوع، وكنا نناقش الكتب التي قرأتها والانطباع الذي خلفته لدي. واعتادت السيدتان رواية خبراتهما اللطيفة والحديث عن الطمأنينة التي شعرتا بها.
كان السيد كوتس شابا وفيا وصادقا، وكنا نخرج للمشي معا، وكان يصحبني لزيارة بعض الأصدقاء المسيحيين.
وعندما توطدت علاقتنا، بدأ يعطيني كتبا من اختياره حتى أضحت مكتبتي تعج بالكتب، لقد أعطاني كما هائلا من الكتب، وقد وافقت بإيمان تام أن أقرأها جميعا، وكنا نناقش كل كتاب بمجرد انتهائي من قراءته.
فرغت من قراءة عدد من تلك الكتب في عام 1893م، في الحقيقة، لا تحضرني أسماء جميع تلك الكتب، لكن كان من ضمنها كتاب «تعليق»
Commentary
للدكتور باركر، الذي كان واعظا بكنيسة معبد المدينة، وكتاب بيرسون «الكثير من الأدلة الدامغة»
Many Infallible
، وكتاب باتلر «المقارنة»
Analogy . في الحقيقة كانت هناك أجزاء من هذه الكتب لم أفهمها، وراقني بعض الأجزاء فيها، في حين لم يرقني البعض الآخر. وقد كان كتاب «الكثير من الأدلة الدامغة» يتناول عددا من الأدلة التي تدعم الديانة المسيحية وفقا لفهم المؤلف، لكنه لم يكن له أي تأثير علي. أما كتاب الدكتور باركر فكان مثيرا على المستوى المعنوي، لكن ذلك لم يكن ليؤثر في شخص لا يؤمن بالمعتقدات المسيحية السائدة. ولكم أدهشني عمق وصعوبة كتاب باتلر «المقارنة»، حيث يجب على المرء قراءته أربع أو خمس مرات لكي يفهمه بالصورة الصحيحة، وأعتقد أن غرض باتلر من الكتاب كان إقناع الملحدين بالإيمان بوجود الإله، وكانت الدلائل على وجود الإله الواردة في الكتاب لا تعنيني في شيء، فقد تجاوزت مرحلة الإلحاد، لكنني لم أتأثر بما أورده الكتاب من أدلة على أن المسيح هو التجسيد الأوحد للإله والوسيط بين الإله والبشر.
لم يكن السيد كوتس ممن يقبلون الهزيمة بسهولة، وكان يكن لي مشاعر جياشة، فعندما رآني ذات مرة أرتدي قلادة الإله فيشنو المصنوعة من خرز الريحان حول عنقي، تألم كثيرا لاعتقاده بأنها خرافة، وقال لي: «هذه الخرافة لا تناسبك، دعني أحطمها.» - «لا، لن أدعك تفعل هذا، إنها هدية مقدسة من والدتي.» - «هل تؤمن بتلك الخرافة؟» - «لا أعلم حقا قيمتها الخفية، ولا أعتقد أن مكروها سيصيبني إذا ما نزعتها، لكنني لا أستطيع أن أتخلى عن قلادة أهدتها لي والدتي بدافع الحب وبدافع اعتقادها أن تلك القلادة ستجلب لي الخير دون سبب وجيه. لن أدع أحدا يمس هذه القلادة، ولكن عندما تبلى وتفنى تلقائيا بمرور الزمن، لن أقدم على شراء قلادة أخرى.»
لم يقدر السيد كوتس تبريري لتمسكي بالقلادة، فلم يكن لديه أي تقدير لديانتي، وكان يتطلع إلى تحريري من «هاوية الجهل» التي كان يرى أنني واقع بها. وأراد إقناعي بأنني، بغض النظر عن مقدار الحقيقة التي يمكن أن تحويها الديانات الأخرى، لن أنجو إلا إذا اعتنقت المسيحية التي تمثل «الحقيقة المطلقة»، وأن خطاياي لن تمحى إلا بشفاعة المسيح، وأن جميع الأعمال الصالحة التي أقوم بها ليس لها قيمة ما لم أعتنق المسيحية.
علاوة على تزويدي بكثير من الكتب، قدمني السيد كوتس إلى الكثير من الأصدقاء الذين كان يرى أنهم من المسيحيين المخلصين، وكان من ضمن أولئك الأصدقاء أسرة تنتمي إلى طائفة «الإخوة البلايموث»
.
2
لم أقابل أي مشاكل في كثير من العلاقات التي كان السيد كوتس مسئولا عنها، وقد أذهلني خشية معظم الذين تعرفت إليهم من الإله، وفي أثناء لقائي مع هذه العائلة، واجهني أحد المنتمين إلى «الإخوة البلايموث» بمناقشة لم أكن مستعدا لها، فقال لي: «إنك لا تدرك الجمال الذي يحويه ديننا، مما سمعت منك، يتضح لي أنه لا تمر لحظة من حياتك إلا وأنت تفكر في الآثام التي اقترفتها ، ودائما ما تحاول تصحيحها والتكفير عنها، كيف لهذه الحلقة المتواصلة أن تمنحك الخلاص من خطاياك؟ لا يمكنك الوصول إلى الطمأنينة أبدا بمثل ذلك العمل؟ لقد أقررت بأن كل البشر خطاءون، لكن في المقابل انظر إلى كمال ديننا، فكل محاولاتنا الرامية للتحسن والتكفير عديمة الفائدة، ومع ذلك نحصل على الخلاص في النهاية، كيف لنا أن نتحمل عبء الخطيئة؟ فلا يسعنا إلا أن نلقيها على عاتق المسيح، فهو ابن الرب الذي لم يعرف خطيئة. إنه هو القائل بأن هؤلاء الذين يؤمنون به، لهم حياة أبدية، تتجلى فيها رحمة الرب المطلقة. ونظرا لإيماننا بأن المسيح سيكفر عنا سيئاتنا، لا تقيدنا خطايانا. لا مفر من الخطيئة، فلا يمكن أن تعيش في هذا العالم دون أن تقترف إثما. لهذا عانى المسيح وكفر عن جميع خطايا البشرية، والذين يقبلون افتداءه العظيم وحدهم يمكنهم أن ينعموا بطمأنينة سرمدية. تأمل حياتك المليئة بالقلق، وقارنها بما تعدك به المسيحية من حياة مطمئنة.»
فشلت هذه الحجج كليا في إقناعي، فأجبت بتواضع: «إذا كان ما أخبرتني به هو المسيحية التي يؤمن بها جميع المسيحيين، فأنا لا أستطيع أن أؤمن بها. فأنا لا أنشد الخلاص من عواقب الخطايا التي اقترفتها، بل أنشد التخلص من الخطايا ذاتها، أو حتى من مجرد فكرة الخطيئة. وحتى أصل إلى غايتي تلك، سأكون راضيا بالقلق الذي أعانيه.»
فاستطرد الرجل قائلا: «صدقني، لا طائل في مسعاك هذا. أعد النظر فيما قلته لك.»
وقد طبق الرجل ما قاله عمليا، فقد ارتكب خطيئة عن عمد ليريني أنها لا تزعجه البتة.
لكنني كنت أعلم قبل أن أقابل هؤلاء الأصدقاء أنه ليس جميع المسيحيين يؤمنون بفكرة الخلاص على هذا النحو، فالسيد كوتس نفسه كان يخشى الإله، فقد كان قلبه نقيا، وكان يؤمن بإمكانية تطهير الذات، وكان يشاركه في إيمانه هذا السيدتان هاريس وجاب، وبعض الكتب التي اطلعت عليها كانت مليئة بالإخلاص. وقد أكدت للسيد كوتس - مع انزعاجه الشديد لما سمع من تجربتي الأخيرة مع ذلك الرجل من جماعة «الإخوة بلايموث» - أن الإيمان المشوه الذي تحدث عنه ذلك الرجل لم يجعلني متحاملا ضد المسيحية.
كانت الصعوبات التي تعترض طريقي تكمن في أمر آخر، ألا وهو التفسير المقبول للإنجيل.
هوامش
الفصل الثاني عشر
التواصل مع الهنود
ينبغي، قبل المضي في الحديث عن تواصلي مع المسيحيين، أن أتطرق إلى تجارب أخرى عايشتها في نفس المدة.
كانت للسيد طيب حاجي خان محمد مكانة في بريتوريا كتلك التي كان يتمتع بها دادا عبد الله في ناتال، ولم يكن من الممكن قيام حركة شعبية أيا كانت دون مشاركته. تعرفت إلى السيد طيب حاجي في الأسبوع الأول من إقامتي في بريتوريا، وأخبرته بعزمي على التواصل مع جميع الهنود المقيمين بها، وعبرت له أيضا عن رغبتي في دراسة أحوال الهنود هناك، وطلبت مساعدته في هذا، فوافق بكل سرور.
كانت الخطوة الأولى في طريق مسعاي هي الدعوة إلى عقد اجتماع موسع يضم جميع الهنود المقيمين في بريتوريا، وعرض صورة لأحوالهم في الترانسفال. عقد الاجتماع في بيت السيد حاجي محمد حاجي جوساب، الذي كنت أحمل خطاب توصية إليه، وقد كان معظم الحضور من التجار المنتمين إلى طائفة الميمان، بالإضافة إلى حضور بعض الهندوس، وكان عدد الطائفة الهندوسية في بريتوريا ضئيلا للغاية.
ويمكن القول بأن الخطبة التي ألقيتها في ذلك الاجتماع تعد أول خطبة عامة ألقيها في حياتي. وكنت قد أعددت الموضوع الذي سأتحدث عنه جيدا، وكان يدور حول الالتزام بالصدق في العمل، فلطالما سمعت التجار يتحدثون عن صعوبة الالتزام بالصدق في التجارة. لكنني لم أكن مقتنعا بذلك، ولا أزال غير مقتنع، وحتى الآن لا يزال هناك تجار يؤكدون أن الصدق والتجارة لا يجتمعان. فالعمل - كما يزعمون - مسألة دنيوية بحتة، أما الصدق فهو أمر دين، ويستطردون في زعمهم قائلين إن الأمور العملية ليس لها علاقة بالدين، فيدعون أن الصدق مستحيل في مجال التجارة، ويمكن أن يكون الإنسان صادقا فقط بالدرجة التي لا تضار بها تجارته. أخذت أفند الموقف بشدة في خطبتي، ونبهت التجار إلى واجبهم المضاعف، فقد كان التزامهم بالصدق في دولة أجنبية أعظم شأنا، لأن سلوك قلة من الهنود هو المقياس الذي يكون على أساسه الحكم على سلوك الملايين من أبناء وطنهم.
وجدت أن عادات قومي غير صحية مقارنة بمن حولهم من الإنجليز، فوجهت نظرهم لذلك الأمر، وأكدت على ضرورة إذابة جميع عوامل التفرقة والتمييز بين الهنود من هندوس ومسلمين وبارسيين ومسيحيين وجوجراتيين ومدراسيين وبنجابيين وسند وكاششيين وسوراتيين، وغيرهم. فاقترحت تشكيل جمعية تمثل حلقة الوصل بين الجالية الهندية والسلطات المختصة لمعالجة الصعاب التي يتعرض لها الهنود، وعرضت أيضا تقديم كل ما يمكنني من وقت وجهد في خدمة هذه الجمعية.
تركت خطبتي انطباعا جيدا لدى الحضور. ثم تبعتها مناقشة، عرض علي البعض فيها تزويدي بحقائق عن أوضاع الهنود في جنوب أفريقيا مما زاد من حماستي. وكان عدد قليل جدا من الحضور يفهمون اللغة الإنجليزية، فاقترحت على من لديهم متسع من الوقت تعلم اللغة الإنجليزية انطلاقا من إيماني بأن هذه اللغة ستكون مفيدة للهنود المقيمين في هذه البلاد. وأخبرتهم بأن الأوان لا يفوت أبدا على تعلم اللغة، حتى مع تقدم العمر، ثم ضربت لهم الأمثال لأشخاص تعلموا اللغات في الكبر، وتعهدت بالتدريس إذا ما أقاموا حلقة دراسية، أو بتقديم الإرشادات للراغبين منهم في تعلم الإنجليزية.
لم تتشكل حلقة دراسية، لكن عبر ثلاثة رجال عن استعدادهم لتعلم الإنجليزية في المواعيد التي تناسبهم، وبشرط أن أذهب إلى أماكن عملهم لألقنهم الدروس، وكان اثنان من الرجال الثلاثة مسلمين، أحدهما حلاق والآخر كاتب، أما الثالث فكان هندوسيا يمتلك متجرا صغيرا، فوافقت على أن أعلمهم اللغة الإنجليزية بما يتناسب مع ظروفهم. لم أشك للحظة في قدرتي على التدريس، فكان يمكن أن يشعر الرجال الثلاثة بالضجر أو الإجهاد أثناء الدروس، أما أنا فلا. وكنت أحيانا ما أذهب إلى أماكن عملهم، فأجدهم مشغولين في العمل، ومع ذلك لم يكن صبري ينفد، ولم يعتزم أي من الرجال الثلاثة التعمق في دراسة اللغة الإنجليزية، لكن يمكن القول إن اثنين منهم حققا تقدما في ثمانية أشهر، وتعلما ما يكفي من اللغة لإمساك الحسابات وكتابة خطابات العمل المعتادة. أما الحلاق فلم يتخط طموحه تعلم ما يكفيه من اللغة للتعامل مع زبائنه. وقد ساعد تعلم اللغة الإنجليزية اثنين من الرجال على تأمين دخل جيد.
كانت نتيجة الاجتماع مثمرة إلى حد بعيد. وتقرر عقد مثل هذه الاجتماعات، حسبما أذكر، أسبوعيا أو ربما شهريا، وكان انعقادها منتظما بقدر ما، وكنا نتبادل فيها الأفكار بحرية، وأصبحت الآن أعرف جميع الهنود المقيمين في بريتوريا وأعرف مشاكل كل منهم، وشجعني ذلك على التعرف إلى المعتمد السياسي البريطاني في بريتوريا، السيد جاكوب دي ويت، وكان السيد جاكوب متعاطفا مع الهنود، لكن نفوذه كان محدودا، ومع ذلك فقد وافق على مساعدتنا قدر استطاعته، ودعاني لزيارته متى شئت.
أرسلت إلى سلطات السكك الحديدية وأخبرتهم بأن القيود المفروضة على سفر الهنود، حتى في ظل وجود اللوائح الخاصة بالسكك الحديدية، غير مبررة. فجاءني رد مفاده أن تذاكر الدرجة الأولى والثانية ستصرف للهنود الذين يرتدون زيا لائقا، ولم يكن هذا الرد شافيا، فقد اعتمد على حرية ناظر المحطة في تحديد من «يرتدي زيا لائقا».
أطلعني المعتمد السياسي على بعض الأوراق المتعلقة بشئون الهنود، كتلك التي أعطانيها السيد طيب، وعلمت من هذه الأوراق مدى القسوة التي تطارد بها حكومة أورانج الحرة الهنود.
فباختصار، يمكن القول بأن إقامتي في بريتوريا مكنتني من إجراء دراسة متعمقة للأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للهنود في الترانسفال وأورانج الحرة، ولم أكن أدري وقتها أن تلك الدراسة سوف تعود علي بفائدة عظيمة في المستقبل، وكنت أفكر في العودة إلى الوطن في نهاية العام أو قبل ذلك فور انتهاء القضية، لكن القدر شاء غير ذلك.
الفصل الثالث عشر
شعورك وأنت «قولي»
المقام هنا لا يسمح بذكر وصف كامل لأحوال الهنود في الترانسفال ودولة أورانج الحرة، وأقترح على من يرغب في الحصول على فكرة كاملة عن تلك الأحوال أن يطلع على كتابي «الساتياجراها في جنوب أفريقيا».
1
على كل حال، أرى أن من الضروري إعطاء لمحة عن أحوال الهنود تلك.
كان الهنود في دولة أورانج الحرة محرومين من جميع حقوقهم بموجب قانون خاص صدر عام 1888م وربما قبل ذلك، فعلى من يرغب من الهنود في الإقامة بها، أن يعمل نادلا في الفنادق أو خادما فحسب، وكان يمنع التجار من مزاولة نشاطهم مقابل حصولهم على تعويضات ضئيلة، وقد قدموا شكاوى وعرائض دون جدوى.
صدر قانون صارم للغاية في الترانسفال في عام 1885م، وأضيفت تعديلات طفيفة عليه عام 1886م. وقد نص القانون المعدل على فرض ضريبة مقدارها 3 جنيهات إسترلينية كرسم دخول إلى الترانسفال، ولا يجوز للهنود تملك الأراضي إلا في بعض الأجزاء المخصصة لهم، ولكن في حقيقة الأمر لم يكن تملكهم لهذه الأجزاء ملكية حقيقية لعدم تمتعهم بحق الامتياز. وكانت كل هذه الأحكام مفروضة بموجب القانون الخاص بالآسيويين، الذين كانوا يخضعون أيضا إلى قوانين الملونين، وكانت قوانين الملونين هذه تمنع سير الهنود على الطرق المخصصة للمشاة أو الخروج من منازلهم بعد التاسعة مساء دون تصريح، وكان تطبيق حكم منع الخروج من المنازل بعد التاسعة مساء مرنا فيما يتعلق بالهنود، فالهنود من «العرب» كانوا يستثنون من ذلك الحكم على سبيل المجاملة، وهكذا كان الاستثناء يتوقف على أهواء رجال الشرطة.
وقد كتب لي أن أعاني مرارة الحكمين، فكنت كثيرا ما أخرج ليلا مع السيد كوتس للمشي، وكنا عادة ما نتأخر بالخارج حتى العاشرة مساء، كان السيد كوتس أكثر مني قلقا حيال إمكانية إلقاء الشرطة القبض علي، وكان يمنح خادميه الزنوج تصريحات، لكن كيف له أن يمنحني تصريحا أنا الآخر؟ فالسيد يمكنه فقط منح تصريح لخادمه، وحتى في حالة رغبتي في الحصول على تصريح منه، واستعداده لمنحي إياه، لم نكن لنقدم على مثل هذه الفعلة لأن ذلك يعد احتيالا.
فاصطحبني السيد كوتس أو بعض أصدقائه إلى النائب العام، الدكتور كروس، وتبين أنني والسيد كروس تخرجنا في نفس الجمعية القانونية، وكان من الصعب عليه منحي تصريحا يسمح لي بالتواجد خارج المنزل بعد التاسعة مساء، لكنه عبر عن تعاطفه معي، وبدلا من منحي التصريح أعطاني خطابا يسمح لي بالتواجد خارج المنزل في أي وقت دون تعرض الشرطة، وكنت أحمل هذا الخطاب أينما ذهبت، وكان عدم اضطراري لاستخدام ذلك الخطاب يعد من قبيل الصدفة المحضة.
دعاني الدكتور كروس إلى منزله، ويمكن القول بأننا أصبحنا أصدقاء، وكنت أزوره أحيانا، حتى إن الفضل يرجع إليه في تعرفي إلى أخيه ذائع الصيت الذي كان يعمل رئيسا للنيابة في جوهانسبرج، وقد خضع لمحاكمة عسكرية في حرب البوير بتهمة التآمر على قتل جندي إنجليزي، وقد حكم عليه بالسجن سبع سنوات، وشطب من نقابة المحامين، إلا أنه قد أطلق سراحه عقب انتهاء أعمال العنف، ومارس عمله بالمحاماة بعد قبوله مرة أخرى في نقابة محامي الترانسفال على نحو مشرف.
عادت علي مثل هذه العلاقات بالنفع فيما بعد في حياتي العامة، وسهلت الكثير من عملي.
أما عواقب قانون منع السير على طرق المشاة فكانت أكثر خطورة علي، كنت دائما ما أخرج للمشي عبر شارع بريزيدنت حتى أصل إلى سهل مترامي الأطراف، وكان منزل الرئيس كروجر
2
يقع في ذلك الشارع، وكان يتسم بالتواضع والبساطة وغير محاط بحديقة، فلم يكن هناك ما يميز المنزل عن بقية المنازل المجاورة له، وكانت منازل العديد من الأثرياء في بريتوريا أكثر فخامة من منزله ومحاطة بالحدائق. في الحقيقة، كان الرئيس كروجر معروفا ببساطته، ولولا الشرطي الواقف أمام المنزل ما انتبه المارة إلى أن المنزل يخص أحد المسئولين، وكنت عادة ما أسير على طريق المشاة مارا بذلك الشرطي دون أن يتعرض لي.
كان الشرطي يتغير من وقت إلى آخر، وفي أحد المرات، دفعني الشرطي المسئول وجرني بعيدا عن الطريق دون سابق إنذار ودون حتى أن يطلب مني الابتعاد عن الطريق، فهالني الموقف كثيرا. وقبل أن أستفسر عن تصرفه هذا، وجدت السيد كوتس، الذي كان مارا من نفس الشارع على ظهر حصان، يهتف قائلا: «لقد رأيت كل ما حدث يا غاندي. ويسعدني أن أشهد معك في المحكمة إذا ما قاضيت ذلك الشرطي، أعتذر لتعرضك لمثل هذا الاعتداء العنيف.»
فأجبته قائلا: «لا داعي للاعتذار؛ فالشرطي لا يعرف شيئا، فالملونون جميعا عنده سواء. لا شك أنه يعامل الزنوج بنفس الطريقة التي عاملني بها، ولقد عاهدت نفسي ألا أقاضي أي شخص لمظلمة تخصني، ولذلك لن أقاضي ذلك الشرطي.»
فقال لي: «هكذا أنت دائما يا غاندي، لكن أرجو أن تعيد التفكير في الأمر. يجب علينا أن نلقن من هم على شاكلة ذلك الشرطي درسا.» ثم تحدث السيد كوتس إلى الشرطي وعنفه بشدة، ولم أستطع فهم الحديث الذي دار بينهما لأنهما كانا يتحدثان باللغة الهولندية نظرا لكون الشرطي من البوير، فاعتذر لي الشرطي مع عدم وجود حاجة للاعتذار، فقد كنت سامحته بالفعل.
على أنني لم أسر في ذلك الشارع منذ ذلك الحين، فسوف يأتي أشخاص آخرون مكان ذلك الشرطي، ويمكن أن يتصرفوا مثلما تصرف هو لجهلهم بما حدث، فلماذا أخاطر بتعرضي للضرب مرة أخرى من غير داع؟ فاخترت طريقا آخر للمشي.
زادت هذه الواقعة من شعوري بمعاناة الجالية الهندية، فناقشت معهم فكرة رفع دعوى في حالة الحاجة إلى ذلك، بعد رؤية المعتمد السياسي البريطاني لمناقشة هذه القوانين.
وهكذا استطعت أن أدرس الأوضاع القاسية التي تعانيها الجالية الهندية عن كثب، ليس فقط من خلال ما قرأته وسمعته ولكن من خلال التجربة الشخصية أيضا. واتضح لي أن الهنود لا يلاقون الاحترام الملائم في جنوب أفريقيا، وأصبح ذهني مشغولا أكثر فأكثر بكيفية تحسين هذه الأوضاع.
لكن مهمتي الرئيسية في ذلك الحين كانت تقتصر على حضور قضية السيد دادا عبد الله.
هوامش
الفصل الرابع عشر
التحضير للقضية
كان العام الذي قضيته في بريتوريا يضم أفضل الخبرات التي عايشتها في حياتي، فهناك توفرت لي الفرصة لتعلم الخدمة العامة وأدركت بعض الشيء مدى قدرتي على القيام بمثل ذلك العمل. وهناك أصبحت الروح الدينية قوة حية بداخلي، واكتسبت معرفة حقيقية بممارسة المحاماة. وتعلمت الأمور التي يتعلمها المحامي الصغير من المحامي الأكثر خبرة، واكتسبت الثقة التي تمكني من النجاح في هذه المهنة. وهكذا تعلمت أسرار النجاح كمحام.
كانت قضية دادا عبد الله كبيرة، فقد كانت الدعوى للمطالبة بمبلغ 40000 جنيه إسترليني، وكانت القضية مليئة بالحسابات المتداخلة لأنها كانت قائمة على العمليات التجارية، وكان جزء من الدعوى يرتكز على سندات إذنية والآخر على التنفيذ العيني للتعهد بتسليم سندات إذنية. وكان الدفاع يرتكز على القول بأن السندات الإذنية جرى الحصول عليها بالاحتيال وأنه لا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. كانت هذه القضية المعقدة تحتوي على العديد من الوقائع والمسائل القانونية.
وقد وكل كلا الطرفين أفضل المحامين، مما أتاح لي فرصة دراسة كيفية عملهم. عهد إلي بإعداد حجة الادعاء للمحامي وفحص الوقائع التي تدعم حجته، وكنت أتعلم الكثير برؤية مقدار ما يقبله المحامي أو يرفضه من عملي، وأيضا برؤية مقدار استفادة مجموعة المحامين من المذكرة التي يعدها المحامي، ورأيت أن الإعداد للقضية سيجعلني أدرك مدى قدرتي على الفهم وقدرتي على تنظيم الأدلة.
لقد كنت شديد التحمس للقضية، حتى إنني كرست كل وقتي لها، فقرأت كل الأوراق المتعلقة بالمعاملات التجارية، وكان موكلي ذا نفوذ واسع وكان يثق بي ثقة مطلقة مما سهل مهمتي للغاية. عكفت على دراسة مسك الدفاتر حتى اكتسبت قدرا جيدا من المعرفة في هذا المجال، وتحسنت قدرتي على الترجمة نتيجة لترجمتي للمراسلات التي كان معظمها باللغة الجوجراتية.
ذكرت فيما سبق أنني كنت مهتما بالمسائل الدينية والخدمة العامة، وكنت دائما ما أخصص بعضا من وقتي لتلك الأعمال، لكن في هذه المدة لم تكن تلك الأعمال أولى اهتماماتي، بل كانت الأولوية لإعداد القضية، وكنت أعطي الأولوية لقراءة القانون ومراجعة القضايا القانونية عند الضرورة، ونتيجة لذلك أدركت وقائع القضية بصورة ربما لم يدركها بها أي من الطرفين؛ نظرا لما توفر لدي من مستندات تتعلق بكل من الطرفين.
تذكرت نصيحة الراحل السيد بينكت التي تقول بأن الوقائع هي ثلاثة أرباع القانون. وقد أكد تلك الكلمات فيما بعد الراحل السيد ليونارد، المحامي المشهور بجنوب أفريقيا. وبدراستي لإحدى القضايا التي كنت أتولاها، رأيت أنه مع أن العدالة في جانب موكلي فإن القانون كان ضده، فلجأت إلى السيد ليونارد طالبا العون، وقد رأى هو أيضا أن الوقائع دامغة، فقال لي: «لقد تعلمت أمرا واحدا يا غاندي، وهو أنه علينا أن نهتم بوقائع القضية وسوف يهتم القانون بنفسه، دعنا نتعمق أكثر في دراسة وقائع القضية.» فطلب مني التعمق أكثر في دراسة القضية، ثم أطلعه على ما توصلت إليه. بدت لي الوقائع مختلفة تماما عندما أعدت دراستها، وعثرت على قضية قديمة وقعت في جنوب أفريقيا تدور حول نفس المسألة، فشعرت بالسعادة وذهبت إلى السيد ليونارد وأخبرته بكل شيء فقال: «حسنا، سوف نربح القضية لكن علينا أن نضع في عين الاعتبار أي قاض سينظرها.»
عندما كنت أعد لقضية دادا عبد الله، لم أكن قد أدركت الأهمية العظمى للوقائع بصورة كاملة، فالوقائع تعني الحقيقة، وما إن نلتزم بالحقيقة فسرعان ما نجد القانون في صفنا بصورة تلقائية، وكان جليا أن وقائع قضية السيد دادا عبد الله كانت دامغة للغاية، وأنه يجب أن يكون القانون في جانبه، ولكنني في الوقت نفسه رأيت أن الاستمرار في الدعوى سيؤدي إلى الإضرار بكل من المدعي والمدعى عليه، وهما قريبان وينتمون إلى المدينة ذاتها. ولم يكن أحد يدري المدة التي يمكن أن يستغرقها نظر القضية، ففي حالة استمرار التقاضي في المحكمة، يمكن أن تستمر القضية لأجل غير مسمى ولن يكون ذلك في مصلحة أي من الطرفين، ولذلك كان كل من الطرفين يرغب في حل فوري لهذه القضية، إن وجد.
نصحت السيد طيب باللجوء إلى التحكيم، واقترحت عليه أن يستشير محاميه، وأخبرته أنه في حالة التمكن من تعيين محكم يثق به كلا الطرفين، فإن ذلك سيؤدي إلى إنهاء القضية في وقت أسرع. وكانت أتعاب المحامين تتزايد بسرعة حتى إنها كانت تلتهم جميع أموال الموكلين، وهم من كبار التجار، وكانت القضية تستحوذ على وقتهم بأكمله، فلا يتبقى لهم وقت للقيام بأي عمل آخر. وفي غضون ذلك كان الشعور بالبغض يتزايد بين الطرفين، ونما لدي شعور ببغض المهنة. كان على محامي كل من الطرفين استثارة الأجزاء القانونية التي تدعم موكليهم. ورأيت للمرة الأولى أن الطرف الذي يربح القضية لا يسترد التكاليف التي تحملها أبدا. وينص قانون الأتعاب القضائية على مقياس ثابت للتكاليف المسموح بها بين طرف وآخر وأعلى تكلفة هي التكاليف الفعلية بين المحامي والموكل، فلم أستطع تحمل ذلك الوضع، وشعرت أن من واجبي أن أساعد الطرفين وأسوي الأمر بينهما، فبذلت كل ما في وسعي للتوصل إلى تسوية، حتى وافق السيد طيب في النهاية، وعين محكم لنظر القضية، وفاز بالقضية دادا عبد الله.
لكنني لم أكن أشعر برضى تام، ففي حالة التنفيذ الفوري لحكم التحكيم، سيكون من المستحيل أن يتمكن السيد طيب من سداد المبلغ المحكوم به الذي يبلغ نحو 37000 جنيه إسترليني بالإضافة إلى المصروفات. وكان هناك مبدأ ضمني بين الميمان المنتمين إلى بورباندار الذين يعيشون في جنوب أفريقيا، وهو أن الموت أحب إليهم من الإفلاس. وكان السيد طيب يعتزم سداد المبلغ بالكامل، ولم يكن يرغب في الوقت ذاته في الإفلاس. فكانت هناك طريقة واحدة لإنقاذ الموقف، وهي أن يسمح له السيد دادا عبد الله بسداد المبلغ على أقساط، وكان السيد دادا عبد الله مقدرا لوضع السيد طيب، فقبل بتجزئة المبلغ على بضع سنوات، وكان أمر إقناع السيد دادا عبد الله بقبول تجزئة المبلغ أكثر مشقة علي من إقناعهم باللجوء إلى التحكيم. ما يهم في الأمر أن الطرفين كانا راضيين بما أسفرت عنه التسوية، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع منزلتهم بين العامة، وكانت السعادة تغمرني حينها، فقد تعلمت مهنة المحاماة الحقيقية، وتعلمت اكتشاف الجانب الأفضل من الطبيعة البشرية وأن أتعمق في قلوب البشر، وأدركت حينها أن مهمة المحامي الحقيقية تكمن في الإصلاح بين الخصوم. وهكذا رسخ الدرس الذي تعلمته من القضية في ذهني، حتى إنني قضيت العشرين سنة التالية من ممارستي للمحاماة مشغولا معظم الوقت بالتوصل إلى تسويات خاصة لمئات القضايا، ولم يجعلني ذلك أخسر شيئا، ولا حتى المال - وبالطبع لم يجعلني أخسر نفسي.
الفصل الخامس عشر
الاضطراب الديني
الآن أعود لقص تجاربي مع الأصدقاء المسيحيين، فقد أصبح السيد بيكر قلقا بشأن مستقبلي، فدعاني لحضور مؤتمر ويلنجتون، حيث ينظم المسيحيون البروتستانت هذه الاجتماعات كل بضع سنوات بهدف التنوير الديني أو بعبارة أخرى تطهير النفس، ويمكن أن نطلق على ذلك النوع من الاجتماعات الإحياء الديني، وقد كان مؤتمر ويلنجتون ينتمي لهذا النوع من الاجتماعات. وكان رئيس المؤتمر القس المبجل أندرو موراي. وظن السيد بيكر أن جو السمو الديني الذي كان يملأ المؤتمر وحماسة الحضور وخشوعهم سيجعلني بلا شك أعتنق المسيحية.
كان أمله الأخير يتمثل في تأثير الصلاة، فقد كان يتمتع بإيمان راسخ في الصلاة، وكانت لدى السيد بيكر قناعة راسخة بأن الإله لا يقبل إلا الصلاة المؤداة بإيمان راسخ، وكان يستشهد بذكر أشخاص مثل جورج مولر من مدينة بريستول، الذي كان يعتمد على الصلاة بصورة مطلقة حتى عندما يكون له حاجة دنيوية. استمعت إلى حديثه عن تأثير الصلاة بحياد، ثم أخبرته أنه عندما ينفتح قلبي للمسيحية لن يمنعني من اعتناقها شيء، ولم أتردد للحظة في إخباره بذلك، فلقد اعتادت نفسي أن تتبع صوت ضميري، ولطالما أسعدني أن أتبع ذلك الصوت الذي ينبع من داخلي، فكان من المؤلم ومن الصعب علي عدم الإنصات له.
توجهنا إلى ويلنجتون، حيث تعرض السيد بيكر للكثير من المشاكل بسبب اصطحابه «شخصا ملونا» مثلي. فقد تعرض إلى عدة مضايقات في مناسبات شتى بسببي، واضطررنا إلى أخذ راحة قصيرة في أثناء الرحلة لأنه كان يوم الأحد ولم يكن السيد بيكر أو مجموعته يسافرون في ذلك اليوم، وبعد جدال طويل وافق مدير فندق المحطة على استضافتي، لكنه مع ذلك رفض بصرامة أن أتناول الطعام في غرفة الطعام، لكن السيد بيكر لم يكن سهل الاستسلام، ودافع عن حقوق النزلاء. كنت أرى معاناته وأشعر بضيقه. مكثت معه في ويلنجتون أيضا، وشعرت بما يعانيه من مشاكل صغيرة وذلك مع محاولاته المضنية لإخفائها عني.
كان المؤتمر يتكون من حشد من المسيحيين المخلصين، الذين أثار انتباهي إيمانهم. قابلت القس المبجل موراي، وكانت معظم الصلوات من أجلي. وقد راقني بعض ترانيمهم نظرا لعذوبتها.
استمر المؤتمر ثلاثة أيام، أدركت فيها إخلاص الحاضرين وأعجبت بهم، لكنني لم أجد سببا وجيها لتغيير ديني، وكان من المستحيل أن أؤمن بأن الخلاص ودخول الجنة مرهون فقط باعتناقي المسيحية، وقد صدم بعض أصدقائي المسيحيين عندما أخبرتهم بوجهة نظري هذه، لكنني كنت مؤمنا بها تماما.
المشكلة الحقيقة كانت أعمق من ذلك، فلم أستطع أن أؤمن بأن المسيح هو ابن الرب الأوحد الذي تجسدت فيه روحه، وأن أولئك الذين يؤمنون به وحدهم سينعمون بحياة سرمدية، فإن كان للرب أن يكون له ولد، فجميعنا أبناؤه، وإن كان المسيح مثل الرب أو هو الرب ذاته، فجميع البشر مثل الرب ويمكن أن يكونوا الرب ذاته. ولم أستطع تصديق أن المسيح افتدى بموته ودمه خطايا البشر جميعا بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن لو نظرنا للأمر على نحو مجازي فيمكن أن يحمل بين طياته بعض الحقيقة. علاوة على ذلك، تقول المسيحية بأن البشر وحدهم لهم روح أما غيرهم من الكائنات الحية فالموت يعني لهم الفناء التام، لكنني كنت أرى غير ذلك. كان من الممكن أن أتقبل المسيح شهيدا وتجسيدا للتضحية ومعلما جليلا، لكن ليس كأكمل إنسان عرفته البشرية. كان موت المسيح على الصليب يمثل عبرة للعالم أجمع، لكنني لم أجد في ذلك أي أثر غامض أو خارق في قلبي. ولم تضف لي سير حياة المسيحيين الصالحين ما يزيد على الذي يمكن أن أحصل عليه من حياة الصالحين في أي دين آخر، فلقد وجدت في حياة آخرين ممن ينتمون لديانات أخرى نفس الإصلاح الديني الذي سمعت المسيحيين يتحدثون عنه. ومن الناحية الفلسفية، لم أجد ما يميز المعتقدات المسيحية، بل وجدت أن الهندوس يفوقون المسيحيين بدرجة كبيرة فيما يتعلق بالتضحية، فكان من المستحيل أن أؤمن أن المسيحية دين كامل أو أنها أكمل الديانات.
أطلعت أصدقائي المسيحيين على تلك الأفكار كلما سنحت الفرصة، لكن إجاباتهم لم تكن مقنعة.
وهكذا لم أقبل بالمسيحية كديانة كاملة أو أكمل الديانات، ولا حتى بأن الهندوسية كذلك. وكانت نقائص الهندوسية جلية أمامي، فلو أن فكرة «النبذ» جزء من الهندوسية، فهي إذن جزء فاسد أو غير مرغوب فيه. ولم أستطع فهم سبب وجود الكثير من الطوائف والطبقات. وما معنى قولنا بأن الفيدا
1
هي كلمات الإله الموحاة؟ وإذا كانت هي كلمات الإله الموحاة، فلماذا لا يكون الإنجيل والقرآن وحيا من عند الإله أيضا؟
ومثلما كان أصدقائي المسيحيون يسعون إلى إقناعي باعتناق المسيحية، كان أصدقائي المسلمون يسعون إلى دخولي في الإسلام، فقد ظل السيد عبد الله يحثني على دراسة الإسلام، وكان دائما يحكي لي عن عظمة ذلك الدين.
كتبت إلى رايشاندباي معبرا عن الأفكار التي تراودني، وراسلت الكثير من المؤسسات الدينية في الهند وتلقيت ردودا منها. وكان خطاب رايشاندباي مطمئنا إلى حد بعيد، حيث أخبرني أن أتحلى بالصبر وأدرس الهندوسية بتعمق أكبر. قال لي في إحدى الجمل التي كتبها في خطابه: «عند النظر إلى المسألة بحيادية، أرى أنه لا توجد ديانة تتمتع بالفكر السامي والعميق الذي تتمتع به الهندوسية أو برؤيتها للروح أو بإحسانها.»
اشتريت ترجمة جورج سال للقرآن وبدأت في قراءتها، وحصلت على عدد من الكتب التي تتحدث عن الإسلام، وراسلت بعض الأصدقاء المقيمين في إنجلترا، وعرفني أحدهم على إدوارد ميتلاند
2
الذي بدأت في مراسلته. أرسل لي إدوارد كتاب «الطريقة المثلى» الذي كتب بالتعاون مع آنا كينجسفورد، وكان الكتاب يتناول التبرؤ من العقيدة المسيحية الشائعة وقتها. وأرسل لي كتابا آخر يحمل عنوان «التفسير الجديد للإنجيل»، وقد أعجبني الكتابان، ورأيت أنهما يؤيدان مبادئ الهندوسية. بالإضافة إلى ذلك، أثر في كتاب تولستوي «مملكة الإله تكمن بداخلك» جليل الأثر، فبدت جميع الكتب التي أطلعني عليها السيد كوتس عديمة القيمة أمام التفكير المستقل والأخلاقيات العميقة والصدق الذي يتسم به هذا الكتاب.
هكذا قادتني دراستي لتلك الكتب إلى اتجاه لم يتوقعه أصدقائي المسيحيون. واستمرت مراسلتي لإدوارد ميتلاند لمدة طويلة، واستمرت مراسلاتي مع رايشاندباي حتى وافته المنية. وقرأت بعض الكتب التي أرسلها لي، منها «بانشيكاران»
و«مانيراتنامال»
Maniratnamala
و«موموكشو براكاران أوف يوجافاسيشثا»
Mumukshu Prakaran of Yogavasishtha
وكتاب «شادارشانا ساموشايا» لكاتبه هاريبادرا سوري
Haribhadra Suri’s Shaddarshana Samuchchaya
وغيرها.
ولقد بقيت ممتنا لأصدقائي المسيحيين لأنهم جعلوني أخوض في رحلة البحث الديني تلك، مع أنني سلكت طريقا غير الذي تمنوه، ولن أنسى أبدا الأيام التي قضيتها معهم. وكان الزمن يحمل لي بين طياته المزيد من هذه العلاقات الجميلة والروحانية.
هوامش
الفصل السادس عشر
وتقدرون فتضحك الأقدار
لم يكن هناك حاجة لبقائي في بريتوريا بعد انتهاء القضية، فعدت إلى دربان وأخذت أستعد للعودة إلى الوطن، لكن السيد عبد الله لم يكن ليدعني أرحل دون أن يودعني، فأقام حفلة توديع على شرفي في سيدينهام.
وعرض علي أن أمضي اليوم كله في سيدينهام، وبينما أنا أقلب صفحات بعض الجرائد التي وجدتها هناك، إذ بخبر في زاوية إحدى الصفحات بعنوان «حق تصويت الهنود»، وكان الخبر يشير إلى مشروع قانون تنظره الهيئة التشريعية، والذي كان يقضي بحرمان الهنود من حقهم في انتخاب أعضاء المجلس التشريعي بناتال، ولم أكن على دراية بمشروع القانون، وكذلك الموجودون بالحفلة.
سألت السيد عبد الله عن مشروع القانون، فأجابني: «لا علاقة لنا بهذه الأمور، فلا يعنينا إلا المسائل التي تؤثر على تجارتنا، وأنت تعلم أن جميع تجارتنا الموجودة في حكومة أورانج الحرة قد قضي عليها، وقد حاولنا الاحتجاج ولكن دون جدوى. نحن ضعفاء بجهلنا، ونطلع على الصحف لمجرد معرفة أسعار السوق اليومية. ماذا نفهم نحن في التشريع؟ فالمحامون الأوروبيون هم عيني التي أرى بها هنا وأذني التي أسمع بها.»
فقلت له: «هناك العديد من الشباب الهنود ولدوا وتعلموا هنا، لماذا لا يساعدونكم؟»
فأجابني في يأس: «هم لا يكترثون لحالنا، وإحقاقا للحق نحن أيضا لا نهتم بمعرفتهم. فاعتناقهم للديانة المسيحية جعلهم خاضعين لرجال الدين من البيض، الذين يخضعون بدورهم للحكومة.»
فأدركت حينها الوضع، ورأيت أنه من حقنا المطالبة بانتماء هذه الفئة إلى الهنود. هل هذا هو ما تعنيه المسيحية؟ هل تخلوا عن كونهم هنودا لاعتناقهم المسيحية؟
ترددت في البوح بما يجول في خاطري نظرا لأنني كنت أستعد للعودة إلى الوطن، فقلت للسيد عبد الله ببساطة: «إقرار هذا القانون سيجعل وضعنا صعبا ، إنه أول مسمار يوضع في نعشنا، ويستهدف احترامنا لذاتنا.»
فأجابني: «دعني أخبرك بأصل مسألة حق التصويت هذه، لم نكن على علم بالأمر، لكن السيد إسكومب، وهو من أفضل المحامين لدينا، زرع هذه الفكرة في عقولنا، وهذا ما حدث. كان السيد إسكومب مناضلا عظيما، لكنه لم يكن على وفاق مع مهندس رصيف الميناء، فخشي السيد إسكومب أن يحرمه المهندس من أصواته ويهزمه في الانتخابات، فأعلمنا بوضعنا، وسجلنا أسماءنا جميعا بناء على طلبه في كشوف الناخبين، وصوتنا لمصلحته. وهكذا ترى الآن كيف أن قانون حق التصويت لا يمثل أي قيمة لنا. لكننا نعي ما تريد إخبارنا به، فماذا تقترح؟»
كان بقية الحضور ينصتون إلى المحادثة باهتمام، فقال أحدهم: «هل أخبرك بما علينا فعله؟ تعدل عن سفرك وتمكث معنا شهرا آخر وسوف نناضل جميعا إلى جانبك.»
فهتف الجميع: «بالطبع بالطبع، يا سيد عبد الله، يجب أن تمنع غاندي من الرحيل.»
كان السيد عبد الله داهية، فقال لهم: «لا يسعني أن أمنعه من السفر، وأنتم مثلي لا تملكون الحق في منعه من السفر، لكنكم على حق، هيا بنا جميعا نقنعه بالعدول عن السفر والبقاء معنا، لكن عليكم أن تتذكروا جميعا أنه محام ويجب أن يتلقى أتعابه.»
لقد آلمني ذكر السيد عبد الله للأتعاب، فقاطعته قائلا: «يستحيل أن أقبل أتعابا نظير القيام بخدمة عامة. يمكنني أن أبقى معكم، إن استطعت، خادما لمصالحكم. وكما تعلم يا سيد عبد الله فأنا لا أعرف جميع الأصدقاء الحضور، لكنك إن ضمنت لي تعاونهم فأنا مستعد إلى مد إقامتي شهرا آخر، ولكن هناك أمر أود أن أطرحه، مع أنني لن أتلقى أي أتعاب عن عملي هذا، سنكون في حاجة لبعض المال للبدء في مهمتنا. فسنحتاج إلى إرسال البرقيات وربما نحتاج لطباعة بعض المطبوعات والقيام ببعض الجولات وربما نحتاج إلى استشارة بعض المحامين المحليين، ذلك بالإضافة إلى احتياجي لبعض المراجع للاطلاع على قوانين البلاد هنا، ولا نستطيع تحقيق كل ذلك دون توافر الأموال، علاوة على أن رجلا واحدا لن يستطيع القيام بكل هذه المهام وحده، فيجب أن يتطوع بعض الرجال لمساعدتي.»
فعلا صوت الهتاف: «الله أكبر، الله رحيم. سنوفر المال، أما الرجال فلدينا من الرجال ما تحتاج، ما عليك إلا أن توافق على البقاء معنا، وسيكون كل شيء كما تريد.»
وبهذا تحولت حفلة الوداع إلى لجنة عمل، فاقترحت الانتهاء من العشاء وغيره من المراسم بسرعة حتى يمكننا العودة إلى منازلنا. ووضعت في ذهني مخططا للحملة التي سنقوم بها، وتحققت من أسماء الأشخاص المسجلين في كشوف الناخبين، وقررت البقاء لمدة شهر.
هكذا دبر الإله حياتي في جنوب أفريقيا، وغرس بذرة النضال من أجل الكرامة الوطنية.
الفصل السابع عشر
الاستقرار في ناتال
كان السيد حاجي محمد حاجي دادا يعد زعيما للجالية الهندية في ناتال في 1893م. وكان السيد عبد الله حاجي آدم أكبر الأثرياء الهنود، لكن جميع الهنود بما فيهم السيد عبد الله حاجي آدم كانوا يقدمون السيد حاجي محمد عليهم في القضايا العامة، فعقد اجتماع برئاسته في منزل السيد عبد الله تقرر فيه الاحتجاج على مشروع قانون الحرمان من حق التصويت.
وفد كثير من المتطوعين لحضور هذا الاجتماع، ودعي الهنود المولودون في ناتال، الذين كان أغلبهم من الشباب الهندي المسيحي، وكان من الحضور السيد باول، مترجم محكمة دربان، والسيد سوبان جودفري، مدير إحدى المدارس التبشيرية، وقد كانت مهمتهم جمع أكبر عدد من الشباب المسيحي في الاجتماع، وقد كانوا جميعا متطوعين.
وانضم إلينا كثير من التجار المحليين، ومن الجدير بالذكر انضمام السادة داود محمد ومحمد قسام قمر الدين وأدامجي مياخان وأيه كولاندافيلو بيلاي وسي لاشيرام ورانجاسامي بادياشي وعماد جيفا. علاوة على ذلك، انضم إلينا بالطبع بارسي روستومجي. ومن الكتبة الذين انضموا إلينا، السادة مانيكجي وجوشي ونارسينرام وغيرهم من العاملين لدى دادا عبد الله وشركائه وغيرها من الشركات الكبرى. ولقد فوجئوا جميعا عندما وجدوا أنفسهم يشاركون في الخدمة العامة، فدعوتهم للمشاركة فيها وكانت تجربة جديدة عليهم. وفي ظل النكبة التي تعرضت لها الجالية، زالت كل الفوارق بين الهنود من غني وفقير، وعظيم ووضيع، وسيد وخادم، وهندوسي ومسلم وبارسي ومسيحي وجوجراتي ومدراسي وسندي، وغيرها من الفوارق التي طالما شتتت شمل الهنود، فأصبح الجميع سواسية ويعملون كأبناء وخادمين للوطن.
اجتاز مشروع القانون، أو كاد أن يجتاز، مرحلة المناقشة الثانية بالمجلس، وقد استخدم عدم احتجاج الهنود على مشروع القانون الصارم في الكلمات التي تناولت المسألة دليلا على عدم أهليتهم للتصويت.
شرحت الوضع للحضور، وأول خطوة أقدمنا عليها كانت إرسال برقية إلى رئيس المجلس لطلب إرجاء أي مداولات تتعلق بمشروع القانون، وأرسلنا برقية إلى رئيس الوزراء، السيد جون روبنسون، وأخرى إلى السيد إسكومب بصفته صديق السيد دادا عبد الله. وجاء رد رئيس المجلس سريعا بأن المداولات بشأن مشروع القانون ستؤجل لمدة يومين، الأمر الذي أضفى على أنفسنا البهجة والسرور.
وضعنا صيغة العريضة التي ستقدم إلى المجلس التشريعي، وكان يجب تحرير ثلاث نسخ للمجلس وواحدة للصحافة، وجعلنا العريضة متاحة لجمع أكبر عدد من التوقيعات، وكان لا بد أن ينتهي كل ذلك العمل في ليلة واحدة، فأمضى المتطوعون ممن يعرفون اللغة الإنجليزية وغيرهم الليل بطوله في العمل. كتب النسخة الرئيسية من العريضة السيد آرثر، وهو رجل كبير السن معروف بحسن خطه في الكتابة، أما باقي النسخ فكتبها آخرون إملاء، وبهذا أصبح هناك خمس نسخ جاهزة في وقت واحد. وخرج التجار المتطوعون على عرباتهم أو العربات التي دفعوا ثمن إيجارها لجمع التوقيعات على العريضة، فأنجزت كل هذه المهام في وقت وجيز، وأرسلنا العريضة، التي نشرتها الصحف وأيدتها، والتي أثرت في أعضاء المجلس. وعند مناقشة العريضة في المجلس، تقدم المؤيدون للقانون بحجج واهية للرد على ما جاء في عريضة الاحتجاج، ومع ذلك كله، صدر القانون.
كنا نعلم جميعا أن إصدار القانون كان أمرا معدا مسبقا، لكن الثورة التي حدثت بثت روحا جديدة في أفراد الجالية، وجعلتهم يدركون أن الجالية الهندية هي كيان واحد لا يتجزأ، وأن من واجبهم الدفاع عن الحقوق السياسية للجالية بقدر واجبهم المتمثل في الدفاع عن حقوقها التجارية. كان اللورد ريبون وقتها يشغل منصب وزير المستعمرات، وكان من المقرر إرسال عريضة مطولة إليه، لكن المهمة لم تكن بهذه البساطة. انضم إلينا المتطوعون وقام كل منهم بعمله.
تعرضت للكثير من المشقة أثناء صياغتي لهذه العريضة، وقد قرأت كل ما كتب عن الموضوع، وكان دفاعي يرتكز على مبدأ وحجة، فقلت: إننا كنا نتمتع بحق التصويت في ناتال كما كنا نتمتع بنوع من حق التصويت في الهند، وإن من حقنا الاحتفاظ بذلك الحق نتيجة لأن عدد الهنود القادرين على استخدامه ضئيل للغاية.
تمكنا من جمع عشرة آلاف توقيع في أسبوعين، ولم يكن جمع مثل ذلك العدد من التوقيعات من جميع أرجاء الإقليم بالمهمة السهلة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار قلة خبرة المتطوعين في مجال العمل هذا، وكنا نختار المتطوعين المؤهلين بعناية لأننا قررنا ألا يوقع أحد على العريضة دون أن يفهم مضمونها كليا، وكانت القرى تقع على مسافات متباعدة، ولم يكن في وسعنا إنجاز المهمة إلا بتكريس المتطوعين جل جهدهم لإنجازها، وهذا ما حدث بالفعل، فقد أدى كل منهم عمله بحماسة. ويحضرني وأنا أسطر هذه الكلمات كل من السيد داود محمد والسيد روستومجي والسيد أدامجي مياخان وعماد جيفا، حيث يرجع الفضل إليهم في الحصول على أكبر عدد من التوقيعات. أخذ السيد داود يطوف بعربته طوال اليوم لجمع التوقيعات، وكان كل ذلك بدافع الحب، فلم يطالب أي منهم بأي مال ولو حتى المصروفات التي كانوا ينفقونها من أموالهم، وتحول بيت السيد دادا عبد الله فورا إلى مكتب عام ومقر للاجتماعات، حتى إن عددا من المتطوعين المتعلمين الذين ساعدوني وغيرهم كانوا يتناولون طعامهم هناك. وهكذا تحمل كل من ساعد في ذلك العمل جزءا كبيرا من المصروفات.
أخيرا قدمنا العريضة، وطبعنا ألف نسخة لتوزيعها، ولأول مرة أعطت هذه العريضة الشعب الهندي خلفية عن الأوضاع في ناتال، وأرسلت نسخا لجميع الصحف ووكلاء الدعاية الذين أعرفهم.
أيدت جريدة التايمز الهندية في مقالتها الافتتاحية المطالب الهندية بقوة، وأرسلت العريضة إلى الصحف ووكلاء الدعاية بإنجلترا ممن ينتمون إلى أحزاب مختلفة، وأيدت التايمز بلندن موقفنا، فبدأت تراودنا الآمال بأنه لن يصدق على القانون.
كان من المستحيل أن أترك ناتال في ذلك الوقت، فقد كان الأصدقاء الهنود يحيطون بي من كل جانب ويلحون علي للبقاء معهم بصورة دائمة، فعبرت لهم عن الصعاب التي أواجهها، وقررت ألا أعيش على النفقات العامة، وشعرت أنه من الضروري أن أحصل على منزل مستقل، ويجب أن يكون ذلك المنزل مناسبا ويقع في موقع ملائم. وكنت مقتنعا بأنني لن أستطيع أن أضيف إلى الجالية إلا إذا عشت في المستوى الذي يعيش فيه المحامون عادة. وبدا لي أنه لن يمكنني إدارة مثل هذا البيت بما يقل عن 300 جنيه إسترليني في السنة. وهكذا رهنت إقامتي بجنوب أفريقيا بضمان أعضاء الجالية عملا قانونيا يغطي مثل ذلك المبلغ على الأقل، وأخبرتهم بالأمر.
فأجابوني: «إننا نريدك أن تحصل على ذلك المبلغ نظير خدماتك العامة، وسنتمكن من جمعه بسهولة، وذلك بالطبع بجانب الأتعاب التي ستحصل عليها نظير عملك القانوني الخاص.»
فقلت: «لا أستطيع أن أتقاضى المال نظير الخدمة العامة، فلن يتطلب العمل مني الكثير من مهارات المحاماة، وسيتركز على توجيه المتطوعين إلى ما يجب عمله، فكيف أتقاضى المال نظير ذلك؟ وكثيرا ما سأطلب منكم الأموال اللازمة للعمل، وإذا كنت سأحصل منكم على هذا المبلغ كراتب فيمكن ألا أطلب منكم مبالغ كبيرة للعمل لأن ذلك قد يضر بمصلحتي. وهكذا سنجد أنفسنا في جمود تام. علاوة على ذلك، آمل في أن تتمكن الجالية من الحصول على ما يزيد على 300 جنيه إسترليني سنويا من أجل الخدمة العامة.» - «لكننا نعرفك جيدا الآن ونحن واثقون بأنك لن تطلب أي أموال لست في حاجة إليها، وإذا كنا نرغب في بقائك معنا، ألا يستوجب ذلك منا توفير نفقاتك؟» - «إنكم تتحدثون على هذا النحو لما تشعرون به من حب وحماسة وقتية. فما أدراني أن يدوم ذلك الحب والحماسة إلى الأبد؟ ووضعي كصديق ومرشد لكم سيجعلني أوجه إليكم بعض الكلمات القاسية، ولا أدري إذا كنتم حينها ستظلون تكنون لي نفس التقدير أم لا. على كل حال، لن أقبل أي أموال نظير الخدمة العامة، ويكفيني أن توافقوا جميعا على توكيلي في قضاياكم وغيرها من الأعمال القانونية، وذلك لن يكون من السهل عليكم، فأنا محام ملون. ولست موقنا من استجابة المحكمة لي . وأنا غير متأكد من نجاحي كمحام. وهكذا، ستتعرضون لجانب من المخاطرة إذا وكلتموني في قضاياكم. وسأعتبر حينها أن مجرد توكيلكم لي هو مقابل خدماتي العامة.»
نتيجة لذلك الحوار وكلني عشرون من التجار محاميا لهم لمدة سنة. إضافة إلى ذلك، اشترى لي السيد دادا عبد الله الأثاث اللازم لمنزلي بدلا من منحي مبلغا من المال كان يعتزم إعطائي إياه عند سفري. وهكذا استقررت في ناتال.
الفصل الثامن عشر
نقابة المحامين والملونون
يرمز للمحكمة بكفتي ميزان متساويتين تحملها سيدة غير متحيزة ومعصوبة العينين لكنها مع ذلك حكيمة، ولعل القدر هو الذي عصب عينيها لكيلا تحكم على الناس وفقا لمظهرهم الخارجي ولكن وفقا لجوهرهم. ومع ذلك كانت نقابة المحامين في ناتال تسعى لإقناع المحكمة العليا بمخالفة هذا المبدأ ومناقضة الرمز الذي يشير إليها.
تقدمت للقبول محاميا معتمدا لدى المحكمة العليا، وكنت أحمل شهادة اعتماد من محكمة بومباي العليا، وقد كنت مضطرا لإيداع الشهادة الإنجليزية لدى محكمة بومباي العليا عندما كنت مسجلا بها، وكان علي إرفاق شهادتي حسن سير وسلوك بطلب القبول. ونظرا لاعتقادي بأن مثل هذه الشهادات ستكون لها قيمة أكبر في حالة صدورها عن أشخاص أوروبيين، توجهت إلى اثنين من التجار الأوروبيين المعروفين الذين عرفني عليهما السيد عبد الله. وكان يجب أن يكون من يقدم الطلب عضوا في نقابة المحامين، وكان هناك قاعدة تقول بأن النائب العام يمكنه أن يقدم الطلب دون دفع رسوم. كان السيد إسكومب، الذي سبق وذكرت أنه المستشار القانوني للسيد عبد الله وشركائه، يشغل منصب النائب العام، فذهبت إليه وطلبت منه أن يقدم الطلب، وهو الأمر الذي لم يتردد في قبوله.
فاجأتني نقابة المحامين بإرسال إخطار يفيد معارضتها لطلب قبولي في المحكمة العليا، وكانت إحدى الذرائع التي احتجت بها هي أن الشهادة الإنجليزية غير ملحقة بالطلب، لكن الاعتراض الجوهري كان يتمثل في أنه عند وضع القوانين الخاصة بقبول المحامين لم يفكر المشرع في إمكانية قبول محام ملون. تدين ناتال بالنمو الذي شهدته للأوروبيين، ومن ثم كان من الضروري أن يسود نقابة المحامين العنصر الأوروبي. ففي حالة قبول الملونين في النقابة، يمكن أن يتجاوز عددهم عدد الأوروبيين تدريجيا وبهذا ينهار الحصن الواقي للأوروبيين.
كلفت نقابة المحامين محاميا لامعا لتأييد معارضتهم لقبولي، ونظرا لوجود صلة بينه وبين شركة دادا عبد الله وشركائه، أرسل إلي مع السيد عبد الله كي أذهب لمقابلته، وتحدث إلي الرجل بصراحة وسألني عن أسلافي، ثم قال لي: «ليس لدي أي تحفظات بشأنك، لكنني كنت أخشى أن تكون أحد الساعين خلف الثراء من المولودين في المستعمرة، وزاد من شكي هذا عدم إلحاقك للشهادة الإنجليزية بطلبك، فهناك الكثير من الأشخاص استغلوا شهادات لم يحصلوا عليها، أما شهادات حسن السير والسلوك فلم تمثل لي أي قيمة، فماذا يعرف عنك هؤلاء التجار؟ وما مدى معرفتهم بك؟»
فقلت له: «لكنني غريب على الجميع هنا، حتى السيد دادا عبد الله لم أعرفه إلا بعد وصولي إلى هنا.» - «لكنك قلت إنه ينتمي إلى نفس الولاية، وإذا كان والدك رئيسا للوزراء فهو بلا شك يعرف عائلتك، وبذلك إذا كنت قد قدمت شهادة خطية من السيد عبد الله، لم أكن لأعترض عليها، وكنت سأخبر النقابة بكل سرور أنني لا أستطيع معارضة طلبك.»
أثار هذا الحديث حنقي كثيرا، لكنني كظمت غضبي، فقلت في نفسي: «لو كنت قدمت شهادة دادا عبد الله، لرفضت ولطلب مني إحضار شهادات من أوروبيين، وما العلاقة بين قبولي محاميا ومولدي وأسلافي؟ كيف يمكن استخدام أصلي، سواء كان وضيعا أو مثيرا للاعتراض، ضدي؟» لكنني تمالكت أعصابي وأجبت: «أنا على استعداد لتقديم الشهادة الخطية التي تحدثت عنها، مع أنني على يقين من أنه لا يحق للنقابة مطالبتي بكل هذه التفاصيل.»
أعددت شهادة السيد عبد الله وقدمتها إلى المحامي الممثل لنقابة المحامين، لقد كانت الشهادة كافية للمحامي، ولكنها لم تكن كافية للنقابة، فاعترضت النقابة على طلبي أمام المحكمة العليا، التي رفضت الاعتراض دون حتى أن تستدعي السيد إسكومب، وكان منطوق الحكم:
ترى المحكمة أن الاعتراض الذي يرتكز على عدم إلحاق المتقدم لشهادته الإنجليزية غير مقبول موضوعا، في حالة ثبوت تزوير المتقدم للشهادة، فحينها يمكن مقاضاته ويشطب اسمه من لائحة المحامين، فالقانون لا يميز بين البيض والملونين. وعليه لا تجد المحكمة ما يمنع من إدراج السيد غاندي في لائحة المحامين، وبذلك نقبل طلبه بالانضمام إلى نقابة المحامين. سيد غاندي، يمكنك أن تحلف اليمين الآن.
وقفت لأحلف اليمين أمام أمين السجل. وما إن انتهيت من اليمين، حتى خاطبني رئيس المحكمة قائلا: «سيد غاندي، يجب أن تخلع عمامتك الآن، ويجب أن تلتزم بقواعد المحكمة الخاصة بالزي الرسمي للمحامين.»
فأدركت ضعفي، وطواعية خلعت العمامة التي رفضت من قبل أن أنزعها أمام محكمة المقاطعة. وليس ذلك بسبب أن اعتراضي على الأمر لم يكن مبررا، لكن لأنني أردت أن أدخر قواي للمعارك الأعنف، فلا يجب علي أن أهدر قواي النضالية في الإصرار على الاحتفاظ بعمامتي، فقد كنت أستحق قضية أهم للنضال من أجلها.
لم يحبذ السيد عبد الله وغيره من الأصدقاء رضوخي لأمر القاضي (فيا ترى هل كان ضعفا مني؟) كانوا يرون أن علي التمسك بحقي في ارتداء عمامتي أثناء تأدية عملي في المحكمة، وحاولت أن أقنعهم بوجهة نظري، وحضرتني الحكمة التي تقول: «دارهم ما دمت في دارهم.» فقلت لهم: «كان يمكن أن أرفض خلع عمامتي إذا كان الأمر صادرا من ضابط أو قاض إنجليزي في الهند، لكن كموظف في المحكمة كان سيشينني أن أتجاهل قواعد المحكمة في ناتال.»
نجحت في تهدئة الأصدقاء إلى حد ما بهذه الحجة وغيرها من الحجج المماثلة، لكنني لم أنجح في إقناعهم تماما بمبدأ النظر إلى الأشياء من وجهة نظر مختلفة في الظروف المختلفة، ولكن طوال حياتي، علمني إصراري على الوصول إلى الحقيقة أن أقدر روعة الوصول إلى التفاهم، وأدركت فيما بعد أن هذه الروح هي جزء جوهري من الساتياجراها، وكانت غالبا ما تعني تعريض حياتي للخطر وتحمل سخط أصدقائي، لكن هذه هي طبيعة الحقيقة حيث تجمع بين صلابة الحجر ورقة الزهور.
كانت معارضة نقابة المحامين لي بمثابة الدعاية لي في جنوب أفريقيا، حيث شجبت معظم الصحف معارضة النقابة، واتهمتها بالغيرة. وقد أدت هذه الدعاية إلى تسهيل عملي بقدر ما.
الفصل التاسع عشر
المؤتمر الهندي لناتال
كان عملي بالمحاماة لي وظيفة ثانوية. فكان من الضروري أن أركز على الخدمة العامة لأشعر بأهمية بقائي في ناتال. لم يكن إرسال العريضة التي تتعلق بالحرمان من حق التصويت كافيا في ذاته. فقد كان يجب الاستمرار في الثورة ضد القانون حتى نؤثر على وزير المستعمرات، ولذلك كان من الضروري تشكيل كيان دائم. تشاورت مع السيد عبد الله والأصدقاء، فقررنا إنشاء منظمة عامة دائمة.
ولقد احترت للغاية عندما أردت اختيار اسم أطلقه على تلك المنظمة. فلم أكن أريد أن يرتبط اسم المنظمة بأي من الأحزاب. كنت أعلم أن كلمة المؤتمر
Congress
تحمل مفهوما بغيضا لدي المحافظين في إنجلترا لكن مع ذلك كان الاسم يمثل الحياة في الهند بحذافيرها، وكنت أرغب في نشره في ناتال. وكان من الجبن أن أتردد في اختيار الاسم. بناء على ذلك، وبعد أن قدمت أسبابي التي اخترت على أساسها الاسم، اقترحت أن تحمل المنظمة اسم «المؤتمر الهندي لناتال».
1
وقد بدأ عمل الحزب بالفعل في الثاني والعشرين من مايو/أيار.
ازدحمت غرفة السيد دادا عبد الله الواسعة بشدة في ذلك اليوم. ولقي الحزب استحسان جميع الحضور المتحمسين. كان دستور الحزب بسيطا، ولكن رسوم الاشتراك فيه كانت مرتفعة. فقد اقتصرت عضوية الحزب على من يقدر على دفع خمسة شلنات شهريا. نجحنا في إقناع الأثرياء بالتبرع بأكبر مبلغ ممكن، وكان على رأسهم السيد دادا عبد الله الذي تعهد بدفع جنيهين إسترلينيين شهريا. وتعهد شخصان آخران بدفع نفس المبلغ. رأيت أنه ليس من الملائم أن أبخل، فخصصت جنيها إسترلينيا شهريا، ولم يكن ذلك بالمبلغ القليل، لكنني رأيت أنه لن يكون من المستحيل أن أدبر مثل ذلك المبلغ. واستطعت بعون الإله تدبير المبلغ. وهكذا انضم إلينا عدد كبير من الأعضاء ممن استطاعوا دفع جنيه إسترليني شهريا. وكان يفوقهم عدد الأشخاص الذين يدفعون 10 شلنات. وكان هناك التبرعات التي كنا نقبلها بامتنان.
أثبتت التجربة أن الناس لا يدفعون اشتراك الحزب بمجرد طلبه منهم. وكان يستحيل أن نستمر في الذهاب إلى الأعضاء خارج حدود دربان. فأخذت الحماسة التي كانت متقدة في وقت ما في التلاشي بعد ذلك. وحتى الأعضاء المقيمون داخل دربان، كنا نضطر للإلحاح عليهم كي يسددوا الاشتراكات.
وكانت وظيفتي كأمين سر الحزب تشتمل على مسئولية تحصيل الاشتراكات. وجدت نفسي في إحدى المراحل مضطرا إلى أن أجعل الموظف الذي يعمل معي يشتغل ليل نهار لتحصيل الاشتراكات، مما جعله يشعر بالإرهاق. ورأيت أنه لتحسين الوضع من الأفضل أن تدفع الاشتراكات مقدما بصورة سنوية بدلا من شهرية. لهذا دعوت لانعقاد اجتماع حزب المؤتمر الهندي لناتال.
رحب الجميع باقتراح دفع الاشتراك سنويا بدلا من شهريا وتثبيت الحد الأدنى للاشتراك بمبلغ 3 جنيهات إسترلينية. كان لذلك عظيم الأثر في تسهيل عملية التحصيل.
تعلمت منذ بداية الأمر ألا أنفذ أي خدمة عامة باستخدام أموال مقترضة. فيمكن للمرء أن يثق بوعود الآخرين في الكثير من الأمور إلا ما يتعلق منها بالأموال. لم أجد أحدا يدفع المبالغ التي وعد بها، ولا حتى من الهنود بناتال. ولم يقع الحزب في الديون قط لأننا لم نكن نقوم بأي عمل دون توافر الأموال.
أظهر العاملون معي حماسة عظيمة فيما يتعلق بجذب الأعضاء. ويرجع الفضل في ذلك إلى العمل الذي جذب اهتمامهم، وأكسبهم خبرة عظيمة في الوقت ذاته. توافدت الحشود تحمل أموال الاشتراكات عن طيب خاطر. وكانت المهمة الأصعب تتمثل في العمل في القرى المتباعدة داخل البلاد، فلم يكن لدى الناس وعي بالخدمة العامة. مع ذلك، تلقينا دعوات لزيارة أماكن نائية، حيث عرض كبار التجار استضافتنا.
احتدم الموقف في إحدى الزيارات بهذه الجولة. كنا نتوقع أن يسهم مضيفنا بمبلغ 6 جنيهات إسترلينية، لكنه رفض إلا أن يقدم 3 جنيهات إسترلينية فقط. كان علينا أن نرفض مثل ذلك الموقف، وإلا وجدنا غيره من المشتركين ينتهجون نهجه فتنهار عملية التحصيل. كنا في ساعة متأخرة من الليل، وشعرنا جميعا بالجوع يتسلل إلى بطوننا. لكننا لم نستطع تناول أي طعام، فكيف نتناول الطعام قبل أن نحصل على المبلغ الذي عزمنا على تحصيله؟ فشلت جميع محاولات إقناع المضيف، الذي بدا عنيدا. حاول التجار بالمدينة إقناعه، وجلسنا جميعا طوال الليل نتجادل. لكن المضيف كان عازما على ألا يتزحزح عن رأيه ولو قدر أنملة، ولم يكن عزمنا بأقل منه. كان معظم رفاقي يستشيطون غضبا من موقف المضيف، لكنهم تمالكوا أنفسهم. وأخيرا، رضخ المضيف وكان حينها الليل قد انقشع بالفعل، فدفع الستة جنيهات إسترلينية وقدم لنا الطعام. وقعت هذه الحادثة في تونجات
Tongaat ، لكن صداها وصل إلى ستانجر على الساحل الشمالي وإلى تشارلزتاون التي تقع في الجزء الداخلي من البلاد. ساعد ذلك على تسهيل مهمتنا في تحصيل الاشتراكات.
لم يكن جمع الأموال هو المهمة الوحيدة المنوط بنا أداؤها. وفي حقيقة الأمر، تبنيت منذ زمن بعيد مبدأ يقول بألا تضع تحت تصرف الفرد أموالا تزيد عن الحاجة.
كانت الاجتماعات عادة ما تعقد مرة شهريا أو أسبوعيا إذا لزم الأمر. كنا نقرأ محضر الاجتماع السابق، ثم نناقش جميع المسائل والموضوعات. لم يكن لدى الناس خبرة بالمشاركة في المناقشات العامة أو بكيفية الكلام بإيجاز وفي صلب الموضوع. فكان الجميع يتردد بشأن النهوض والتحدث. وشرحت للناس قواعد الاجتماعات، فالتزموا بها واحترموها. لقد أدركوا أن ما يحدث إنما هو تثقيف لهم، واكتسب الكثير منهم القدرة على التفكير والتحدث على الملأ بشأن أمور ذات اهتمام عام، وذلك مع عدم اعتيادهم على الحديث أمام جمهور قط.
قررت ألا تطبع دفاتر الإيصالات في البداية، نظرا لعلمي بأن النفقات الثانوية تستنزف مبالغ ضخمة في بعض الأوقات. كان لدي ماكينة نسخ في مكتبي، وكنت أستخدمها في نسخ الإيصالات والتقارير. ولم أبدأ في طباعة تلك الإيصالات والتقارير إلا بعد أن امتلأت خزائن الحزب، وبعد زيادة عدد الأعضاء وحجم العمل. مثل هذا الترشيد يعد عنصرا مهما لجميع المؤسسات، مع علمي بعدم الالتزام الدائم به. لهذا السبب رأيت أن من الأنسب أن أتعرض للتفاصيل الخاصة بنشأة مثل هذه المؤسسة الصغيرة والمتنامية.
لم يكن الناس يكترثون بالحصول على إيصالات تثبت المبالغ التي دفعوها، لكننا كنا دائما ما نصر على إعطائهم تلك الإيصالات. وهكذا كنا نحسب جميع الأموال بدقة، ويمكنني الجزم بأن دفاتر الحسابات لعام 1894م لا تزال سليمة وموجودة في سجلات حزب المؤتمر الهندي لناتال. إن الحفظ الدقيق للحسابات من العناصر الرئيسية اللازمة لأية مؤسسة، والتي تفقد المؤسسة دونه سمعتها الحسنة. فمن المستحيل الوصول إلى الحقيقة المجردة دون الإمساك الدقيق بالحسابات.
وكانت خدمة الهنود المتعلمين من الذين ولدوا في المستعمرات سمة أخرى تمتع بها الحزب. فقد شكلت «جمعية الهنود المتعلمين من أبناء المستعمرات» تحت إشراف الحزب. وقد كان الأعضاء في معظمهم من أولئك الشباب المتعلم، وكان عليهم سداد رسم اشتراك زهيد. قامت الجمعية بدور في التعبير عن احتياجات أولئك الشباب وشكواهم، وحثهم على التفكير، وإقامة جسور الاتصال بينهم وبين التجار الهنود، وأيضا في إفساح المجال لهم لخدمة المجتمع. لقد كانت الجمعية من الجمعيات التي تعتمد على النقاش. كان الأعضاء يجتمعون بصورة منتظمة ويتحدثون أو يقرءون الصحف التي تتناول موضوعات مختلفة. وافتتحت مكتبة صغيرة تابعة للجمعية.
كانت الدعاية هي السمة الثالثة التي تمتع بها الحزب. وقد تمثل ذلك في إطلاع الإنجليز في جنوب أفريقيا وإنجلترا، والأهل في الهند، على الأوضاع الحقيقية في ناتال. وقد كتبت كتيبين تدعيما لهذا الغرض. كان أولهما يحمل اسم «التماس إلى جميع البريطانيين في جنوب أفريقيا»
An Appeal to Every Briton in South Africa . وقد احتوى على عرض للوضع العام للهنود في ناتال مدعما بالأدلة. أما الكتيب الآخر فكان يحمل اسم «الهنود وحق التصويت - التماس»
The Indian Franchise-An Appeal . وكان الكتيب يتضمن تاريخا مقتضبا لحق تصويت الهنود في ناتال مدعما بالحقائق والأرقام. ولم يكن هذان الكتيبان إلا ثمرة الكثير من الجهد والدراسة. لكن لا قيمة لتلك المشقة في مقابل المحصلة النهائية التي توصلت إليها. وجرى بالفعل تداول هذين الكتيبين على نطاق واسع.
نتيجة لهذا النشاط المضني، نجحنا في اجتذاب العديد من الأصدقاء في جنوب أفريقيا، وفي اكتساب تعاطف جميع الأطراف في الهند. ومهد ذلك طريق عمل محدد أمام الهنود بجنوب أفريقيا.
هوامش
الفصل العشرون
بالاسوندارام
رغبة القلب الصادقة والخالصة دائما ما تجد طريقها إلى التحقق. كثيرا ما رأيت هذه القاعدة تتحقق من خلال خبراتي. فقد كانت خدمة الفقراء هي الرغبة التي تملأ قلبي، وكانت دائما ما تجعلني بين الفقراء وتمكنني من اعتبار نفسي واحدا منهم.
كان الحزب يضم من بين أعضائه الهنود المولودين في المستعمرات وطبقة الكتبة، إلا أنه لم يصبح بعد في متناول العمال المبتدئين والعاملين بعقود لأجل، الذين لم يكن باستطاعتهم تحمل تكلفة اشتراك الحزب. ولم يكن باستطاعة الحزب إلا أن يحافظ على التواصل معهم عن طريق مساعدتهم. لكن الفرصة أتت في وقت لم يكن الحزب ولا أنا مستعدين لها حقا. انغمست في العمل لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر - وهذا الأمر نادر الحدوث - وكان الحزب لا يزال في طور النمو، عندما أتاني رجل من تاميل ممزق الثياب ويحمل بين يديه غطاء للرأس ولديه سنتان مكسورتان وفمه ينزف. وقف الرجل أمامي يرتعش ويبكي، فقد انهال عليه سيده بالضرب المبرح. ولقد علمت كل شيء عنه من أحد الكتبة، وقد كان أيضا ينتمي إلى تاميل. كان بالاسوندارام - وهو اسم الرجل التاميلي - يعمل بعقد لأجل لدى أحد الأوروبيين المعروفين في دربان. وقد ثار غضب صاحب عمله حتى فقد السيطرة على نفسه وأخذ يضرب بالاسوندارام بشدة حتى كسر له سنتين.
أرسلت بالاسوندارام إلى الطبيب، ولم يكن هناك حينها إلا الأطباء البيض. طلبت من الطبيب أن يمنحني شهادة تشخص إصابة بالاسوندارام. حصلت على الشهادة من الطبيب ثم توجهت وبصحبتي بالاسوندارام إلى القاضي، وقدمت إليه الشهادة. سخط القاضي عندما اطلع على الشهادة، وأرسل في استدعاء صاحب العمل للمثول أمام القضاء.
لم أرغب البتة في معاقبة صاحب العمل، فكل ما كنت أتطلع إليه هو باختصار أن يحرر بالاسوندارام من العقد الذي بينهما. فقد قرأت القانون الذي يتناول العمل بعقد لأجل، وعلمت أنه في حالة ترك العامل العادي خدمة سيده دون إشعار مسبق، فإنه يتعرض للمساءلة ويمكن لسيده أن يقاضيه أمام المحكمة المدنية. أما في حالة العامل بعقد لأجل، فكان الأمر مختلفا تماما. فالعامل بعقد لأجل، في ظل الملابسات ذاتها، يمكن مقاضاته أمام محكمة جنائية والحكم عليه بالسجن إذا ثبتت إدانته. وذلك هو سبب قول سير ويليام هانتر عن نظام العمل بعقود لأجل إنه تقريبا لا يقل سوءا عن الاستعباد. فالعامل بعقد لأجل يعتبر ملكية خاصة لسيده، مثله مثل العبد.
كان هناك طريقتان فقط لتحرير بالاسوندارام، أولاهما إلغاء المسئول عن شئون العاملين لعقده أو نقله إلى صاحب عمل آخر، وثانيهما إقناع صاحب العمل بتحريره. فذهبت إلى صاحب العمل وقلت له: «أنا لا أريد مقاضاتك أو معاقبتك على ما فعلت. وأعتقد أنك على دراية بمدى قسوة اعتدائك على الرجل. وسأكتفي فقط بأن تنقل العقد إلى صاحب عمل آخر.» فوافق على مطلبي في حينه. ثم ذهبت لرؤية المسئول عن شئون العاملين، الذي وافق بدوره بشرط أن أجد صاحب عمل آخر.
وهكذا أخذت أبحث عن صاحب عمل جديد، وكان يجب أن يكون أوروبيا نظرا لعدم جواز توظيف الهنود لعاملين بعقود لأجل. وكانت علاقتي بالأوروبيين في ذلك الوقت محدودة، فالتقيت بأحدهم. وافق الرجل بكرم على أن يقبل بالاسوندارام لديه، فعبرت له عن امتناني لعطفه وكرمه. أدان القاضي صاحب العمل، وسجل تعهده بنقل العقد إلى شخص آخر.
ذاع خبر قضية بالاسوندارام حتى وصل إلى جميع العاملين بعقود لأجل، فاعتبروني جميعا صديقا لهم. رحبت بهذه الصداقة والفرحة تغمرني. ووجدت فيضا من العاملين بعقود لأجل يتدفق على مكتبي، واستغللت الفرصة كي أطلع على أحوالهم من مآس وأفراح.
وصلت أصداء قضية بالاسوندارام بعيدا حتى مدراس. وعلم العمال في جميع أنحاء الإقليم، الذين ذهبوا إلى ناتال للعمل بعقود لأجل، بالقضية عن طريق إخوانهم العاملين.
لم تحتو القضية في ذاتها على أي عوامل استثنائية، لكن فكرة وجود شخص في ناتال يناصر قضية العاملين بعقود لأجل ويعمل من أجلهم علانية هي التي مثلت لهم مفاجأة سارة وبعثت فيهم روح الأمل.
لقد ذكرت فيما سبق أن بالاسوندارام قد أتى إلى مكتبي وغطاء رأسه في يده. كان هناك أمر آخر يدعو للشفقة لحالنا، وقد عكس هو الآخر ذلنا. لقد رويت بالفعل قصة اضطراري لخلع عمامتي. فقد فرض على كل عامل بعقد لأجل وكل غريب هندي أن يخلع غطاء رأسه، أيا كان، عند زيارته لشخص أوروبي. ولم تكن التحية بكلتا اليدين كافية. ظن بالاسوندارام أن عليه أن يتبع نفس النهج معي. كانت هذه قضيتي الأولى في مجال خبرتي. شعرت بالمهانة وطلبت منه إعادة ربط وشاحه. ففعل بعد أن وقف مترددا للحظات، لكنني كنت أرى الفرحة في عينيه.
لطالما حيرني أمر البشر، كيف يشعرون بالاحترام عندما يذلون إخوانهم البشر؟
الفصل الحادي والعشرون
ضريبة الثلاثة جنيهات
أصبحت على اتصال بالهنود الذين يعملون بعقود لأجل، ويرجع الفضل في ذلك لقضية بالاسوندارام. في الواقع، كانت الحملة المراد بها فرض ضرائب باهظة عليهم هي السبب الرئيسي لدراستي المتعمقة لأحوالهم.
أرادت حكومة ناتال في نفس العام، 1894م، أن تفرض على العاملين بعقود لأجل من الهنود ضريبة سنوية مقدارها 25 جنيها إسترلينيا. صدمت عندما علمت بالخبر، فطرحت الأمر للنقاش أمام الحزب. وسرعان ما تقرر التقدم بالمعارضة اللازمة للضريبة.
في البداية يجب أن أشرح بإيجاز أصل هذه الضريبة:
في عام 1860م تقريبا، شعر الأوروبيون بناتال بحاجتهم للقوة العاملة حيث وجدوا مجالا واسعا لزراعة قصب السكر. كان من المستحيل عليهم أن يقوموا بزراعة القصب وصناعة السكر دون الاستعانة بعمالة خارجية. فأهل قبيلة «الزولو» في ناتال لم يكونوا مناسبين للقيام بمثل هذا العمل. بناء على ذلك، أرسلت حكومة ناتال إلى حكومة الهند، وحصلت منها على إذن بتوظيف العمالة الهندية. وقع العمال الهنود عقود عمل في ناتال لمدة خمس سنوات، وكان من المفترض أن يحصلوا على حرية الاستقرار في ناتال متمتعين بجميع حقوق تملك الأراضي بعد نهاية مدة العقد. كان هذا هو العرض المقدم إليهم، فقد تطلع الأوروبيون حينها إلى تحسين الثروة الزراعية عن طريق عمل العمالة الهندية بعد انتهاء عقودهم.
فاق الهنود كل التوقعات، فزرعوا كميات ضخمة من الخضروات واستحدثوا زراعة عدد من أنواع الخضروات الهندية. وتمكنوا أيضا من زراعة الخضروات المحلية بتكلفة أقل. وأضافوا إلى ذلك استحداث زراعة المانجو هناك. ولم تتوقف مجهوداتهم عند الزراعة ، بل تطرقوا إلى مجال التجارة، واشتروا أراضي للبناء. فانتقل الكثير منهم من طبقة العمال إلى أصحاب الأراضي والمنازل. ثم حذا التجار الهنود حذوهم، فاستقروا هناك بغرض التجارة. وكان من أول أولئك التجار الراحل السيد أبو بكر أمود، الذي سرعان ما تمكن من تأسيس نشاط تجاري واسع.
أثار ذلك حفيظة التجار البيض. فعندما رحب البيض في بادئ الأمر بالعمال الهنود، لم يقدروا مهاراتهم التجارية. كان يمكن أن يحتمل البيض وجود الهنود كمزارعين مستقلين، لكنهم لم يحتملوا منافستهم في التجارة.
غرس ذلك كله بذور العداء ضد الهنود. وكان هناك كثير من العوامل التي أدت إلى نمو ذلك العداء، منها أساليب معيشتنا المختلفة وبساطتنا ورضاؤنا بالقليل من الكسب وتجاهلنا لقوانين الصحة وتباطؤنا في تنظيف الأماكن التي نعيش فيها وبخلنا في الإنفاق على إصلاح منازلنا. ذلك بالإضافة إلى اختلاف ديننا. أسهم كل ذلك في إشعال فتيل العداء ضدنا. وقد وجد ذلك العداء منفذا للتعبير عنه في التشريعات، يتمثل في مشروع قانون سلب حق التصويت من الهنود ومشروع قانون الضريبة على الهنود العاملين بعقود لأجل. وبعيدا عن التشريعات، تعرضنا بالفعل لعدد من المضايقات.
كانت فحوى الاقتراح الأول للتخلص من العمال الهنود هي إعادتهم بالقوة إلى الهند، وبالتالي تنتهي عقودهم هناك. لكن حكومة الهند لم تكن لتقبل بمثل ذلك الاقتراح. فقدم اقتراح آخر، مفاده: (1)
ينبغي عودة العمال الهنود إلى الهند عند انتهاء عقودهم. (2)
أو ينبغي توقيع عقد جديد كل سنتين، مع زيادة الأجر عند كل تجديد. (3)
وفي حالة رفض العودة إلى الهند أو تجديد العقد، يجب على العامل دفع ضريبة سنوية قدرها 25 جنيها إسترلينيا.
توجه وفد يضم السيد هنري بينس والسيد ماسون إلى الهند للحصول على موافقة الحكومة على الاقتراح. رفض الحاكم البريطاني حينها، اللورد إلجين، الضريبة المقدرة بمبلغ 25 جنيها إسترلينيا، وأقر عوضا عنها ضريبة رأس تصل إلى 3 جنيهات إسترلينية. كنت ولا أزال أرى أن الحاكم البريطاني بقراره هذا قد ارتكب خطأ فادحا، فلم يفكر وهو يمنح موافقته على مثل ذلك الاقتراح في مصالح الهند. ولم يكن لزاما عليه أن يؤدي خدمة إلى الأوروبيين بناتال بمنحهم مثل هذه الموافقة. على مدى ثلاثة أو أربعة أعوام خضع كل عامل وزوجته وكل ابن تجاوز عمره السادسة عشرة وكل ابنة تجاوزت الثالثة عشرة إلى تلك الضريبة. إن فرض ضريبة سنوية تصل إلى 12 جنيها إسترلينيا على أسرة تتكون من أربعة أفراد - الزوج والزوجة وطفلين - عندما يكون متوسط دخل الزوج 14 شلنا شهريا، هو أمر شديد القسوة وغير معمول به في أي مكان آخر في العالم.
نظمنا حملة عنيفة للتنديد بهذه الضريبة. فلو أن حزب المؤتمر الهندي لناتال لزم الصمت، لكان من الممكن أن يوافق الحاكم البريطاني على الضريبة حتى بمبلغ 25 جنيها إسترلينيا. فقد جاء خفض الضريبة على الأرجح نتيجة لثورة الحزب، لكن هذا ليس أكيدا. فربما اعترضت الحكومة الهندية منذ البداية على المبلغ، وخفضتها إلى 3 جنيهات إسترلينية، بغض النظر عن معارضة الحزب. على كل حال، لقد خذلت الحكومة الهندية ثقتنا بها. فقد كان من واجب الحاكم البريطاني، كأمين على مصلحة الهند، ألا يوافق على مثل هذه الضريبة القاسية أبدا.
لم نستطع في الحزب أن نعتبر النجاح في خفض الضريبة إلى 3 جنيهات إسترلينية نصرا عظيما. فالندم كان لا يزال يطاردنا لأننا لم نستطع حماية مصالح العمال الهنود كليا. لقد ظل عزم الحزب دائما وأبدا أن يلغي تلك الضريبة، لكن تحقيق ذلك العزم استغرق عشرين عاما. ولم يكن تحقيقه إلا على يد العمال وليس عمال ناتال فحسب، بل جميع العمال الهنود في جميع أنحاء جنوب أفريقيا. كانت خيانة ثقة السيد جوخلي
1
هي التي تسببت في الحملة النهائية، التي تولاها العمال الهنود بالكامل. وقد فقد بعضهم حياته نتيجة لإطلاق النار، وتعرض للسجن ما يزيد على عشرة آلاف.
لكن النصر كان حليف الحق في نهاية الأمر. وقد كانت الشدائد التي مر بها الهنود تعبيرا عن هذا الحق. لكن الحق لم يكن لينتصر دون إيمان راسخ وصبر عظيم ومثابرة. فلو أن الجالية تركت الكفاح أو تخلى الحزب عن الحملة وخضع للضريبة على أنها أمر حتمي، لاستمر فرض تلك الضريبة حتى الآن، مخلدة خزي الهنود في جنوب أفريقيا، بل خزي الهنود في كل مكان.
هوامش
الفصل الثاني والعشرون
دراسة مقارنة للأديان
كنت إذا ما وجدت نفسي مستغرقا تماما في خدمة الجالية، أرجعت السبب في ذلك إلى رغبتي في تحقيق الذات. لقد اتخذت خدمة المجتمع دينا لأنني شعرت بأن إدراك الإله لا يتأتى إلا بخدمة الآخرين. وكانت الخدمة تعني لي خدمة الهند لأنها جاءتني من غير أن أسعى خلفها ولأنني مؤهل لها. عندما سافرت إلى جنوب أفريقيا، كنت أبحث عن مفر من المؤامرات التي تحاك في كاثياوار وكنت أرغب في كسب رزقي، لكنني - كما سبق أن ذكرت - وجدت نفسي في رحلة بحث عن الإله وعن تحقيق الذات.
لقد أثار أصدقائي المسيحيون شهيتي للمعرفة، التي تحولت إلى نوع من النهم. ولم يكونوا ليتركوني بسلام حتى لو رغبت في تجاهل الأمر. لقد اكتشفني السيد سبنسر والتون، رئيس الإرسالية العامة بجنوب أفريقيا، عندما كنت في دربان. فلقد أصبحت كواحد من أفراد أسرته. وبالطبع ترجع خلفية تلك العلاقة إلى تواصلي مع المسيحيين في بريتوريا. كان السيد والتون يتمتع بأسلوب فريد، فلا يحضرني أنه دعاني ولو مرة لاعتناق المسيحية. لكنه ترك حياته كالكتاب المفتوح أمامي، وتركني أطلع على جميع سلوكياته. كانت زوجته السيدة والتون بالغة الرقة وموهوبة. وكان يروقني موقف هذين الزوجين. كنا نعلم الاختلافات الرئيسية بيننا، ولم يكن أي جدال ليتمكن من إزالتها. ومع ذلك، حتى الاختلافات يمكن أن تكون مفيدة حين يكون هناك تسامح وإحسان وصدق. لقد أعجبت بتواضع السيد والتون وزوجته، ومثابرتهما وإخلاصهما للعمل، وكنت كثيرا ما ألتقي بهما.
يعود الفضل لهذه الصداقة في الإبقاء على اهتمامي بالدين. فلم يكن هناك متسع من الوقت الذي اعتدت أن أجده في بريتوريا من أجل دراساتي الدينية. لكنني استطعت الاستفادة بصورة جيدة من الوقت القليل المتاح. فقد استمرت مراسلاتي الدينية مع أصدقائي، وكان رايشاندباي يوجه لي النصح والإرشاد. أرسل لي أحد الأصدقاء كتاب «دارما فيشار»
Dharma Vichar
للكاتب نارماداشانكر الذي احتوى على مقدمة مفيدة للغاية . قرأت عن الحياة التي عاشها الشاعر على الطريقة البوهيمية، وأسرني وصفه للثورة التي حدثت في حياته نتيجة لدراساته الدينية. أعجبني الكتاب فقرأته بالكامل باهتمام شديد. وقرأت كتاب ماكس موللر «الهند - ماذا يمكن أن نتعلم منها؟» وترجمة «الأبانيشادس»
1
التي نشرتها الجمعية الثيوصوفية. زاد كل ذلك من احترامي للهندوسية وبدأت أرى مظاهر الجمال بها. لكن ذلك لم يجعلني أتحامل على الديانات الأخرى. قرأت كتاب واشنطن إيرفينج الذي يحمل عنوان «محمد وخلفاؤه» وكتاب كارليل حول مدح الرسول. جعلتني هذه الكتب أكن كل الاحترام والتقدير لمحمد؛
2
وقرأت كتابا باسم «أقوال زرادشت».
3
وهكذا استطعت اكتساب المزيد من المعرفة عن الديانات المختلفة. أثارت الدراسة تأملي لذاتي وغرست في عادة الأخذ بأية تعاليم تروقني أثناء دراستي. بدأت ممارسة اليوجا وفقا لفهمي لما قرأت في الكتب الهندوسية. لكنني لم أتمكن من الاستمرار فيها كثيرا، فقررت عندما عدت إلى الهند أن ألجأ إلى خبير ليساعدني. إلا أن تلك الرغبة لم تتحقق قط.
أجريت دراسة موسعة على كتب تولستوي. تركت كتب مثل كتاب «الأناجيل باختصار»
Gospels in Brief
وكتاب «ماذا نفعل؟»
What to Do?
وغيرها أثرا عميقا لدي. بدأت أدرك أكثر فأكثر الاحتمالات المطلقة للحب الكوني.
في الوقت نفسه تقريبا، تعرفت إلى أسرة مسيحية أخرى. وكنت أحضر إلى كنيسة ويسليان كل يوم أحد بناء على اقتراحهم. وكانوا يدعونني باستمرار لتناول العشاء معهم. على كل حال، لم تؤثر الكنيسة في بصورة إيجابية، لأن العظات لم تكن مؤثرة وحشود المصلين لم يكونوا شديدي الخشوع. لم تكن أرواح الحضور مخلصة، بل بدا لي أنهم منشغلون بالدنيا ويذهبون إلى الكنيسة للتسلية ومجاراة العادات. وكنت أنعس في بعض الأوقات وأنا بالكنيسة بصورة لا إرادية. كان ذلك يشعرني بالخجل، لكن أصدقائي الذين كانوا يصيبهم ما أصابني، هونوا علي. لم أستطع الاستمرار على هذا المنوال طويلا، وسرعان ما عدلت عن حضور الطقوس الدينية.
قطعت علاقتي بالأسرة التي كنت أزورها كل يوم أحد فجأة. في حقيقة الأمر، يمكن القول بأنني حذرت من زيارتهم مرة أخرى. وقد حدث الأمر كالآتي: كانت مضيفتي امرأة لطيفة وصافية النفس، لكنها كانت متعصبة. كنا دائما ما نناقش موضوعات دينية، وكنت حينها أعيد قراءة كتاب أرنولد «ضياء آسيا». وما إن بدأنا في مقارنة حياة المسيح بحياة بوذا، حتى قلت: «انظروا إلى شفقة جوتاما! لم تكن مقصورة على البشر فحسب، بل شملت جميع الكائنات الحية. ألا يمتلئ قلب المرء منا بالحب عندما يفكر في الحمل جاثيا على ركبتيه والبهجة تملؤه. لا يجد المرء مثل هذا الحب للكائنات الحية في حياة المسيح.» آلمت تلك المقارنة السيدة اللطيفة. كنت أقدر شعورها، فقطعت حديثي، ثم توجهنا إلى غرفة الطعام. كان ولدها، الذي لم يبلغ الخامسة بعد، برفقتنا هو الآخر. طالما شعرت بسعادة غامرة وأنا بين الأطفال، وقد كونت صداقة طويلة مع ذلك الطفل. سخرت من قطعة اللحم التي كانت في طبق الطفل، وأخذت أمدح التفاحة التي كنت أتناولها. فانضم إلي الطفل البريء وأخذ يمدح الفاكهة. لكن الأم فزعت لما حدث.
حذرتني الأم، فغيرت موضوع الحديث. وفي الأسبوع التالي، ذهبت لزيارة العائلة كعادتي، لكن ذلك لم يخل من بعض الخوف في نفسي. لم أجد ما يدعو لتوقفي عن زيارتهم، ورأيت أن ذلك غير لائق. لكن السيدة سهلت علي الأمر.
خاطبتني قائلة: «سيد غاندي، لا تمتعض من كلامي لكنني مضطرة إلى إخبارك بأنني لا أحبذ صحبتك لطفلي. ففي كل يوم يتردد في تناول اللحم، ويطلب الفاكهة ويذكر ما أخبرته أنت به. أنا لا أستطيع تحمل كل ذلك، فسيضعف بدنه إن امتنع عن تناول اللحم، هذا إذا لم يصب بالمرض. كيف لي أن أتحمل هذا؟ يجب أن تكون محادثتك معنا نحن الكبار فقط. فكلامك يؤثر بالسلب على الأطفال.»
فرددت قائلا: «يا سيدتي ... أعتذر عما بدر مني. أنا أقدر مشاعرك كوالدة، فأنا لدي أطفال أيضا. يمكننا أن ننهي هذا الأمر بسهولة، فما آكله وما أمتنع عن أكله يؤثر على الطفل بصورة أكبر مما أقوله له. إن أفضل طريقة هي أن أتوقف عن زيارتكم. وبالطبع لن يؤثر ذلك على صداقتنا.»
فأجابتني براحة واضحة: «شكرا لك.»
هوامش
الفصل الثالث والعشرون
رب البيت
لم تكن هذه المرة الأولى التي أؤسس فيها منزلا، لكن تجربة تأسيس المنزل في ناتال كانت مختلفة كثيرا عنها في بومباي ولندن. ففي هذه المرة كان جزء من النفقات مخصصا لإضفاء الهيبة وحدها. فقد ارتأيت أن من الضروري أن يكون لدي منزل يتماشى مع مكانتي كمحام هندي بناتال وكممثل للجالية. حصلت على منزل صغير ولطيف في منطقة فاخرة، وجهزته بالأثاث الملائم. كنا نتناول طعاما بسيطا، لكن تكاليف المنزل كانت دائما مرتفعة إلى حد بعيد نظرا لأنني اعتدت دعوة أصدقاء إنجليز وزملاء هنود.
يمثل الخادم الجيد ركنا أساسيا في كل منزل، لكنني لم أستطع قط أن أعامل أي شخص كخادم. فكان لدي صديق يرافقني ويساعدني، وطاه أصبح من أفراد الأسرة. وكان الموظفون يتناولون الطعام ويمكثون معي.
أعتقد أنني نجحت في هذه التجربة، لكن ذلك بالطبع لم يخل من القليل من مرارة تجارب الحياة.
كان رفيقي حاد الذكاء، واعتقدت أنه مخلص لي. لكن تبين لي بعد ذلك أنني قد خدعت فيه. غار الرجل من أحد الموظفين الذين كانوا يقيمون معي، فنصب له شركا محكما حتى جعلني أشك في ذلك الموظف.
كان الموظف ذا إحساس مرهف. فسرعان ما شعر بأنني أشك فيه، فترك كلا من المنزل والمكتب. تألمت كثيرا لشعوري بأنني قد أكون ظلمته، وكان ضميري يؤنبني باستمرار.
في غضون ذلك، طلب الطاهي إجازة لبضعة أيام، أو تغيب لسبب ما. وكان علي أن أجد من يحل محله في تلك المدة. وقد كشف لي الطاهي الجديد بعد ذلك أن رفيقي كان وغدا، وكان ذلك نجدة لي من السماء. لقد اكتشف في يومين أو ثلاثة من التحاقه بالعمل لدي عددا من الأمور السيئة التي كانت تحدث في منزلي دون علمي، وأخبرني بها. كنت معروفا بسذاجتي، ولكن أيضا باستقامتي. فكان ذلك الاكتشاف أكثر صدمة له. كنت معتادا على العودة من المكتب في الواحدة من ظهر كل يوم لتناول الغداء، لكن في أحد الأيام جاء الطاهي إلى المكتب في الثانية عشرة وقال لي: «من فضلك ، تعال معي إلى المنزل على الفور، فهناك مفاجأة بانتظارك.»
فأجبته: «وما هي؟ يجب أن تخبرني فكيف أترك المكتب في هذه الساعة لأذهب وأرى تلك المفاجأة؟» - «كل ما يمكنني قوله هو إنك ستندم إن لم تأت معي.»
جعلني إصراره أشعر بميل للذهاب معه. ذهبت إلى المنزل بصحبة أحد الموظفين والطاهي الذي كان يتقدمنا. وعندما وصلنا إلى البيت، أخذني مباشرة إلى الدور العلوي، ثم أشار إلى غرفة رفيقي وقال: «افتح باب هذه الغرفة، وسترى بعينيك.»
وقد رأيت كل شيء بالفعل. أخذت أقرع الباب، لكن أحدا لم يجبني. فأخذت أطرق الباب بقوة حتى اهتزت الجدران، فانفتح الباب وإذا بعاهرة داخل الغرفة. طلبت منها الرحيل وألا تعود إلى منزلي أبدا.
توجهت إلى رفيقي بالحديث قائلا: «لا علاقة لي بك من الآن فصاعدا. لقد خدعتني تماما وجعلتني أبدو مغفلا. أهذا جزاء ثقتي بك؟»
وبدلا من أن يعود لرشده ويندم، أخذ يهددني بأن يفضح أسراري. فقلت له: «ليس لدي ما أخفيه. يمكنك أن تبوح بأي شيء فعلته. لكن يجب أن تنصرف الآن.»
لقد زاده كلامي سوءا. لم يكن بيدي حيلة، فقلت للموظف الذي كان ينتظر بالدور الأسفل: «من فضلك، اذهب وأخبر قائد الشرطة أن شخصا قد أتى بسلوك شائن في منزلي. وقد طلبت منه أن يرحل عن المنزل لكنه لم يرضخ لطلبي. وأنني سأكون ممتنا إذا ما ساعدتني الشرطة.»
تأكد الرجل من جديتي، وجعله شعوره بالذنب يفقد رباطة جأشه. فتقدم لي بالاعتذار، وطلب مني ألا أبلغ الشرطة، ثم وافق على ترك المنزل فورا.
كانت تلك الواقعة ناقوس الخطر الذي انطلق في الوقت المناسب. فالآن، والآن فقط، أدركت بوضوح كيف خدعني ذلك الداهية تماما. لقد اخترت بإيوائي لذلك الرجل أن أحقق غاية نبيلة بانتهاج درب أعوج. فتخيلت أنه يمكنني «حصد التين من النباتات الشائكة». فقد كنت أعرف أن الرجل يتمتع بشخصية غير متزنة، لكنني مع ذلك كنت أؤمن بإخلاصه لي. فقد أوصلتني محاولة إصلاحه إلى حافة الهاوية. لقد تجاهلت تحذيرات الأصدقاء الأوفياء، وأعماني حبي له كليا.
ولولا الطاهي الجديد، لم أكن لأتمكن من كشف الحقيقة، ولم أكن لأعيش حياة العزلة التي عشتها بعد ذلك نظرا لتأثري بذلك الرفيق. فقد كنت سأضيع الوقت معه ومن أجله. وقد كان يتمتع بقدرة كبيرة على إخفاء الحقيقة عني وتضليلي.
لكن الإله كان هناك لينقذني من شره، كما أنقذني مرات عدة من قبل. لقد أنقذني الإله، بالرغم من أخطائي، لأن نواياي كانت خالصة. كانت هذه الواقعة بمنزلة تحذير مسبق لما قد يحدث لي في المستقبل.
كان الطاهي الجديد كملاك مرسل من السماء، لكنني اضطررت للاستغناء عن خدماته لأنه كان لا يعرف شيئا عن الطهي. وهذا لا يغير حقيقة أنه جعلني أرى أشياء لم أكن لأراها من دونه. علمت بعد ذلك أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تأتي فيها تلك العاهرة إلى منزلي. لقد ترددت على المنزل كثيرا من قبل، لكن أحدا لم يملك شجاعة الطاهي ليخبرني؛ لعلمهم بأنني أثق برفيقي ثقة عمياء. يبدو أن الإله قد أرسل لي ذلك الطاهي لذلك الغرض فحسب، حيث طلب مني أن يرحل في تلك اللحظة.
قال لي: «لا يمكنني المكوث في منزلك أكثر من ذلك. فمن السهل خداعك، ولا يمكنني العيش في مكان كهذا.»
فتركته يرحل. الآن اكتشفت أن ذلك الرفيق هو من شوه سمعة الموظف الذي كان يعمل لدي. حاولت جاهدا أن أعوض الموظف عن الظلم الذي تعرض له، لكنني عجزت تماما عن إرضائه، وهو الأمر الذي أصابني بندم أبدي. فمهما حاولت إصلاح النفوس، يبقى الصدع غائرا.
الفصل الرابع والعشرون
العودة إلى الوطن
لقد مضى على إقامتي في جنوب أفريقيا ثلاث سنوات. تعرفت فيها إلى الناس وعرفوني. طلبت الإذن بأخذ إجازة في عام 1896م لكي أزور الوطن لمدة ستة أشهر، لأنني كنت أعلم أنني سأمكث طويلا هناك. لقد اكتسبت خبرة جيدة في المحاماة ، وشعرت بحاجة الناس لوجودي بجانبهم. لذلك قررت العودة إلى الهند وإحضار زوجتي وأطفالي للاستقرار في جنوب أفريقيا. ورأيت أنه بذهابي إلى الهند يمكنني تأدية بعض الخدمات العامة عن طريق توعية الرأي العام وخلق اهتمام أكبر بالهنود المقيمين في جنوب أفريقيا. ظلت ضريبة الثلاثة جنيهات الإسترلينية كجرح لا يندمل، ولم تكن الثورة لتهدأ حتى تلغى.
لكن المشكلة كانت تكمن في اختيار الشخص الذي يتولى مسئولية الحزب والجمعية التثقيفية في غيابي. خطر ببالي شخصان، أدامجي مياخان وبارسي روستومجي. أصبح عدد العمال المنتمين لطبقة التجار كبيرا الآن. لكن هذان الاثنان فقط كان أقدر على تأدية مهام أمين السر، وهما فقط اللذان حازا تقدير الجالية الهندية. وبالطبع كان من متطلبات العمل كأمين سر الإلمام باللغة الإنجليزية. زكيت السيد أدامجي مياخان لدى الحزب، وتمت الموافقة على تعيينه. ولقد أثبتت الأيام أن ذلك الاختيار كان موفقا. لقد أرضى أدامجي مياخان الجميع بمثابرته وتسامحه ولطفه وكياسته. فأثبت للجميع أن وظيفة أمين السر لا تحتاج إلى شخص حاصل على شهادة في القانون أو شخص حاصل على شهادة متقدمة في الإنجليزية.
أبحرت متجها إلى الوطن في منتصف عام 1896م تقريبا على متن الباخرة «إس إس بونجولا» المتجهة إلى كلكتا.
كان عدد الركاب على متن السفينة محدودا للغاية، من بينهم ضابطان إنجليزيان تعرفت إليهما وربطتني بهما علاقة قوية. اعتدت أن ألعب الشطرنج لمدة ساعة يوميا مع أحدهما. وأعطاني طبيب السفينة كتاب «تعلم اللغة التاميلية دون معلم»، فبدأت أدرسه. لقد أثبتت لي خبرتي في ناتال أنه كي أتقرب إلى المسلمين يجب أن أتعلم اللغة الأردية، ولكي أتقرب إلى الهنود من مدراس يجب أن أتعلم اللغة التاميلية.
وبناء على طلب الصديق الإنجليزي الذي كان يساعدني في قراءة اللغة الأردية، وجدت مدرسا للأردية بين ركاب السفينة. وقد أحرزت تقدما كبيرا في دراستي للغة. كان الضابط يتمتع بذاكرة أفضل من ذاكرتي، فلم يكن ينسى أي كلمة بمجرد أن يراها لمرة واحدة، أما أنا فوجدت أن من الصعب أن أفهم الحروف الأردية. زادت مثابرتي وجهدي ، لكنني لم أتمكن قط من الاقتراب من مستوى الضابط.
أحرزت تقدما ملحوظا في تعلم اللغة التاميلية. ومع عدم وجود من يساعدني في دراستي، إلا أن كتاب «تعلم اللغة التاميلية دون معلم» كان جيدا جدا حتى إنني لم أشعر بالحاجة إلى مساعدة خارجية.
تمنيت لو أنني استكملت دراسة هذه اللغات بعد الوصول إلى الهند، لكن ذلك كان مستحيلا. ومنذ عام 1893م، كانت معظم قراءاتي داخل السجن. لقد حققت تقدما بقدر ما في اللغتين التاميلية والأردية داخل السجن - التاميلية في سجون جنوب أفريقيا، والأردية في سجن ييرافدا
Yeravda . مع ذلك، لم أستطع مطلقا التحدث باللغة التاميلية، وحتى القراءة اليسيرة التي كنت أقدر عليها في طريقها حاليا للزوال لعدم ممارستي للغة.
لا أزال أشعر بالعائق الذي مثله جهلي بكل من التاميلية أو التيلوجو. ظلت ذكرى العاطفة التي عاملني بها الدرافيديون
1
في جنوب أفريقيا عالقة بذهني. وكلما رأيت أحد الأصدقاء الذين ينتمون إلى تاميل أو تيلوجو، لا يسعني إلا أن أذكر إخلاص العديد من أبناء وطنهم ومثابرتهم وتضحيتهم في جنوب أفريقيا. كان معظم هؤلاء غير متعلمين، رجالا ونساء. كان هذا هو محرك الحرب في جنوب أفريقيا، وقد حارب فيها الجنود غير المتعلمين؛ لقد كانت الحرب من أجل الفقراء، وقد شاركوا فيها بكل ما أوتوا من قوة. لم يقف جهلي بلغة هؤلاء الفلاحين طيبي القلب عائقا أمام سلب أفئدتهم. كان هؤلاء القوم يتحدثون لغة هندستانية ركيكة أو إنجليزية ركيكة، فلم نجد صعوبة في الاستمرار في عملنا. لكنني أردت مع ذلك أن أكسب حبهم بتعلم اللغتين التاميلية والتيلوجو. وكما سبق وأشرت، أحرزت بعض التقدم في اللغة التاميلية، لكنني لم أستطع أن أتخطى تعلم الحروف الأبجدية في التيلوجو التي حاولت أن أتعلمها في الهند. أخشى أنني لا أستطيع أن أتعلم تلك اللغات الآن، لذلك آمل أن يتعلم الدرافيديون اللغة الهندستانية. فالذين لا يجيدون الإنجليزية منهم في جنوب أفريقيا يتحدثون الهندية أو الهندستانية بمستوى متوسط. أما الذين يتحدثون الإنجليزية، فلن يتعلموا الهندستانية كأن الإنجليزية تحول دون تعلمهم للغتهم الأم .
أعتقد أنني استطردت كثيرا في حديثي. دعوني أنهي الحديث عن رحلتي البحرية. ويجب أن أقدم للقارئ قبطان السفينة «إس إس بونجولا» الذي كان ينتمي إلى الإخوة البلايموث. لقد نمت العلاقة بيننا حتى أصبحنا أصدقاء . كانت معظم أحاديثنا تتعلق بأمور روحانية أكثر منها بحرية. لقد وضع خطا فاصلا بين الأخلاق والدين. فقد كان الالتزام بتعاليم الإنجيل في نظره أمرا هينا، فجمالها يكمن في بساطتها. فقد كان لسان حاله يقول: «دع كل الرجال والنساء والأطفال يؤمنون بالمسيح وتضحيته، وستمحى سيئاتهم.» لقد ذكرني بالرجل من الإخوة البلايموث الذي قابلني في بريتوريا؛ فمن وجهة نظره تعد أي ديانة تفرض قيودا أخلاقية عديمة القيمة. كان غذائي النباتي هو محور جميع نقاشاتنا. لماذا أمتنع عن أكل اللحم؟ ألم يخلق الإله الحيوانات الدنيا لمتعة الإنسان مثلها مثل الخضروات؟ وكانت مثل هه الأسئلة تقودنا إلى النقاش الديني.
لم يستطع أي منا إقناع الآخر. فقد كنت مقتنعا برأيي الذي يقول إن الأخلاق والدين ما هما إلا وجهان لعملة واحدة، أما القبطان فكان لا يساوره شك في صحة اعتراضه على قولي.
انتهت الرحلة البحرية بعد مرور 24 يوما، فنزلت في كلكتا لإعجابي بجمال هوجلي.
2
وفي ذات اليوم، أخذت القطار متوجها إلى بومباي.
هوامش
الفصل الخامس والعشرون
في الهند
توقف القطار في مدينة الله آباد لمدة 45 دقيقة خلال توجهنا إلى بومباي. فقررت استغلال فترة التوقف هذه في التجول داخل المدينة، بالإضافة إلى شراء بعض الأدوية. عندما ذهبت إلى الصيدلية، وجدت الصيدلي شبه نائم، فأخذ وقتا طويلا كي يركب الدواء، حتى إنني عندما وصلت إلى المحطة كان القطار قد انطلق بالفعل. لقد أمر ناظر المحطة بتأخير القطار دقيقة من أجلي، لكنه أمر بإنزال أمتعتي بحرص من القطار عندما لم أحضر.
حجزت غرفة بفندق كيلنر، وقررت أن أبدأ في العمل في ذلك الوقت وذلك المكان. كنت قد سمعت الكثير عن جريدة «ذا بيونير» التي تصدر في مدينة الله آباد، وعلمت أنها مناهضة للمطامح الهندية. أعتقد أن السيد تشيسني كان يشغل منصب رئيس تحرير الجريدة في ذلك الحين. كنت أرغب في الحصول على دعم جميع الأطراف، فأرسلت إلى السيد تشيسني وأخبرته كيف فاتني القطار، وطلبت منه أن يسمح لي بمقابلته؛ حتى أتمكن من الرحيل في اليوم التالي. وقد وافق في الحال على مقابلتي، وقد سررت بتلك المقابلة للغاية، خاصة وقد استمع لي بصدر رحب. وعدني السيد تشيسني أن يعلق في جريدته على كل ما أكتبه إليه، لكنه أضاف أنه ليس بوسعه أن يصادق على جميع طلبات الهنود لأنه يجب أن يتفهم وجهة نظر المستعمرين ويحترمها أيضا.
قلت له: «يكفي أن تدرس المسألة وتناقشها في جريدتك. أنا لا أبغي غير العدالة المحضة التي نستحقها.»
أمضيت باقي اليوم أتجول وأشاهد المنظر الخلاب لتلاقي الأنهار الثلاثة
Triveni ، وأضع خطة العمل الذي ينتظرني.
وضعت هذه المقابلة غير المتوقعة مع رئيس تحرير جريدة «ذا بيونير» الأساس لسلسلة من الأحداث، التي أدت في النهاية إلى حكم أهالي ناتال علي بالشنق دون محاكمة قانونية.
ذهبت مباشرة إلى راجكوت دون التوقف في بومباي، ثم بدأت الإعداد لكتابة كتيب يتناول الوضع في جنوب أفريقيا. استغرقت كتابة الكتيب ونشره ما يقرب من الشهر. كان غلاف الكتاب أخضر اللون، فأصبح يعرف فيما بعد باسم «الكتيب الأخضر». رسمت في ذلك الكتيب «متعمدا» صورة ملطفة عن وضع الهنود في جنوب أفريقيا. فاستخدمت لغة أكثر اعتدالا منها في الكتيبين اللذين أشرت لهما من قبل، وذلك لعلمي بأن الأشياء التي نسمع عنها من بعيد تبدو أضخم مما هي عليه.
طبعت عشرة آلاف نسخة من الكتيب وأرسلتها إلى جميع الصحف وقادة جميع الأحزاب الهندية. وكان السبق في تناول الكتيب لصحيفة «ذا بيونير». أرسل ملخص المقالة إلى وكالة رويتر بإنجلترا، وأرسل موجز لذلك الملخص من مكتب رويتر بلندن إلى ناتال. كان هذا الموجز في برقية لا تزيد على ثلاثة أسطر مطبوعة. لقد كانت نسخة مصغرة، لكن مبالغ فيها، من الصورة التي رسمتها عن معاملة الهنود في ناتال، وكتبت بكلمات لم أتلفظ بها. وسنرى فيما يأتي الأثر الذي خلفه هذا الأمر في ناتال. في غضون ذلك، تناولت كل جريدة بارزة المسألة باستفاضة.
لم يكن من السهل إعداد هذه الكتيبات للنشر. وكان الأمر ليصبح مكلفا إذا ما وظفت من يساعدني في إعداد الأغلفة وغيرها، لكنني توصلت إلى خطة أيسر بكثير. جمعت جميع الأطفال في الحي الذي أعيش فيه وطلبت منهم التطوع بساعتين أو ثلاث ساعات للعمل معي في الصباح في غير أيام الدراسة، فوافق الأطفال بكل سرور. وقد كنت ممتنا لهم ووعدتهم بأن أمنحهم طوابع بريد مستعملة كنت قد جمعتها على سبيل المكافأة. لقد أنجز الأطفال العمل بسرعة مذهلة. فكانت هذه هي تجربتي الأولى مع المتطوعين من الأطفال، الذين أصبح اثنان منهم زملائي الآن.
اجتاح الطاعون بومباي في ذلك الوقت تقريبا، وعم الرعب جميع أنحاء البلاد. وكان يخشى تفشي المرض في راجكوت. عرضت خدماتي على الحكومة حينما شعرت بأنني يمكن أن أقدم بعض العون في الإدارة الصحية. قبلت الحكومة عرضي، وعينت في اللجنة المعنية بتناول المسألة. أكدت بصورة خاصة على نظافة المراحيض، فقررت اللجنة فحص المراحيض الموجودة في جميع الشوارع. لم يعترض الفقراء على الفحص الذي تعرضت له مراحيضهم، بل الأدهى من ذلك أنهم هم الذين نفذوا الإصلاحات المقترحة. لكن عندما توجهنا لفحص منازل من ينتمون إلى طبقة الأغنياء، رفض بعضهم حتى مجرد إدخالنا، ناهيك عن أن يستمعوا إلى اقتراحاتنا. كان من الشائع أن نرى مراحيض الأغنياء أقل نظافة من مراحيض الفقراء. فقد كانت مظلمة ونتنة وتملؤها القاذورات والديدان. قدمنا اقتراحات بسيطة جدا، على سبيل المثال تخصيص دلو للبراز بدلا من تركه ليسقط على الأرضية وتخصيص دلو لتجميع البول أيضا بدلا من تركه يتسرب عبر الأرضية، وهدم التقسيمات بين الجدران الخارجية والمراحيض بغرض توفير المزيد من الضوء والهواء، ولتمكين المسئول عن التنظيف من تنظيفها بصورة ملائمة. لكن من ينتمون إلى طبقة الأغنياء تقدموا بالعديد من الاعتراضات على الاقتراح الأخير هذا، وكان لا ينفذ في أغلب الأحيان.
وكان على اللجنة فحص مساكن المنبوذين.
1
لم يكن في اللجنة غير عضو واحد مستعد لمرافقتي إلى هناك. أما باقي أعضاء اللجنة، فاعتبروا الذهاب إلى تلك المساكن ضربا من الجنون، فما بالك بفحص المراحيض بها. لكن تلك المنازل مثلت لي مفاجأة سارة. كانت هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها ذلك الحي. اندهش الناس ، رجالا ونساء، لرؤيتنا. طلبت منهم السماح لنا بفحص مراحيضهم. فردوا بذهول: «مراحيض! نحن نقضي حاجتنا في الخلاء، فالمراحيض يستعملها الأشخاص ذوو المكانة مثلكم.»
فسألتهم: «حسنا، إذن لن تمانعوا إذا فحصنا منازلكم؟»
فأجابوني: «على الرحب والسعة يا سيدي. يمكنك فحص كل ركن في المنزل. فهذه ليست بمنازل بل هي أقرب إلى الجحور.»
ذهبت لأتفقد المنازل، ولكم أسعدني أن أجد المنازل من الداخل بنفس النظافة التي هي عليه من الخارج. كانت المداخل منظفة بعناية، وكانت الأرضية مغطاة بطبقة من روث البقر بصورة جميلة، وحتى القدور والأوعية المعدنية القليلة كانت نظيفة ولامعة. لم يكن هناك أي خوف من تفشي المرض في هذه المنطقة.
شاهدنا مرحاضا في منزل شخص ممن ينتمون إلى طبقة الأغنياء، لا يمكنني منع نفسي من وصفه بشيء من التفصيل. كان لكل غرفة بالوعة خاصة بها، تستخدم لتصريف المياه والبول معا مما يعني أن المنزل كله كان يمكن أن يصبح نتنا. وكان أحد المنازل يحتوي على غرفة نوم بمستويين بها بالوعة تستخدم كمبولة ومرحاض في نفس الوقت. كانت البالوعة متصلة بأنبوب ينحدر إلى الطابق الأرضي. لقد كانت الرائحة الكريهة المنبعثة من هذه الغرفة لا تطاق. وسأدع القارئ يتخيل كيف يمكن للمقيمين بالغرفة العيش فيها.
وزارت اللجنة معبد الإله فيشنو (هافيلي). كان الكاهن المسئول عن المعبد مقربا لعائلتنا، فسمح لنا بفحص كل ما في المعبد وأن نقدم ما نشاء من اقتراحات. كان هناك جزء من مباني المعبد لم يكن هو ذاته قد رآه من قبل، حيث يلقى بالنفايات والمتروكات كأطباق الطعام. لقد كان المكان مأوى للغربان والهررة. وكانت المراحيض به قذرة بالطبع. على كل حال، لم أمكث في راجكوت مدة كافية لأرى مدى تنفيذ الكاهن للاقتراحات.
تألمت كثيرا عندما وجدت القذارة تعم دارا للعبادة، فقد كنت أتوقع أن يكون هناك مراقبة دقيقة لقواعد الصحة والنظافة في مثل ذلك المكان المقدس. جميع كتبة السمريتي
2
أكدوا وشددوا على النظافة الباطنة والظاهرة.
هوامش
الفصل السادس والعشرون
عاطفتان
لم أجد قط من الناس من يدين للدستور البريطاني بمثل الولاء الذي كنت أدينه له. أدرك الآن أن السبب الأساسي لذلك الولاء كان تمسكي بالحقيقة. فلولا الحقيقة لما استطعت مطلقا أن أتمتع بالولاء أو أي فضيلة أخرى. كانت الأصوات ترتفع بالنشيد الوطني في جميع الاجتماعات التي حضرتها في ناتال. فشعرت حينها بالرغبة في أن أشارك في الإنشاد. ولم يكن ذلك نتاج جهلي بنقائص الحكم البريطاني، لكن نتيجة لاعتقادي بأن ذلك الحكم مقبول في مجمله. فقد كنت مؤمنا، في تلك الأيام، بأن الحكم البريطاني يعود بالنفع على الرعايا.
كان التمييز العنصري الذي شهدته في جنوب أفريقيا - كما كنت أعتقد - منافيا للعادات البريطانية، وكنت على يقين بأن ذلك التمييز ما هو إلا أمر مؤقت وينحصر في ذلك المكان فقط. لذلك كنت أنافس الإنجليز أنفسهم في الولاء للعرش. تعلمت «النشيد الوطني» بكثير من المثابرة، واشتركت في غنائه أينما أنشد. وكنت أعبر عن ولائي ذلك أينما كان هناك مجال للتعبير عنه دون إفراط أو تفاخر.
لم ألجأ في حياتي إلى استغلال ذلك الولاء بأية صورة، ولم أسع إلى الحصول على مكاسب شخصية منه قط؛ فقد كان بمنزلة الواجب، وقدمته دون أن أنتظر أي مقابل.
عند وصولي إلى الهند، كان يجرى الاستعداد لإقامة مراسم الاحتفال باليوبيل الماسي لتتويج الملكة فيكتوريا. دعيت للانضمام إلى اللجنة المسئولة عن تنظيم الاحتفال في راجكوت. قبلت الدعوة، لكن ساورني الشك بأن الغرض من الاحتفالات سيكون التفاخر إلى حد بعيد. آلمني كثيرا أن أكتشف وجود الكثير من الخداع فيما يتعلق بتلك الاحتفالات. فتساءلت ما إذا كان علي أن أبقى في اللجنة أو أنسحب. في نهاية الأمر، قررت الاكتفاء بالقيام بمهامي في اللجنة.
كان زرع الأشجار أحد الاقتراحات المطروحة على اللجنة. فوجدت أن العديد من الناس يفعلون ذلك بدافع التفاخر وإرضاء المسئولين. حاولت أن أقنع اللجنة بأن زرع الأشجار ما هو إلا اقتراح وليس إلزاما. فإما أن نأخذه على محمل الجد أو أن نتركه كلية. تولد لدي انطباع بأن أعضاء اللجنة قد سخروا من أفكاري. وأذكر جيدا كيف كنت جادا عندما غرست شجرتي، وكيف رويتها ورعيتها بحرص.
علمت أطفال العائلة النشيد الوطني. ويحضرني أيضا أنني علمته لطلاب كلية التدريب المحلية، لكنني لا أتذكر إذا كان ذلك في ذكرى اليوبيل أم حفلة تتويج الملك إدوار السابع كإمبراطور الهند! بعد ذلك بدأت أدرك معنى نص النشيد الذي أزعجني. أخذ مفهوم «الأهيمسا» لدي ينضج، وأصبحت أكثر حرصا فيما يتعلق بأفكاري وكلامي. يقول النشيد:
يا إلهنا شتت أعداءها،
واجعلهم يتساقطون،
ادحض سياستهم،
وأحبط حيلهم الدنيئة.
وقد ضايقتني هذه السطور بصورة خاصة وتضاربت مع شغفي بالأهيمسا. بحت بما أشعر به إلى الطبيب بووث، الذي اتفق معي على أنه لا ينبغي لمن يؤمن بالأهيمسا أن ينشد مثل هذه الكلمات. كيف كان لنا أن نفترض أن «الأعداء» «مخادعون»؟ وهل كونهم أعداء يعني بالضرورة أنهم مخطئون؟ لا يسعنا أن نطلب من الإله غير العدل. أيد الطبيب بووث رأيي وألف نشيدا جديدا لطائفته، وسأتعرض للطبيب بووث بمزيد من التفصيل لاحقا.
كانت القدرة على التمريض مغروسة في طبيعتي، مثلها مثل الولاء. وكنت مغرما بتمريض الناس، سواء كانوا من الأصدقاء أو الغرباء.
اضطررت إلى القيام بزيارة عاجلة إلى بومباي في أثناء انشغالي في راجكوت بالتحضير للكتيب الذي يتناول جنوب أفريقيا. كان غرضي من تلك الزيارة توعية الرأي العام في المدن بالوضع في جنوب أفريقيا عن طريق عقد الاجتماعات. وكانت بومباي أول المدن التي توجهت إليها. فقابلت بادئ ذي بدء القاضي رانادي، الذي أنصت لي باهتمام ثم نصحني بمقابلة السيد فيروزشاه ميهتا. وقد وجه لي النصيحة ذاتها القاضي بدر الدين طيابجي، الذي قابلته عقب لقائي بالقاضي رانادي. فقال لي: «لا يمكنني أنا والقاضي رانادي إلا أن نقدم لك بعض النصح والإرشاد. فأنت تعرف مناصبنا التي تمنعنا من المشاركة في الشئون العامة، لكن تأكد من تأييدنا لك. وأما عن الشخص الذي يمكنه مساعدتك على نحو فعال فهو السيد فيروزشاه ميهتا.»
كنت أرغب بلا شك في رؤية السيد فيروزشاه ميهتا، لكنني كونت فكرة أفضل عن التأثير الواسع الذي يتمتع به السيد فيروزشاه على الرأي العام. وقد تجلت لي هذه الفكرة نتيجة لنصيحة مثل أولئك الرجال البارزين لي للأخذ بنصيحته. قابلت السيد فيروزشاه في الوقت المناسب، وكنت أتوقع أن أشعر بالرهبة في حضوره. فقد سمعت الألقاب الشعبية التي أطلقت عليه، فعلمت أنني سأقابل «أسد بومباي» و«الملك غير المتوج للرئاسة». لكن «الملك» لم يستبد بي، بل قابلني في غرفته كالأب الحنون الذي يقابل ابنه الناضج. كان السيد فيروزشاه محاطا بدائرة من الأصدقاء والأتباع، وكان من بينهم السيد واشا والسيد كاما اللذان تعرفت إليهما. كنت قد سمعت بالفعل عن السيد واشا، فقد كان يعد المساعد الأول للسيد فيروزشاه ومحل ثقته. وقد وصفه السيد فيرشاند غاندي لي بأنه خبير في علم الإحصاء. قال لي السيد واشا: «يجب أن نلتقي ثانية.»
لم يستغرق التعارف سوى دقيقتين. أنصت لي السيد فيروزشاه بانتباه، وأخبرته أنني قابلت القاضيين رانادي وطيابجي. فقال لي: «غاندي، أعتقد أنه يجب علي أن أساعدك. يجب أن أدعو لانعقاد اجتماع شعبي هنا.» فتوجه إلى السيد مونشي، السكرتير، وأخبره بتحديد موعد للاجتماع. تحدد الموعد، ثم طلب مني قبل أن يودعني أن أقابله في اليوم السابق لموعد الاجتماع. لقد أزال عني هذا اللقاء الخوف الذي كان يعتريني، فعدت إلى المنزل مليئا بالسعادة.
اتصلت بصهري الذي كان مقيما في بومباي، والذي كان يرقد مريضا. لم يكن صهري ميسور الحال ولم تكن أختي (زوجته) قادرة على تمريضه. كان مرضه خطيرا، فعرضت أن آخذه معي إلى راجكوت. وافق على العرض، فعدت إلى المنزل بصحبة أختي وزوجها. طال عليه المرض أكثر مما توقعت، فوضعت صهري في غرفتي وبقيت بجانبه أمرضه ليل نهار. كنت مضطرا إلى أن أظل متيقظا جنحا من الليل، وأن أقوم ببعض الأعمال المتعلقة بقضية جنوب أفريقيا أثناء تمريضي له. توفي زوج أختي في نهاية الأمر، لكن عزائي الوحيد هو أن الفرصة قد سنحت لي أن أقوم بتمريضه في أيامه الأخيرة.
تطور استعدادي للتمريض تدريجيا حتى أصبح شغفا، لدرجة أنه كثيرا ما شغلني عن عملي. وكنت في بعض الأحيان أشرك جميع من في المنزل في مثل هذه الخدمة.
لا يكون لمثل هذه الخدمة أي معنى إذا لم يستمتع مؤديها بها. إن من يؤدي هذه الخدمة بدافع التفاخر أو خوفا من الرأي العام يجد نفسه مقيدا ولا يشعر إلا بروحه تسحق. فالخدمة التي تقدم دون سرور لا تساعد القائم على الخدمة أو المريض. لكن جميع اللذات والممتلكات تتلاشى أمام الخدمة التي تقدم بسرور وابتهاج.
الفصل السابع والعشرون
اجتماع بومباي
كان موعد الاجتماع الشعبي في نفس يوم وفاة صهري، فاضطررت للتوجه إلى بومباي. لم يكن لدي متسع من الوقت كي أفكر في الخطبة التي سألقيها. كنت منهك القوى بعد أن ظللت أياما وليالي في يقظة أثناء رعايتي لصهري، وأصبح صوتي أجش. لكنني مع ذلك توجهت إلى بومباي وكلي ثقة بالإله. لم أكن أحلم حتى أن أكتب خطبتي قط.
وفقا لطلب السيد فيروزشاه، وصلت إلى مكتبه في الخامسة مساء عشية الاجتماع. فسألني: «هل أعددت خطبتك يا غاندي؟»
فأجبته وأنا أرتعد خوفا: «لا يا سيدي، أعتقد أنني سوف أرتجل.»
فرد علي قائلا: «لن يجدي ذلك نفعا في بومباي. فعملية نقل الأخبار هنا سيئة، ولكي نستفيد من هذا الاجتماع يجب أن تكتب كلمتك، حتى نتمكن من طباعتها قبل بزوغ فجر الغد. أتمنى أن تتمكن من القيام بهذا.»
لقد كنت أشعر بالتوتر، لكنني أخبرته بأنني سأحاول.
فقال لي: «إذن أخبرني متى يمكن للسيد مونشي أن يمر عليك ليحصل على الخطبة مكتوبة؟»
فأجبته: «الحادية عشرة مساء.»
عندما ذهبنا إلى الاجتماع في اليوم التالي، أدركت الحكمة من نصيحة السيد فيروزشاه. عقد الاجتماع في باحة معهد سير كواسجي جيهانجير. وقد علمت أنه عندما يلقي السيد فيروزشاه خطبة في الاجتماعات، دائما ما تكتظ الباحة بالجماهير، خاصة الطلبة الذين يرغبون في الاستماع إليه، بحيث لا يكون هناك موطئ قدم. كان ذلك أول اجتماع أحضره من نوعه. ووجدت صوتي لا يصل إلى مسامع الكثيرين. كنت ارتجف وأنا أقرأ كلمتي. لكن السيد فيروزشاه كان يحمسني من حين إلى آخر بأن يطلب مني أن أرفع صوتي أكثر فأكثر. ومع أن ذلك كان يشجعني، فإنني أعتقد أنه كان يجعل صوتي ينخفض أكثر فأكثر.
جاء صديقي القديم المحامي كيشافراو ديشباندي لينقذني. فسلمته خطابي ليلقيه نيابة عني، وقد كان صوته هو ما أحتاج إليه بالفعل. لكن الجمهور أبى أن يستمع إليه، وأخذ في الهتاف: «واشا، واشا!» فقام السيد واشا وأخذ يلقي الخطاب مؤثرا في نفوس الحضور. صمت الحشد تماما وأنصتوا إلى الخطبة حتى نهايتها، إلا من التصفيق والهتاف قائلين «عار» أينما دعت الحاجة. لقد ملأ ذلك قلبي بالسعادة. وقد سررت لإعجاب السيد فيروزشاه بالخطبة.
أدى ذلك الاجتماع إلى حصولي على تعاطف سريع من كل من السيد ديشباندي وصديق بارسي، لا أستطيع ذكر اسمه نظرا لأنه يشغل منصبا حكوميا رفيع المستوى الآن. وقد عبر لي كل منهما عن عزمه على مصاحبتي إلى جنوب أفريقيا. مع ذلك، استطاع السيد كورسيتجي، وكان وقتها قاضيا بمحكمة المطالبات الصغيرة، أن يجعل الصديق البارسي يعدل عن رأيه نظرا لعزمه على الزواج. كان عليه أن يختار بين زواجه والذهاب إلى جنوب أفريقيا، فاختار الزواج. لكن السيد روستومجي حاول التعويض عن الإخلال بالاتفاق، وهناك العديد من النساء البارسيات يحاولن التعويض الآن نيابة عن السيدة التي ساعدت على حدوث ذلك الإخلال عن طريق تكريس أنفسهن لعمل القماش الهندي منزلي الصنع «خادي». لذلك فقد سامحت الزوجين بكل سرور. لم يكن السيد ديشباندي عازما على الزواج، لكنه لم يستطع هو الآخر أن يأتي معي. واليوم يبذل مجهودات كافية بنفسه لكي يكفر عن العهد الذي أخل به. في طريق عودتي إلى جنوب أفريقيا، قابلت أحد أفراد عائلة طيابجي في زنجبار، وقد وعد هو الآخر بأن يرافقني ويساعدني، لكنه لم يأت. ولا يزال السيد عباس طيابجي يكفر عن تلك الإساءة. وهكذا، لم أوفق في محاولاتي الثلاثة لاجتذاب أي من المحامين إلى جنوب أفريقيا.
وفي نفس السياق، يحضرني السيد بيستونجي بادشاه، الذي ربطتني به علاقة قوية منذ إقامتي في إنجلترا. وكنت قد قابلته في مطعم للأطعمة النباتية بلندن. وقد سمعت عن أخيه السيد بارجورجي بادشاه الذي كان معروفا بكونه «مهووسا». لم تتسن لي مقابلته قط، لكن أصدقائي أخبروني أنه غريب الأطوار. وكان من إشفاقه على الخيل يرفض ركوب عربة الترام التي تجرها الخيل، وكان يرفض الحصول على أي شهادات جامعية مع تمتعه بذاكرة مذهلة. وكون شخصية مستقلة، وكان نباتيا مع كونه بارسيا. لم يكن السيد بيستونجي معروفا بمثل هذه الصفات، وإنما كان مشهورا بسعة علمه حتى في لندن. على أي حال، كان الأمر الذي يجمع بيننا هو «النباتية» وليس الثقافة التي لا أستطيع أن أجاريه فيها.
وقد قابلته مجددا في بومباي، حيث كان يشغل منصب الكاتب الأول في المحكمة العليا. وفي ذلك الحين، كان منشغلا بمشاركته في قاموس جوجراتي متقدم. وكنت قد لجأت إلى جميع الأصدقاء لمساعدتي في عملي بجنوب أفريقيا. أما السيد بيستونجي، فرفض مساعدتي ونصحني بألا أعود إلى جنوب أفريقيا.
فقال لي: «من المستحيل أن أساعدك، ولا أحبذ عودتك إلى جنوب أفريقيا. فهناك الكثير من العمل في الوطن. فهناك الكثير لنفعله من أجل لغتنا حيث يجب علي أن أجد كلمات علمية. لكن هذا لا يتعدى كونه جزءا من العمل. وتذكر الفقر الذي تعانيه البلاد. لا شك أن إخواننا في جنوب أفريقيا يتعرضون للكثير من الصعاب، لكنني لا أريد أن نضحي بشخص مثلك من أجل مثل ذلك العمل. فأولا يجب أن نحصل على الحكم الذاتي في الهند، وذلك بدوره سيساعد أبناء وطننا في جنوب أفريقيا. لا أملك أن أفرض رغبتي عليك، لكنني لن أشجع أي شخص يتمتع بقدراتك على دعمك أو مساعدتك.»
لم ترق لي نصيحة بيستونجي، لكنها زادت من تقديري له. فقد أذهلني حبه للوطن وللغتنا الأم. فكان لهذه الواقعة عظيم الأثر في تقريب أحدنا من الآخر. أدركت وجهة نظر السيد بيستونجي، لكن بدلا من أن أتخلى عن عملي في جنوب أفريقيا، زاد عزمي على استكمال المسيرة. فالمحب لوطنه لا يسعه تجاهل أي جزء من أجزاء خدمة الوطن. فقد بدا لي نص الجيتا واضحا ومؤكدا:
في نهاية الأمر، من الأفضل أن يقوم المرء بمهمته، حتى لو أصابه الفشل،
فذلك خير من أن يضطلع بمهام أحد غيره حتى لو بدت نافعة.
فلا ضرر في أن يموت المرء أثناء تأدية واجبه،
لكن من يتخذ غير طريقه طريقا، يضل بلا هداية.
الفصل الثامن والعشرون
بونا ومدراس
جعل السيد فيروز مهمتي أيسر بكثير. فذهبت من بومباي إلى مدينة بونا، حيث يوجد حزبان. وكنت أريد الحصول على مساعدة جميع الأطراف. قابلت السيد لوكامانيا تيلاك أولا، فقال لي:
إن قرارك بالحصول على مساعدة جميع الأطراف هو قرار صائب تماما. فلا يمكن أن يكون هناك خلاف حول قضية جنوب أفريقيا. لكن عليك أن تجد رجلا لا ينتمي لأي من الأحزاب ليرأس الاجتماع. عليك بمقابلة الأستاذ بانداركار، فقد مرت مدة كبيرة لم يشارك فيها في أي حركة شعبية. مع ذلك، يمكن أن تستثيره مثل هذه القضية. قابله ثم وافني بما تصل إليه، فأنا أرغب في مساعدتك قدر استطاعتي. وبالطبع يمكنك رؤيتي متى شئت، فأنا رهن إشارتك.
كان هذا أول لقاء لي مع لوكامانيا. وقد أوضح ذلك اللقاء سر شعبيته الفريدة.
قابلت بعد ذلك السيد جوخلي في «كلية فيرجوسون»
Fergusson College . وقد رحب بي بحفاوة، وسرعان ما أسر فؤادي بسلوكه. كان ذلك أول لقاء لي به، ومع ذلك كنا كصديقين يجددان عهد صداقتهم الخالية. كنت أرى السيد فيروز كسلسلة جبال الهملايا، والسيد لوكامانيا كالمحيط، أما السيد جوخلي فكان كنهر الجانج. فيمكن للمرء أن يحصل على حمام منعش في نهر الجانج المقدس. وفي حين لا يمكن للمرء أن يتسلق جبال الهملايا، ولا يمكنه أن يقذف بنفسه في البحر بسهولة، يجد نهر الجانج يدعوه ليحتضنه بين طياته. يا لها من بهجة يشعر بها المرء وهو عائم على سطحه بقارب ومجداف! تفحصني السيد جوخلي بإمعان كناظر مدرسة يتفحص متقدما للالتحاق بالمدرسة. وأخبرني بمن ألجأ إليهم والطريقة التي أتقرب إليهم بها. ثم طلب مني أن يلقي نظرة على خطبتي. اصطحبني في جولة داخل الكلية وأكد لي أنه على استعداد لمساعدتي في أي وقت. وطلب مني أن أطلعه على ثمرة لقائي بالدكتور بانداركار، وودعني مبتهجا. كانت المكانة التي شغلها السيد جوخلي في قلبي في مجال السياسة أثناء حياته وحتى الآن فريدة تماما.
استقبلني الدكتور بانداركار بحفاوة الأب. كان وقت الظهيرة حين زرته، وقد تأثر كثيرا ذلك العالم الذي لا يكل ولا يمل بحرصي على مقابلة الناس في مثل تلك الساعة. وقد حاز إصراري على أن يكون رئيس الاجتماع شخصا لا ينتمي لأية كتلة حزبية على تأييده فورا، وقد عبر عن ذلك بقوله: «نعم الرأي، نعم الرأي.»
وبعد أن استمع إلى حديثي، توجه إلي قائلا: «إذا سألت أي شخص، سيخبرك بأنني لا أشارك في السياسة، لكنني لا أستطيع أن أخذلك. إن قضيتك قوية وعملك رائع لدرجة أنني لا أستطيع أن أرفض الاشتراك في الاجتماع الذي ستعقده. لقد أحسنت صنعا باستشارتك لكل من تيلاك وجوخلي. برجاء إخبارهم بأنه يسرني أن أترأس الاجتماع الذي سيعقد تحت رعايتهم المشتركة. ليس عندي وقت محدد لانعقاد الاجتماع، فاسألهم وأنا أوافق على أي وقت يرونه مناسبا.» ثم ودعني مهنئا ومباركا.
ودون أي ضجة، عقدت تلك المجموعة المثقفة والمتفانية ببونا الاجتماع في مكان صغير وبسيط، وجعلوني أنصرف مبتهجا وأشعر بثقة أكبر برسالتي.
توجهت بعد ذلك إلى مدينة مدراس التي اتسم أهلها بحماسة شديدة. وقد كان لواقعة بالاسوندرام أثر عميق على الاجتماع. وكنت أرى أن خطبتي طويلة بقدر ما. ومع ذلك، أنصت الناس إلى كل كلمة فيها باهتمام. وفي نهاية الاجتماع، كان هناك تهافت على «الكتيب الأخضر». كنت قد أحضرت معي 10000 نسخة من طبعة ثانية منقحة للكتاب. وقد بيع في لمح البصر، لكنني وجدت أنه لم يكن هناك داع لطباعة مثل ذلك العدد الهائل. فبسبب حماستي، أخطأت في تقدير الطلب المتوقع على الكتيب. فخطبتي كانت موجهة لمن يتحدثون الإنجليزية فقط، ولم تكن تلك الفئة وحدها من الكثرة بحيث تستلزم العشرة آلاف نسخة بأكملها.
قدم لي الراحل باراميشفاران بيلاي، رئيس تحرير «ذا مدراس ستاندرد»
The Madras Standard ، أعظم مساعدة هناك. أطلع السيد باراميشفاران على المسألة بعناية، وكان كثيرا ما يدعوني إلى مكتبه ليقدم لي النصح. وأيد القضية كل من السيد جي سوبرامانيام من جريدة «ذا هيندو»
The Hindu
والدكتور سوبرامانيام. لكن السيد باراميشفاران وضع كل أعمدة جريدته تحت تصرفي، وقد استفدت من عرضه بالطريقة المثلى. وقد عقد الاجتماع الذي أجري في ساحة باشايابا، على ما أذكر، برئاسة الدكتور سوبرامانيام.
كانت العاطفة التي عاملني بها معظم الأصدقاء الذين قابلتهم عظيمة، وكذلك كانت حماستهم للقضية. حتى إنني شعرت بأنني في الوطن، مع اضطراري للحديث معهم بالإنجليزية. فأي حاجز هذا الذي لا يستطيع الحب تحطيمه؟
الفصل التاسع والعشرون
العودة فورا
انطلقت من مدراس إلى كلكتا حيث وجدت الصعاب تحيط بي من كل جانب. كنت لا أعرف أحدا هناك، فحجزت غرفة في فندق «جريت إيسترن»، حيث تعرفت إلى السيد إيلرثورب، وهو مندوب عن جريدة «ذا دايلي تيليجراف». فدعاني إلى النادي البنجالي حيث يقيم، ولم يكن يدرك حينها أن الهنود غير مسموح لهم بالدخول إلى قاعة الاستقبال بالنادي. فاصطحبني إلى غرفته بعد أن اكتشف ذلك الحظر. وقد أبدى لي أساه على تلك المعاملة السيئة من قبل الإنجليز، واعتذر عن عدم تمكنه من اصطحابي إلى قاعة الاستقبال.
وكان علي بالطبع أن أقابل السيد سوريندراناث بانيرجي، «معبود البنجاليين». عندما رأيته، كان محاطا بعدد من الأصدقاء، فقال لي: «أخشى أن الناس لن يهتموا بعملك، فكما تعلم لدينا هنا ما يكفي من الصعاب والمشكلات. يجب أن تكسب تعاطف الأمراء. ويمكنك أن تقابل ممثلي الجمعية البريطانية الهندية. وينبغي لك مقابلة السادة بياريموان موكارجي ومهراجا طاغور. فكل منهما يتمتع بعقل متفتح ويشارك في العمل العام.»
لم يحالفني الحظ مع هذين الشخصين، فقد استقبلوني بفتور وأخبروني أنه ليس من السهل الدعوة إلى عقد اجتماع شعبي في كلكتا، وأنه في حالة انعقاد المؤتمر يجب أولا الرجوع إلى السيد سوريندراناث بانيرجي .
كانت مهمتي تزداد صعوبة أكثر فأكثر. توجهت إلى مكتب جريدة «أمريتا بازار باتريكا»
Amrita Bazar Patrika . وظن الرجل الذي قابلته هناك أنني يهودي متجول. أما في جريدة «ذا بانجاباسي»
The Bangabasi
فلم يكن الحال أفضل بكثير. فقد تركني رئيس التحرير منتظرا لمدة ساعة. كان من الواضح أن عليه إجراء الكثير من المقابلات، لدرجة أنه لم يلتفت إلي حتى بعد أن انصرف الآخرون. وعندما تجرأت على فتح الموضوع بعد طول انتظار، قال لي: «ألا ترى مدى انشغالنا؟ زيارات الأشخاص من أمثالك لا تنقطع. من الأفضل أن تنصرف، فأنا لست على استعداد للاستماع إليك.» شعرت للحظة بالإهانة، لكن سرعان ما فهمت موقف رئيس التحرير. فقد سمعت عن مدى شهرة جريدة «ذا بانجاباسي»، وكنت أرى أن هناك تدفقا دائما للزوار. وكان جميعهم أشخاصا تربطهم به علاقة. ولم تكن جريدته في حاجة إلى موضوعات للمناقشة، وكانت جنوب أفريقيا غير معروفة على نطاق واسع في ذلك الوقت.
ومهما كان حجم المظلمة في نظر الشخص المظلوم، فلن يكون لرئيس التحرير أكثر من واحد من عشرات الأشخاص الذين يتوافدون على مكتبه، كل بمظلمته. كيف يستطيع أن يقابل رئيس التحرير أولئك جميعا؟ إن صاحب المظلمة يتصور أن رئيس التحرير صاحب سلطة ونفوذ داخل البلاد. وهو فقط الذي يعلم أن سلطته لا تتعدى عتبة مكتبه. لكن هذا لم يثبط من عزيمتي. ظللت أقابل رؤساء تحرير الصحف الأخرى، وكالمعتاد قابلت رؤساء التحرير الإنجليز المقيمين في الهند أيضا. أدركت كل من جريدتي «ذا ستاتسمان»
The Statesman
و«ذا إنجليش مان»
The Englishman
أهمية القضية. فقدمت إليهما حوارات طويلة للنشر، وقد نشروها بالكامل.
اعتبرني السيد ساوندرس، رئيس تحرير «ذا إنجليش مان»، أحد أفراد صحيفته. فوضع مكتبه وجريدته تحت تصرفي. حتى إنه منحني حرية إجراء التغييرات التي أراها لازمة على الافتتاحية التي كتبها عن الوضع، والتي أرسل لي مسودتها مسبقا. لن أكون مبالغا حين أقول إن نوعا من الصداقة نمت بيننا. وقد وعدني بأن يقدم لي كل ما يستطيع من العون، وبالفعل حافظ على وعده حرفيا، فظل يراسلني حتى أعياه المرض الشديد .
لقد حظيت طيلة حياتي بمثل هؤلاء الأصدقاء الذين دخلوا حياتي على نحو غير متوقع. جعل عدم مبالغتي في الأمور وإخلاصي للحقيقة السيد ساوندرس يعجب بي. وقد أخضعني لاستجواب دقيق قبل أن يبدأ في التعاطف مع قضيتي. وقد رأى أنني لم أتوان في تقديم عرض محايد للقضية حتى فيما يتعلق بالرجل الأبيض في جنوب أفريقيا، وتقديرها.
لقد علمتني التجربة أننا نحصل على العدالة بصورة أسرع إذا ما كنا عادلين مع الطرف الآخر.
وقد وجدت في مساعدة السيد ساوندرس غير المتوقعة بريق أمل في أن أنجح في عقد اجتماع في كلكتا، لكن حينها تلقيت برقية من دربان نصها: «يفتتح البرلمان جلساته في يناير/كانون الثاني. برجاء العودة فورا!»
وجهت خطابا إلى الصحافة أشرح لهم فيه سبب اضطراري لمغادرة كلكتا على ذلك النحو المفاجئ والرحيل إلى بومباي. وقبل أن أشرع في ذلك، أرسلت إلى وكيل السيد دادا عبد الله وشركائه ليرتب سفري في أول سفينة متوجهة إلى جنوب أفريقيا. كان السيد دادا عبد الله وقتها قد اشترى الباخرة كورلاند
Courland
وأصر على أن أسافر على متنها ومعي عائلتي مجانا. فقبلت عرضه بامتنان، وفي أوائل ديسمبر/كانون الأول أبحرت للمرة الثانية إلى جنوب أفريقيا، لكن هذه المرة مع زوجتي وأطفالي والابن الوحيد لأختي الأرملة. وأبحرت السفينة ناديري
Naderi
في نفس الوقت إلى دربان. كان وكلاء الشركة هم دادا عبد الله وشركائه. لا بد أن عدد الركاب على متن السفينتين بلغ ما يقرب من ثمانمائة، يتجه نصفهم إلى الترانسفال.
الجزء
قصة تجاربي مع الحقيقة
الفصل الأول
صرير العاصفة
كانت تلك هي رحلتي البحرية الأولى مع زوجتي وأطفالي. كثيرا ما أشرت، خلال سردي للقصة، إلى أنه نتيجة لزواج الأطفال الشائع بين الهندوس من الطبقة المتوسطة، يكون الزوج متعلما وتبقى الزوجة غالبا أمية. هكذا نجد فجوة كبيرة تفصل بينهما، فيتعين على الزوج أن يكون معلما لزوجته. بناء على ذلك، كان علي أن أختار لباس زوجتي وأطفالي، وطعامهم والسلوكيات التي تتناسب مع البيئة الجديدة التي سيعيشون فيها. وعندما أسترجع ذكرياتي، أجد الكثير من المواقف الطريفة التي وقعت في تلك الأيام.
تعتبر الزوجة الهندوسية طاعتها المطلقة لزوجها أسمى عقيدة، في حين يعتبر الزوج الهندوسي نفسه سيد زوجته ومالك أمرها وعليها أن تلبي له جميع طلباته واحتياجاته.
اعتقدت في تلك المدة أنه يجب أن نرتدي ما يرتديه الأوروبيون ونتصرف كما يتصرفون قدر المستطاع حتى نبدو متمدنين. وذلك لأنني ظننت أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي قد توفر لنا بعض النفوذ، فبدون النفوذ لن نتمكن من خدمة الجالية الهندية.
وهكذا اخترت طريقة لباس زوجتي وأطفالي. فقد كان ذلك أفضل من أن يعرف أنهم ينتمون لطبقة التجار بكاثياوار. كان البارسيون أكثر الهنود تمدنا، لذلك اخترنا اللباس البارسي عندما وجدنا أن اللباس الأوروبي غير مناسب بالمرة. فلبست زوجتي الساري
1
البارسي، في حين ارتدى الأطفال المعاطف والسراويل البارسية. وبالطبع كان يجب عليهم ارتداء الأحذية والجوارب، التي استغرق اعتيادهم إياها بعض الوقت. فكانت الأحذية تقيد أقدامهم، في حين كانت الجوارب تغرق في العرق. وكان كثيرا ما تتقرح أصابع أقدامهم. لقد كنت أمتلك إجابة لكل اعتراضاتهم تلك، لكن في قرارة نفسي كنت أعلم أن سلطتي هي السبب في تخليهم عن تلك الاعتراضات وليس إجاباتي. إن موافقتهم على إجراء تغيير في لباسهم جاءت كما لو كانت الخيار الوحيد أمامهم. وكذلك الأمر، وبنفور أكبر، فيما يتعلق بقبولهم استخدامهما. وعند زوال افتتاني بعلامات التمدن تلك، تخلوا عن استخدامهم للشوكة والسكين. أعتقد أن عودتهم لأسلوب معيشتهم القديم كان لا يقل صعوبة عليهم بعد أن تعودوا على أسلوب الحياة الجديد. لكنني الآن أجد أننا أصبحنا أكثر حرية وبساطة بعد أن تخلينا عن بهرجة «التمدن».
كان برفقتنا على نفس الباخرة عدد من الأقارب والمعارف. وكنت كثيرا ما أزورهم وغيرهم من ركاب سطح السفينة. فنظرا لأن السفينة كانت ملكا لدادا عبد الله، كان لي مطلق الحرية في التحرك أينما شئت.
استغرقت الرحلة ثمانية عشر يوما فقط، حيث إن الباخرة انطلقت مباشرة إلى ناتال دون أن ترسو في أي ميناء من موانئ التوقف. وهبت ريح عاصف في حين كنا نبعد عن ناتال مسافة أربعة أيام فقط، وكأنها تحذرنا من العاصفة الحقيقة القادمة. كنا في شهر ديسمبر/كانون الأول الذي يتسم بهبوب الرياح الموسمية في نصف الكرة الجنوبي. لذلك فمن المألوف أن تهب العواصف الضعيفة والقوية في البحر الجنوبي في ذلك الوقت من العام. كانت العاصفة التي تعرضنا لها عنيفة وطويلة حتى إن الركاب شعروا بالذعر. لقد كان المشهد مهيبا، بحيث اتحد الجميع لمواجهة ذلك الخطر العام. نسي الجميع خلافاتهم وبدءوا جميعا، من مسلمين وهندوس ومسيحيين وغيرهم، يفكرون في الإله الواحد الأحد. وقد أخذ البعض منهم على نفسه العهود والنذور. وشارك ربان السفينة الركاب في صلواتهم. وقد أكد لهم أنه مع أن السفينة لا تزال معرضة للخطر فإنه تعرض لمحن وصعاب أسوأ من تلك، وأوضح أن السفينة جيدة الصنع يمكنها الصمود تقريبا في أي طقس. لكن كلمات الربان لم تهدئ من روع الركاب أو تطمئنهم. كنا نسمع في كل لحظة جلبة وأصوات تحطم تنذر بحدوث خرق في السفينة وتسرب للمياه. أخذت السفينة تتأرجح وتتمايل كما لو أنها ستنقلب في أي لحظة. وكان من المستحيل أن يظل أي شخص على ظهرها. كانت الكلمة الوحيدة التي يمكن أن تسمعها على ظهر السفينة وقتها «قضاء الإله نافذ». أذكر أننا ظللنا في هذه المحنة لما يقرب من 24 ساعة. أخيرا صفت السماء، وأشرقت الشمس بنورها، وأخبرنا الربان أن العاصفة قد انتهت. فتهللت وجوه الركاب بالفرحة، واختفى ذكرهم للإله مع انتهاء الخطر. وعادوا لتناول الطعام والشراب والغناء والمرح من جديد. زال الخوف من الموت، وتحولت حالة التضرع المؤقتة إلى الإله إلى ما يسمى «مايا».
2
وكان هناك بالطبع الناماز
3
المعتادة والدعاء، لكنها لم تكن بنفس الإجلال الذي كانت عليه في وقت الشدة.
لقد جعلتني العاصفة أتوحد مع الركاب. لم يتملكني الرعب الشديد من العاصفة حيث إنني تعرضت لمثل ذلك الموقف من قبل. فأنا بحار جيد ولم أكن أصاب بدوار البحر. لذلك كنت أتحرك بين الركاب دون خوف أطمئنهم وأخفف عنهم، وأمدهم بتقرير من الربان كل ساعة. وقد ساعدتني الصداقات التي كونتها في هذه المحنة كثيرا كما سنرى فيما بعد.
رست الباخرة في ميناء دربان في الثامن عشر أو التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول. ووصلت الباخرة ناديري في نفس اليوم.
لكن في الحقيقة، لم تكن العاصفة الحقيقية قد هبت حتى الآن.
هوامش
الفصل الثاني
العاصفة
كما رأينا رست السفينتان في ميناء دربان قرابة الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول. ولم يكن يسمح لأي راكب أن يطأ أيا من موانئ جنوب أفريقيا إلا بعد أن يخضع لفحص طبي شامل. وإذا كان أحد ركاب السفينة مصابا بمرض معد، كانت السفينة توضع لفترة في الحجر الصحي. فكنا نخشى أن نتعرض للحجر الصحي بسبب تفشي الطاعون في بومباي عندما أبحرنا. كان يجب على كل سفينة أن ترفع علما أصفر قبل خضوعها للفحص، ولا تخفض ذلك العلم إلا عندما يقر الطبيب بأن ركابها غير مصابين بأمراض معدية. ولم يكن يسمح لأقارب الركاب بالصعود على متن السفينة قبل إنزال العلم الأصفر.
فرفعت سفينتنا العلم الأصفر حتى يفحص الطبيب الركاب. أمر الطبيب بأن توضع سفينتنا في الحجر الصحي لخمسة أيام لأنه رأى أن ميكروب الطاعون يستغرق ثلاثة وعشرين يوما على الأكثر لكي ينمو. فوضعت سفينتنا في الحجر الصحي حتى تنتهي مدة الثلاثة والعشرين يوما بداية من اليوم الذي غادرنا فيه بومباي. لكن اتضح أن ذلك الحجر الصحي كان لأسباب غير الأسباب المزعومة.
كان أحد أسباب وضعنا في ذلك الحجر الصحي هو أن السكان البيض بدربان ثاروا مطالبين بعودتنا إلى بلادنا. وكان وكلاء السيد دادا عبد الله يعلموننا بالتطورات اليومية للأحداث بالمدينة. كان الرجال البيض يعقدون اجتماعات يومية ضخمة، أطلقوا فيها جميع أنواع التهديد، وفي بعض الأحيان عرضوا تعويض شركة دادا عبد الله وشركائه مقابل رجوع السفينتين إلى الهند. لم يكن المسئولون بشركة دادا عبد الله وشركائه ممن يرضخون للتهديد والوعيد. كان السيد عبد الكريم حاجي آدم في ذلك الوقت الشريك الإداري للشركة، وكان عازما على أن ترسو السفينتان في الميناء وينزل الركاب من السفينة مهما كلف الأمر. كان السيد عبد الكريم يرسل إلي خطابات يومية مفصلة عن الوضع. ولحسن الحظ، كان الراحل السيد مانسوخلال نازار وقتها في دربان لمقابلتي. وقد كان كفئا وشجاعا، فقاد الجالية الهندية. وكان المحامي، السيد لوتون، لا يقل شجاعة عن السيد مانسوخلال. فقد أدان أعمال البيض وقدم النصح إلى الجالية، ليس فقط بصفته محاميهم بل كصديقهم المخلص أيضا.
وهكذا أصبحت دربان مسرحا لنزاع غير متكافئ. فالطرف الأول كان حفنة من الهنود الفقراء بصحبة مجموعة من أصدقائهم الإنجليز، أما الطرف الآخر فكان البيض المتفوقين في العدد والعتاد والتعليم والثروة. وكانت الحكومة أيضا إلى جانبهم، حيث إن حكومة ناتال قدمت لهم المساعدة علانية. وكان السيد هنري إسكومب، وهو أكثر أعضاء مجلس الوزراء نفوذا، يشارك في اجتماعاتهم على الملأ.
وهكذا اتضح أن الهدف الحقيقي وراء وضعنا في الحجر الصحي هو إجبار الركاب على العودة أدراجهم إلى الهند بواسطة ترويعهم أو إرهاب الشركة المالكة للسفينتين. ثم أصبحت التهديدات موجهة إلينا نحن أيضا: «إذا لم تعودوا من حيث أتيتم، سنلقيكم في البحر. أما إذا عدلتم عن رأيكم وعدتم أدراجكم، فيمكن أن تستعيدوا تكاليف رحلتكم.» كنت أتحرك باستمرار بين الركاب أطمئنهم وأخفف عنهم. وبعثت برسائل إلى ركاب السفينة الأخرى «إس إس ناديري». فظلوا جميعا رابطي الجأش وشجعان.
نظمنا جميع الألعاب على ظهر السفينة من أجل التسرية عن الركاب. وفي عشية عيد الميلاد، دعا الربان ركاب الردهة لتناول العشاء. وكنت أنا وأسرتي من المدعوين الرئيسيين. وقد تحدثت عن الحضارة الغربية ضمن الكلمات التي ألقيت عقب تناول العشاء. كنت على دراية بأن المقام ليس مقام خطب جادة، لكنني لم أعتد إلا على تلك الخطب الجادة. شاركت في الاحتفال، لكن فؤادي كان مشغولا بالصراع الذي كان يجري في دربان. ونظرا لأنني كنت الهدف الحقيقي من وراء ذلك كله، وجهت إلي تهمتان: (1)
انتقادي وشجبي للسكان البيض بناتال بغير حق أثناء إقامتي في الهند. (2)
إحضاري السفينتين محملتين بالركاب بهدف إغراق ناتال بالهنود.
كنت أدرك المسئولية الملقاة على عاتقي، وكنت أعلم أن شركة دادا عبد الله وشركائه قد عرضت مصالحها للكثير من المخاطر بسببي. فقد كانت حياة الركاب في خطر، وأصبحت حياة أسرتي أيضا مهددة.
لكنني كنت بريئا من التهم الموجهة إلي . فلم أحرض أي إنسان على الذهاب إلى ناتال، ولم أكن أعرف الركاب عند ركوبهم السفينة. ولم أكن أعرف اسم أو عنوان أي من مئات الركاب على متن السفينة، ما عدا اثنين من أقربائي. علاوة على ذلك، في أثناء إقامتي بالهند لم أتحدث عن البيض المقيمين بناتال بكلام لم أكن قد أعلنته بالفعل في ناتال ذاتها. ولدي من الأدلة ما يدعم حجتي تلك.
نتيجة لذلك، استنكرت الحضارة التي أثمرت مثل أولئك البيض بناتال، الذين كانوا يمثلونها ويناصرونها. شغلت هذه الحضارة فكري لمدة طويلة، ولذلك قررت أن أعرض آرائي حولها في كلمتي التي ألقيتها أمام ذلك الجمع الصغير. أنصت لي الربان والركاب بصدر رحب، وتلقوا كلمتي بنفس الروح التي ألقيتها بها. لا أدري إن كانت كلماتي قد أثرت على مجرى حياة أي منهم أم لا، لكنني تحدثت طويلا إلى الربان وغيره من الضباط حول الحضارة الغربية. وقد وصفت الحضارة الغربية في كلمتي بأنها مبنية بصورة رئيسية على القوة، بعكس الحضارة الشرقية. فأخذ الحضور يسألونني عن مبدئي. فقال لي أحدهم، والذي أعتقد أنه كان الربان ذاته: «إذا افترضنا أن الرجال البيض نفذوا تهديداتهم، فكيف ستواجههم بمبدأ اللاعنف الذي تتبناه؟»
فأجبته قائلا: «أرجو من الإله أن يمنحني الشجاعة والحكمة لكي أسامحهم ولا أقاضيهم. أنا لا أكن لهم أي ضغينة، بل أشعر نحوهم بالأسف لجهلهم وضيق أفقهم. أعلم أنهم يظنون أن ما يفعلونه اليوم هو أمر صائب ولائق. لذلك لا أجد سببا يجعلني أكرههم.»
تبسم السائل، لكن لعلها بسمة ارتياب فيما قلت.
مرت الأيام طويلة ومتثاقلة. لم يكن أحد يعرف متى سينتهي الحجر الصحي. أخبرنا الضابط المسئول عن الحجر الصحي أن الأمر خرج من يده، وأنه سيسمح لنا بالنزول إلى شاطئ ناتال حينما تأمر الحكومة بذلك.
أرسل لجميع الركاب، ومن ضمنهم أنا، إنذارات نهائية طلب منا فيها الرضوخ إذا كنا نريد النجاة بحياتنا. وفي ردنا على تلك الإنذارات، أكدنا على حقنا في النزول إلى ميناء ناتال، وعلى عزمنا على دخول ناتال مهما كلف الأمر.
في نهاية الأيام الثلاثة والعشرين، سمح للسفينتين بدخول الميناء، وصدرت الأوامر بالسماح للركاب بالنزول عن السفينة.
الفصل الثالث
الاختبار
رست السفينة في الميناء، وبدأ الركاب في النزول إلى الشاطئ. كان السيد إسكومب قد أرسل إلى ربان السفينة يوصيه بأن أنزل مع أسرتي من على ظهر السفينة عند حلول الظلام حيث سيرافقنا قائد شرطة الميناء السيد تاتوم إلى المنزل، وذلك لأن البيض يشعرون بسخط شديد علي ومن ثم فحياتي معرضة للخطر. نقل الربان الرسالة إلي فوافقت على الأخذ بنصيحته. لكن بعد مرور زهاء نصف الساعة، جاء السيد لوتون إلى الربان وقال: «أريد أن يأتي السيد غاندي في صحبتي إذا لم يكن لديه أي اعتراض. وبصفتي المستشار القانوني للشركة، أخبرك أنه ليس لزاما عليك أن تنفذ ما جاء في رسالة السيد إسكومب.» ثم اقترب مني بعد ذلك، وقال: «إن لم تكن تشعر بالخوف، يمكن لزوجتك والأطفال أن يذهبوا بالعربة إلى منزل السيد روستومجي، ونتبعهم أنا وأنت سيرا على الأقدام. لا أحبذ بالمرة فكرة دخولك المدينة في جنح الليل كاللصوص. ولا أعتقد أن أحدا سيتعرض لك بأذى، فلقد هدأت الأمور الآن وتفرق البيض. وعلى كل حال، أرى أنه لا يجب أن تدخل المدينة خلسة.» وافقت على نصيحة السيد لوتون في الحال. وصلت زوجتي والأطفال إلى منزل السيد روستومجي بسلام. ونزلت مع السيد لوتون إلى البر بعد موافقة الربان. وكان منزل السيد روستومجي يبعد عن الميناء بحوالي ميلين.
ما لبثنا أن وطأنا الشاطئ، حتى تعرف إلي بعض الشباب وأخذوا يهتفون: «غاندي، غاندي!» خشي السيد لوتون أن يتزايد عدد الحشد، فنادى على عربة «الريكاشة» لتقلنا. لم أحبذ فكرة ركوب العربة قط، فقد كانت هذه المرة الأولى التي أركب فيها مثل هذه العربة. لكن الشباب لم يدعوني أركب العربة. لقد أرهبوا سائق العربة حتى فر هاربا. وكلما تقدمنا، زاد عدد الحشود حتى أصبح من المستحيل أن نتقدم أكثر. أمسكوا في بادئ الأمر بالسيد لوتون وفصلوا كلا منا عن الآخر. ثم انهالوا علي بالحجارة والطوب والبيض الفاسد. وقام بعضهم بإلقاء عمامتي على الأرض، في حين أخذ البعض الآخر ينهال علي بالضرب ويركلني. أصابتني نوبة إغماء وتمسكت بالسياج الأمامي لأحد المنازل ووقفت هناك أستجمع أنفاسي. لكن كان من المستحيل أن يتركوني وشأني، فأتوا خلفي يلكمونني ويضربونني. تصادف مرور زوجة قائد الشرطة التي كانت تعرفني. ففتحت السيدة الشجاعة مظلتها مع عدم سطوع الشمس حينها، وحالت بيني وبين تلك الحشود. كبح موقف السيدة ثورة الدهماء، فقد كان من الصعب أن يوجهوا لي الضربات دون إصابة زوجة السيد ألكسندر، قائد الشرطة.
في غضون ذلك، هرع شاب هندي كان قد شهد الواقعة إلى قسم الشرطة وأخبر قائد الشرطة بما حدث. فأرسل السيد ألكسندر مجموعة من رجال الشرطة ليحرسوني ويوصلوني بسلام إلى وجهتي. وقد وصلوا في الوقت المناسب بالفعل. كان قسم الشرطة يقع في طريقنا، وحينما وصلنا إلى المخفر طلب مني قائد الشرطة أن أمكث هناك، لكنني شكرته ورفضت طلبه. وقلت له: «من المؤكد أنهم سوف يهدءون عندما يدركون الخطأ الذي اقترفوه، فأنا أثق بعدالتهم.» وصلت إلى منزل السيد روستومجي بسلام بصحبة رجال الشرطة. كان جسدي مليئا بالكدمات، لكنني لم أصب إلا بجرح واحد. بذل طبيب السفينة، السيد داديبارجور، الذي كان موجودا في المنزل كل ما في استطاعته للمساعدة.
كانت الأجواء هادئة داخل المنزل، لكن البيض كانوا يحاصرون المنزل في الخارج. كان الليل يلقي بظلاله على المدينة، وكانت أصوات الحشود ترتفع بالهتاف: «يجب أن تسلموا لنا غاندي.» كان قائد الشرطة نافذ البصيرة، فحاول أن يسيطر على الحشود بمداعبتهم لا تهديدهم، وذلك مع تملك القلق منه. فأرسل لي رسالة نصها: «إذا كنت ترغب في إنقاذ بيت صديقك وممتلكاته، وكذلك أسرتك، يجب أن تفر من المنزل متنكرا.»
هكذا وجدت نفسي في اليوم نفسه أواجه موقفين متناقضين. فعندما لم يكن هناك خطر على حياتي، نصحني السيد لوتون بأن أظهر علانية وقبلت نصيحته، لكن ما إن أصبح الخطر حقيقيا حتى أسداني صديق آخر نصيحة مناقضة تماما وقد قبلتها أيضا. لا أعلم ما إذا كنت فعلت ذلك خوفا على حياتي أو خوفا على حياة صديقي وممتلكاته أو خوفا على حياة زوجتي وأطفالي؟ من يستطيع أن يجزم بأنني كنت على صواب عندما واجهت الحشود المتجمهرة في بادئ الأمر بشجاعة، كما قيل، أو عندما هربت منهم متنكرا؟
لا جدوى من الحكم على صحة أو خطأ الأحداث التي وقعت بالفعل. لكن من المهم أن نفهمها، وأن نتعلم منها - إذا أمكن - دروسا قد تنفعنا في المستقبل. من الصعب التنبؤ بما يمكن أن يقوم به المرء في ظل ظروف بعينها. ونجد أن الحكم على الشخص من أفعاله الظاهرة فقط، ليس إلا حكما غير مؤكد نظرا لعدم اعتماده على معلومات كافية.
مع ذلك، جعلني الاستعداد للهرب أنسى جروحي. تنكرت في زي شرطي هندي، بناء على اقتراح قائد الشرطة، ووضعت فوق رأسي وشاحا مدراسيا ملفوفا حول صفيحة من المعدن كأنها خوذة. وخرجت بصحبة اثنين من رجال الشرطة، تنكر أحدهم بزي تاجر هندي وطلى وجهه ليبدو كالهنود، لكنني لا أذكر تنكر الشرطي الآخر. وصلنا إلى متجر مجاور يقع في شارع جانبي، فشققنا طريقنا خلال أكياس الخيش المتراكمة في المخزن حتى هربنا من بوابة المتجر. ثم شققنا طريقنا بحذر بين الحشود متجهين نحو عربة كانت تنتظرني في نهاية الشارع. فأخذنا العربة وانطلقنا مرة أخرى إلى قسم الشرطة الذي عرض علي السيد ألكسندر المكوث فيه من قبل، فشكرته وشكرت ضباط الشرطة.
وفي حين كنت أشق طريقي فارا من منزل صديقي، كان السيد ألكسندر يلهي الحشود بهتاف:
اشنقوا غاندي العجوز على أغصان شجرة التفاح الفاسد.
وعند تلقيه خبر وصولي بأمان إلى قسم الشرطة، بلغ قائد الشرطة الحشود المتجمهرة بالخبر قائلا: «حسنا، لقد فر ضحيتكم عن طريق متجر مجاور. من الأفضل أن تعودوا إلى منازلكم الآن.» تضاربت ردود أفعال تلك الحشود، فاستشاط بعضهم غضبا، وضحك البعض الآخر ، في حين رفض البعض أن يصدقوا الخبر.
فقال قائد الشرطة: «حسنا، إذا لم تكونوا تصدقون الخبر، من الممكن أن آخذ اثنين منكم إلى داخل المنزل، وإذا ما وجدوه هناك فسأسلمه إليكم. وإذا لم يكن بالداخل، فسيكون عليكم الرحيل. أنا على يقين أنكم لا تودون تحطيم منزل السيد روستومجي أو التعرض بأذى إلى زوجة السيد غاندي أو أطفاله.»
أرسلت الحشود ممثليهم لتفتيش المنزل. فعادوا بعد مدة وجيزة يجرون ذيول الخيبة، فتفرقت الحشود أخيرا. وكانت غالبية الحشود معجبة ببراعة قائد الشرطة في التعامل مع الموقف، وكان منهم الثائرون والغاضبون.
وقد طلب السيد تشمبرلن، وزير المستعمرات البريطانية، من حكومة ناتال محاكمة المعتدين. وأرسل السيد إسكومب إلي وعبر لي عن أسفه لما أصابني من أذى، فقال لي: «صدقني، أشعر بأسى شديد لما ألم بك من أذى. بالطبع كان من حقك الأخذ بنصيحة السيد لوتون بمواجهة الأمر على صعوبته، لكنني على يقين من أن تلك المأساة ما كانت لتحدث لو أخذت بنصيحتي. أنا على استعداد للقبض على الجناة ومحاكمتهم إذا ما تعرفت على هويتهم. فالسيد تشمبرلن أيضا يريدني أن أحاكمهم.»
فأجبته قائلا: «لا أرغب في مقاضاة أحد. يمكنني التعرف على هوية واحد أو اثنين من الجناة، لكن ما الطائل في معاقبتهم؟ علاوة على أنني لا ألوم المعتدين على ما اقترفوه، فلقد أخبروا أنني انتقدت البيض المقيمين في ناتال وشوهت سمعتهم عندما كنت في الهند. فلا عجب أن يثوروا هكذا إذا ما صدقوا مثل هذه الافتراءات. فاللوم يجب أن يوجه إلى القادة وإليك، إذا سمحت لي. كان عليك أن توجه الناس إلى الحقيقة، لكنك أيضا صدقت ما قالته وكالة رويتر وافترضت أن تلك الافتراءات صحيحة. لا أريد مقاضاة أي من الجناة، أنا على يقين من أنهم سيأسفون على ما فعلوا عندما يكتشفون الحقيقة.»
فقال لي السيد إسكومب: «هل يمكنك أن تكتب لي ما أخبرتني به لتوك؟ لأنني سأرسل إلى السيد تشمبرلن لأخبره بذلك. ولا أريدك أن تأخذ أية قرارات مندفعة. يمكنك، إذا أردت، أن تستشير السيد لوتون وغيره من أصدقائك قبل أن تتوصل لقرار نهائي. مع ذلك، أقر أنه حتى في حالة رفضك مقاضاة المعتدين، عليك أن تساعدني على استعادة الهدوء والنظام بالإضافة إلى الدفاع عن سمعتك وتبرئة ساحتك.»
فكان ردي: «أشكرك، لا أحتاج إلى استشارة أحد. فلقد اتخذت قراري قبل أن آتي إليك. لا أريد أن أقاضي الجناة، وأنا مستعد في هذه اللحظة أن أكتب قراري هذا.»
فأعطيته البيان اللازم ثم رحلت.
الفصل الرابع
هدوء ما بعد العاصفة
لم أغادر قسم الشرطة إلا بعد يومين عندما ذهبت إلى السيد إسكومب. وقد اصطحبني اثنان من رجال الشرطة لحمايتي مع عدم وجود حاجة لمثل ذلك الإجراء.
جاءني في نفس اليوم الذي رست فيه السفينة مندوب عن جريدة «ذا ناتال أدفيرتيزر»
The Natal Advertiser
لإجراء حوار معي بعد أن أنزلنا العلم الأصفر. وجه لي المحاور عددا من الأسئلة، لكنني كنت قادرا على دحض جميع الاتهامات التي وجهت لي. يرجع الفضل إلى السيد فيروزشاه ميهتا في أنني لم ألق خطبا شفهية في الهند، بل كنت أكتبها وأحتفظ بنسخ منها جميعا. فأعطيت المحاور جميع هذه النسخ وأوضحت له أنني أثناء إقامتي في الهند لم أضف شيئا إلى ما قلته بالفعل من قبل وبلهجة أشد في جنوب أفريقيا. وأوضحت له أنه لا شأن لي بإحضار الركاب الذين كانوا على متن السفينتين «كورلاند» و«ناديري» إلى جنوب أفريقيا. فقد كان العديد منهم يقيمون في ناتال منذ أمد بعيد، وكان أغلبيتهم يريدون الذهاب إلى الترانسفال وليس ناتال، حيث إن الترانسفال حينها كانت تقدم فرصا أفضل للنجاح من ناتال للذين يبحثون عن الثروة. لذلك كان أغلب الهنود يفضلون الذهاب إلى هناك.
خلف ذلك الحوار، إلى جانب رفضي لمقاضاة الجناة، أثرا عميقا حتى إن الأوروبيين المقيمين بدربان شعروا بالخجل مما فعلوا. وبرأت الصحافة ساحتي وأدانت الحشود المعتدية. هكذا كان حكم الغوغاء علي بالشنق دون محاكمة في صالح قضيتنا. فلقد زاد من مكانة الجالية الهندية في جنوب أفريقيا، وجعل عملي بها أكثر سهولة.
ذهبت إلى منزلي في أثناء ثلاثة أو أربعة أيام، ولم يمر الكثير من الزمن حتى استقررت مرة أخرى. وقد أضافت تلك الواقعة إلى ممارستي المهنية.
مع أن الواقعة عززت مكانة الجالية، فإنها أشعلت لهيب التحامل والبغض ضدها. فلقد اعتبر الناس في ناتال أن الهنود يمثلون خطرا فور أن أيقنوا أن الهندي قادر على خوض معارك قوية. قدم إلى المجلس التشريعي بناتال مشروعا قانون: أحدهما بغرض تقويض التجار الهنود، والآخر لفرض قيود صارمة على هجرة الهنود. من حسن الحظ أن نضالنا للحفاظ على حق التصويت قد آتى ثماره، حيث تقرر عدم جواز تمرير مثل ذلك التشريع، لأن القانون يجب ألا يفرق بين الناس بناء على اللون أو العرق. كانت صياغة مشروعي القانون اللذين سبق أن ذكرتهما عامة وتطبق على الجميع، لكن الهدف الحقيقي كان بالطبع فرض المزيد من القيود على الهنود المقيمين في ناتال.
زاد مشروعا القانون من حجم عملي بالخدمة العامة، وجعلا الجالية أكثر وعيا من ذي قبل بواجبها. تمت ترجمة مشروعا القانون إلى اللغات الهندية وشرحا باستفاضة حتى تتمكن الجالية من فهم معانيهما الدقيقة. ذهبنا إلى وزير المستعمرات البريطانية، لكنه رفض التدخل حتى صار المشروعان قانونين.
بدأ العمل العام في شغل جل وقتي. أتى السيد مانسوخلال نازار، الذي ذكرت فيما سبق أنه كان يقيم بالفعل في دربان، ليقيم معي. وقد كان لمساعدته في العمل العام الفضل في تخفيف العبء عن كاهلي.
أنهى السيد أدامجي مياخان عمله، في غيابي، محققا نتائج عظيمة. فقد رفع رسوم العضوية في الحزب، وأضاف إلى الخزانة ما يقرب من 1000 جنيه إسترليني. وأحسنت استغلال الصحوة التي حدثت جراء مشروعي القانون والمظاهرة التي حدثت ضد الركاب، فطلبت اشتراكات العضوية وأموالا، بلغت 5000 جنيه إسترليني. كان هدفي من ذلك تأمين تمويل دائم للحزب حيث يمكننا توفير عقار خاص بالحزب يمكن أن نستفيد من إيجاره في الإنفاق على أعمال الحزب. كانت هذه هي تجربتي الأولى في إدارة مؤسسة عامة. عرضت اقتراحي على زملائي الذين رحبوا به. أجرنا العقار الذي اشتريناه، ودر علينا أجرا يغطي النفقات الحالية للمجلس. وقد وضع العقار تحت مسئولية مجموعة من الأمناء، ولا يزال قائما حتى الآن، لكنه أصبح مصدرا لنزاعات مميتة حتى وصل الأمر إلى أن إيجار العقار أصبح متراكما في المحكمة.
حدث هذا الوضع المحزن بعد رحيلي عن جنوب أفريقيا، لكن فكرة تأمين تمويل دائم للمؤسسات العامة تغيرت لدي قبل أن ينشأ ذلك الخلاف بمدة طويلة. والآن وبعد خبرة طويلة في إدارة الكثير من المؤسسات العامة، تكونت لدي قناعة بأن إدارة المؤسسات العامة بواسطة موارد مالية دائمة ليس بحل مجدي. ففكرة الموارد المالية الدائمة تحمل في طياتها بذرة الانحدار الأخلاقي للمؤسسة. إن المؤسسة العامة تعني وجود مؤسسة تعمل، بواسطة الموارد المالية، وفقا لموافقة الجمهور. فعندما تفتقر هذه المؤسسة إلى ذلك الدعم الشعبي، تفقد بذلك حقها في الوجود. وكثيرا ما نجد أن المؤسسات التي تعتمد على موارد مالية دائمة تتجاهل الرأي العام، وكثيرا ما تقوم بأعمال تتعارض مع الرأي العام. وقد كنا دائما نشاهد ذلك في بلدنا. فبعض شركات إدارة الأموال «الدينية» توقفت عن تقديم أي تقارير. وأصبح الأمناء هم الملاك ولا تقع عليهم أي مسئولية. أعتقد أن الأفضل للمؤسسات العامة أن تكون مثل الطبيعة، فتعيش كل يوم بيومه. فلا يحق لأية مؤسسة تخفق في الحصول على دعم الشعب أن تظل قائمة. ويعمل الاشتراك السنوي لعضوية المؤسسة كاختبار لمعرفة مدى شعبية تلك المؤسسة ونزاهة إدارتها. وأرى أنه يجب إخضاع جميع المؤسسات العامة لذلك الاختبار. أرجو ألا يسيء أحد الفهم، فأنا لا أتحدث هنا عن المؤسسات التي، بطبيعتها، لا يمكن أن تدار دون عقارات دائمة. ما أريد قوله هو أن النفقات الشائعة ينبغي أن تدفع من رسوم الاشتراكات التطوعية السنوية.
وقد ثبتت صحة تلك الآراء عند تطبيق الساتياجراها في جنوب أفريقيا. لقد نفذت تلك الحملة العظيمة التي امتدت على مر ست سنوات دون توافر موارد مالية دائمة، مع أن تنفيذها كان يتطلب مئات الآلاف من الروبيات. أتذكر أن هناك أياما مرت علي ولم أكن أعرف ماذا كنت سأفعل في اليوم التالي إذا لم نتلق أي اشتراكات. لكنني لم أكن أشغل بالي بالمستقبل. سوف يجد القارئ فيما يلي وبإسهاب أن الرأي الذي عبرت عنه فيما مضى كان صحيحا.
الفصل الخامس
تعليم الأطفال
عند وصولي إلى ميناء دربان في يناير/كانون الثاني من عام 1897م، كان معي ثلاثة أطفال، ولداي وقد بلغا التاسعة والخامسة من العمر، وابن أختي الذي كان يبلغ العاشرة. أين كان لي أن أعلمهم؟
كان يمكنني أن ألحقهم بمدرسة خاصة بالأطفال الأوروبيين، لكن ذلك كان سيعتبر على سبيل المعروف والاستثناء. فلم يكن مسموحا للأطفال الهنود بالالتحاق بتلك المدارس. فكان هناك مدارس للهنود تؤسسها الإرساليات المسيحية، لكنني لم أرغب في أن يذهب أطفالي إليها وذلك لأنني لم أكن أستحسن التعليم في تلك المدارس. فمن جهة، كانت وسيلة التعليم هي اللغة الإنجليزية فقط، أو ربما التاميلية أو الهندية غير السليمة، إلى جانب أن إرسالهم إلى تلك المدارس لم يكن بالأمر الهين. لم أكن لأتحمل مثل هذه النقائص وغيرها. في غضون ذلك، كنت أحاول تعليمهم بنفسي، لكن ذلك لم يكن بصورة منتظمة. ولم أستطع أن أجد معلما جيدا للغة الجوجراتية.
كان الأمر يزعجني للغاية. فأعلنت عن حاجتي إلى مدرس للغة الإنجليزية لتعليم الأطفال تحت إشرافي. كان ذلك المدرس يقدم إليهم بعض التعليمات المنتظمة، وكانوا يكتفون بما أعلمهم إياه من وقت إلى آخر. فعينت مربية أطفال إنجليزية براتب 7 جنيهات إسترلينية شهريا. وقد استمر ذلك الوضع لبعض الوقت، لكنني لم أكن راضيا. اكتسب الأطفال بعض المعرفة باللغة الجوجراتية عن طريق حديثي وتفاعلي معهم، الذي كنت أحرص على أن يكون باللغة الأم. كنت أكره أن أرسلهم إلى الهند حيث إنني أؤمن بأنه لا يجب أن يبتعد الأطفال عن والديهم. يستحيل أن يحصل الأطفال الذين يعيشون في نزل الشباب على التعليم الذي يكتسبونه بصورة طبيعية في منزل منظم. لذلك جعلت الأطفال يمكثون معي. بالفعل أرسلت ابن أختي وابني الأكبر إلى مدرسة داخلية بالهند لبضعة أشهر، لكنني اضطررت إلى استدعائهم بعد ذلك. ثم تركني ولدي الأكبر بعد أن تجاوز سن الرشد بكثير، وذهب إلى الهند ليلتحق بالمدرسة الثانوية في أحمد آباد. في حين كان ابن أختي راضيا بما أعلمه إياه، لكن لسوء الحظ توفي في ريعان شبابه إثر تعرضه للمرض الذي لم يعانه طويلا. أما أبنائي الثلاثة الآخرون فلم يذهب أي منهم إلى مدرسة داخلية خاصة قط، لكنهم تلقوا تعليما منتظما في مدرسة كنت قد أنشأتها من أجل الأطفال الذين ينتمي والداهم إلى حركة الساتياجراها في جنوب أفريقيا.
لم تكن هذه المحاولات كافية، لأنني لم أتمكن من توفير كل الوقت الذي كنت أرغب في تخصيصه للأطفال. وقد حالت عدم قدرتي على منحهم الاهتمام الكافي - إضافة إلى عوامل أخرى - بيني وبين تقديم التعليم الأكاديمي الذي كنت أرغب في أن يحصلوا عليه. وكان لأبنائي جميعا انتقادات ضدي تتعلق بذلك الموضوع. فكلما رأوا شخصا حاصلا على ماجستير أو بكالوريوس أو حتى طالبا في الجامعة، شعروا بالعجز والحاجة إلى التعلم في المدرسة.
مع ذلك، أرى أنه في حالة إصراري على أن يتلقوا تعليمهم في المدارس الداخلية الخاصة كنت سأحرمهم من الخبرة العملية التي لم يكن لهم أن يحصلوا عليها إلا في مدرسة الحياة أو بالتواصل مع الوالدين. ولم أكن وقتها لأعيش دون أن أقلق بشأنهم، مثلما أنا الآن. ولم يكن التعليم المتكلف الذي كان من الممكن أن يتلقوه في إنجلترا أو جنوب أفريقيا ليعلمهم البساطة وروح الخدمة التي يتمتعون بها الآن، بل كان من الممكن أن يمثل ذلك التعليم المتكلف عائقا في طريق العمل العام. بالطبع لم أتمكن من منحهم التعليم الذي يرضيهم أو يرضيني، إلا أنني عندما أسترجع السنوات السالفة أوقن بأنني بذلت كل ما في وسعي تجاههم. وأنا غير نادم على عدم إلحاقهم بأية مدرسة داخلية خاصة. طالما شعرت بأن الجوانب السلبية التي أراها الآن في حياة ابني الأكبر ما هي إلا نتيجة للحياة غير المنظمة التي عشتها في بداية حياتي. فأنا أعتبر تلك المرحلة مرحلة تساهل ومعرفة غير ناضجة. وقد تزامنت تلك المرحلة مع أكثر السنوات التي كان فيها ولدي الأكبر سريع التأثر بالغير، وبالطبع رفض أن يعتبر تلك المرحلة مرحلة تساهل وعدم خبرة في حياتي، بل أعتبرها أفضل مراحل حياتي، وأن التغيرات التي تلت ذلك ما هي إلا وهم يطلق عليه خطأ التنوير. ولماذا لا يعتقد بأن شبابي كان مرحلة يقظة، وأن سنوات التغيير الجذري التي تلتها كانت وهما ومليئة بالأنانية؟ كثيرا ما كان يواجهني أصدقائي بأسئلة محيرة، مثل: ما الضرر الذي كان من الممكن أن يحدث إذا ما حصل أبنائي على تعليم أكاديمي؟ من الذي أعطاني الحق في أن أقيد طموحهم؟ لماذا وقفت في طريق حصولهم على شهادات دراسية واختيارهم لمستقبلهم الوظيفي؟
لا أعتقد أن لهذه الأسئلة أي مغزى. فلقد احتككت بالعديد من الطلبة. وحاولت أن أفرض «ميولي» التعليمية، سواء بنفسي أو عن طريق آخرين، على أطفال آخرين، وقد رأيت نتيجة ذلك بنفسي. يوجد الآن عدد من الشباب، وفق معلوماتي، في مثل سن أبنائي، وهم ليسوا بأفضل من أبنائي في شيء، ولا أجد الكثير مما يمكن أن يتعلمه أبنائي منهم.
على كل حال كانت الثمرة النهائية لتجاربي هذه تكمن في المستقبل. أما الغرض من تطرقي لهذا الموضوع فهو أن يكون لدى طالب يدرس تاريخ الحضارة مقياس ما للاختلاف بين التعليم المنظم في المنزل والتعليم في المدارس، وأيضا للأثر الذي تخلفه التغييرات التي تطرأ في حياة الوالدين على الأطفال. بالإضافة إلى ذلك، يوضح هذا الفصل المدى الذي يمكن للباحث عن الحقيقة أن يصل إليه عن طريق تجاربه، وكذلك التضحيات التي يجب على عابد الحرية أن يقدمها قربانا لتلك الآلهة الصارمة. لو لم أكن أتمتع باحترام الذات، ولم أمنح أطفالي التعليم الذي لا يستطيع غيرهم من الأطفال الحصول عليه، لحرمتهم من التعليم العملي للحرية واحترام الذات الذي فضلته على التعليم الأكاديمي. ولا أحد يختلف معي على أنه عند ضرورة الاختيار بين الحرية والتعليم، فإن كفة الحرية ترجح مئات المرات عن التعليم.
والآن ربما سيتمكن الشباب، الذين جمعتهم في عام 1920م من قلاع السخرة - المدارس والجامعات - والذين نصحتهم بأنه من الأفضل أن يتوقفوا عن التعليم وأن يشقوا الصخر من أجل الحصول على الحرية بدلا من أن يتلقوا التعليم الأكاديمي وهم مسلسلون في قيود العبودية، سيتمكن هؤلاء الشباب من معرفة سبب نصيحتي لهم.
الفصل السادس
روح الخدمة
تقدمت في مستقبلي المهني بصورة مرضية، لكن ذلك لم يكن كافيا لي. كان أمر إضفاء قدر أكبر من البساطة على حياتي وتقديم خدمات ملموسة إلى الناس دائما ما يثيرني. فعندما وقف شخص مصاب بالجذام ببابي، لم أستطع أن أكتفي بإعطائه بعض الطعام وأن أتركه يرحل. فقدمت له مكانا يحتمي به وضمدت جروحه، وأخذت أعتني به. لكنني لم أستطع أن أبقي ذلك الوضع إلى الأبد. فمواردي المالية كانت محدودة ولم أمتلك من الإرادة ما يمكنني من إبقائه معي بصورة دائمة. لذلك أرسلته إلى المستشفى الحكومي الخاصة بالعمال الذين يعملون بعقود لأجل.
لكنني مع ذلك كنت لا أزال أشعر بالقلق. كنت أتوق إلى الاضطلاع بعمل إنساني دائم. كان الطبيب بووث يشغل منصب رئيس إرسالية القديس إيدان. وكان رجلا طيب القلب، ويعالج مرضاه مجانا. واستطعنا، بفضل تبرعات السيد روستومجي، أن نفتتح مستشفى خيرية صغيرة، تولى الطبيب بووث مسئوليتها. وكم شعرت بالرغبة في أن أعمل في التمريض في هذه المستشفى. كان تركيب الأدوية يستغرق من ساعة إلى ساعتين يوميا، فقررت أن أستقطع ذلك الوقت من ساعات عملي في المكتب حتى أستطيع حل محل أحد المسئولين عن تركيب الأدوية في المستوصف الملحق بالمستشفى. كان أغلب عملي المهني يتمثل في أعمال كانت تحدث داخل مكتب القاضي مثل الأعمال القانونية لبيع وشراء الممتلكات والتحكيم، لكن بالطبع كان هناك بعض القضايا التي أترافع فيها أمام المحكمة. لكن لم يكن أي منها مثيرا للجدل، وتعهد السيد خان الذي لحق بي في جنوب أفريقيا وعاش معي وقتها، بأن يتولى تلك القضايا نيابة عني في غيابي. وهكذا توفر لدي الوقت اللازم لكي أقدم خدماتي للمستشفى. وكان ذلك الوقت يتمثل في ساعتين في الصباح، ويتضمن ذلك الوقت الذي أستغرقه في الذهاب إلى المستشفى والعودة منها. أدخل علي ذلك النوع من العمل بعض الراحة والطمأنينة. وكان عملي يتضمن التحقق من شكوى المريض، وعرض الحقائق على الطبيب، وتركيب الأدوية اللازمة. جعلتني وظيفتي أقترب أكثر من المرضى الهنود، وكان أغلبهم ينتمون إلى تاميل أو تيلوجو أو شمال الهند.
لقد أفادتني هذه التجربة كثيرا عندما قدمت خدماتي التمريضية للعناية بالجنود المرضى والمصابين في أثناء حرب البوير.
كنت أضع مسألة تربية الأطفال نصب عيني باستمرار. ولد اثنان من أطفالي في جنوب أفريقيا، وساعد عملي في المستشفى في حل مشكلة تربيتهم. كانت روحي المستقلة مصدرا دائما للتجربة. قررت أنا وزوجتي أن نحصل على أفضل مساعدة طبية وقت الولادة، لكن ماذا كنت سأفعل إذا ما تركنا الطبيب والممرضة في الوقت الحاسم دون مساعدة؟ لذلك كان يجب أن تكون الممرضة هندية. ويمكن أن يتخيل القارئ صعوبة التوصل إلى ممرضة هندية مدربة في جنوب أفريقيا نظرا لوجود صعوبة في إيجاد مثل تلك الممرضة في الهند ذاتها. كان ذلك سببا كافيا لدراستي للعناصر اللازمة لإجراء ولادة آمنة. وقرأت كتاب الطبيب تريبوفانداس «نصائح إلى الأم» واستفدت من التعليمات الواردة فيه في رعاية الطفلين متأثرا من حين إلى آخر بخبراتي الشخصية. استعنت بممرضة، لكن كان الأمر لا يزيد على شهرين في كل مرة. وكان ذلك للعناية بزوجتي أكثر منه للعناية بالأطفال الذين كنت أعتني بهم بنفسي.
لقد أخضعتني ولادة طفلي الأخير إلى أقسى اختبار. فقد أتى زوجتي المخاض فجأة، ولم يكن الطبيب موجودا حينها، واستهلكنا بعض الوقت في إحضار القابلة، التي مع حضورها في الحال لم تكن لتستطيع المساعدة في الولادة. كان علي أن أتأكد من الولادة الآمنة للطفل. ولقد ساعدتني دراستي لكتاب الطبيب تريبوفانداس بصورة كبيرة للغاية، حتى إنني لم أشعر بالتوتر وقتها.
أؤمن بأنه يجب على الوالدين أن يكتسبوا معرفة عامة عن العناية بالأطفال الصغار وتمريضهم من أجل تنشئة سليمة وصحيحة لأطفالهم. فقد كانت مزايا دراستي الدقيقة للموضوع جلية أينما ذهبت. فلولا دراستي للأمر والاستفادة من معرفتي لما تمتع أولادي بالصحة العامة التي يتمتعون بها الآن. يحمل الناس في أذهانهم نوعا من الخرافة مفادها أن الطفل لا يحتاج لتعلم شيء في السنوات الخمس الأولى من حياته. لكن الحقيقة مختلفة تماما، فالطفل لا يتعلم بعد الخمس سنوات الأولى ما يمكن أن يتعلمه فيها. فتعليم الطفل يبدأ منذ بداية الحمل. فتنتقل الحالة البدنية والعقلية للوالدين في بداية الحمل إلى الطفل. ويستمر الطفل في أثناء فترة الحمل في التأثر بالحالة النفسية للأم ورغباتها ومزاجها وطرق معيشتها. ثم يبدأ الطفل في تقليد الوالدين بعد ولادته، ويعتمد عليهما كليا في تنشئته لسنوات عدة.
لن يقدم أي زوجين على المعاشرة الزوجية بغرض إشباع شهوتهما أبدا إذا ما أدركا النقاط التي ذكرتها، وإنما فقط حين يرغبان في الإنجاب. أعتقد أنه من الجهل النظر إلى المعاشرة الجنسية على أنها وظيفة أساسية مستقلة، كالنوم وتناول الطعام. فوجود العالم يعتمد على التكاثر، وحيث إن العالم هو ساحة تجلي قدرة الإله وتصوير لعظمته، يجب تنظيم عملية التكاثر للمحافظة على النمو المنتظم للعالم. ومن يدرك ذلك كله سيسيطر على شهوته مهما كلفه الأمر، وسيسلح نفسه بالمعرفة اللازمة بما يساعد ذريته بدنيا وعقليا وروحانيا، ومن ثم يقدم ثمار معرفته هذه إلى الأجيال التالية.
الفصل السابع
البراهماشاريا (1)
والآن وصلنا للمرحلة التي بدأت أفكر فيها بجدية في أخذ عهد البراهماشاريا (التحكم في شهوات النفس). لقد آمنت بشدة بفكرة الزواج بامرأة واحدة منذ أن تزوجت، وظللت مخلصا لزوجتي نظرا لأنه جزء من ولعي بالحقيقة. لكنني بدأت أدرك في جنوب أفريقيا أهمية الالتزام بالبراهماشاريا حتى مع زوجتي. لا أستطيع أن أتذكر بالتحديد الظروف أو الكتاب الذي وجه تفكيري إلى ذلك الاتجاه، لكن أذكر أن العامل الأساسي المحرك لهذه الفكرة كان تأثير رايشاندباي الذي سبق وتحدثت عنه. لا تزال تحضرني إحدى محادثاتي معه، حين تحدثت معه عن مدى إخلاص السيدة جلادستون لزوجها. وقد قرأت أنها أصرت على إعداد الشاي للسيد جلادستون حتى في مجلس العموم، حتى أصبحت عادة في حياة الزوجين المشهورين التي كان يحكمها التناسق والنظام. فأخبرت الشاعر رايشاندباي بذلك، وأخذت أمدح الحب بين الزوجين . وسألني: «أيهما تحبذ حب السيدة جلادستون إلى زوجها بصفتها زوجته أم خدمتها المخلصة له بغض النظر عن العلاقة التي تربطهما؟ فلتفترض أن أخته أو خادمته الوفية هي التي تهتم به بنفس الصورة، فماذا كنت ستقول وقتها ؟ أليس لدينا أمثلة على أخوات أو خادمات بمثل هذا الإخلاص؟ هل كنت ستشعر بنفس السعادة التي شعرت بها في حالة السيدة جلادستون إذا ما كان نفس ذلك الإخلاص الحنون يتمثل في خادم؟ أرجو أن تدرس وجهة نظري.»
كان رايشاندباي نفسه متزوجا. لقد بدا وقع كلماته على أذني قاسيا عندما سمعتها لأول مرة، لكنها استحوذت علي بشدة. شعرت بأن إخلاص الخادم يستحق المدح أكثر بكثير من إخلاص الزوجة لزوجها. فليس من الغريب أن تخلص المرأة لزوجها، بل إن الأمر طبيعي فهناك رباط قوي يربط بينهما. لكن الإخلاص المتبادل بين السيد وخادمه يتطلب جهدا خاصا. وهكذا بدأت تتضح وجهة نظر الشاعر رايشاندباي تدريجيا.
فسألت نفسي كيف يجب أن يكون شكل العلاقة بيني وبين زوجتي؟ هل يقتصر إخلاصي لزوجتي على أن أجعل شهوتي كلها لها؟ إذن فما دمت عبدا للشهوة، لا يعني إخلاصي لزوجتي أي شيء. وإحقاقا للحق، لم تكن زوجتي تحاول إغوائي قط. لذلك كان من السهل علي أن أتخذ عهد البراهماشاريا، إذا ما رغبت في ذلك. فقد كانت العقبة الوحيدة التي تعترض طريقي إرادتي الواهية أو شهوتي.
حتى بعد أن استيقظ ضميري وانتبهت إلى الأمر، حدث أنني ضعفت مرتين. ولقد كان ذلك الضعف نتيجة لأن الدافع المحرك لم يكن هو الهدف الأسمى. فقد كان هدفي الأساسي هو تجنب إنجاب المزيد من الأطفال، مع أنني قرأت عن وسائل منع الحمل عندما كنت في إنجلترا. ولقد سبق أن أشرت إلى ترويج الدكتور ألينسون لتنظيم الأسرة في الفصل الذي تحدثت فيه عن النباتية. وحتى إذا كان لذلك الترويج أثر مؤقت علي، فقد كانت الغلبة لمعارضة السيد هيل لتلك الوسائل وتأييده للمساعي الذاتية على حساب الوسائل الخارجية للتحكم في الذات، حتى إن تلك المعارضة أصبحت ملزمة في الوقت المناسب . وهكذا سعيت إلى التحكم في شهوتي. وقد كانت تلك المهمة محفوفة بالصعاب. فبدأنا النوم في سريرين منفصلين. وقررت ألا أخلد إلى الفراش إلا بعد أن أكون منهك القوى تماما من العمل. ومع ذلك لم تؤت تلك الجهود الثمار المرجوة، لكن عندما أنظر إلى الماضي أجد أن الحل النهائي كان يكمن في الأثر المتراكم لجميع تلك الجهود التي لم يكتب لها النجاح.
لم أستطع أن أتوصل إلى الحل النهائي قبل عام 1906م. لم تكن الساتياجراها قد بدأت بعد، ولم يكن لدي أدنى فكرة عن أنها ستبدأ. كنت أعمل في جوهانسبرج عندما وقعت «ثورة» الزولو في ناتال، التي حدثت بعد حرب البوير بفترة وجيزة. شعرت بأن الواجب يلزمني بعرض خدماتي على حكومة ناتال في مثل هذه الظروف. وقد تمت الموافقة على عرضي كما سنرى في فصل آخر.
لكن العمل جعلني أفكر في اتجاه التحكم في النفس بشدة. وكعادتي استشرت زملائي في الأمر. فتولدت لدي قناعة أن الإنجاب وما يترتب عليه من الاعتناء بالأطفال يتعارض مع الخدمة العامة. اضطررت إلى أن أفترق عن الأسرة في جوهانسبرج كي أتمكن من العمل خلال «الثورة». وخلال شهر من عرض خدماتي للمساعدة، كان علي أن أتخلى عن منزلي الذي جهزته بعناية. أخذت زوجتي وأطفالي إلى فونيكس، ثم عملت في قيادة فرق الإسعاف التابعة لقوات ناتال. لقد تجلت فكرة التخلي عن الرغبة في الأطفال والثروة وأن أحيا حياة الناسك وأتخلى عن مسئوليات رعاية الأسرة إلى ذهني حينما كنا نقوم بالمسيرات العسكرية الشاقة، وذلك كي أتمكن من تكريس نفسي لخدمة الجالية.
مثلت المدة التي عملت فيها في أثناء «الثورة» مرحلة مهمة في حياتي مع أن انشغالي بها لم يستمر أكثر من ستة أسابيع. أخذت أهمية العهود تتجلى أمامي أكثر من ذي قبل. أدركت أن العهد لا يقيد الحرية، بل على العكس فهو يفتح الباب أمام الحرية الحقيقية. لكن حتى ذلك الوقت لم أكن قد وفقت في مسعاي نظرا لافتقاري للإرادة وعدم ثقتي بنفسي أو برحمة الإله. فأخذ عقلي يتقلب في بحر الشك متلاطم الأمواج. وأدركت أن الإنسان يغرق في الفتن إذا ما رفض أن يتخذ على نفسه العهد، وأن التزام الإنسان بالعهد ما هو إلا رحلة من الانغماس في الشهوات إلى الزواج الأحادي الحقيقي. فمن يقول «أنا أؤمن بمحاولة تغيير نفسي، لكنني لا أريد أن ألزم نفسي بأي عهد» هو ذو عقلية ضعيفة ويظهر رغبة ماكرة في تجنب الالتزام بالعهد. وإلا فأين تكمن الصعوبة في اتخاذ القرار النهائي؟ أتعهد بالفرار من الأفعى التي أعرف أنها ستلدغني، لكنني لا أقوم ببساطة بمحاولة للهرب منها. أعلم أن المحاولة وحدها يمكن أن تجعلني ألقى حتفي. مجرد المحاولة يعني جهلي بالحقيقة المؤكدة بأن الأفعى ستقتلني. لهذا فحقيقة قناعتي بأنه يمكنني الاعتماد على المحاولة فقط، يعني أنني لم أدرك بعد ضرورة اتخاذ إجراء محدد. «لكن لنفترض أن رأيي اختلف في المستقبل، كيف يمكن أن ألزم نفسي بالعهد الذي أخذته على نفسي؟» كانت تلك الفكرة كثيرا ما تحول دون اتخاذي لقراري النهائي. لكن ذلك الشك أيضا يعكس الافتقار إلى إدراك واضح وهو أن هناك أمرا يجب التخلي عنه. هذا ما عناه نيشكولانلاند حين أنشد:
لا يدوم التخلي عن الشيء دون بغضه.
وهكذا، عند التخلص من الرغبة، يكون التعهد بالتخلي عن ذلك الشيء هو النتيجة الطبيعية والحتمية.
الفصل الثامن
البراهماشاريا (2)
أخيرا وبعد مناقشة شاملة ومشاورة ناضجة، قررت أن آخذ العهد في عام 1906م. ولم أكن قد أخبرت زوجتي بما يجول في خاطري حتى ذلك الحين، لكنني استشرتها فقط عندما عزمت على أخذ العهد. وافقت زوجتي على قراري، لكني وجدت صعوبة كبيرة في اتخاذ القرار النهائي لافتقاري للقوة اللازمة. فكيف كان لي أن أتحكم في عاطفتي؟ وقد بدا قطع الرجل لعلاقته الجنسية بزوجته حينها أمرا غريبا. لكنني انطلقت في مسعاي إيمانا بقوة الإله المعينة لي.
يتملكني شعور بالسعادة والدهشة عندما أنظر إلى العشرين سنة التي التزمت فيها بالعهد. فلقد بدأ التزامي الناجح بقدر ما بالتحكم في شهوات نفسي منذ 1901م. لكن الحرية والسعادة اللتين شعرت بهما بعد أن أخذت العهد لم أشعر بهما قبل عام 1906م. فقبل أخذي للعهد كنت عرضة للوقوع في الإغواء في أي لحظة. أما الآن فالعهد يقف درعا ثابتا ضد الإغواء. تجلت قوة البراهماشاريا أمامي أكثر يوما بعد يوم. وفي فونيكس أخذت العهد على نفسي، ففور انتهائي من العمل بفرقة الإسعاف، ذهبت إلى فونيكس التي عدت منها إلى جوهانسبرج. ولم يمض شهر على عودتي، حتى وضعت أساس الساتياجراها. وقد اكتشفت أن عهد البراهماشاريا كان يعدني للساتياجراها دون أن أدرك. لم تكن الساتياجراها خطة مدبرة، بل جاءت بصورة تلقائية دون تدبير من جانبي. فوجدت أن جميع تجاربي السابقة قادتني إلى ذلك الهدف. خفضت نفقاتي المنزلية الباهظة في جوهانسبرج حتى أتمكن من الذهاب إلى فونيكس لأخذ عهد البراهمشاريا على نفسي.
ولم أجد داعيا لدراسة الكتب المقدسة نظرا لعلمي بأن الالتزام التام بالبراهماشاريا يعني إدراك البراهما.
1
ولم أقرأ النصوص الدينية التي تتناول الموضوع إلا بعد مرور سنوات. جعلني كل يوم مر علي أثناء مدة العهد أتأكد أكثر من أن حماية الجسد والعقل والروح تكمن في البراهماشاريا. فقد أصبح البراهماشاريا الآن باعثا للسلوان والسعادة، وليس عملية معاقبة شاقة. ومع مرور الأيام، كنت أجد فيه مظهرا جماليا جديدا.
لكن إذا كان أحد يظن أن البراهماشاريا هي سعادة دائمة، فدعوني أوضح أنه لم يكن بالأمر الهين علي. فحتى بعد أن جاوزت سن السادسة والخمسين كنت لا أزال أدرك مدى مشقة الالتزام بمثل ذلك العهد. فكلما مر يوم أدركت أكثر فأكثر أن ذلك بمنزلة السير على حد السيف الذي يستلزم الحذر الدائم.
وتعد السيطرة على شهوة الطعام أول العوامل الأساسية للحفاظ على العهد. وبالفعل وجدت أن السيطرة الكاملة على شهوة الطعام تجعل الالتزام بالعهد أسهل بكثير. وهكذا فأنا الآن أتبع تجارب غذائية تراعي متطلبات عهد البراهماشاريا بالإضافة للضوابط النباتية. فاكتشفت نتيجة لهذه التجارب أن طعام البراهماشاريا يجب أن يكون محدودا وبسيطا وخاليا من التوابل ونيئا، إن أمكن.
أثبتت لي تجربة ست سنوات أن الطعام الأمثل للبراهماشاريا يتكون من الفواكه الطازجة والمكسرات. لقد تمتعت في أثناء اعتمادي على ذلك الطعام بمناعة ضد الشهوة لم أتمتع بها بعد أن غيرت ذلك النوع من الطعام. لم يكن عهد البراهماشاريا يعييني عندما كنت أعيش في جنوب أفريقيا حيث كنت أتناول الفاكهة الطازجة والمكسرات فقط . وقد بدأ الأمر يزداد صعوبة منذ أن بدأت في تناول الحليب. وسوف آتي على ذكر كيفية تحولي من تناول الفاكهة إلى الحليب في موضعه. يكفي هنا أن أذكر أنني كنت موقنا بأن الحليب سيجعل من الالتزام بعهد البراهماشاريا أمرا صعبا. ولا يعني ذلك أن جميع الملتزمين بعهد البراهماشاريا يجب أن يتخلوا عن تناول الحليب. فلا يمكن تحديد أثر الأطعمة المختلفة على البراهماشاريا إلا بعد خوض عدد كبير من التجارب الغذائية. ومع ذلك كان علي أن أجد فاكهة سهلة الهضم وتساعد على بناء العضلات كبديل للحليب. وقد فشل جميع الأطباء في مساعدتي في ذلك الأمر. ومع علمي بأن الحليب من العناصر المحفزة جزئيا، لا يمكنني الآن أن أنصح أي إنسان بالعزوف عنه.
ويعتبر الصيام عاملا خارجيا مساعدا للبراهماشاريا مثل الانتقاء وفرض القيود الغذائية. إن الحواس من القوة بمكان حتى إنه لا يمكن السيطرة عليها إلا بتطويقها من جميع الجهات، ومن أعلاها وأسفلها. ومن المعلوم أن الحواس تكون ضعيفة دون الغذاء، لذلك كان الصوم للتحكم في الحواس، بلا شك، خير معين. لا يعود الصوم على البعض بأي نفع لأنهم في حين يمتنعون عن الطعام وهم مؤمنون بأن الصوم المعتاد وحده يمكن أن يولد لديهم مناعة؛ يمنون أذهانهم بجميع أنواع الأطعمة والمشروبات الشهية التي سيتناولونها بعد انتهاء الصيام. وذلك الصوم لا يساعد على التحكم في شهوة الطعام أو الشهوة الجنسية. فالصوم يؤتي ثماره فقط عندما يتعاون العقل مع الجسد الجائع، وأقصد بذلك أن يعزف العقل عن الأشياء التي يعزف عنها الجسد. فالعقل هو أساس جميع الشهوات. فالصوم بذلك لا يعود بكثير من الفائدة لأن احتمال تأثر الصائم بالشهوات يظل قائما. لكن يمكن القول بأنه من المستحيل التخلص من الشهوة الجنسية دون الصوم، الذي هو جزء لا يتجزأ من الالتزام بالبراهماشاريا. يفشل العديد ممن يحاولون الالتزام بالبراهماشاريا، وذلك لأنهم يريدون الاستمرار في إطلاق العنان لحواسهم الأخرى مثل غيرهم من الناس الذين لا يلتزمون بعهد البراهماشاريا. ومن ثم تصبح مساعيهم مثل مساعي من يحاول الشعور ببرد الشتاء المنعش في أشهر الصيف المحرقة. يجب أن يكون هناك خط فاصل بين حياة البراهماشاري وغيره من الناس. فالتشابه بين الاثنين لا يكون إلا ظاهريا. لكن التمييز بينهما يجب أن يكون واضحا كوضوح الشمس في كبد السماء. فكل من الشخصين يستخدم حاسة البصر، لكن البراهماشاري يستخدمها لرؤية عظمة الإله، أما الآخر فيستخدمها لرؤية الأشياء التافهة من حوله. وكل منهما غالبا ما يسهر لساعات متأخرة، لكن البراهماشاري يخصص تلك الساعات للصلاة، أما الآخر فيبددها في المرح الجامح والمسرف. بالإضافة إلى ذلك، نجد أن كلا منهما يغذي بدنه، لكن الأول يفعل ذلك بغرض الحفاظ على معبد الإله في حالة جيدة، أما الآخر فيتخم نفسه حتى يجعل من الوعاء المقدس بالوعة قذرة. هكذا نجد أن حياة الفريقين تشبه الأقطاب المتباعدة، ولسوف تزداد تلك المسافة بعدا مع مرور الزمن.
فعهد البراهماشاريا يعني السيطرة على الحواس فكرا وقولا وفعلا. كان يزداد إدراكي لأهمية فرض مثل تلك القيود التي ذكرتها مع مرور كل يوم. ليس هناك حد لاحتمالات نكران الذات، وهكذا الحال للبراهماشاريا. فمن المستحيل تحقيق البراهماشاريا ببذل جهود محدودة. فيرى كثيرون ضرورة أن يظل البراهماشاريا مجرد فكرة. فالطامح للالتزام بالبراهماشاريا على علم دائم بنقاط ضعفه، ويبحث عن الشهوات الباقية في أعماق قلبه، ويسعى جاهدا للتخلص منها. لا يكتمل البراهماشاريا ما دام التفكير لا يخضع لسيطرة الإرادة الكاملة. إن التفكير اللاإرادي يتعلق بالعقل، ومن ثم فالسيطرة على التفكير تعني السيطرة على العقل وهو الأمر الأكثر صعوبة من صد الرياح. بيد أن الإيمان بالإله يجعل السيطرة على العقل ممكنة. ولا تعني صعوبة السيطرة على العقل استحالتها. فالسيطرة على العقل تعد أسمى الغايات، ولذا فلا عجب من أنه يجب بذل كل عزيز وغال من أجل تحقيق تلك الغاية.
لم أدرك أن تحقيق البراهماشاريا لا يتأتى بالجهد البشري فقط إلا بعد أن عدت إلى الهند. وحتى ذلك الحين كنت أعيش في وهم أن الاعتماد على تناول الفاكهة وحده يمكن أن يجعلني أتخلص من جميع الشهوات، وأخذت في إقناع نفسي بأن ذلك أقصى ما يمكنني عمله.
لكن لا يجب أن أعجل بذكر الفصل الذي يتناول كفاحي الآن. ويجب أن أوضح أنه على من يرغب في الالتزام بالبراهماشاريا لكي يدرك الإله ألا ييئس، وألا تقل ثقته بالإله عن ثقته بمجهوداته. «إن الأشياء الحسية تنصرف عن الروح المعتدلة مخلفة اللذة. وتختفي اللذة أيضا مع إدراك الحقيقة الأسمى.»
2
فاسم الإله ورحمته هما آخر ملتجأ لمن يطمح في التوحد مع الإله. لقد أدركت تلك الحقيقة فقط بعد أن عدت إلى الهند.
هوامش
الفصل التاسع
حياة بسيطة
بدأت أعيش حياة بسيطة ومريحة، لكن الأمر لم يدم طويلا، فمع أنني جهزت المنزل بعناية لم أمكث فيه، وما إن بدأت عيش تلك الحياة البسيطة حتى بدأت في خفض نفقاتي، فقد كانت فاتورة المغسلة باهظة للغاية، مع أن عامل المغسلة لم يكن بأي حال من الأحوال معروفا بدقته في مراعاة الوقت وحفظ المواعيد. ولم يكن يكفيني دستتان أو حتى ثلاث من القمصان والياقات، وكان يجب أن تغسل الياقات بصورة يومية والقمصان مرة كل يومين على الأقل، إن لم يكن يوميا، ويعني ذلك تحملي نفقات مضاعفة، بدت لي غير ضرورية. ولتوفير تلك النفقات اشتريت أدوات الغسيل، وأحضرت كتابا عن الغسيل ودرسته، ثم علمته لزوجتي، زاد هذا الأمر بلا شك من مشاغلي، لكنني استمتعت به لكونه تجربة جديدة.
لن أنسى أبدا أول ياقة قمت بغسلها بنفسي، وعند كيي لها، وضعت كمية زائدة من النشا، ولم تكن المكواة على درجة كافية من الحرارة، ولم أضغط عليها ضغطا كافيا خوفا من أن تحترق؛ نتيجة لذلك، ومع أن الياقة كويت بصورة جيدة، إلا أن كمية النشا الزائدة أخذت تتساقط منها، وذهبت إلى المحكمة بتلك الياقة مما أدى إلى سخرية زملائي المحامين مني ، لكن حتى في تلك الأيام كان لدي مناعة ضد السخرية.
فقلت: «حسنا، هذه هي تجربتي الأولى في غسيل ياقاتي بنفسي، وذلك هو السبب في كمية النشا الزائدة. لكن هذا لا يزعجني، بالإضافة إلى أن ذلك يجعلكم تحظون بكثير من المرح .»
فعلق أحد الأصدقاء قائلا: «لكن بالتأكيد هناك الكثير من المغاسل بجوارك.»
فأجبته: «إن المشكلة هي أن فاتورة المغسلة باهظة. فتكلفة غسيل الياقة تصل لما يقرب من ثمنها، ذلك بالإضافة إلى المشكلة الأبدية التي تتمثل في الثقة بعامل المغسلة؛ ولذا أرى أن من الأفضل أن أغسل ملابسي بنفسي.»
لكنني لم أتمكن من جعل أصدقائي يقدرون قيمة وجمال الاعتماد على النفس. وبمرور الوقت، أصبحت خبيرا في الغسيل، وكانت جودة غسيلي لا تقل بأي حال عن جودة المغسلة. ولم تكن ياقاتي أقل بريقا أو استقامة من غيرها.
كان لدى جوخلي عندما أتى إلى جنوب أفريقيا وشاح، كان قد أهداه إياه ماهاديو جوفيند رانادي. وكان جوخلي يولي ذلك الوشاح عناية فائقة، ولا يرتديه إلا في المناسبات الخاصة، وكانت إحدى هذه المناسبات مأدبة أقامها الهنود المقيمون في جوهانسبرج على شرفه. تجعد الوشاح وصار بحاجة للكي، وكان يستحيل أن نرسل الوشاح إلى المغسلة ونتسلمه في الوقت المناسب؛ فعرضت عليه أن أقوم بكيه بنفسي.
فقال جوخلي: «أنا أثق بقدرتك كمحام، لكن ليس بقدرتك على تأدية مهام الغسيل والكي، فما العمل إذا ما جعلته يتسخ؟ هل تعرف ماذا يعني لي ذلك الوشاح؟»
ثم بدأ في سرد حكاية الوشاح بسرور وكيف تلقاه كهدية من السيد رانادي. أصررت على عرضي، وأكدت له إجادتي للكي، فوافق على أن أقوم بكيه، وبعد أن رأى الوشاح، منحني شهادة بجودة عملي، ومن وقتها لم أكترث برأي أي شخص آخر في العالم.
وبنفس الطريقة التي تحررت بها من عبودية عامل المغسلة، تخليت عن الحلاق، فكل مسافر إلى إنجلترا يتعلم على الأقل فن حلاقة الذقن، لكنني لا أعرف أحدا تعلم أن يحلق شعره بنفسه، فكان علي أن أتعلم الحلاقة أيضا. ذهبت ذات مرة إلى حلاق إنجليزي ببريتوريا، فرفض أن يحلق لي بدافع الاحتقار، وبالطبع شعرت بالاستياء، لكنني على الفور أحضرت ماكينة لقص الشعر وأخذت أقص شعري أمام المرآة، ونجحت بقدر ما في قص الجزء الأمامي من الشعر، لكنني أتلفت الجزء الخلفي من رأسي؛ فقابلني الأصدقاء في المحكمة بسيل من الضحكات. قال أحدهم: «ماذا أصاب شعرك يا غاندي؟ هل أكلته الفئران؟»
فأجبته: «لا، بل إن الحلاق الأبيض رفض أن يتنازل ويضع يده على شعري الأسود. ففضلت أن أقصه بنفسي، بغض النظر عن مدى سوء شكله.»
لم تدهش إجابتي أصدقائي؛ فالحلاق لم يكن مخطئا عندما رفض أن يحلق لي؛ لأنه كان سيخسر جميع زبائنه إذا ما بدأ في قص شعر الملونين. فنحن لا نسمح لحلاقينا بخدمة إخواننا المنبوذين، ولقد لاقيت جزاء ذلك في جنوب أفريقيا، ليس مرة واحدة بل مرات عدة، لكن قناعتي بأن ذلك كان عقابا لخطايانا هي التي جعلتني أكظم غيظي.
أما النماذج التي تجلى فيها شغفي بالاعتماد على النفس والبساطة بصورة أساسية، فسوف أتعرض إليها في موضعها. لقد غرست البذرة منذ أمد طويل، ولم تكن في حاجة إلا للإرواء كي تمتد جذورها وتزهر وتثمر، وقد رويتها في الوقت المناسب.
الفصل العاشر
حرب البوير
لا بد لي من التغاضي عن ذكر الكثير من التجارب التي مررت بها في الفترة ما بين 1897م و1899م، والانتقال مباشرة إلى حرب البوير.
مالت عاطفتي عند اندلاع الحرب نحو البوير، لكنني رأيت أنه ليس من حقي أن أفرض رأيي الشخصي في مثل هذه الحالة. لقد تناولت الصراع الداخلي الذي يتعلق بتلك الحرب بدقة في كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا، ولا أجد داعيا إلى أن أكرر ما ذكرته هنا. وأدعو من يعتريه الفضول إلى أن يطلع على تلك الصفحات من الكتاب. ويكفي أن أذكر أن ولائي للحكم البريطاني جعلني أناصر البريطانيين في الحرب. وشعرت أن من واجبي المشاركة في الدفاع عن الإمبراطورية البريطانية كأي مواطن بريطاني إذا ما كنت أريد المطالبة بحقوق مماثلة لحقوق المواطن البريطاني. اعتقدت وقتها أن الهند لن تتمكن من الحصول على استقلالها الكامل إلا عن طريق الإمبراطورية البريطانية. فأخذت في جمع أكبر عدد من المتطوعين، وبصعوبة بالغة حصلت على موافقتهم على المشاركة في خدمات الإسعاف.
كان عوام الإنجليز يرون أن الهنود جبناء، وغير قادرين على المخاطرة أو الاهتمام بغير مصلحتهم المباشرة؛ لذلك لم تلق خطتي استحسان الكثير من الأصدقاء الإنجليز، إلا أن الطبيب بووث أيدها بكل قوة، فدربني أنا والمتطوعين على عمل فرق الإسعاف، حتى إننا حصلنا على شهادات طبية بقدرتنا على أداء العمل. وأيد السيد لوتون والراحل السيد إسكومب الخطة بحماسة. وأخيرا، تقدمنا بطلب للعمل على الجبهة، فعبرت الحكومة عن شكرها لطلبنا هذا، لكنها أوضحت أنها ليست في حاجة إلى خدمتنا في ذلك الوقت.
لم أكن لأرضى بمثل ذلك الرفض؛ فزرت أسقف ناتال عن طريق تقديم الطبيب بووث لي، وكان هناك العديد من الهنود المسيحيين في فرقة الإسعاف، فسعد الأسقف بعرضي لخدماتنا الطبية ووعد بمساعدتنا على قبول الحكومة لتلك الخدمات.
كان الوقت إلى جانبنا هو أيضا. فقد أظهر البوير جسارة وعزما وشجاعة أكثر مما كان متوقعا؛ فأصبح الإنجليز في حاجة ماسة لخدماتنا.
بلغ قوام الفرقة 1100 فرد، بالإضافة إلى 40 قائدا، ثلاثمائة منهم من الهنود الأحرار والباقي من الهنود العاملين بعقود لأجل. ذلك بالإضافة إلى الطبيب بووث الذي شارك معنا في العمل. وقد أبلت الفرقة بلاء حسنا أثناء الحرب. ومع أن عملنا كان من المفترض أن يكون بعيدا عن خط النار، ومع أننا كنا تحت حماية الصليب الأحمر، إلا أنه في بعض الأوقات الحرجة كان يطلب منا العمل في خط النار. ولم يكن عزلنا عن خط النار نتيجة لطلبنا، بل السلطات هي التي أرادت عدم دخولنا نطاق إطلاق النار. لكن ذلك الوضع تغير عقب الهزيمة التي نزلت بالجيش الإنجليزي في معركة سبيون كوب
Spion Kop ، حيث أرسل اللواء بولر رسالة مفادها أنه مع عدم اضطرارنا للمخاطرة، إلا أن الحكومة ستكون ممتنة إذا ما ذهبنا إلى هناك وأحضرنا الجرحى من ساحة المعركة. لم نتردد مطلقا، فوجدنا أنفسنا نعمل في سبيون كوب وطلقات الرصاص تحيط بنا من كل جانب. كنا نمشي من عشرين إلى خمسة وعشرين ميلا يوميا حينها، حاملين المصابين على نقالات. وكان لنا الشرف في حمل جنود عظماء بين أولئك المصابين، مثل اللواء وودجيت.
سرحت الفرقة من الخدمة بعد مرور ستة أسابيع. ونتيجة للهزائم التي مني بها الجيش البريطاني في سبيون كوب وفالكرانز، قرر القائد العام للقوات البريطانية التخلي عن محاولة إنقاذ مدينة ليدي سميث وغيرها من المناطق بواسطة الإجراءات العاجلة، وقرر بدلا من ذلك أن يتحرك ببطء في انتظار إرسال كل من إنجلترا والهند للتعزيزات.
كان عملنا المتواضع محل استحسان في ذلك الوقت، وازدادت مكانة الهنود حينها. ونشرت الصحف قصائد مدح مع تكرار عبارة «نحن أبناء الإمبراطورية بالرغم من كل شيء».
تحدث اللواء بولر عن عمل الفرقة بكل تقدير، ومنح قادة الفرقة وسام الحرب.
أصبحت الجالية الهندية أكثر تنظيما، وأصبحت علاقتي أوثق بالهنود العاملين بعقود لأجل. فلقد شهدوا صحوة حقيقية، وترسخ لديهم الشعور بأن الهندوس والمسلمين والمسيحيين والتاميليين والجوجراتيين والسند جميعا ما هم إلا هنود ينتمون إلى نفس الوطن. وكان الجميع على يقين بأن مطالب الهنود سوف تؤخذ بعين الاعتبار. وقد بدا أن موقف الرجل الأبيض قد تغير كثيرا. كانت العلاقات التي كوناها مع البيض في أثناء الحرب من ألطف العلاقات. فقد تعرفنا إلى الآلاف من الجنود البريطانيين، وكانوا يعاملوننا بلطف ويعبرون عن امتنانهم لوجودنا معهم ورعايتنا لهم.
لا يمكنني أن أمنع نفسي من تسجيل ذكرى جميلة تعكس كيف تتجلى الطبيعة البشرية في أحسن صورها في أوقات المحن. كنا نسير نحو تشيفجييلي كامب حيث تلقى الملازم روبيرتس، ابن اللورد روبيرتس، إصابة مميتة، وكان لفرقتنا شرف حمله من ميدان المعركة. كان اليوم الذي سرنا فيه شديد الحرارة، وكاد الجميع يموتون عطشا، وعلى الطريق وجدنا جدولا صغيرا، ساعدنا على تخفيف عطشنا. لكن السؤال هو من كان ليشرب أولا؟ اقترحنا أن نشرب بعد أن يشرب الجنود الإنجليز، لكنهم لم يوافقوا على ذلك وطلبوا منا أن نسبقهم نحن، ودارت بيننا منافسة لطيفة على من يؤثر الآخر ليشرب أولا.
الفصل الحادي عشر
الإصلاح الصحي وانقشاع المجاعة
كان من المستحيل أن أتسامح مع أي عضو لا يقدم أي نفع للجالية، وكنت دائما ما أعارض إخفاء عيوب الجالية أو التستر عليها أو الإلحاح على حقوقها دون أن أطهرها مما يشوبها من نقائص؛ لذلك عملت منذ استقراري في ناتال على تبرئة ساحة الجالية من تهمة كانت قد وجهت إليها، ولا أستطيع القول بأن تلك التهمة لا تستند إلى أية حقائق، وكان مفادها أن الهنود مهملون في عاداتهم ولا ينظفون منازلهم ولا الأحياء التي يقطنون بها؛ نتيجة لذلك، بدأ كبار أعضاء الجالية بالفعل في تنظيم وتنظيف منازلهم، لكن لم يجر فحص لجميع المنازل إلا عندما كان الطاعون يهدد دربان، وقد جرى ذلك بعد عقد المشاورات مع أعضاء مجلس البلدية والحصول على موافقتهم، وحين أبدوا رغبتهم في أن نتعاون معهم، وقد أسهم تعاوننا في تيسير عملهم، وفي نفس الوقت خفف من الصعاب التي نتعرض لها. فحينما يتفشى أي وباء، ينفد صبر السلطة التنفيذية عادة وتبدأ في اتخاذ إجراءات مبالغ فيها، وتتصرف بقسوة بالغة. ومن ثم، تجنبت الجالية مثل ذلك الاضطهاد باتخاذ الإجراءات الصحية طوعا.
لكن هذا لم يحل دون تعرضي لبعض التجارب المريرة. وجدت أنه ليس من السهل أن أعتمد على مساعدة الجالية في تأدية واجباتها مقارنة باعتمادي عليها في مطالبتي بحقوقها. فقوبلت في بعض الأماكن بالسباب، وفي البعض الآخر باللامبالاة المهذبة. لقد كان من الصعب على الناس أن يحملوا أنفسهم على تنظيف الأحياء التي يعيشون بها، وكان من المستحيل بالطبع أن نتوقع أن يجمعوا المال من أجل العمل اللازم للنظافة. وقد علمتني تلك التجارب أكثر من سابقتها أنه كان من المستحيل أن نقنع هؤلاء الأشخاص بالعمل لولا تحلينا بالصبر. إنها مهمة المصلح المتلهف للإصلاح، لا المجتمع الذي لا يجب أن يتوقع منه المصلح غير المعارضة والبغض، والاضطهاد الشديد. فلماذا يعتبر المجتمع ذلك الذي يعتبره المصلح أعز إليه من حياته ذاتها رجعية؟
ومع ذلك، كان لتلك الثورة الفضل في إدراك الجالية الهندية بقدر ما ضرورة الحفاظ على نظافة منازلهم والبيئة المحيطة، وحظيت باحترام وتقدير السلطات بالمدينة. فقد رأوا أنني مع عملي على التعبير عن الشكاوى والمطالبة بالحقوق، كنت حريصا في الوقت ذاته على تطهير الذات.
بقي شيء واحد يجب إنجازه ، ألا وهو إيقاظ حس المستوطنين الهنود بواجبهم نحو وطنهم. كانت الهند بلدا فقيرا، فرحل المستوطنون الهنود إلى جنوب أفريقيا بحثا عن الثراء، وبذلك كان عليهم أن يستقطعوا جزءا من أموالهم من أجل إخوانهم بالهند في وقت المحن. وهذا بالفعل ما فعله المستوطنون الهنود عندما وقعت المجاعات القاسية في عامي 1897م و1899م، فلقد تبرعوا بكرم من أجل إنقاذ المتضررين من المجاعة، وكانت التبرعات في عام 1899م أكثر منها حتى في عام 1897م. وطلبنا الأموال من الإنجليز، فلم يخيبوا رجاءنا. وحتى الهنود العاملون بعقود لأجل أسهموا في رفع المحنة عن إخوانهم في الهند. وقد استمر النظام الذي بدأناه حين وقعت تلك المجاعات. ونعلم أن الهنود المقيمين بجنوب أفريقيا لم ينقطعوا عن إرسال إسهامات ضخمة إلى الهند في أوقات المحن القومية.
وهكذا كشفت لي خدمة الهنود في جنوب أفريقيا دائما دلالات جديدة للحقيقة في كل مرحلة من مراحلها. فالحقيقة كالشجرة الضخمة التي تطرح المزيد من الثمار كلما أوليتها رعاية أكبر. وكلما بحثت أعمق في منجم الحقيقة، اكتشفت جواهر أثمن في هيئة فرص لمجموعة أكثر تنوعا من الخدمات.
الفصل الثاني عشر
العودة إلى الهند
عند تسريحي من الخدمة في الحرب، شعرت بأن الهند في حاجة لي أكثر من جنوب أفريقيا. ولم يكن ذلك نتيجة لانتهاء العمل في جنوب أفريقيا، بل لأنني خشيت أن يتحول عملي الرئيسي إلى مجرد جمع الأموال.
كان الأصدقاء في الهند يلحون علي أيضا كي أعود إلى الوطن، وشعرت أنني يجب أن أكون أكثر فاعلية في خدمتي في الهند. أما العمل في جنوب أفريقيا، فكان سيقوم به السادة خان ومانسوخلال نازار. فطلبت من زملائي أن يعفوني من مهامي ويسمحوا لي بالرحيل، الأمر الذي وافقوا عليه بصعوبة بالغة وبشرط أن أعود إلى جنوب أفريقيا إذا ما احتاجتني الجالية خلال سنة. لقد كان الشرط صعبا، لكن الحب الذي يربط بيني وبين الجالية جعلني أوافق. وكما أنشد ميراباي:
لقد ربطني الإله
برباط الحب،
فأنا عبده المطيع.
وأنا أيضا قد ربطني الإله بالجالية برباط الحب الذي كان أقوى من أن ينحل. صوت الناس هو صوت الإله، وفي هذا الوقت كان صوت الأصدقاء حقيقيا لدرجة أنني لم أستطع تجاهله؛ فقبلت بشرطهم، ثم حصلت على إذنهم بالرحيل.
كانت تربطني في ذلك الوقت علاقة وثيقة بناتال وحدها؛ فلقد غمرني الهنود المقيمون بناتال بالحب، فأقيمت لقاءات الوداع في كل مكان، وقدمت لي الهدايا الثمينة.
لقد منحت الهدايا من قبل عند عودتي للهند في عام 1899م، لكن هذه المرة كان الوداع غامرا. تضمنت الهدايا بالطبع مشغولات مصنوعة من الذهب والفضة، لكنها احتوت أيضا على هدايا من الماس باهظ الثمن.
لكن ما حقي في قبول كل هذه الهدايا؟ وإذا قبلت تلك الهدايا، كيف يمكنني أن أقنع نفسي بأنني أخدم الجالية دون مقابل؟ فجميع الهدايا التي تلقيتها، ما عدا بعض الهدايا التي قدمها لي بعض موكلي، كانت نظير خدمتي للجالية. ولم أكن أستطيع أن أفرق بين موكلي وبين زملائي، لأنه حتى موكلي كانوا يساعدونني في العمل العام.
كانت إحدى هذه الهدايا قلادة ذهبية بقيمة خمسين جنيها إسترلينيا قدمت إلى زوجتي. لكن حتى تلك القلادة قدمت نظير عملي العام، ولذلك لم يكن من الممكن أن أستثنيها.
وفي المساء لم أستطع النوم من كثرة التفكير في تلك الهدايا ومدى استحقاقي لها، وأخذت أقطع غرفتي ذهابا وإيابا وأنا أشعر بقلق عميق، لكنني لم أجد أي حل للموقف. فقد كان من الصعب أن أتنازل عن هدايا بمئات الجنيهات، وفي نفس الوقت كان من الأصعب أن أحتفظ بها.
فإن قبلت تلك الهدايا، ماذا سيكون موقف أولادي؟ وماذا سيكون موقف زوجتي؟ فقد كنت أعودهم على حياة الخدمة وأن الخدمة تعد مكافأة في ذاتها.
لم يحو منزلي أيا من الزخارف الباهظة، وكنا نجعل من أسلوب حياتنا أكثر بساطة. فكيف كان لنا أن نتحمل اقتناء الساعات الذهبية؟ وكيف لنا أن نرتدي قلادات ذهبية وخواتم ماسية؟ وكنت حينها أنصح الناس بأن يتخلصوا من الافتتان بالجواهر، فماذا أفعل الآن بتلك الجواهر التي انهالت علي؟
قررت في النهاية عدم الاحتفاظ بتلك الهدايا، فكتبت خطابا لأجعلها وديعة لصالح الجالية ، وعينت السيد بارسي روستومجي وغيره ليكونوا أمناء عليها، وفي الصباح تشاورت مع زوجتي وأولادي، وتخلصت أخيرا من الكابوس الذي كان يؤرقني.
كنت أعلم أنني سأجد بعض الصعوبة في إقناع زوجتي، أما أبنائي فلم أتوقع منهم أي اعتراض؛ فقررت أن أجعل أبنائي يدعمونني ويدافعون عني.
وافق الأبناء على اقتراحي بكل سرور، قائلين: «نحن في غنى عن تلك الهدايا الثمينة، ويجب أن نعيدها إلى الجالية، وإذا ما احتجنا إلى مثلها في يوم من الأيام فيمكننا شراؤها بسهولة.»
أثلجت كلمات أبنائي صدري، فسألتهم: «إذن سوف تدافعون عن موقفي أمام والدتكم، أليس كذلك؟»
فأجابوني: «دع هذا الأمر لنا، والدتنا ليست في حاجة لارتداء الجواهر. هي فقط تريد الاحتفاظ بها من أجلنا، فإذا لم نردها فلا يوجد سبب يجعلها ترفض التنازل عنها.»
لكن الكلام كان أسهل بكثير من الفعل.
أجابتني زوجتي، عندما عرضت الأمر عليها، قائلة: «ربما لا تحتاج أنت ولا أولادك إلى تلك الجواهر، فبالطبع سيفعلون ما تأمرهم به، وأدرك أنك منعتني من ارتداء الجواهر، لكن ماذا بشأن زوجات أبنائي؟ من المؤكد أنهن سيحتجنها. ومن يعلم ماذا يمكن أن يحدث في المستقبل؟ سأكون آخر شخص يتنازل عن مثل هذه الهدايا الجميلة.»
وهكذا استمرت المناقشة الحامية حتى انتهت بالدموع. لكن أبنائي كانوا مصممين على موقفهم، وكذلك أنا.
فتحدثت إليها بلطف، قائلا: «لن يتزوج أبناؤنا الآن، فنحن لا نريد تزويجهم وهم صغار. وعندما يكبرون، سيمكنهم الاعتماد على أنفسهم. وبالطبع لن نجعل أولادنا يتزوجون بفتيات مغرمات بالجواهر والزخارف. وعلى كل حال، إذا ما أردنا تقديم الجواهر لهن، فما عليك إلا أن تطلبي مني.»
فقالت لي: «أطلب منك؟ أنا أعرفك جيدا. لقد حرمتني من الجواهر، ولن تتركني أنعم بها بسلام. والآن تقول بأنك ستشتري الجواهر لزوجات أبنائك! وأنت الذي يحاول أن يجعل من أبنائي نساكا من الآن! أنا عند قراري ولن أعيد أي قطعة من الجواهر. وبأي حق تطالب بالقلادة التي تلقيتها كهدية؟»
فاستطردت قائلا: «هل حصلتي على تلك القلادة نظير خدماتك أنت أم خدماتي أنا؟» - «أوافقك الرأي ، لكن الخدمات التي قدمتها أنت لا تقل عن الخدمات التي أقدمها. فلقد تحملت المشقة من أجلك ليل نهار. ألا تعتبر هذه خدمة؟ لقد قلبت الجميع ضدي، وجعلتني أذرف دموعا مرة، وأنا أخدمهم كالجارية.»
كان وقع كلمات زوجتي علي كأنها طعنات حادة، وقد أثر بعضها في، لكنني كنت عاقد العزم على إعادة الجواهر، ونجحت بطريقة ما في أن أنتزع منها الموافقة. فأعدت جميع الهدايا التي تلقيتها في عامي 1896م و1901م، فحرر عقد إدارة أموال، ووضعت الجواهر كوديعة بنكية لتستخدم في خدمة الجالية، حسب ما أرتئيه أنا أو الأمناء على الأموال.
وعندما كنت أجد نفسي في حاجة إلى أموال من أجل الخدمات العامة، وأشعر بأنني سأحتاج إلى أن أسحب من الوديعة، كنت أجمع المبلغ الضروري، ولا أتعرض للوديعة، ولا تزال الوديعة موجودة، وتستخدم في وقت الحاجة إليها، بل وتتزايد بصورة منتظمة.
لم أندم منذ ذلك الحين على قراري ذلك، وبمرور الزمن اقتنعت زوجتي أيضا بأنه كان قرارا حكيما. فهذا القرار قد نجانا من العديد من الإغراءات. فيجب على من يعمل في الخدمة العامة ألا يقبل الهدايا باهظة الثمن.
الفصل الثالث عشر
في الهند مرة أخرى
أبحرت متوجها إلى الهند. توقفت السفينة لفترة طويلة في ميناء موريشيوس، فنزلت إلى الشاطئ وأخذت أطلع على الأوضاع المحلية عن كثب. ونزلت ضيفا على السيد تشارلز بروس، حاكم المستعمرة، لليلة واحدة.
وبعد أن وصلت إلى الهند، أمضيت بعض الوقت أجول في الشوارع. وفي عام 1901م حضرت اجتماع حزب المؤتمر الهندي في كلكتا الذي عقد برئاسة السيد (السير السابق) دينشاو واشا. كانت هذه هي أول تجربة لي مع الحزب. كنت قد سافرت من بومباي في نفس القطار الذي كان يقل السير فيروزشاه ميهتا، فقد كنت في حاجة للتحدث معه بشأن الأوضاع في جنوب أفريقيا. وكنت على دراية بالحياة الفخمة التي كان يعيشها، فقد استأجر السيد فيروزشاه عربة خاصة به، وقد أخبرت بأنني سأحصل على فرصة التحدث معه في أثناء السفر معه في عربته الخاصة لمسافة محطة واحدة، فذهبت إلى العربة وقدمت نفسي في المحطة المتفق عليها، وكان بصحبته كل من السيد واشا والسيد (الذي حصل الآن على لقب سير) شيمانلال سيتالفاد، وكانوا يناقشون أمور السياسة. وما إن رآني السيد فيروزشاه حتى قال: «غاندي، يبدو أنه ليس بوسعنا فعل شيء من أجلك. بالطبع سنعرض اقتراحك، لكن ما الحقوق التي نتمتع بها في بلدنا؟ أعتقد أنك لن تستطيع النجاح في المستعمرات ما دمنا لا نملك أي سلطة في وطننا.»
أذهلني كلام السيد ميهتا حتى أصبحت عاجزا عن التعليق، وبدا لي أن السيد سيتالفاد يوافقه في الرأي، أما السيد واشا فرمقني بنظرة مليئة بالشفقة.
حاولت أن أجادل السيد فيروزشاه، لكن هيهات أن يتمكن شخص مثلي من التغلب على «ملك بومباي غير المتوج». لكنني كنت أواسي نفسي بأن أقول إنني سوف أتمكن من عرض اقتراحي.
قال السيد واشا بغرض التخفيف عني: «بالطبع ستعرض علي اقتراحك.» فشكرته وتركتهم في المحطة التالية.
أخيرا، وصلنا إلى كلكتا. اصطحبت لجنة الاستقبال الرئيس إلى مخيمه بالتهليل والتصفيق. فسألت أحد المتطوعين عن المكان الذي يمكن أن أذهب إليه، فأخذني المتطوع إلى كلية ريبون، حيث يمكث عدد من النواب. وقد كان للقدر دور كبير معي، فقد كان السيد لوكامانيا يمكث في نفس المبنى الذي كنت فيه، وأذكر أنه وصل بعدي بيوم.
وبالطبع، لم يكن لوكامانيا دون حاشيته. لو كنت رساما، لرسمت له لوحة وهو جالس على فراشه، فالمنظر كله حي في ذاكرتي. أذكر الآن شخصا واحدا، من بين الأشخاص الذين زاروه، ألا وهو الراحل بابو موتيلال جوس، رئيس تحرير جريدة أمريتا بازار باتريكا، فلا يمكن أن أنسى ضحكاتهم الرنانة وحديثهم عن أخطاء الطبقة الحاكمة.
لكنني أعتزم تناول اللقاءات التي عقدت في ذلك المخيم ببعض التفاصيل. كانت تقع تصادمات بين المتطوعين، وإذا ما طلبت من أحدهم أن يؤدي لك أمرا، كان يفوض غيره لكي يقوم به، والآخر بدوره يفوض غيره، وهكذا. أما النواب، فكانوا عديمي الفائدة.
كونت صداقات مع بعض المتطوعين، فأخذت أخبرهم عن جنوب أفريقيا، مما جعلهم يشعرون بالخزي. حاولت أن أوضح لهم سر الخدمة، وقد بدا لي أنهم يفهمون كلامي لكن الخدمة لا تولد بين ليلة وضحاها، فالخدمة تستلزم الإرادة أولا، ثم تأتي الخبرة بعدها. ولم يكن هؤلاء الشباب الذين يتسمون بسلامة النية يفتقرون إلى الإرادة، لكن المشكلة كانت تكمن في أن رصيدهم من الخبرة كان منعدما. كان الحزب يعقد جلسات لمدة ثلاثة أيام كل عام، ثم يخلد في سبات عميق. فأي تدريب يمكن أن يحصل عليه المرء في ثلاثة أيام كل عام؟ وكان النواب يشاركون المتطوعين في ذلك الوضع، فلم يحظوا بتدريب أفضل أو لمدة أطول، ولم يكونوا يستطيعون فعل شيء بأنفسهم، بل كانوا يطلقون الأوامر باستمرار: «أيها المتطوع، افعل كذا.»
حتى هنا في الهند واجهت النبذ وجها لوجه بصورة كبيرة. كان المطبخ التاميلي يبعد كثيرا عن غيره من المطابخ. فقد كان النواب التاميليون يشمئزون من مجرد النظر إلى الآخرين أثناء تناول الطعام، لذلك فقد أعد مطبخ خاص من أجلهم في مجمع الكلية مطوق بجدار من الأغصان المجدولة، وكان المكان مملوءا بالدخان الخانق، وكان يستخدم كمطبخ وغرفة طعام وحمام، فكان يضم كل شيء معا - لقد كان خزانة محكمة بلا منفذ. بدا لي ذلك كأنه تقليد ساخر للمهام (فارنادارما).
1
قلت في نفسي، إذا كان هذا هو الحال بين مندوبي الحزب، فيمكن للمرء أن يتخيل المدى الذي وصل إليه النبذ بين ناخبيهم، فتنهدت حسرة عندما جالت تلك الفكرة بخاطري.
لم يكن هناك حد للتلوث الصحي في مكان الإقامة. كانت برك المياه في كل مكان، وكان هناك عدد قليل من المراحيض التي لا أستطيع أن أنسى رائحتها النتنة حتى الآن. طرحت الأمر على المتطوعين، فأجابوني بصراحة: «هذا العمل ليس من اختصاصنا، إنه من اختصاص عامل النظافة.» لم يكن مني إلا أن طلبت مكنسة، فحدق في الرجل بدهشة. حصلت بمشقة على مكنسة، ونظفت المرحاض لكن ذلك كان من أجل نظافتي الشخصية. كان تدفق الناس على المراحيض كبيرا، وكان عدد المراحيض قليلا مما كان يستلزم تنظيفها باستمرار، لكنني لم أستطع أن أؤدي تلك المهمة. لذلك كان علي أن أرضى على الأقل بخدمة نفسي، ولكن الآخرين لم يكونوا يكترثون بالرائحة النتنة والقذارة.
لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، فقد كان من النواب من لا يتردد في استخدام الشرف الموجودة خارج غرفهم لقضاء حاجتهم بالليل. وفي الصباح أشرت للمتطوعين إلى أماكن تلك القذارة. فلم أجد أيا منهم على استعداد لتنظيف المكان، ولم أجد من يشاركني في شرف إزالة تلك القذارة. تغيرت الأحوال بدرجة كبيرة منذ ذلك الحين، لكن حتى في هذه الأيام كان هناك من النواب من كان غير مراع للآخرين وقام بتشويه مخيم الحزب مسببا الإزعاج في كل مكان، ولم يكن جميع المتطوعين على استعداد دائم لتنظيف مخلفاتهم.
وقد رأيت أنه إذا طالت جلسات الحزب عن مدتها الحالية، فسيهدد ذلك بتفشي الأوبئة.
هوامش
الفصل الرابع عشر
العمل كاتبا وحمالا
بقي يومان على انعقاد جلسات الحزب، وكنت قد قررت أن أعرض خدماتي على مكتب الحزب كي أكتسب المزيد من الخبرة، وفور أن انتهيت من الاغتسال اليومي عند وصولي لكلكتا، توجهت إلى هناك.
كان السيد بابو بهوبيندراناث باسو والسيد جوسال هم الأمناء العموميون للحزب، فذهبت إلى السيد بهوبيندراناث وعرضت خدماتي، فنظر إلي، ثم قال: «ليس لدي عمل لك، لكن أعتقد أنه قد يكون لدى السيد جوسال بعض العمل لك، من فضلك اذهب واسأله.»
فتوجهت إلى السيد جوسال، الذي نظر لي مليا، ثم قال: «يمكنني أن أكلفك بالأعمال الكتابية فقط. هل تقبل ذلك العمل؟» فأجبته: «بالطبع، فأنا لا أريد أن أكلف بأي عمل لا أستطيع إنجازه.»
فعلق قائلا: «هذه هي الروح التي نحتاجها أيها الشاب.» ثم توجه إلى المتطوعين من حوله، وأضاف: «هل سمعتم ما قاله هذا الشاب ؟»
ثم تحول لمخاطبتي، وقال: «حسنا، ها هي مجموعة من الخطابات التي تحتاج إلى الاطلاع عليها. اجلس على هذا الكرسي وابدأ في العمل، فكما ترى، يأتي المئات من الناس لمقابلتي، فماذا عساي أن أفعل؟ هل أقابلهم أم أرد على أولئك الفضوليين الذين يغمرونني بالخطابات؟ لا يوجد لدي كتبة يمكنني أن أكلفهم مثل هذه المهمة. إن أغلب هذه الخطابات عديمة القيمة ولا تحتوي على شيء ذي أهمية، لكنني أطلب منك أن تتفضل وتقرأها بعناية. ثم أرسل جواب شكر للرسائل التي تستحق الشكر، وأطلعني على الخطابات التي تحتاج إلى رد متأن.»
كنت سعيدا بالثقة التي منحني إياها السيد جوسال، ولم يكن السيد جوسال يعرفني عندما أعطاني العمل، ولم يسألني عن مؤهلاتي إلا فيما بعد.
كان عملي سهلا للغاية، فقد أنجزت تلك الرزمة من الخطابات في وقت قياسي، وشعر السيد جوسال بسعادة غامرة. كان السيد جوسال يحب الحديث مع الآخرين، فكان من الممكن أن نتحدث معا لساعات، وقد شعر بالأسف لتكليفه إياي بالعمل المكتبي عندما علم بعضا من خبراتي وتجاربي، لكنني طمأنته قائلا: «لا تقلق، فأنا لا يمكن أن أقارن نفسي بك؛ فلقد شاب شعرك وأنت تخدم الحزب، وأنت بمنزلة أخ كبير لي، فأنا لست إلا شابا تعوزه الخبرة. أنا مدين لك بالفضل لأنك كلفتني بذلك العمل. لأنني كنت أريد خدمة الحزب، وقد منحتني الفرصة النادرة بأن جعلتني أفهم تفاصيل العمل.»
فأجابني السيد جوسال: «لأصدقك القول، هذه هي الروح التي نحتاجها، لكن لا يوجد من الشباب من يدرك هذه الحقيقة. لقد شهدت بالطبع مولد هذا الحزب، بل في الحقيقة يمكنني القول بأنني شاركت مع السيد هوم في تأسيس هذا الحزب.»
وهكذا أصبحت والسيد جوسال أصدقاء، فأصر أن أتناول طعام الغداء معه.
كان من عادة السيد جوسال أن يدع الحمال الذي يعمل لديه يعقد له أزرار قميصه، فتطوعت لأحل محل الحمال في أداء هذه المهمة، وكنت أحب هذه المهمة لما أكنه من تقدير واحترام لمن هم أكبر مني سنا، وعندما علم بذلك الأمر، لم يمانع في أن أقوم ببعض الخدمات الشخصية له، بل كان سعيدا بذلك. كان يقول لي حين يطلب مني عقد أزرار قميصه: «أرأيت، الآن لا يملك الأمين العام للحزب الوقت لعقد أزرار قميصه بنفسه، فدائما ما يكون لديه عمل ليقوم به.» لقد كنت أضحك من سذاجة السيد جوسال، لكن ذلك لم يخلق في نفسي كرها لتلك الخدمة، ولا يمكن أن أحصي النفع الذي عاد علي جراء تلك الخدمة.
ما هي إلا بضعة أيام حتى أصبحت على دراية بكيفية سير العمل في الحزب، فقد قابلت أغلب زعماء الحزب وتابعت تحركات الرواد مثل جوخلي وسوريندراناث، ولاحظت كمية الوقت المهدر هناك، ولاحظت بأسى المكانة البارزة التي تحتلها اللغة الإنجليزية في شئوننا. ولم يكن هناك اهتمام كبير بتنظيم العمل والطاقات البشرية، فتجد أكثر من فرد يقومون بعمل لا يتطلب سوى فرد واحد، وفي نفس الوقت هناك العديد من الأمور المهمة التي لا تجد من يقوم بها.
مع أنني كنت ناقدا لتلك السلبيات، كنت أمتلك من التلطف ما جعلني أفكر دوما في أن ذلك الحال هو أفضل ما يكون في ظل الظروف الراهنة. وذلك هو ما منعني من أن أبخس قدر أي عمل يقوم به الحزب.
الفصل الخامس عشر
في الحزب
وأخيرا انعقدت جلسات الحزب. لقد هالني مشهد السرادق العظيم والمتطوعين الجالسين في نظام مبهر، وكذلك الزعماء الجالسين على المنصة. وتساءلت أين يجب أن أجلس وسط هذا الحشد الضخم؟
كانت خطبة رئيس الحزب وحدها يمكن أن تملأ كتابا، فكان يستحيل قراءتها بالكامل، لذلك استمعنا إلى بعض المقتطفات منها فقط.
عقب ذلك بدأت انتخابات لجنة الرعايا. وقد اصطحبني السيد جوخلي إلى اجتماعات اللجنة.
وافق السيد فيروزشاه بالطبع على أن أقدم اقتراحي لكنني كنت أتساءل من الذي سوف يقدمه للجنة الرعايا؟ ومتى؟ فقد ألقي العديد من الخطب المطولة حول كل اقتراح، وجميعها باللغة الإنجليزية. وكان هناك عدد من الزعماء المشهورين لدعم كل اقتراح، فكان اقتراحي ضعيفا أمام أولئك الأشخاص المتمرسين، وعندما كان الليل يدنو، كانت دقات قلبي تتسارع. كانت اللجنة تتناول الاقتراحات التي قدمت في نهاية الجلسة بعجالة، فقد كان الجميع يريد أن يرحل حيث كانت الساعة الحادية عشرة. لم تواتني الشجاعة كي أتكلم، وكنت قد قابلت جوخلي بالفعل واطلع على اقتراحي، فاقتربت من كرسيه وهمست في أذنيه قائلا: «أرجوك، افعل شيئا.» فأجابني قائلا: «لا تقلق، فأنا أذكر اقتراحك ، ولن أسمح لهم أن يغفلوا عنه.»
السيد فيروز ميهتا: «هل انتهينا من عرض الاقتراحات؟»
فهتف السيد جوخلي: «لا، هناك اقتراح آخر بشأن جنوب أفريقيا، وقد انتظر السيد غاندي طويلا لتقديم اقتراحه.»
فسأله السيد فيروزشاه: «وهل رأيت الاقتراح؟» - «بالطبع.» - «وهل راقك؟» - «إنه جيد جدا.» - «حسنا، إذن دعنا نسمع الاقتراح يا سيد غاندي.»
فقرأت الاقتراح وأنا أرتعد، لكن جوخلي كان بجانبي يساندني.
فهتف الجميع: «موافقون بالإجماع.»
وقال السيد واشا: «سوف نمنحك خمس دقائق كي تتحدث عن اقتراحك يا غاندي.»
لم أكن راضيا عن الإجراء، فلم يكترث أحد لفهم الاقتراح فقد كانوا جميعا في عجلة من أمرهم، وساد اعتقاد بأنه لا حاجة للبقية لكي يروا الاقتراح أو يفهموه ما دام السيد جوخلي قد رآه.
أشرق الصباح وأنا قلق بشأن كلمتي التي سألقيها أمام اللجنة، فماذا يجب أن أقول في خمس دقائق؟ لقد استعددت جيدا، لكن الكلمات لن تسعفني حينها. وقررت ألا أقرأ كلمتي، بل أن أتحدث بصورة ارتجالية، لكن يبدو أن القدرة على التحدث التي اكتسبتها في جنوب أفريقيا، قد ولت عني في تلك اللحظة.
حانت لحظة عرض اقتراحي، فنادى السيد واشا اسمي، قمت من جلستي، وشعرت بدوار في رأسي، فقرأت الاقتراح بصورة أو بأخرى. وكان أحد الأشخاص قد طبع نسخا من قصيدة كتبها مادحا الهجرة للخارج، ووزع تلك النسخ على النواب، قرأت القصيدة وأشرت إلى شكاوى المستوطنين في جنوب أفريقيا. وفي تلك اللحظة، دق السيد واشا الجرس. كنت على يقين من أنني لم أنه الخمس دقائق بعد، ولم أكن أعلم بأن دق الجرس يعني التنبيه على أن الوقت المتبقي لكلمتي دقيقتان، فقد رأيت آخرين يتحدثون لنصف الساعة أو ثلاثة أرباع الساعة دون أن يدق أحدهم أي جرس. شعرت بالإهانة، وجلست فور سماع الجرس. جعلني تفكيري الطفولي وقتها أظن أن تلك القصيدة تحتوي على إجابة لسؤال السيد فيروزشاه.
1
لم يكن هناك شك في الموافقة على القرار. وفي تلك الأيام لم يكن هناك فرق يذكر بين الزوار والنواب، رفع الجميع يده بالموافقة على جميع الاقتراحات بالإجماع، وكان اقتراحي من ضمن ذلك الحشد من الاقتراحات، مما أفقده أهميته لي، لكنني مع ذلك شعرت بالرضا لمجرد أن الحزب وافق عليه، فقد كانت موافقة الحزب التي تعني موافقة البلد بأسرها كافية لإسعاد أي شخص.
هوامش
الفصل السادس عشر
حفل اللورد كورزون
انتهت جلسات الحزب، لكن كان علي أن أمكث في كلكتا لشهر آخر لمقابلة أعضاء الغرفة التجارية والعديد من الأشخاص ممن لهم علاقة بالعمل في جنوب أفريقيا، وبدلا من الإقامة في أحد الفنادق، اتخذت التدابير اللازمة للحصول على غرفة في النادي الهندي، كان النادي يضم بعض الشخصيات الهندية البارزة، وكنت أتطلع للتواصل معهم وجذبهم للعمل في جنوب أفريقيا. وكان السيد جوخلي عادة ما يذهب إلى النادي للعب البلياردو، فدعاني للإقامة معه عندما علم أنني سأمضي بعض الوقت في كلكتا. قبلت دعوته بامتنان، لكنني شعرت بأنه من غير اللائق أن أذهب إليه بنفسي، فانتظر يوما أو يومين، حتى أتى لأخذي شخصيا. وأدرك السيد جوخلي مدى تحفظي، فقال لي: «يا غاندي، أنت ستقيم في البلد ولن ينفعك مثل هذا التحفظ، فعليك أن تختلط بأكثر عدد ممكن من الأشخاص، فأنا أريدك أن تقوم بعمل الحزب.»
وهنا، سوف أتوقف لذكر واقعة حدثت في النادي الهندي، قبل أن أستطرد في الحديث عن إقامتي مع السيد جوخلي.
كان اللورد كورزون يعقد حفله الرسمي في ذلك الوقت، وكان ضمن أعضاء النادي بعض الأمراء والحكام الذين دعوا لحضور ذلك الحفل، وكنت دائما ما أراهم في النادي مرتدين الدهوتي البنجالي والقمصان والأوشحة الجميلة. أما يوم انعقاد الحفل، فكانوا يرتدون سراويلات تشبه تلك الخاصة بالندل وأحذية طويلة الساق لامعة. لقد آلمني ذلك المشهد، وسألت أحدهم عن سبب تغييرهم لزيهم.
فأجابني قائلا: «لا أحد غيرنا يعلم وضعنا البائس، ونحن فقط نعلم حجم الإهانات التي علينا تحملها من أجل المحافظة على ثروتنا وألقابنا.»
فسألته: «لكن ما قصة هذه العمامات التي تشبه عمامات الندل وهذه الأحذية اللامعة؟»
فأجابني: «وهل ترى فرقا بيننا وبين الندل؟» ثم استطرد قائلا: «فالندل يخدموننا، ونحن نخدم اللورد كورزون، فإن تغيبت عن مراسم الاستقبال الرسمي، فسيكون علي أن أتحمل مغبات ذلك، وإذا ما حضرت مراسم الاستقبال بملابس غير رسمية، فستعتبر إهانة. وستكون حالما إذا ظننت أنني سأحظى بأية فرصة للتحدث مع اللورد كورزون؟»
تملكني شعور بالشفقة نحو ذلك الصديق الصريح.
وتذكرني هذه الواقعة بحفل رسمي آخر، عقد عند وضع اللورد هاردينج حجر أساس الجامعة الهندية، وقد حضره بالطبع الأمراء والحكام، ودعاني مالفيا بصورة خاصة لحضور ذلك الحفل، وقد لبيت دعوته.
شعرت بالأسى لرؤية الأمراء متزينين كالنساء، فقد كانوا يرتدون السراويلات والثياب الحريرية، والقلادات المرصعة باللآلئ والأساور، والعمامات المرصعة باللآلئ والماس، بالإضافة إلى أنهم كانوا يحملون سيوفا ذات مقابض ذهبية تتدلى من الحزام المربوط حول خصورهم.
اكتشفت أن تلك المظاهر ما هي إلا علامة على عبوديتهم لا انتمائهم للطبقة الملكية، كنت أعتقد أنهم يرتدون مثل تلك الزخارف بمحض إرادتهم، لكنني علمت أن ارتداء الحكام لجميع جواهرهم باهظة الثمن في تلك المناسبات كان إلزاميا. وعلمت أن بعض الحكام لا يحبذون ارتداء هذه الجواهر، وأنهم لذلك لا يرتدونها إلا في تلك الحفلات الرسمية.
لا أعلم مدى صحة معلوماتي هذه، لكن سواء كانوا يرتدون تلك الجواهر في غير تلك المناسبات أو لا، فيكفي أن أشعر بالأسى لاضطرارهم لحضور الحفلات الخاصة بالحاكم البريطاني مرتدين جواهر لا تناسب إلا النساء.
كم هي باهظة ضريبة الخطايا والأخطاء التي يرتكبها الإنسان من أجل الثروة والسلطة والمكانة!
الفصل السابع عشر
شهر مع جوخلي (1)
جعلني جوخلي أشعر كأنني في منزلي تماما منذ أول يوم أقمته معه. لقد عاملني كأخيه الأصغر، فعرف احتياجاتي كلها وحرص على توفير كل ما أحتاج إليه. ولحسن الحظ كانت طلباتي محدودة، وكنت قد اعتدت الاعتماد على نفسي، ولذلك لم أكن في حاجة كبيرة لمن يخدمني. لقد خلفت إعالتي لنفسي والاعتناء بنظافتي الخاصة ومثابرتي وحبي للنظام لديه انطباعا إيجابيا جدا، وكان عادة ما يغمرني بالثناء.
لم يكن جوخلي يخفي عني أي شيء من شئونه قط، فكان يقدمني لجميع الأشخاص البارزين الذين كانوا يزورونه ، ومن أولئك الطبيب راي (يحمل الآن لقب سير). وكان يقيم بجوارنا، وكان كثيرا ما يزورنا.
وقد عرفني جوخلي على الطبيب راي قائلا: «هذا هو الأستاذ راي، الذي يتقاضى راتب شهري يصل إلى 800 روبية، فيأخذ لنفسه منها 40 روبية فقط ويخصص ما تبقى منه للخدمات العامة، وهو غير متزوج ولا يرغب في الزواج.»
لا يختلف الطبيب راي كثيرا الآن عما كان عليه وقتها، فكانت ملابسه بسيطة كما هي عليه الآن، إلا أنها كانت وقتها مصنوعة من القماش الهندي المغزول من القطن المحلوج، أما الآن فهي مصنوعة من قماش الخادي منزلي الصنع، شعرت بأنني لن أتحمل سماع المزيد من أحاديث السيد جوخلي والطبيب راي، فقد كانت تتعلق جميعها بالمصلحة العامة أو تحمل قيمة تثقيفية. لكن في بعض الأحيان، كانت تلك الأحاديث مؤلمة، حيث إنها كانت تتضمن انتقادات قاسية لبعض الرجال القائمين على الخدمة العامة. فأصبحت لذلك أنظر إلى العديد ممن كنت أحسبهم مجتهدين في العمل على أنهم تافهون تماما.
كانت رؤيتي للسيد جوخلي وهو يعمل تدخل علي السعادة بقدر ما تكسبني الخبرة والمعرفة. ولم يكن يهدر ولو دقيقة واحدة من وقته، حتى علاقاته الشخصية وصداقاته كانت من أجل المصلحة العامة. كانت جميع أحاديثه تتعلق بمصلحة البلاد وحدها، وكانت خالية تماما من أي أثر للكذب أو النفاق. وكان دائما ما يشغله فقر الهند وخضوعها. كان كثير من الناس يسعون إلى استمالته للقيام ببعض الأعمال، لكنه كان يجيبهم جميعا بنفس الرد: «قم بذلك العمل بنفسك، ودعني أؤدي عملي، ما أريده حقا هو أن ينال وطني حريته، وبعد تحقيق ذلك الهدف، يمكننا التفكير في الأمور الأخرى. أما الآن فهذه الغاية تشغل كل وقتي وطاقتي.»
كان توقيره للسيد رانادي جليا في كل لحظة، وكانت كلمة السيد رانادي هي العليا في جميع الأمور، وكان يستشهد بكلامه في كل خطوة يخطوها. وقد صادف إحياء الذكرى السنوية (لا أذكر إن كانت لميلاده أو وفاته) مدة إقامتي مع جوخلي الذي كان ملتزما بإحيائها بانتظام. وكنت معه حينها وبصحبتنا أصدقاؤه الأستاذ كاثافاتي وقاض فرعي. دعانا جوخلي للمشاركة في المراسم، وذكر في كلمته ذكرياته مع السيد رانادي، وقد قارن بصورة عارضة بين رانادي وتيلانج وماندليك. فأخذ يمدح أسلوب تيلانج الخلاب وعظمة ماندليك كمصلح. وكمثال على عناية ماندليك الزائدة بموكليه، ذكر جوخلي أنه ذات مرة لم يلحق بالقطار، فاستأجر قطارا خاصا لكي يتمكن من المثول أمام المحكمة والدفاع عن موكله. ثم استطرد فذكر أن رانادي سما فوق أولئك كنابغة في جوانب شتى، فلم يكن قاضيا عظيما فحسب، بل مؤرخا عظيما ورجل اقتصاد ومصلحا أيضا. وكان رانادي يحضر جلسات الحزب دون خوف، مع كونه يشتغل بالقضاء، وكان الجميع يثقون تماما بحصافته حتى إنهم كانوا يقبلون قراراته دون أي اعتراض. كانت سعادة جوخلي لا توصف وهو يصف تلك الشيم التي كانت مجتمعة في أستاذه.
كان جوخلي يمتلك عربة تجرها الخيل في ذلك الوقت. وليس لدي أدنى فكرة عن الظروف التي جعلته في حاجة إليها، لذلك اعترضت قائلا: «ألا يمكنك الاعتماد على الترام في التنقل من مكان إلى آخر؟ هل يحط ذلك من وقار الزعيم؟»
فأجابني بقليل من الألم: «إذن، لم تفهمني أنت الآخر، أنا لا أستخدم المخصصات التي أحصل عليها من الحزب لمصلحتي الشخصية. أنا أغبطك لأنك تستطيع ركوب الترام بحرية، فأنا للأسف لا أستطيع ركوبها؛ فعندما تصبح ضحية للشهرة التي أعانيها، سوف يكون من الصعب عليك، إن لم يكن من المستحيل، ركوب الترام. ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن كل ما يقوم به الزعماء يقومون به من أجل رفاهيتهم. تعجبني عاداتك البسيطة، وأعيش ببساطة قدر المستطاع، لكن هناك بعض النفقات التي لا يستطيع شخص مثلي تجنبها.»
هكذا أقنعني جوخلي بالرد على واحدة من الأمور التي أخذتها عليه، لكن كان هناك مأخذ آخر لم يستطع أن يقنعني به.
قلت للسيد جوخلي: «لكنك لا تخرج حتى للمشي، فلا عجب إذن من توعكك الدائم. هل ينبغي أن يحرمك العمل العام من ممارسة التمرينات الرياضية؟»
فأجابني: «وهل ترى أن لدي وقت للخروج للمشي؟»
كنت أكن لجوخلي جليل الاحترام لذلك لم أكن أجادله كثيرا. ومع أن إجابته لم تكن شافية إلا أنني لزمت الصمت. فقد كنت ولا أزال أؤمن بأن على المرء أن يجد وقتا لممارسة التمرينات الرياضية، بغض النظر عن حجم العمل المنوط به، وذلك مثلما يجد الوقت لتناول الطعام. ففي رأيي المتواضع تزيد التمرينات الرياضية قدرة الإنسان على العمل وليس العكس.
الفصل الثامن عشر
شهر مع جوخلي (2)
كنت كثير النشاط في أثناء إقامتي في منزل السيد جوخلي.
كنت قد أخبرت أصدقائي المسيحيين بأنني عند عودتي إلى الهند سأقابل الهنود المسيحيين وأتعرف على أحوالهم. سمعت عن بابو كاليشاران بانيرجي، وكنت أكن له التقدير والاحترام، وقد أسهم إسهاما بارزا في حزب المؤتمر الهندي، فلم يتملكني تجاهه الشعور بالريبة الذي كنت أشعر به تجاه الهنود المسيحيين العاديين الذين نأوا بأنفسهم عن المشاركة في الحزب وعزلوا أنفسهم عن الهندوس والمسلمين، فأخبرت السيد جوخلي برغبتي في لقائه، فقال لي: «وماذا سيعود عليك من مقابلته؟ إنه بلا شك رجل ذو سمعة حسنة، لكنني أخشى أن كلامه لن يرضيك، فأنا أعرفه جيدا. على كل حال، يمكنك ملاقاته إذا كنت ترغب في ذلك.»
طلبت مقابلة السيد بانيرجي، فوافق في الحال، وذهبت للقائه في منزله البسيط، فوجدت زوجته تحتضر. كنت قد رأيت السيد بانيرجي في الحزب مرتديا معطفا وسراويل، لكن أسعدني أن أجده الآن يرتدي السراويل البنجالي والقميص، فراقتني ملابسه البسيطة مع ارتدائي في ذلك الوقت المعطف البارسي والسراويل. بدأت أعرض عليه المشاكل التي تواجهني دون لغط، فسألني: «هل تؤمن بعقيدة الخطية الأصلية؟» فأجبته بالإيجاب.
فقال لي: «حسنا، الهندوسية لا تمنح الغفران لتلك الخطية، في حين أن المسيحية تمنح ذلك الغفران، إن عاقبة الخطية هي الموت ، ويذكر الإنجيل أن الطريقة الوحيدة للخلاص هي الخضوع للمسيح.»
فذكرت له الجزء الذي يتناول طريق الإخلاص من الباجافاد جيتا، لكن دون جدوى. شكرته على حسن استضافته ورحلت. ومع أني استفدت من لقائه إلا أن الحديث معه لم يثلج صدري.
كنت أتجول في تلك الأيام في شوارع كلكتا، وذهبت إلى أغلب الأماكن سيرا. فقابلت القاضي ميتر والسير جوروداس بانيرجي الذي كنت أحتاج مساعدته في عملي في جنوب أفريقيا، وقابلت أيضا السير بياريموهان موكارجي.
حدثني السيد كاليشاران بانيرجي عن معبد الإلهة كالي الذي كنت أتطلع لرؤيته، خاصة وقد سمعت عنه وقرأت عنه في الكتب، فما كان مني إلا أن زرت المعبد في أحد الأيام. وكان منزل القاضي ميتر يقع في نفس محيط المعبد، فذهبت إلى المعبد في ذات اليوم الذي ذهبت فيه لزيارة القاضي ميتر، وفي طريقي رأيت جموعا من الخراف التي ستقدم قربانا إلى الإلهة كالي. وكان الممر المؤدي إلى المعبد يعج بالشحاذين، وكان هناك أيضا رجال الدين المتقشفون. وحتى في ذلك الوقت كنت أعارض بشدة منح الصدقات للشحاذين قويي البنية. فطاردتني مجموعة منهم، وكان أحد النساك يجلس في شرفة. فاستوقفني، وبادرني بالحديث، قائلا: «إلى أين أنت ذاهب يا بني؟» فأجبته.
فطلب مني ومن رفيقي أن نجلس، فجلسنا.
فسألته: «هل تعتبر تقديم هذه القرابين جزءا من الدين؟»
فأجابني: «من ذا الذي يمكن أن يعتبر قتل الحيوانات جزءا من الدين؟» - «إذن لماذا لا تعظهم بالتوقف عن فعل ذلك؟» - «هذا ليس من شأني، فواجبنا عبادة الإله.» - «ألا يمكنك عبادة الإله في مكان آخر؟» - «كل الأماكن - من وجهة نظرنا - تصلح للعبادة. لكن البشر كقطيع الخراف الذي يتبع راعيه حيثما ذهب. فمثل هذه الأمور ليست من شأننا نحن النساك.»
لم نستمر في النقاش طويلا، وتوجهنا إلى المعبد، فشاهدنا أنهارا من الدماء تستقبلنا على أعتاب المعبد، لم أستطع تحمل الوقوف أمام ذلك المنظر، وشعرت بالغضب والاستياء، ولم أستطع قط نسيان ذلك المشهد.
تلقيت دعوة من بعض الأصدقاء البنجاليين للانضمام إليهم لتناول العشاء في تلك الليلة، وهناك تحدثت مع أحد الأصدقاء بشأن ذلك الشكل القاسي من العبادة، فقال لي: «لا تشعر الخراف بأي ألم، فالضجة وأصوات قرع الطبول تمحو الشعور بالألم.»
لم أقتنع برأي صديقي، وأخبرته أنه لو أن للخراف لسانا لقالت غير ذلك. شعرت بأنه يجب أن أوقف هذه العادة الوحشية، وأخذت أفكر في قصة بوذا ، لكنني وجدت أن المهمة تفوق مقدرتي.
ولم يتغير رأيي الآن عما كان عليه وقتها، فحياة الحمل عندي لا تقل قيمة عن حياة البشر، فلن أرغب في سلب حياة حمل من أجل نمو جسد الإنسان، وأرى أنه كلما ضعف المخلوق، كان أحرى بالإنسان أن يحميه من قسوة البشر، لكن الشخص الذي لم يؤهل نفسه لتأدية مثل هذه الخدمة، لن يتمكن من توفير مثل هذه الحماية. يجب أن أخضع للمزيد من تطهير الذات والتضحية قبل أن آمل في تحرير تلك الحملان من تلك التضحية غير المقدسة. الآن أعتقد أنه يجب أن أموت وأنا أتوق لتحقيق تطهير الذات والتضحية تلك. وأنا أدعو باستمرار أن يولد بيننا صاحب روح عظيمة، رجلا كان أو امرأة، مفعم بالرحمة الإلهية ليخلصنا من هذه الخطيئة الشائنة، وينقذ أرواح تلك المخلوقات البريئة، ويطهر المعبد. فكيف يتسامح البنجاليون بكل ما أوتوا من معرفة وذكاء وتضحية وعاطفة مع هذه المجزرة؟
الفصل التاسع عشر
شهر مع جوخلي (3)
زادت تلك العادة الرهيبة المتمثلة في تقديم الخراف كقربان للإلهة كالي باسم الدين من رغبتي في التعرف على الحياة البنجالية، فقرأت الكثير وسمعت الكثير عن جمعية البراهمو
Brahmo Samaj . وقرأت عن حياة براتاب شاندرا مازومدار، وقد حضرت بعض الاجتماعات التي ألقى فيها خطبه. بالإضافة إلى ذلك، حصلت على قصة حياة كيشاف شاندرا سين وقرأتها باهتمام، وأدركت الفارق بين «جمعية سادهوران براهمو» و«جمعية آدي براهمو». قابلت بانديت شيفاناث شاستريجي، وذهبنا برفقة الأستاذ كاثافاتي لزيارة السيد ديبيندروناث طاغور، لكننا لم نتمكن من رؤيته لمنع زيارته في ذلك الوقت، ومع ذلك، دعينا إلى احتفال تقيمه «جمعية البراهمو» في منزله، ولقد حظينا هناك بفرصة الاستماع إلى موسيقى بنجالية عذبة، ومنذ ذلك الحين أصبحت من محبي الموسيقى البنجالية.
وبعد أن حصلت على معلومات كافية عن جمعية البراهمو، كان من المستحيل ألا أرى سوامي فيفيكاناند، فقطعت الطريق كله، أو معظمه، سيرا على الأقدام إلى دير بيلور ماث، وقد راقني المكان المعزول الذي يقع فيه، لكنني شعرت بخيبة الأمل والأسف عندما أخبرت بأنه يرقد مريضا في منزله في كلكتا، ولا يمكن لأحد أن يزوره.
تحققت حينها من عنوان منزل الأخت نيفيديتا، وقابلتها في شقة في شارع شورينجي، فهالتني الفخامة التي تحيط بها، ولم يكن هناك نقاط مشتركة بيننا حتى في أثناء حديثنا. وتحدثت إلى السيد جوخلي حول ذلك الأمر، فقال لي: إنه لم يفاجأ من عدم وجود نقاط التقاء بيني وبين شخص متقلب
1
مثلها.
وقد قابلتها مرة أخرى في منزل السيد بيستونجي بادشاه، وصادف قدومي الوقت الذي كانت تتحدث فيه إلى والدة السيد بيستونجي العجوز، فأخذت أترجم بين السيدتين. ومع عدم وجود أي اتفاق بيني وبينها، إلا أنني لم أملك إلا أن ألاحظ حبها الغامر للهندوسية وأعجب به، ولم أعلم شيئا عن كتبها إلا فيما بعد.
اعتدت أن أقسم يومي بين رؤية الزعماء في كلكتا لمناقشة أمور العمل في جنوب أفريقيا وزيارة المؤسسات الدينية والعامة في المدينة ودراستها. ذات مرة، ألقيت كلمة حول عمل فرقة الإسعاف الهندية في أثناء حرب البوير في اجتماع ترأسه الطبيب موليك، وقد ساعدتني معرفتي الجيدة بطبيعة الإنجليز كثيرا في هذه المناسبة أيضا. كان السيد ساوندرس مريضا في ذلك الوقت، لكنه مع مرضه قدم لي كل المساعدة الممكنة كما فعل في عام 1896م. أعجبت كلمتي السيد جوخلي، وكان سعيدا لأن الطبيب راي أثنى عليها.
وهكذا جعلت إقامتي في منزل السيد جوخلي مهمتي في كلكتا سهلة للغاية، وجعلتني أتعرف على العائلات البنجالية الرئيسية، وغرست بذرة علاقتي الوطيدة مع البنجاليين.
يجب أن أتغاضى عن ذكر الكثير من الذكريات التي حملها ذلك الشهر الذي لا ينسى. دعوني أذكر الزيارة الوجيزة التي قمت بها إلى بورما، وحال الكهان بها، فقد آلمني كثيرا أن أرى لامبالاة الكهان. رأيت المعبد الذهبي متعدد الأدوار، لكنني لم أكن راضيا عن الشموع الصغيرة العديدة الموقدة في المعبد، وقد ذكرتني الجرذان التي تركض في الحرم المقدس بتجربة المعلم الديني داياناد في مورفي
Morvi . وقد أسعدني طلاقة نساء بورما ونشاطهن، بنفس الدرجة التي آلمني بها تكاسل الرجال. ولاحظت في إقامتي المؤقتة هناك أنه مثلما كانت بومباي مختلفة عن باقي الهند، كانت رانجون
Rangoon
مختلفة عن باقي بورما. ولاحظت أنه بنفس الطريقة التي أصبحنا بها في الهند وكلاء بالعمولة للتجار الإنجليز، انضممنا إلى التجار الإنجليز في بورما وجعلنا من سكان بورما وكلاءنا بالعمولة.
استأذنت السيد جوخلي للانصراف عند عودتنا من بورما. وشعرت بالأسى الشديد وأنا أفارقه، لكن عملي في البنجال، أو بالأحرى كلكتا، كان قد انتهى ولم يكن هناك داع للمكوث لمدة أطول.
فكرت في أن أقوم بجولة داخل الهند بالسفر في الدرجة الثالثة قبل أن أستقر، وأن أتعرف على الصعاب التي يعانيها ركاب الدرجة الثالثة، فتحدثت إلى جوخلي بذلك الشأن، فسخر من الفكرة في بادئ الأمر، لكن ما لبث أن استحسن الفكرة بعد أن شرحت له ما أتطلع لرؤيته. فكرت في زيارة مدينة بنارس
Benares
لزيارة السيدة بيسانت التي كانت طريحة الفراش.
كان من الضروري أن أعد نفسي مرة أخرى لجولة عبر البلاد في الدرجة الثالثة. حتى إن السيد جوخلي نفسه قدم لي صندوق طعام معدنيا وملأه بكرات الحلوى وقطع الخبز المخبوز دون خميرة. واشتريت حقيبة مصنوعة من قماش القنب باثنتي عشرة آنة، ومعطفا مصنوعا من صوف مدينة شهايا
Chhaya . كانت الحقيبة تتسع لحمل المعطف والسراويل الهندي ومنشفة وقميص. ذلك بالإضافة إلى غطاء لكي أتغطى به وإناء للمياه. انطلقت في جولتي بعد أن أصبحت جاهزا. جاء السيد جوخلي والطبيب راي لتوديعي بالمحطة مع أنني طلبت منهما ألا يزعجا أنفسهما بالقدوم. لكنهما أصرا على توديعي، وقال السيد جوخلي: «لم أكن لآتي إذا كنت ستسافر في الدرجة الأولى، لكن لأنك ستسافر في الدرجة الثالثة كان يجب أن أحضر.»
لم يستطع أحد أن يمنع السيد جوخلي من الصعود إلى الرصيف، فقد كان يرتدي عمامة حريرية وسترة والسراويل الهندي التقليدي. أما الطبيب راي فقد استوقفه محصل التذاكر لأنه كان يرتدي الزي البنجالي. لكن المحصل تركه يمر بعد أن أخبره السيد جوخلي بأنه صديق له. هكذا بدأت جولتي مع أجمل أمانيهما بالتوفيق.
هوامش
الفصل العشرون
في بنارس
كان من المقرر أن تكون الجولة من كلكتا إلى راجكوت، مرورا ببنارس وأجرا
Agra
وجيبور
Jaipur
وبالانبور
. لم يتسن لي الوقت الكافي لزيارة غير هذه الأماكن. كنت أقيم يوما في كل مدينة وأقيم بالمعابد أو مع العلماء الهندوس مثل الحجاج العاديين، لكن الحال في بالانبور كان مختلفا. أذكر أنني لم أنفق في تلك الرحلة ما يزيد على 31 روبية (متضمنة أجرة تذاكر القطار).
كنت أفضل القطارات العادية عند السفر في الدرجة الثالثة عن قطارات البريد، وذلك لعلمي بأن قطارات البريد كانت أكثر ازدحاما وأعلى تكلفة.
كانت عربات الدرجة الثالثة بنفس القذارة التي هي عليها الآن تقريبا، وكذلك كانت المراحيض. لعل هناك بعض التحسن الآن، لكن الفارق بين الخدمات المقدمة للدرجة الأولى والدرجة الثالثة لا يتماشى مطلقا مع الفارق بين تكلفة تذاكر كل من الدرجتين. فقد كان ركاب الدرجة الثالثة يعاملون كالخراف، وكانت وسائل الراحة المعدة لهم تشبه تلك التي تعد للخراف. سبق أن سافرت في الدرجة الثالثة في أوروبا، ما عدا مرة واحدة ركبت فيها الدرجة الأولى بدافع الفضول، لكنني لم أجد مثل ذلك الاختلاف بين الدرجتين الأولى والثالثة. أما في جنوب أفريقيا، فكان ركاب الدرجة الثالثة من الزنوج، ومع ذلك فوسائل الراحة المتوفرة لديهم كانت أفضل منها هنا. وفي بعض الأجزاء من جنوب أفريقيا، تزود عربات الدرجة الثالثة بفراش للنوم وكراس مزودة بمتكأ، وكانت التجهيزات منظمة لتجنب الازدحام، أما هنا في الهند، فوجدت أن عدد الركاب يتجاوز عادة الحد المسموح به.
عدم اكتراث سلطات السكك الحديدية بوسائل الراحة الخاصة بركاب الدرجة الثالثة، بالإضافة إلى العادات السيئة والقذرة للركاب أنفسهم جعلت من السفر في الدرجة الثالثة محنة لأي راكب يتسم بالنظافة. وتتضمن هذه العادات بوجه عام إلقاء القاذورات على أرضية القطار، والتدخين في جميع الأوقات وفي أي مكان، ومضغ التنبول والتبغ، وملء العربة بأكملها بالبصاق، والصياح والصراخ، واستعمال لغة بذيئة دون مراعاة لراحة الركاب الآخرين. لم أجد اختلافا كبيرا بين تجربتي في السفر في الدرجة الثالثة في عام 1902م وجولاتي المتصلة في المدة ما بين 1915م إلى 1919م.
لا يسعني التفكير إلا في علاج واحد لهذه الحالة المذرية، ألا وهو أن يسافر المتعلمون في الدرجة الثالثة ويغيروا من عادات الناس بالإضافة إلى إرسال الشكاوى إلى سلطات السكك الحديدية إذا لزم الأمر حتى لا تتجاهل تلك السلطات الحالة المتدنية التي عليها تلك العربات، وعدم تقديم الرشاوى أو استخدام أي وسيلة غير مشروعة لتأمين راحتهم الخاصة، وعدم التسامح مع أي انتهاكات للقوانين يقوم بها أي من المسئولين. إن هذا بالتأكيد من شأنه تحسين الأوضاع تحسينا ملموسا.
اضطرني مرضي الخطير الذي أصابني في الفترة ما بين 1918-1919م إلى التوقف عن السفر في الدرجة الثالثة بدرجة كبيرة، وكان ذلك مصدر ألم وخزي متواصلين، ولا سيما وقد أصبت بذلك المرض في الفترة التي بدأت فيها المناداة برفع معاناة ركاب الدرجة الثالثة تقترب من تحقيق مرامها. إن المعاناة التي يتعرض لها ركاب خطوط السكك الحديدية والبواخر المتواضعة، والمصحوبة بعادات الركاب السيئة والتسهيلات المفرطة التي تمنحها الحكومة إلى التجارة الخارجية، بالإضافة إلى غيرها من الأمور المماثلة تشكل مجموعة من الموضوعات المهمة التي تستحق أن يتناولها شخص أو اثنان ممن يتسمون بالإقدام والمثابرة ويمكنهما أن يكرسا وقتهما بأكمله لحلها.
سأتوقف عند هذا الحد عن ذكر تجربتي مع ركاب الدرجة الثالثة، وسأبدأ في تناول تجربتي في بنارس. وصلت إلى بنارس في الصباح، وكنت قد قررت أن أنزل عند أحد الكهان، فأحاط بي عدد كبير من البراهمة فور نزولي من القطار، فاخترت أكثرهم نظافة وأفضلهم نسبيا، وقد اتضح لي بعد ذلك أنني أحسنت الاختيار. كان فناء منزله به بقرة، وكان هناك طابق علوي أقمت به. لم أرغب في تناول أي طعام قبل أن أغتسل في نهر الجانج بالطريقة التقليدية، فأعد الكاهن الترتيبات اللازمة للاغتسال. وكنت قد أخبرته مسبقا بأنني لن أهبه أكثر من روبية وأربع آنات، حتى يضع ذلك في حسبانه وهو يعد تلك الترتيبات.
وافق الكاهن على ذلك بسرور، وقال: «سواء كان الحاج غنيا أو فقيرا، تبقى الخدمة بنفس الجودة، أما مبلغ الهبة التي يقدمها الحاج فيتوقف على رغبته ومقدرته.» وبالفعل لم يختصر الكاهن المراسم المعتادة. انتهينا من العبادة في الثانية عشرة، فتوجهت إلى معبد كاشي فيشفاناث
Kashi Vishvanath
لأخذ البركة. لكنني شعرت بأسى شديد لما شاهدته هناك. كنت قد حضرت محاضرة تتناول «الحج إلى معبد كاشي»، عندما كنت أعمل محاميا في بومباي في عام 1891م، في قاعة «جمعية برارثانا».
1
لهذا كنت أتوقع أن أصاب بخيبة أمل، ومع ذلك كان الواقع أسوأ مما توقعت.
كان المرور من خلال ممر ضيق وزلق، وكانت الضوضاء تعم المكان، وكانت أسراب الذباب والضوضاء التي تصدر عن البائعين والحجاج لا تطاق.
فلم يكن هناك أثر لمناخ التأمل والمشاركة الذي كنت أتوقع أن أجده في ذلك المكان، وكان على المرء أن يخلق مثل ذلك المناخ في ذاته. شاهدت أخوات خاشعات مستغرقات في التأمل، وغير واعيات تماما لما يحيط بهن. لكن الفضل في ذلك لا يرجع بأي حال من الأحوال إلى المسئولين عن المعبد. من المفترض أن تخلق السلطات المسئولة عن المعبد للحجاج مناخا نقيا وصافيا على المستويين المادي والمعنوي، وبدلا من ذلك، وجدت سوقا حيث يبيع التجار المخادعون الحلوى والألعاب الحديثة.
حياني بعض المسئولين عن المعبد عند دخولي بمجموعة من الزهور كريهة الرائحة، وكانت الأرضية ممهدة بالرخام الأنيق، لكن أحد العباد ممن لا يتمتعون بحس جمالي خدش ذلك الرخام مستخدما مجموعة من الروبيات جاعلا إياها مرتعا للقاذورات.
ذهبت قريبا من «بئر الحكمة» الموجود في المعبد، وبحثت عن الإله لكنني فشلت في إيجاده، لذلك لم أكن وقتها تحديدا في مزاج جيد. وكانت المنطقة المحيطة بالبئر قذرة هي الأخرى. لم أكن في مزاج يسمح بأن أقدم أي هبة إلى الكاهن، فقدمت له قطعة من الباية. استشاط الكاهن غضبا وألقى قطعة النقود بعيدا، وأخذ يسبني، قائلا: «سوف تذهب إلى الجحيم جراء إهانتك هذه.»
لم يزعجني ما قاله الكاهن، فقلت له: «أيا كان المصير الذي ينتظرني، لا يبرر ذلك أن يقوم شخص في مكانتك بالتحدث بهذا الأسلوب، يمكنك أن تأخذ قطعة الباية إذا أردت، أو يمكنك أن تخسرها هي الأخرى.»
رد علي قائلا: «اغرب عن وجهي، فأنا لا أريد نقودك.» ثم انهال علي بوابل آخر من السباب.
فالتقطت قطعة الباية وانصرفت في طريقي، وأخذت أطري على نفسي لأن أحد البراهمة قد خسر باية، وأنا وفرتها، لكن كان من الصعب أن يترك الكاهن الباية؛ فدعاني وقال: «حسنا، اترك الباية هنا، سأكون رحيما معك ولن أعاملك بمثل ما عاملتني به، فليس من مصلحتك أن أرفض نقودك.»
أعطيت الكاهن الباية دون أن أتفوه بكلمة، ورحلت عنه وأنا أتنهد. وقد ذهبت إلى معبد كاشي فيشفاناث مرتين منذ ذلك الحين، لكن حينها كنت قد لقبت باسم «مهاتما» (الروح العظيمة) بالفعل، وكان من المستحيل أن أتعرض لمثل تلك التجارب التي سبق أن ذكرتها. كان الأشخاص الذين يتوقون لرؤيتي لا يسمحون لي برؤية المعبد وأخذ البركة؛ إن ويلات من يحملون لقب المهاتما معروفة لمن يحملون ذلك اللقب وحدهم. أما القذارة والضوضاء فلم تتغير عن ذي قبل.
إذا كان هناك من يساوره الشك في رحمة الإله الواسعة، فليذهب لرؤية هذه الأماكن المقدسة. كم من النفاق والكفر يرتكب باسمك المقدس أيها الإله شيفا! فقد أعلن منذ أمد بعيد: «لا يجني المرء إلا ما غرست يداه.» إن قانون الكارما
2
لا يرحم ولا يمكن التهرب منه، لذلك ليس هناك حاجة لتدخل الإله. فقد وضع الإله القانون، ثم تنحى.
قمت بزيارة السيدة بيسانت عقب زيارة المعبد هذه، وكنت قد علمت أنها كانت تعاني مرضا شفيت منه قريبا. فطلبت إبلاغها بحضوري، فوافتني على الفور. ونظرا لأنني أردت الاطمئنان عليها فقط، قلت لها: «أعلم أنك لست في كامل صحتك، لكنني أردت أن أزورك وأطمئن عليك. أشكرك على تكرمك باستقبالي مع تدهور صحتك. لن أهدر المزيد من وقتك.» ثم ودعتها.
هوامش
الفصل الحادي والعشرون
هل أستقر في بومباي؟
كان جوخلي يتوق إلى استقراري في بومباي والعمل في المحكمة ومساعدته في العمل العام، وكان العمل العام في تلك الأيام يقصد به تأدية عمل حزب المؤتمر. وقد كان العمل الرئيسي للمؤسسة التي ساعد في إنشائها هو استمرار إدارة حزب المؤتمر.
راقتني نصيحة جوخلي، لكنني لم أكن واثقا بنجاحي كمحام، فقد كانت ذكريات الفشل السابقة لا تزال تطاردني، وكنت لا أزال أبغض اللجوء إلى التملق من أجل الحصول على قضايا.
وهكذا قررت أن أبدأ العمل في راجكوت أولا. كان السيد كيفالرام مافجي دافي، الذي طالما تمنى لي الخير، والذي سبق أن حثني على الذهاب إلى إنجلترا، يقيم في راجكوت، وسرعان ما وكلني في ثلاث قضايا: كان اثنتان منها التماسان ينظران أمام المساعد القضائي للمعتمد البريطاني بكثياوار، أما القضية الثالثة فكانت دعوى أصلية في مدينة جامناجار
Jamnagar . وقد كانت هذه القضية الأخيرة أكثرهم أهمية. وعندما أخبرت السيد مافجي دافي بأنني لا أثق بمقدرتي على الفوز بالقضية، هتف قائلا: «لا تلق بالا للفوز بالقضية أو خسارتها، أريدك فقط أن تبذل قصارى جهدك، وبالطبع سوف أساعدك.»
كان محامي الخصم هو الراحل السيد سامارث. استعددت للقضية جيدا، وذلك ليس بفضل معرفتي الجيدة بالقانون الهندي، ولكن بفضل توجيهات السيد مافجي الشاملة. كنت قد سمعت أحد الأصدقاء، قبل أن أذهب إلى جنوب أفريقيا، يقول: إن سبب نجاح السيد فيروزشاه ميهتا يرجع إلى تمكنه من قانون الإثبات، وضعت ذلك الكلام نصب عيني، وفي رحلتي البحرية أخذت في دراسة قانون الإثبات الهندي مع تعقيبات عليه بعناية، وذلك بالإضافة إلى خبرتي القانونية التي اكتسبتها في جنوب أفريقيا.
ربحت القضية واكتسبت بعض الثقة بقدراتي كمحام. ولم يراودني أي خوف فيما يتعلق بالالتماسين اللذين نجحت فيهما بالفعل، فبعث كل ذلك في نفسي الأمل في أنه من الممكن أن أنجح حتى في بومباي.
وقبل أن أبين الظروف التي دفعتني إلى الرحيل إلى بومباي، سأقص تجربتي مع رعونة المسئولين الإنجليز وجهلهم. كانت محكمة المساعد القضائي متنقلة، وكان المساعد القضائي دائم التنقل، وكان على المحامين وموكليهم ملاحقته حيثما نقل مخيمه، وكان المحامون يطلبون المزيد من الأتعاب عندما كانوا يضطرون للخروج عن المركز الرئيسي، ومن ثم كان الموكلون يتكبدون مصروفات مضاعفة، ولم يكن القاضي يكترث بالعبء الملقى على عاتق الموكلين.
كان ذلك الالتماس سينظر في مدينة فيرافال
Veraval
حيث تفشى الطاعون. أذكر أن معدلات الإصابة بلغت قرابة الخمسين حالة يوميا في مكان يبلغ عدد السكان فيه 5500 نسمة. وكانت المدينة شبه مهجورة، فأقمت في معبد مهجور يبعد قليلا عن المدينة، لكن أين يمكن أن يقيم الموكل؟ فإذا كان الموكلون فقراء، فعليهم أن يعتمدوا على رحمة الإله.
بعث لي أحد الأصدقاء الذي كان لديه قضايا تنظرها المحكمة ببرقية يخبرني فيها بأنه يجب أن أقدم طلبا إلى المخيم كي أنقل إلى مكان آخر نظرا لتفشي وباء الطاعون في فيرافال، وعند تقديمي للطلب، سألني المسئول: «هل تشعر بالخوف؟»
فأجبته: «الأمر لا يتعلق بكوني خائفا، فأنا يمكنني التصرف كما شئت، لكن ما بال الموكلين؟»
قال لي: «لقد تفشى الطاعون في الهند، فلماذا تخشاه؟ إن المناخ في فيرافال لطيف للغاية. (وقد كان المسئول يعيش بعيدا عن المدينة في خيمة فخمة على شاطئ البحر) بالطبع يجب أن يتعلم الناس أن يعيشوا في الهواء الطلق.»
لم يكن هناك طائل في الجدال في هذه الفلسفة. فقال لمسئول الحسابات: «حرر مذكرة بما يقوله السيد غاندي، وأعلمني إذا ما كان ذلك يضر بالمحامين أو الموكلين.»
لقد قام المسئول بما ظن أنه الصواب، لكن كيف كان للرجل أن يتخيل المآسي التي يعانيها الهنود الفقراء؟ وكيف كان يمكن أن يفهم حاجات الشعب وعاداتهم وطباعهم وأعرافهم؟ كيف يمكن لشخص اعتاد أن يقيس الأمور بالعملة الذهبية أن يبدأ فجأة في حساب قطع النقود النحاسية الصغيرة؟ فلا يستطيع الفيل أن يفكر بشأن النملة، بغض النظر عن توافر حسن النية، وكذلك الإنجليز لا يستطيعون التفكير بشأن الهنود أو أن يسنوا لهم التشريعات.
والآن أعود إلى سرد القصة. فمع النجاح الذي حققته، كنت أفكر في المكوث في راجكوت لمدة أطول، لكن جاءني السيد دايف ذات يوم وقال: «غاندي، لن أتركك تعيش حياة خاملة هاهنا. يجب أن تنتقل إلى بومباي.»
فسألته: «ولكن من سيوفر لي العمل هناك؟ هل ستزودني أنت بالنفقات؟»
فأجابني: «نعم، سأفعل. سوف آتي بك إلى هنا من وقت إلى آخر بصفتك محاميا كبيرا من بومباي، وسنرسل لك المذكرات لتصيغها. فالأمر يرجع لنا نحن الوكلاء في إذاعة صيت المحامي أو تشويه سمعته. وقد أثبت كفاءتك في جامناجار وفيرفال، لذلك لا أشك مطلقا في قدراتك. لقد خلقت للعمل بالخدمة العامة، ولن نتركك تدفن نفسك في كاثياوار. والآن أخبرني متى ستذهب إلى بومباي؟»
فأجبته: «أنا في انتظار وصول حوالة نقدية من ناتال. وسأسافر بمجرد أن أتسلمها.»
وصلت الحوالة بعد مرور أسبوعين، وذهبت إلى بومباي. اتخذت مكتبا بين مكاتب المحامين ذائعي الصيت باين وجيلبرت وساياني، وبدا كما لو أنني قد استقررت.
الفصل الثاني والعشرون
اختبار الإيمان
مع أنني استأجرت مكتبا في حي فورت ومنزلا في منطقة جيرجوم، لم يشأ الإله أن أستقر، فما إن انتقلت إلى منزلي الجديد، حتى أصيب مانيلال - ثاني أبنائي، الذي كان قد أصيب بمرض الجدري منذ بضع سنوات - بالتيفود بالإضافة إلى إصابته بالتهاب رئوي وأعراض هذيان في الليل.
استدعيت الطبيب الذي أخبرني بأن الأدوية لن تكون فعالة في حالة مانيلال، لكن البيض ومرق الدجاج سيساعدانه كثيرا.
كان مانيلال في العاشرة من عمره فقط، وكان من المستحيل أن نستشيره في الأمر. وكان علي أن أقرر نيابة عنه بصفتي والده وولي أمره. كان الطبيب بارسيا صالحا، فأخبرته بأننا جميعا نباتيون ولا يمكننا أن نترك ابننا يتناول البيض أو مرق الدجاج. فسألته إذا كان هناك طعام آخر ينصح به.
أجابني الطبيب الصالح: «إن حياة ابنك في خطر. على كل حال، يمكن أن تعطيه الحليب المخفف بالماء، لكن ذلك لن يمده بالغذاء الكافي. وكما تعرف، العديد من الأسر الهندوسية تستدعيني، ولم أجد منهم من يعترض على أي علاج أصفه. أعتقد أنه عليك ألا تكون قاسيا على ابنك إلى هذه الدرجة.»
فقلت للطبيب: «أظنك على حق. فمهنتك كطبيب تحتم عليك أن تنصحني بهذا، لكن على عاتقي مسئولية هائلة. فلو أن ابني راشد لكنت استمعت إلى قراره واحترمته، لكن علي الآن أن أقرر نيابة عنه، وأرى أن إيمان المرء يخضع للاختبار بصدق في مثل هذه المحن، وسواء كان رأيي صحيحا أو خاطئا، تقضي عقيدتي بأنه لا يجوز للمرء أن يتناول اللحوم أو البيض أو ما شابهها، فينبغي أن نضع حدا للوسائل التي نحافظ بها على بقائنا أحياء. وهناك أشياء بعينها لا يمكن أن نقدم عليها حتى لو من أجل الحياة ذاتها. فديانتي، كما يتراءى لي، تحرم تناول اللحوم والبيض حتى في مثل هذه الظروف، لذلك يجب أن أتحمل المخاطرة المحتملة. لكنني أرجو أن تقدم لي خدمة واحدة. فنظرا لعدم تمكني من استعمال العلاج الذي وصفته لابني، سوف أحاول استخدام بعض وسائل المعالجة المائية التي أعرفها، لكنني لا أعرف كيفية قياس النبض ولا فحص الصدر والرئة وما إلى ذلك، وسأكون ممتنا إذا مررت من حين إلى آخر كي تفحصه وتطلعني على حالته.»
قدر الطبيب معاناتي فوافق على طلبي. ومع أن مانيلال لم يستطع أن يدلي برأيه، فقد أخبرته بالحديث الذي دار بيني وبين الطبيب وسألته عن رأيه. فقال لي: «جرب المعالجة المائية يا أبي، فأنا لن أتناول البيض أو مرق الدجاج.»
سررت لسماع ذلك، مع يقيني بأنني لو كنت قد أعطيته البيض أو مرق الدجاج لم يكن ليرفض.
كنت على دراية بطريقة كون
Kuhne
1
للمعالجة المائية، فجربتها أيضا. ورأيت أن الصوم يمكن أن يساعده هو الآخر. فبدأت أعالج مانيلال بالاستحمام النصفي وفقا لطريقة «كون»، ولم أكن أتركه في المياه أكثر من ثلاث دقائق قط. وكنت أعطيه عصير البرتقال الممزوج بالماء لمدة ثلاثة أيام.
لكن حرارة مانيلال أخذت في الارتفاع حتى وصلت إلى 104 درجة فهرنهايت،
2
وفي المساء كان يصاب بالهذيان. بدأ القلق يتسلل إلى قلبي. ماذا سيقول الناس عني؟ وماذا سيكون ظن أخي الكبير بي؟ ألا يمكن أن نستدعي طبيبا آخر؟ لماذا لا نستدعي طبيبا متخصصا في علم الطب الهندي (آيورفيدا)؟ وما الحق الذي يملكه الآباء لكي يفرضوا رغباتهم على أبنائهم؟
كانت هذه الأفكار تطاردني أينما ذهبت، لكن بعد ذلك بدأت الأمور تتخذ مسارا مختلفا. لا بد أن الإله كان مسرورا لأنه وجدني أعالج ابني بنفس الطريقة التي كنت سأعالج بها نفسي . كنت أؤمن بالمعالجة المائية، ولا أعتقد كثيرا في المعالجة الإخلافية. لم يكن الأطباء واثقين بإمكانية شفاء ابني، وكان جل ما يستطيعونه هو أن يجربوا الأدوية أملا في أن تشفيه. كانت حياة ابني بين يد الإله. فلماذا لا أدع الأمر في يد الإله وأستمر من أجله في اتباع المعالجة التي أرى صوابها؟
كان عقلي مشتتا بين هذه الأفكار المتضاربة. خيم الظلام، وكنت جالسا على الفراش بجوار مانيلال، فقررت أن أحضر ملاءة مبللة وأضعها على جسده. قمت من مضجعي وبللت الملاءة، ثم عصرتها، وغطيته بها تاركا رأسه فقط خارج الغطاء. ثم غطيته بغطاءين، ووضعت على رأسه منشفة مبللة. كان جسده يحترق كالنار، وكان شديد الجفاف، فلم يكن على جسده نقطة عرق واحدة.
كنت منهكا تماما، فتركته في رعاية والدته وخرجت للسير على شاطئ شاوباتي لأستعيد نشاطي. كانت الساعة قرابة العاشرة، والشوارع خالية إلا من عدد قليل من المارة. ونادرا ما كنت أنظر لأي من المارة نتيجة استغراقي في تفكير عميق، وأخذت أقول في نفسي: «يا إلهي إني أسلم أمري إليك لتخرجني من هذا الابتلاء.» وشفتاي ما تنفك تذكر «الراماناما». عدت بعد فترة وجيزة إلى البيت، وكان قلبي يخفق.
ما إن وطئت قدماي الغرفة حتى سألني مانيلال: «هل عدت يا أبي؟»
فأجبته: «أجل يا بني.»
قال لي: «من فضلك يا أبي أخرجني من تحت الغطاء، فأنا أحترق.»
سألته: «هل يفرز جسدك عرقا يا بني؟»
فأجابني: «إنني غارق في عرقي. أرجوك أخرجني.»
تحسست جبهته، فوجدت قطرات العرق تكسوها، وأخذت حرارة مانيلال في الانخفاض، فتوجهت إلى الإله بالشكر.
فقلت له: «اصمد قليلا يا بني، إن المرض بدأ في الانقشاع الآن. كل ما تحتاجه هو إفراز القليل من العرق وستكون بخير، ووقتها سأخرجك.»
لكنه أجابني: «لا، أرجوك. أنقذني من هذا الجحيم. ويمكنك أن تغطيني في وقت آخر إذا أردت.»
ألهيت مانيلال حتى أتمكن من إبقائه تحت الغطاء لبضع دقائق أخرى. أخذت قطرات العرق تسيل على جبهته، فنزعت عنه الغطاء وبدأت في تجفيف جسده، وخلد الأب والابن إلى النوم في فراش واحد.
نام كل منا في هذه الليلة كالجثة الهامدة، وفي الصباح انخفضت حرارة مانيلال بصورة كبيرة. وواظب مانيلال على تناول الحليب المخفف وعصير البرتقال لمدة أربعين يوما. وساعتها فقط ذهب عني الخوف. كانت الحمى التي عاناها مانيلال مستعصية، لكننا استطعنا أن نتغلب عليها ونتجاوز الأزمة.
الآن يتمتع مانيلال بصحة جيدة تميزه عن أخوته. لا أحد يستطيع أن يجزم إذا كان شفاء مانيلال كان نتيجة لرحمة الإله أو المعالجة المائية أو النظام الغذائي والتمريض الجيد. ولندع كل شخص يقرر ذلك وفقا لاعتقاده الخاص. أما أنا، فأنا متأكد من أن الإله هو الذي أنقذني، ولم يتغير اعتقادي هذا حتى هذه اللحظة.
هوامش
الفصل الثالث والعشرون
العودة إلى جنوب أفريقيا
تماثل مانيلال للشفاء، لكنني وجدت أن منزلي الذي يقع في جيرجوم غير صالح للسكن. كان المنزل رطبا وضعيف الإضاءة، لذلك قررت - بعد التشاور مع السيد شري ريفاشانكار جاجيفان - أن أستأجر بيتا من طابق واحد يتسم بتهوية جيدة في إحدى ضواحي بومباي. فبدأت أتجول في باندرا وسانتا كروز، لكنني لم أختر باندرا بسبب وجود مذبح بها. وكانت غاتكوبار والأماكن القريبة منها بعيدة جدا عن البحر. أخيرا، وجدنا منزلا جيدا في سانتا كروز، فاستأجرناه لأنه كان أنظف المنازل.
حجزت بطاقة اشتراك بالدرجة الأولى من سانتا كروز إلى تشرش جيت، وأتذكر شعوري في كثير من الأحيان ببعض الكبرياء لأنني الراكب الوحيد الذي يحمل تذكرة درجة أولى في العربة. كنت عادة ما أسير إلى باندرا كي أستقل القطار السريع من هناك مباشرة إلى تشرش جيت.
نجحت في عملي بصورة أفضل حتى مما كنت أتوقع. وكان موكلي في جنوب أفريقيا كثيرا ما يوكلونني في بعض قضاياهم، وكنت أتكسب منها ما يكفي لسداد نفقاتي.
لم أكن قد نجحت بعد في الحصول على عمل في المحكمة العليا، لكنني كنت أحضر «المحاكم الصورية» التي كانت تعقد حينذاك، وذلك مع عدم جرأتي على المشاركة فيها. وأذكر أن السيد جامياترام ناناباي كان يشارك على نحو بارز في تلك المحاكم . حرصت على حضور القضايا التي تنظر أمام المحكمة العليا، كغيري من المحامين حديثي العهد بالمهنة، لكن لأستمتع بنسيم البحر أكثر من تنمية معرفتي. وقد لاحظت أنني لم أكن الوحيد الذي يستمتع بهذه اللذة، فقد وجدت أن ذلك الأمر شائع ولا يدعو للخزي.
مع ذلك، بدأت أرتاد مكتبة المحكمة العليا، وأنشئ علاقات جديدة، وشعرت أنه يمكنني الحصول على عمل في المحكمة العليا في وقت قصير.
وبينما بدأت أطمئن بشأن عملي، كان جوخلي من الناحية الأخرى يضع خططا نيابة عني. فكان يأتي إلى مكتبي مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، وكان غالبا ما يكون بصحبته أصدقاء يريد أن يعرفني بهم. وكان دائما يطلعني على أسلوب سير عمله.
لكن يمكن القول بأن الإله لم يشأ لأي من خططي أن تنجح، بل كان يصرفها كما يشاء.
وما إن بدأت أشعر بالاستقرار كما عزمت، حتى تلقيت برقية غير متوقعة من جنوب أفريقيا، نصها: «سيزور تشمبرلن جنوب أفريقيا. برجاء العودة فورا.» تذكرت العهد الذي قطعته لأصدقائي في جنوب أفريقيا، فأرسلت لهم أخبرهم بأنني على استعداد أن أبدأ العمل فور أن يمدونني بالأموال. تلقيت ردهم سريعا، فتركت مكتب المحاماة وانطلقت إلى جنوب أفريقيا.
كنت أعلم أن العمل في جنوب أفريقيا سيستغرق عاما على الأقل، لذلك احتفظت بالمنزل وتركت زوجتي وأطفالي به.
وكنت أؤمن وقتها بأن على الشباب المقدام الذي لا يجد فرصة مناسبة في الهند أن يسافر إلى بلاد أخرى، لذلك اصطحبت أربعة أو خمسة من مثل أولئك الشباب، وكان من بينهم ماجنلال غاندي.
إن عائلة غاندي كانت وما زالت عائلة عريقة. كنت أريد إيجاد كل من يرغب في المغامرة بالخارج والتخلي عن الطرق التقليدية، وكان أبي قد اعتاد أن يستعمل عددا من أولئك الشباب في خدمة الولاية، أما أنا فكنت أريد أن أخلصهم من ذلك القيد. لم أكن أستطيع أن أوفر لهم وظيفة بديلة ولم أكن حتى أريد ذلك، فلقد أردتهم أن يعتمدوا على أنفسهم.
لكن مع تقدم أهدافي، حاولت أن أقنع أولئك الشباب بأن ينضموا لي في تحقيق تلك الأهداف، ولقد نجحت بالفعل في توجيه ماجنلال وإرشاده. لكن دعوني أرجئ الحديث عن ذلك الأمر.
شعرت لبعض الوقت بالأسى لفراق زوجتي وأولادي والتخلي عن مؤسسة مستقرة والانتقال إلى عالم مجهول، لكنني قد اعتدت مواجهة المجهول. أعتقد أنه من الخطأ أن نتوقع وجود حقائق مؤكدة في هذا العالم، فلا حقيقة مؤكدة غير وجود الإله، فكل ما نراه أمامنا وكل ما يحدث من حولنا زائل وغير حقيقي.
لكن هناك كيان أسمى وحقيقي يوجد خلف هذه الأشياء غير المؤكدة، ويا لها من نعمة تنزل بالمرء حين يدرك هذه الحقيقة المؤكدة ويوقن بها ويسعى إليها. إن البحث عن هذه «الحقيقة» هو الهدف الأسمى في الحياة.
وصلت إلى دربان متأخرا إلى حد ما، وكان هناك الكثير من العمل في انتظاري. حدد موعد زيارة الوفد للسيد تشمبرلن، وكان علي أن أحرر المذكرة التي ستقدم له وأن أصاحب الوفد خلال تلك الزيارة.
الجزء
قصة تجاربي مع الحقيقة
الفصل الأول
هل «خاب السعي»؟1
أتى السيد تشمبرلن كي يتلقى هدية قدرها 35 مليون جنيه إسترليني من جنوب أفريقيا، وكي يكسب تعاطف الإنجليز والبوير، لذلك لم يلتفت إلى مطالب الوفد الهندي.
قال السيد تشمبرلن للوفد: «تعلمون أن حكومة الإمبراطورية تتمتع بسلطة محدودة على المستعمرات التي تتمتع بالحكم الذاتي. إلا أن شكاواكم تبدو لي حقيقية، وسأرى ما يمكنني عمله لوضع حد لها، لكن عليكم استرضاء الأوروبيين إن كنتم تريدون العيش بينهم.»
كان وقع تلك الكلمات شديدا على أعضاء الوفد، وقد أصابتني أنا أيضا بخيبة أمل. وكان هذا الرد صدمة لنا جميعا، ورأيت أنه علينا أن نبدأ العمل من جديد، فقمت بشرح الموقف لزملائي.
في الواقع، لم يكن هناك ما يشوب رد السيد تشمبرلن، فعلى الأقل هو لم يزيف الحقائق. لقد أوضح لنا السيد تشمبرلن بطريقة مهذبة وبقدر ما أن القوة دائما تفرض كلمتها أو ما يعرف بقانون السيف.
لكننا لم نكن نمتلك أي سيف، ولم يكن لدينا حتى الشجاعة ولا القوة لتلقي ضربات السيف. خصص السيد تشمبرلن وقتا قصيرا لشبه القارة. فإذا كانت المسافة بين شريناجار
Shrinagar
وكاب كومورين
Cape Comorin
تبلغ 1900 ميل، لم تكن المسافة بين دربان وكاب تاون
Capetown
تقل عن 1100 ميل، وكان عليه أن يقطع تلك المسافات الطويلة بسرعة الريح.
انطلق السيد تشمبرلن من ناتال إلى الترانسفال، وكان علي أن أعد مذكرة للهنود المقيمين هناك أيضا، وأن أقدمها إليه، لكن كيف أذهب إلى بريتوريا؟ لم يكن وضع الهنود هناك يسمح بحصولهم على التسهيلات القانونية اللازمة كي أصل في الموعد المناسب. فلقد جعلت الحرب الترانسفال صحراء قاحلة دون مؤن أو ملابس. وكانت المتاجر الخاوية أو المغلقة في انتظار أن تمتلئ من جديد أو أن يعاد فتحها، لكنها كانت مسألة وقت. ولم يسمح حتى للاجئين بالعودة قبل تزويد المتاجر بالمؤن. ومن ثم كان على كل من ينتمي إلى الترانسفال أن يحصل على تصريح، ولم يمثل الحصول على التصريح مشكلة للأوروبيين على عكس الوضع للهنود.
رحل العديد من الضباط والجنود من الهند وسيلان خلال الحرب إلى جنوب أفريقيا، وكان على السلطات البريطانية إيواؤهم. فقد كانوا في حاجة لتعيين ضباط جدد، وقد كان أولئك الرجال المتمرسون مهيئين تماما للعمل. كان للبراعة الفائقة لبعض أولئك الضباط الفضل في تشكيل إدارة جديدة. وقد أظهر ذلك مدى دهائهم. فقد كان هناك إدارة خاصة للزنوج، فلماذا لا يكون هناك إدارة خاصة للآسيويين؟ كانت المسألة منطقية للغاية. كانت تلك الإدارة الجديدة قد تشكلت بالفعل عند وصولي إلى الترانسفال، وكانت قد بدأت في نشر نفوذها تدريجيا. كان يمكن للضباط الذين يصدرون التصريحات للاجئين العائدين أن يتولوا أيضا إصدارها للجميع، لكن السؤال هو كيف يمكنهم أن يصدروها للآسيويين دون تدخل تلك الإدارة الجديدة؟ وكانت ذريعة الإدارة الجديدة تتمثل في أن صدور التصريحات من الإدارة الجديدة سيخفف من مسئولية وأعباء الضباط المسئولين عن إصدار التصريحات. إلا أن السبب الحقيقي وراء ذلك كان حاجة الإدارة الجديدة إلى سبب للعمل، وحاجة الرجال للمال. فإن لم يكن هناك عمل يقومون به، سترى السلطات أن وجود هذه الإدارة غير ضروري، ومن ثم ستوقف عملها. لذلك اختلقت الإدارة هذا العمل.
كان على الهنود أن يتقدموا لهذه الإدارة بطلب التصريح، الذي لم يكن يمنح لهم إلا بعد أيام عدة. ونتيجة لتكالب الحشود التي ترغب في العودة إلى الترانسفال، ظهرت مجموعة من الوسطاء الذين نهبوا أموال الهنود الفقراء بمساعدة الضباط وطلبوا منهم مبالغ تصل إلى الآلاف. علمت أنه لم يكن من الممكن استصدار تصريح دون وساطة، وأنه في بعض الحالات كان يتطلب ذلك دفع مائة جنيه إسترليني، بغض النظر عن حجم الوساطة التي تساند مقدم الطلب. ولذا لم يكن أمامي أي طريقة متاحة للحصول على التصريح. فذهبت إلى صديقي قائد الشرطة في دربان، وقلت له: «أرجو منك أن تقدمني إلى الضابط المسئول عن منح التصاريح وأن تساعدني في الحصول على تصريح، فأنت تعلم أنني كنت مقيما في الترانسفال.» وعلى الفور ارتدى صديقي قبعته وخرج معي، وبالفعل حصلت على التصريح. كان قد بقي على موعد قيام القطار الذي سأستقله أقل من الساعة، وكنت قد أعددت أمتعتي بالفعل. فشكرت قائد الشرطة السيد ألكسندر وانطلقت إلى بريتوريا.
حينها تكونت لدي فكرة عن الصعاب التي تنتظرني. كتبت المذكرة فور وصولي إلى بريتوريا. ولا أذكر أن أحدا طلب منا في دربان أن نقدم قائمة بأسماء الممثلين للهنود مسبقا، لكن الإدارة الجديدة في بريتوريا طلبت تلك القائمة. وقد كان الهنود المقيمون في بريتوريا على علم بنية الضباط في استبعادي من قائمة الممثلين.
لكنني في حاجة إلى فصل آخر كي أتحدث عن هذه الواقعة التي أجدها مؤلمة لكن في الوقت ذاته مضحكة.
هوامش
الفصل الثاني
مستبدو آسيا
احتار كبار الضباط في الإدارة الجديدة في كيفية دخولي إلى الترانسفال، وقد استعلموا عن ذلك من الهنود الذين اعتادوا أن يذهبوا إليهم، لكنهم لم يستطيعوا الجزم بأية معلومة، ولم يكن من الضباط إلا أن خمنوا أنني قد نجحت في التسلل إلى الترانسفال دون تصريح نظرا لعلاقاتي القوية السابقة بها، وإذا صح تخمينهم، فسأكون عرضة للاعتقال.
إن الاعتقال هو إجراء معتاد عقب انتهاء الحروب الكبيرة، فمن المعتاد أن تخول للحكومة سلطات خاصة في تلك الفترة، وكان هذا هو الوضع في جنوب أفريقيا. فقد أقرت حكومة الترانسفال قانونا لحفظ الأمن يقضي بالقبض على كل من يدخل الترانسفال دون تصريح وتعرضه للحبس. وكان القبض علي بموجب هذا القانون موضع نقاش، لكن أحدا لم يملك الشجاعة الكافية ليطلب مني إبراز تصريحي.
بالطبع أرسل الضباط برقيات إلى دربان لكي يتحققوا من الأمر، وقد خاب ظنهم عندما علموا بأنني قد دخلت إلى الترانسفال بموجب تصريح قانوني. لكن أولئك الرجال لم يكونوا ليهزموا بتلك السهولة، فمع نجاحي في دخول الترانسفال إلا أنهم كانوا لا يزالون يستطيعون منعي من مقابلة السيد تشمبرلن.
طلبت الإدارة من الجالية تقديم قائمة بأسماء الأشخاص الذين سيشكلون الوفد، وبالطبع، كان اضطهاد الملونين جليا في كل مكان في جنوب أفريقيا، لكنني لم أتوقع أن أرى المعاملات القذرة والملتوية بين المسئولين التي اعتدت أن أراها في الهند. كانت الإدارات العامة في جنوب أفريقيا قائمة على الحفاظ على مصلحة الشعب ومسئولة أمام الرأي العام، ولهذا السبب كان المسئولون يعاملون الشعب بلطف وتواضع، حتى الملونين منهم حظوا بقدر من تلك المعاملة الحسنة. ومع قدوم الضباط من آسيا، جاء الاستبداد والعادات التي تشربها المستبدون في آسيا. كان هناك نوع من الحكومة المسئولة أو الديمقراطية في جنوب أفريقيا، في حين كان القادمون من آسيا مستبدين وديكتاتوريين تماما نظرا لعدم وجود حكومة مسئولة بها، وإنما كان هناك قوة أجنبية تحكمهم. كان الأوروبيون في جنوب أفريقيا مهاجرين مستوطنين، فأصبحوا مواطنين تابعين لجنوب أفريقيا وسيطروا على المسئولين الإداريين. والآن ظهر المستبدون القادمون من آسيا، وأصبح الهنود بين شقي الرحى.
وقد تجرعت وبال تلك الاستبدادية . فبادئ ذي بدء استدعيت لمقابلة رئيس الإدارة، وكان ضابطا من سريلانكا. وحتى لا أكون مبالغا حين أقول إنني «استدعيت» لمقابلة رئيس الإدارة، سأوضح الأمر أكثر، فلم يرسل لي رئيس الإدارة أمرا مكتوبا. كان على الزعماء الهنود أن يزوروا الضباط الآسيويين بصورة مستمرة، ومن هؤلاء الراحل السيد طيب حاجي خان محمود، فسأله رئيس الإدارة عني وعن سبب قدومي إلى جنوب أفريقيا.
أجابه السيد طيب قائلا: «إنه مستشارنا، وقد حضر إلى جنوب أفريقيا بناء على طلبنا.»
فسأله رئيس الإدارة: «إذن ماذا نفعل نحن هنا؟ ألم نعين لحمايتكم؟ وماذا يعرف غاندي عن الأوضاع هنا؟»
حاول السيد طيب الرد على هذا الهجوم قدر استطاعته، فقال: «بالطبع تقومون بحمايتنا، لكن غاندي من أبناء وطننا، ويعرف لغتنا ويفهمنا. فأنتم موظفون في النهاية.»
طلب رئيس الإدارة من السيد طيب أن يحضرني إليه، فذهبت وبصحبتي السيد طيب وآخرون، ولم يعرض علينا رئيس الإدارة أن نجلس، وتركنا جميعا وقوفا، ثم توجه إلي قائلا: «ما الذي أتى بك إلى هنا؟»
فأجبته: «أتيت بناء على طلب أبناء وطني لمساعدتهم بالمشورة.»
قال: «ألا تعلم أنه لا يحق لك أن تأتي إلى هنا؟ فالتصريح الذي حصلت عليه صدر لك عن طريق الخطأ، ولا يمكنني أن أعتبرك أحد المواطنين الهنود المقيمين هنا، ويجب أن تعود أدراجك، ولا يمكنك أن ترى السيد تشمبرلن، وذلك لحماية الهنود هنا، وهي المهمة الأساسية الذي أسست من أجلها الإدارة الآسيوية في المقام الأول. حسنا، يمكنك الانصراف الآن.» ثم تركني لأذهب دون أن يمنحني فرصة كي أرد.
احتجز رئيس الإدارة رفاقي وأخذ يوبخهم بشدة، ونصحهم بإبعادي، فعاد رفقائي منزعجين، وأصبحنا أمام وضع لم نكن نضعه في الحسبان.
الفصل الثالث
التغاضي عن الإهانة
شعرت بالأسى وأنا أستمع إلى الإهانة، لكنني اعتدت تلك الإهانات نظرا لأنني تغاضيت عن الكثير منها في الماضي؛ لذلك قررت أن أتغاضى عن تلك الإهانة الأخيرة هي أيضا وأن ألزم موقفا هادئا.
بعث رئيس الإدارة الآسيوية برسالة مفادها أنه كان من الضروري حذف اسمي من قائمة أعضاء الوفد الذي سيقابل السيد تشمبرلن، وذلك بحجة أنني قابلته من قبل في دربان.
لم يحتمل زملائي الهنود فحوى الرسالة، فاقترحوا التخلي عن فكرة الوفد بأكملها، فشرحت لهم الوضع الصعب الذي تمر به الجالية.
قلت لهم: «إذا لم تعرضوا قضيتكم على السيد تشمبرلن، سيعتقد الناس أن قضيتكم ليس لها أساس. على كل حال، يجب أن تكون الشكوى خطية ، وقد أعددناها بالفعل، فلا يهم إذا قرأتها أنا أو قرأها أحد غيري. ولن يناقش السيد تشمبرلن الشكوى معنا. أرى أن علينا أن نتغاضى عن تلك الإهانة.»
لم أكد أنهي حديثي، حتى هتف السيد طيب قائلا: «إن إهانتك هي إهانة للجالية، ألست ممثلا عنا؟»
أجبته: «صدقت، لكن حتى الجالية عليها أن تتغاضى عن مثل هذه الإهانات؛ فنحن لا نملك خيارا بديلا.»
تساءل السيد طيب: «ولماذا نتغاضى عن مثل هذه الإهانة؟ لا يمكن أن يسوء وضعنا أكثر من ذلك، فهل نتمتع بأي حقوق نخشى أن نسلبها؟»
كان رد السيد طيب شجاعا، ولكن ما الفائدة؟ لقد كنت أدرك تماما حدود الجالية. هدأت من روع أصدقائي، وأشرت عليهم باختيار السيد جورج جودفري، وهو محام هندي، بدلا مني.
وبالفعل ترأس السيد جورج جودفري الوفد. حاول السيد تشمبرلن أن يخفف من شدة الإهانة، فأشار في رده إلى إقصائي من الوفد قائلا: «أليس من الأفضل أن أستمع لنائب جديد عن الجالية الهندية، بدلا من الاستماع إلى نفس الشخص مرة أخرى؟»
لكن كل ما حدث لم ينه المسألة، بل أضاف إلى عمل الجالية وعملي أيضا. كان علينا أن نبدأ العمل من جديد. وقد تعرضت للتوبيخ من قبل بعض الأشخاص بقولهم: «لقد اشتركنا في الحرب بناء على طلبك. انظر إلى ما وصلنا إليه الآن؟» لكن ذلك التوبيخ لم يكن له أي أثر. فرددت عليهم: «لست نادما على ذلك، وأنا أؤكد على أننا فعلنا الصواب باشتراكنا في الحرب، فعلى الأقل أدينا واجبنا، ولا يجب أن ننتظر مكافأة نظير جهودنا، وأنا أؤمن بأن الأعمال الصالحة يجب أن تطرح ثمارا طيبة في النهاية. دعونا نطرح الماضي وراء ظهورنا ونركز على المهام التي تنتظرنا.» وهو الأمر الذي وافق عليه الجميع.
ثم استطردت قائلا: «لأكون صريحا معكم، لقد انتهيت تقريبا من العمل الذي استدعيتموني من أجله. لكنني أرى أنه لا يجب أن أرحل عن الترانسفال، حتى إذا سمحتم لي بالعودة إلى الوطن. وبدلا من أن أقوم بعملي من ناتال كما كان الحال من قبل ، يجب الآن أن أقوم بذلك العمل من هنا. يجب ألا أفكر في العودة إلى الهند قبل عام، بل يجب أن أدرج اسمي في محكمة الترانسفال العليا، فأنا أمتلك ما يكفي من الثقة للتعامل مع هذه الإدارة الجديدة. وإذا لم نفعل ذلك، سيطاردون الجالية عبر البلاد وينهبونها نهبا تاما، وسوف نجد في كل يوم إهانات جديدة تنهال علينا. فرفض السيد تشمبرلن لرؤيتي وإهانة المسئول لي لا يمكن مقارنتهما بإهانة الجالية بأكملها. وإنه لمن المستحيل أن نتحمل حياة أشبه بحياة الكلاب التي قد يأتي اليوم ونحياها.»
لذا بادرت بالعمل لتشجيع أصدقائي، وناقشت القضايا مع الهنود في بريتوريا وجوهانسبرج، وأخيرا قررت أن أؤسس مكتبا في جوهانسبرج.
بالطبع ساورني الشك في قبول إدراجي في محكمة الترانسفال العليا، لكن نقابة المحامين لم تمانع طلبي، وأقرته المحكمة. وكان من الصعب على محام هندي أن يحصل على مكتب جيد في منطقة مناسبة، لكنني كنت على علاقة جيدة بالسيد ريتش، وهو أحد التجار بجوهانسبرج، وبفضل مساعي وسطاء العقارات الذين يعرفهم، تمكنت من الحصول على مكتب في منطقة المحامين بالمدينة، وبدأت في مزاولة نشاطي المهني.
الفصل الرابع
روح التضحية النشطة
يجب أن أتعرض أولا لبعض الجوانب الأخرى من حياتي قبل أن أروي قصة النضال من أجل الحصول على حقوق المستوطنين الهنود في الترانسفال وتعاملاتهم مع الإدارة الآسيوية.
وحتى ذلك الوقت، كنت أجد في نفسي رغبة مضطربة. فقد كانت الرغبة في تأمين المستقبل تحد من قوة روح التضحية بذاتي.
جاءني أحد مندوبي شركات التأمين الأمريكيين في الوقت الذي حصلت فيه على شقة في بومباي، وكان ذا وجه بشوش ولسان عذب، فتحدث معي عن مستقبلي ، قائلا: «كل من هم في مكانتك في أمريكا يؤمنون على حياتهم، ألا يجب عليك أنت الآخر أن تؤمن على حياتك ضد مخاطر المستقبل؟ فلا حقيقة مؤكدة في هذه الحياة، ونحن نعتبر التأمين على الحياة في أمريكا أحد الفروض الدينية. ألا أستطيع أن أقنعك بأن تحصل على وثيقة تأمين صغيرة؟»
وكنت حتى ذلك الوقت أدير ظهري لجميع مندوبي شركات التأمين الذين قابلتهم في جنوب أفريقيا والهند، وذلك نظرا لاعتقادي بأن التأمين على الحياة يعكس الشعور بالخوف وضعف الإيمان بالإله. لكنني تأثرت بإغراء المندوب الأمريكي. وكنت أرى أمامي أثناء تحدثه معي صورة زوجتي وأبنائي. فأخذت أقول في نفسي: «لقد بعت معظم جواهر زوجتك، فماذا سيحل بزوجتك وأبنائك إذا ما حدث لك أي مكروه؟ سيتحمل نفقاتهم أخوك الفقير الذي طالما حل محل أبيك بكل كرم. كيف وصلت إلى هذا الحال؟» نتيجة لهذه الأفكار وغيرها أقنعت نفسي بالحصول على وثيقة تأمين بقيمة 10000روبية.
لكن حين تغير أسلوب حياتي في جنوب أفريقيا، تغيرت معه نظرتي للمستقبل أيضا. كل الخطوات التي اتخذتها في وقت الشدة كانت من أجل الإله وخدمته. ولم أكن أعلم إلى متى سأظل في جنوب أفريقيا. وكان يراودني الخوف من عدم التمكن من العودة إلى الهند مرة أخرى، لذلك قررت أن أحضر زوجتي وأطفالي للعيش معي، وأن أكسب ما يكفي لإعالتهم. جعلني ذلك أشعر بالأسف لحصولي على وثيقة التأمين تلك، وشعرت بالخزي لوقوعي فريسة لإغواء مندوب التأمين. قلت في نفسي: إذا كان أخي يقوم مقام والدي حقا، فبالتأكيد لن يعتبر إعالة أرملتي عبئا كبيرا إذا ما استدعت الظروف ذلك. ولماذا افترضت أن الموت سيصيبني قبل الآخرين؟ فالحافظ الحق ليس أنا ولا أخي، وإنما هو الإله. لقد حرمت زوجتي وأبنائي من حق اعتمادهم على أنفسهم عندما حصلت على وثيقة التأمين تلك. لماذا لم أتوقع منهم أن يعتمدوا على أنفسهم؟ وماذا حل بأسر الفقراء الذين لا حصر لهم في العالم؟ لماذا لا أعتبر نفسي واحدا من هؤلاء الفقراء؟
جال في خاطري العديد من تلك الأفكار ، لكنني لم أتصرف بناء عليها على الفور، وأذكر أنني دفعت قسطا واحدا على الأقل من أقساط وثيقة التأمين في جنوب أفريقيا.
أيدت الظروف الخارجية هي الأخرى تلك السلسلة من الأفكار. كان تأثير أصدقائي المسيحيين هو الذي أبقى على الحس الديني حيا بداخلي أثناء إقامتي المؤقتة للمرة الأولى في جنوب أفريقيا؛ أما الآن فالتأثير الثيوصوفي هو الذي زاد من قوة ذلك الحس، فقد كان السيد ريتش ثيوصوفيا، وجعلني على صلة بالجمعية الثيوصوفية في جوهانسبرج. لم أصبح عضوا في الجمعية لوجود بعض التحفظات، إلا أنني كونت علاقات وثيقة بجميع الثيوصوفيين تقريبا، وكنت أدخل في نقاشات دينية يومية معهم. وكان من المعتاد أن نقرأ بعضا من الكتب التي تتناول الثيوصوفية، وكنت في بعض الأحيان ألقي كلمة في اجتماعاتهم. كان المبدأ الرئيسي الذي تقوم عليه الثيوصوفية هو تشجيع فكرة الأخوة وتعزيزها، وكنا نجري مناقشات كثيرة حول هذه الفكرة، وكنت أنتقد الأعضاء عندما أجد سلوكهم يتعارض مع تلك المبادئ. وقد أثر علي ذلك النقد أنا أيضا، حتى بدأت أراجع أفكاري ومشاعري.
الفصل الخامس
نتيجة تأمل الذات
عندما أصبحت على علاقة وثيقة بأصدقائي المسيحيين في عام 1893م، كنت لا أزال مبتدئا، وكانوا يجدون في محاولة إقناعي برسالة المسيح وقبولها، وكنت وقتها المستمع المتواضع والمحترم الذي يتمتع بعقل منفتح. وكان من الطبيعي في ذلك الوقت أن أدرس الهندوسية قدر استطاعتي وأن أسعى لفهم الديانات الأخرى.
وقد تغير الوضع إلى حد ما في عام 1903م. حقا كان يريد الثيوصوفيون أن يجتذبوني إلى الانضمام لجمعيتهم، لكن ذلك كان بسبب رغبتهم في الاستفادة مني كشخص هندوسي. فالأدب الثيوصوفي متأثر للغاية بالهندوسية، لذلك توقع أصدقائي الثيوصوفيون أنه يمكنني مساعدتهم. شرحت لهم أن معرفتي باللغة السنسكريتية لا تذكر، وأنني لم أقرأ أصول النصوص الهندوسية المقدسة، وحتى معرفتي بترجمة تلك النسخ الأصلية محدودة للغاية. لكن نظرا لإيمانهم بالميول التي تخلفها الحيوات السابقة للمرء (السامسكارا) وإعادة المولد (بونارجانما)، اعتقدوا أنني قد أقدم لهم بعض العون على الأقل. وهكذا شعرت بأنني مثل الإله تريتون وهو يقف وسط مجموعة من سمك المنوة الصغير. شرعت في قراءة كتاب السيد فيفيكاناند «راجا يوجا» مع بعض أولئك الأصدقاء، في حين قرأت كتاب دفيفيدي «راجا يوجا» مع مجموعة أخرى من الأصدقاء. وكان علي أن أقرأ كتاب «يوجا سوتراس» لكاتبه باتانجالي مع أحد الأصدقاء، و«الباجافاد جيتا» مع عدد كبير نسبيا من الأصدقاء. وشكلنا منتدى حيث نجتمع بصورة منتظمة بغرض القراءة. كنت أؤمن «بالجيتا» بالفعل، وكنت مفتونا بها.
والآن فقط أدركت ضرورة التعمق في معانيها. كان لدي نسخة أو نسختان مترجمتان أحاول بواسطتهما فهم النص الأصلي المكتوب باللغة السنسكريتية. وقررت أن أحفظ عن ظهر قلب سطرا أو سطرين من الجيتا كل يوم، وقد خصصت من أجل هذا الغرض الوقت المخصص للاغتسال في الصباح. كان الاغتسال يستغرق خمسا وثلاثين دقيقة، خمس عشرة دقيقة منها من أجل غسيل الأسنان وعشرين دقيقة للاستحمام. وكنت أغسل أسناني واقفا على الطريقة الغربية، فألصقت قطعا من الورق تحمل سطورا من الجيتا على الحائط المقابل حتى أنظر إليها من حين إلى آخر لأنعش ذاكرتي. وكان ذلك الوقت كافيا لاستذكار الجزء اليومي ومراجعة الأجزاء التي انتهيت منها بالفعل. وأذكر أنني استطعت بتلك الطريقة استذكار ثلاثة عشر فصلا من فصول الجيتا. لكنني اضطررت للتخلي عن حفظ الجيتا والشروع في عمل آخر بالإضافة إلى انشغالي بتأسيس الساتياجراها وتنميتها، وهو الأمر الذي استغرق جل وقتي حينها، ولا يزال يشغل تفكيري حتى الآن.
لا يستطيع أن يذكر الأثر الذي تركته قراءة الجيتا على أصدقائي إلا أصدقائي أنفسهم، أما أنا فقد أصبحت الجيتا مرشدي المعصوم في جميع تصرفاتي. وأصبحت الجيتا المرجع الذي أرجع إليه في جميع أموري اليومية. فكنت ألجأ إلى الجيتا التي هي مرجع للسلوك حتى أجد حلا جاهزا لجميع مشاكلي ومحني بنفس الطريقة التي ألجأ بها إلى قاموس اللغة الإنجليزية لمعرفة معنى الكلمات الإنجليزية التي لا أفهمها. وقد استحوذت علي كلمات مثل «المساواة» و«نبذ الملكية الخاصة». لكن المشكلة كانت في كيفية تنمية تلك المساواة والحفاظ عليها. فكيف يساوي المرء في معاملته بين المسئولين المتغطرسين والفاسدين الذين ينهالون عليه بالسباب، وزملاء الماضي الذين يعارضونه بلا معنى؛ وبين الرجال الذين طالما عاملوه بلطف؟ وكيف يجرد المرء نفسه من جميع الممتلكات؟ أليست ملكية الجسد كافية؟ ألا تعتبر الزوجة والأطفال ملكية؟ هل أدمر جميع خزانات الكتب التي أملكها؟ هل أتخلى عن كل ما أملك وأتبع الإله؟ وعلى الفور جاءني الرد: لا أستطيع أن أتبع الإله حتى أتخلى عن كل ما أملك. وقد ساعدتني دراستي للقانون الإنجليزي في ذلك، فتذكرت تناول «سنيل» لقواعد المساواة. وأدركت أيضا دلالة كلمة «الوصي» بصورة أوضح من خلال تعاليم الجيتا. وزاد تقديري لفلسفة التشريع، فقد أدركت في أعماقها الدين. وقد فهمت معنى «نبذ الملكية الخاصة» الذي تنص عليه الجيتا، وهو أنه على من ينشد الخلاص أن يتصرف مثل الوصي الذي - مع تحكمه في عدد هائل من الممتلكات - لا يعتبر ذرة من تلك الممتلكات ملكا خاصا له. واتضح لي أن نبذ الملكية والمساواة يستلزمان تغيير القلب، وتغيير توجه المرء. كتبت حينها إلى ريفاشانكار كي يسقط وثيقة التأمين، ويسترد ما يمكن استرجاعه منها أو سأعتبر أنني خسرت الأموال التي دفعتها بالفعل كأقساط للتأمين. فقد تولدت لدي قناعة أن الإله، الذي خلق زوجتي وأطفالي كما خلقني، قادر على أن يرعاهم. وكتبت إلى أخي، الذي كان لي بمثابة الأب، أخبره بأنني تنازلت له عن كل مدخراتي التي وفرتها حتى تلك اللحظة، لكن عليه ألا يتوقع أي أموال أخرى مني لأنني سأهب جميع أموالي التي أحصل عليها منذ ذلك الحين لصالح الجالية.
لم أستطع إقناع أخي بموقفي هذا بسهولة، فأخذ يوضح لي بأسلوب شديد اللهجة واجبي تجاهه، وأخبرني بألا أطمح في أن أكون أكثر حكمة من أبينا، وأنه يجب علي أن أعول العائلة كما فعل هو. فأوضحت له أنني أقوم بما قام به أبونا تماما، لكن الاختلاف الوحيد يكمن في اتساع نطاق كلمة «العائلة» قليلا حتى يتضح صواب عملي.
تخلى أخي عني وتوقف عن مراسلتي كليا تقريبا، فشعرت بحزن عميق، لكنني كنت سأشعر بحزن أعمق إذا ما تخليت عن الشيء الذي أؤمن بأنه واجبي، فاخترت أخف الأمرين. لكن ما حدث لم يقلل من إخلاصي لأخي، بل ظل إخلاصي له بنفس نقائه وعظمته كما كان دائما. لقد كان حبه الكبير لي السبب الرئيسي في شقائه. لم يكن أخي في حاجة إلى أموالي مثلما كان في حاجة إلى أن أعامل العائلة بطريقة أفضل، ومع ذلك أدرك أخي قيمة وجهة نظري في آخر أيام حياته، فلقد أدرك وهو على فراش الموت تقريبا أن الدرب الذي سلكته كان هو الدرب الصحيح، وكتب لي وقتها خطابا حزينا للغاية، وقد اعتذر لي في خطابه، مثلما يعتذر الأب إلى ابنه، وأوصاني برعاية أطفاله وأن أربيهم بالطريقة التي تتراءى لي، وعبر لي عن شوقه ولهفته للقائي. وأرسل لي برقية عبر فيها عن رغبته في القدوم إلى جنوب أفريقيا، وقد رددت عليه بموافقتي، لكن لم تشأ الأقدار أن يأتي، أو أن تنفذ رغبته بشأن تربية أبنائه؛ فقد وافته المنية قبل أن يرحل إلى جنوب أفريقيا، وتربى أطفاله في نفس المناخ التقليدي، ولم يستطيعوا تغيير مسار حياتهم، ولم يكن الخطأ خطأهم بل أنا الذي لم أتمكن من جذبهم إلى جانبي. «من الذي يستطيع أن يوقف طبيعته الجامحة؟» ومن يستطيع أن يمحو الأفكار التي يولد بها؟ فلا يمكن للمرء أن يتوقع أن يتبع أطفاله والذين هم تحت وصايته نفس مساره.
إن ما قصصته يمكن أن يعكس بقدر ما حجم المسئولية الشاقة التي يتحملها الوالدان.
الفصل السادس
التضحية من أجل النباتية
نظرا لتجلي فكرتي التضحية والبساطة لدي أكثر فأكثر، ونمو الوعي الديني بوتيرة أسرع أثناء حياتي اليومية، زاد شغفي بالنباتية كرسالة تبشيرية. كنت أعرف طريقة واحدة فقط للقيام بالعمل التبشيري، ألا وهي إعطاء القدوة ومناقشة الباحثين عن المعرفة.
كان في جوهانسبرج مطعم للأطعمة النباتية يديره رجل ألماني يؤمن بالمعالجة المائية التي أنشأها «كون»، فزرت المطعم بنفسي، وساعدته عن طريق اصطحابي لبعض الأصدقاء الإنجليز إلى المطعم، لكنني أدركت أنه لا يمكن للمطعم أن يستمر لمعاناته الأزمات المالية باستمرار. لقد قدمت إليه المساعدة التي كان يستحقها، وأنفقت بعض الأموال لدعمه، لكن في النهاية كان يجب غلقه.
إن أغلب الثيوصوفيين تقريبا نباتيون، فأنشأت سيدة مقدامة تنتمي للجمعية الثيوصوفية مطعما ضخما للمأكولات النباتية. كانت تلك السيدة مغرمة بالفن ومسرفة وجاهلة بالحسابات. وكانت دائرة أصدقائها كبيرة للغاية. بدأت السيدة المطعم على مستوى صغير، لكنها قررت فيما بعد أن تقوم ببعض التوسعات، فطلبت مساعدتي، ولم أكن على دراية بحجم أموالها حينما طلبت مساعدتي، وظننت أن تقييمها لا بد وأن يكون دقيقا، وكنت بالفعل قادرا على مساعدتها، فلقد اعتاد موكلي أن يتركوا في عهدتي مبالغ كبيرة من المال وديعة. فاقترضت ما يقرب من ألف جنيه من حساب أحد موكلي بعد أن حصلت على موافقته، وقد كان موكلي ذلك كريما وشديد الثقة بي، وكان في الأصل من العمال الذين حضروا إلى جنوب أفريقيا بعقود لأجل. قال لي: «يمكنك أن تهب المال إذا شئت، فأنا لا أعرف شيئا عن هذه الأمور، فأنا لا أعرف غيرك.» وكان اسم ذلك الموكل «بادري»، وقد شارك بصورة بارزة فيما بعد في حركة الساتياجراها، وتعرض للسجن أيضا. وهكذا أقرضتها المبلغ ظنا مني بأن موافقته كانت كافية.
بعد مرور شهرين أو ثلاثة أشهر، علمت أنه لن يمكنني استرداد المبلغ، ولم أكن أستطيع تحمل تلك الخسارة. فقد كان هناك العديد من الأغراض التي كان من الممكن أن أنفق فيها ذلك المبلغ. ولم أسترد ذلك القرض مطلقا. لكن كيف يكون ذلك جزاء ثقة السيد بادري بي؟ فلم يكن يعرف أحدا سواي، وقد تسببت له في تلك الخسارة.
ولقد عنفني أحد موكلي بلطف لحماقتي عندما أخبرته بما حدث، فقال لي: «يا أخي،» ولم أكن وقتها لحسن الحظ قد لقبت «بالمهاتما» أو حتى «الأب»، وكان الأصدقاء ينادونني بالاسم المحبب «أخي» قال لي: «لم يكن عليك فعل ذلك. فنحن نعتمد عليك في كثير من الأمور. إنك لن تتمكن من استرداد هذا المبلغ، وأنا أعرف أنك ستدفع للسيد بادري من أموالك الخاصة حتى لا تجعله يشعر بالأسى، لكن إن استمررت في دعم خططك الإصلاحية من أموال موكليك، فسوف تتسبب في إفلاسهم، وسوف تصبح شحاذا عما قريب. لكنك الوصي على أموالنا، ويجب أن تعلم أنه إن أصبحت فقيرا، فسيتوقف العمل العام ككل.»
أحمد الإله على أن ذلك الصديق لا يزال على قيد الحياة. فلم ألتق في حياتي بأي شخص بنقائه في جنوب أفريقيا أو في أي مكان آخر. علمت أنه كان يعتذر للناس ويطهر نفسه من ذنبهم عندما يشك في أحدهم ثم يكتشف أن شكه لم يكن له أساس من الصحة.
أدركت أن صديقي كان على حق في تحذيره لي. فمع تعويضي للأموال التي خسرها السيد بادري، ما كان ينبغي لي أن أتعرض لمثل هذه الخسارة أو أن أقع في الدين، وهو الأمر الذي لم أتعرض له في حياتي قط وكنت دائما أمقته. فأدركت أنه يجب على الإنسان ألا يتعدى حدوده حتى لو كان الدافع حماسته للإصلاح. وأدركت أنه بإقراضي المال الذي كنت وصيا عليه، خالفت القاعدة الأساسية في تعاليم الجيتا، ألا وهي أن يعمل الشخص الرزين دون أن ينتظر مقابل أعماله. وقد كان ذلك الخطأ الذي اقترفته بمنزلة تحذير واضح.
إن التضحية التي قدمتها على مذبح النباتية لم تكن متعمدة أو متوقعة، بل كانت وليدة الضرورة.
الفصل السابع
تجارب المعالجة بالطين والمياه
زاد نفوري من الأدوية مع ازدياد بساطة أسلوب حياتي. عانيت وأنا أعمل في جنوب أفريقيا الضعف والالتهاب الروماتزمي، فحضر الطبيب ميهتا لفحصي، وأعطاني علاجا، فأصبحت بصحة جيدة. ومنذ ذلك الحين وحتى عودتي إلى الهند، لا أذكر إصابتي بأي مرض يذكر.
وكنت أعاني في أثناء إقامتي في جوهانسبرج الإمساك والصداع الدائم، فكنت أعالج نفسي أحيانا بمسهلات الأمعاء وبنظام غذائي منظم للغاية، لكنني لم أكن معافى تماما، وكنت أتساءل عن الوقت الذي يمكنني فيه أن أتخلص من كابوس هذه الأدوية المسهلة.
وفي غضون ذلك، سمعت عن تأسيس «جمعية لا للإفطار»
No Breakfast Association
بمانشستر. وكان مؤسسو الجمعية يرون أن الإنجليز يأكلون كثيرا حتى ارتفعت فواتير الأطباء للغاية لأنهم يأكلون حتى منتصف الليل ، ومن ثم فعليهم على الأقل أن يتخلوا عن وجبة الإفطار في حالة رغبتهم في تحسين حالتهم الصحية. ومع عدم انطباق هذه الحالة علي، شعرت أن ذلك الوضع ينطبق جزئيا على حالتي، فقد كنت أتناول ثلاث وجبات أساسية يوميا بالإضافة إلى شاي ما بعد الظهيرة. كنت مسرفا في الأكل وكنت أستمتع بالأطعمة النباتية الشهية والخالية من التوابل قدر المستطاع. وكنت نادرا ما أستيقظ قبل السادسة أو السابعة. وهكذا اعتقدت أنه يمكن أن أتخلص من الصداع إذا ما تخليت عن طعام الإفطار، وبالفعل خضت هذه التجربة. ولقد كان الأمر صعبا في الأيام الأولى، لكن الصداع انتهى تماما. جعلتني تلك التجربة أدرك أنني كنت آكل أكثر من حاجتي. لكن ذلك التغيير في نظام الأكل لم يخلصني من الإمساك، فجربت الحمام النصفي للطبيب «كون»، مما ساعد على تخفيف آلامي لكنه لم يشفني بالكلية. وفي أثناء ذلك، أعطاني الصديق الألماني الذي كان يمتلك مطعم الأطعمة النباتية، أو أحد الأصدقاء الذي لا أذكره، كتاب أدولف جاست «العودة إلى الطبيعة»
Return to Nature ، فقرأت في ذلك الكتاب عن المعالجة بالطين، وأيد المؤلف القول بأن الفواكه الطازجة والمكسرات هي الغذاء الطبيعي للإنسان. لم أبدأ في قصر غذائي على الفاكهة وحدها على الفور، لكنني بدأت تجاربي في المعالجة بالطين مباشرة محققا نتائج مذهلة. وكان العلاج هو ضمادة من الطين الصافي مرطبة بالماء البارد توضع على البطن ككمادة من الكتان الناعم، وكنت أضع هذه الضمادة عند النوم، وأنزعها في الليل أو في الصباح عند استيقاظي، وقد أثبتت هذه الطريقة فاعليتها في العلاج. ومنذ ذلك الحين، جربت هذه الطريقة لمعالجة نفسي وأصدقائي، ولم أندم مرة على استعمالها. لكنني لم أكن أملك الثقة ذاتها لتجربة تلك الطريقة في الهند. فلم أكن أملك الوقت لأستقر في مكان واحد حتى أتمكن من إجراء مثل هذه التجارب، ومع ذلك، ظل إيماني بالمعالجة بالطين والمعالجة المائية تقريبا كما كان من قبل. وحتى وقتنا الحاضر، لا أزال أستعمل المعالجة بالطين بقدر ما، وأوصي بها زملائي متى وجدت مناسبة لذلك.
ومع تعرضي للإصابة بمرضين خطيرين في حياتي، أؤمن بأن الإنسان لا يحتاج لاستخدام الأدوية بصورة ماسة. فهناك 999 حالة من بين ألف حالة يمكن معالجتها باتباع نظام غذائي منظم وباستعمال المعالجة المائية والمعالجة بالطين، وغيرها من طرق العلاج المنزلية. إن من يهرع إلى الأطباء والمتخصصين في علم الطب الهندي (آيورفيدا) أو الحكماء، ويتناول جميع أنواع العقاقير المستخلصة من النباتات والعقاقير المخلقة كيميائيا لا يتسبب في تعجيل أجله فحسب، بل يصبح عبدا لجسده بعد أن كان سيده، فيفقد القدرة على التحكم في نفسه ويفقد إنسانيته.
لا أريد أن يشك أحد في دقة تلك الملاحظات التي ذكرتها لكونها كتبت على فراش المرض. أعلم الأسباب التي أدت لمرضي، وأنا مدرك تماما أنني وحدي مسئول عن إصابتي تلك، ولولا هذا الإدراك لنفد صبري. في حقيقة الأمر، لقد شكرت الإله على مرضي واعتبرته درسا أتعلم منه. وبالفعل نجحت في مقاومة إغراء تناول العقاقير المتعددة. أعلم أن استعصاء علاجي كثيرا ما يرهق أطبائي، لكنهم يتحملون معي بعطف ولا يخذلونني أبدا.
على كل حال، يجب ألا أستطرد في الحديث عن هذا الموضوع. فقبل أن أواصل حديثي، يجب أن أحذر القارئ وأقول إن على من يشتري كتاب «جاست» بناء على قوة هذا الفصل، ألا يعتبر كل كلمة فيه حقيقة مؤكدة. فغالبا ما يقدم الكاتب جانبا واحدا من جوانب القضية، في حين يوجد لكل قضية سبعة جوانب على الأقل، التي تكون جميعها صحيحة في ذاتها على الأرجح، لكنها قد لا تكون صحيحة في الوقت نفسه وفي الظروف ذاتها. ولا تكتب العديد من الكتب إلا لاجتذاب المشتري واكتساب الشهرة والمال. فليحسن التمييز الذين يقرءون مثل تلك الكتب، وليستشيروا خبيرا في مثل تلك الأمور قبل أن يخوضوا تجربة من التجارب التي ذكرتها فيما سبق، أو ليقرءوا تلك الكتب بصبر ويستوعبوها كليا قبل أن يضعوها قيد التنفيذ.
الفصل الثامن
التحذير
أخشى أن الحديث إلى الفصل التالي. استمرت تجاربي الغذائية جنبا إلى جنب مع تجاربي في المعالجة بالطين. وأعتقد أنني لن أخرج عن السياق إذا ما ذكرت هنا بعض الملاحظات التي تتعلق بتلك التجارب الغذائية مع أنني سوف أتطرق إليها مرة أخرى فيما بعد.
لن أتعرض، الآن أو فيما بعد، لتجاربي الغذائية بالتفصيل نظرا لأنني تناولتها بالتفصيل في سلسلة من المقالات المكتوبة باللغة الجوجراتية التي نشرت منذ سنوات في جريدة «الرأي الهندي»، والتي نشرت فيما بعد في كتاب يعرف باسم «مفتاح الصحة».
1
وهذا الكتاب هو أكثر كتبي القليلة قراءة في الشرق والغرب على حد سواء، وهو الأمر الذي لا أفهم سببه حتى الآن. لقد كتبت تلك المقالات من أجل قراء «الرأي الهندي»، لكنني أعلم أن الكتيب ترك أثرا عميقا في حياة الكثيرين في الشرق والغرب ممن لم يقرءوا جريدة «الرأي الهندي» من قبل. ونظرا لأن مثل أولئك الأشخاص راسلوني للاستفسار عن ذلك الموضوع، فقد وجب أن أذكر شيئا هنا عن الكتيب. فمع عدم وجود سبب لتغيير آرائي الواردة في الكتيب، أضفت بعض التغييرات الجذرية في ممارساتي الفعلية التي لا يعلمها كل من قرأ الكتاب وأرى أنه ينبغي أن أطلعهم عليها.
إن الكتيب، كغيره من كتاباتي الأخرى، كتب لغاية روحانية طالما دفعت الآخرين للاقتداء بي. لذلك أشعر بضيق عميق عندما أجد نفسي اليوم غير قادر على ممارسة بعض النظريات التي قدمتها في الكتاب.
أنا على اقتناع تام بأن الإنسان لا يحتاج لتناول الحليب نهائيا، إلا حليب أمه الذي يتناوله وهو رضيع. ويجب أن يقتصر طعامه على الفاكهة التي جففتها حرارة الشمس والمكسرات. فيمكن للإنسان أن يحصل على الغذاء الكافي لكل من الأنسجة والأعصاب من الفواكه مثل العنب والمكسرات مثل اللوز. فمن السهل على من يعيش على ذلك الطعام أن يكبح الرغبة الجنسية وغيرها من العواطف. فلقد وجدت أنا ورفاقي عن طريق التجربة أن القول الهندي المأثور «أنت ما تأكل» يحمل الكثير من الصحة. وقد أوضحت تلك الآراء بمزيد من التفصيل في الكتاب.
لكن لسوء الحظ، وجدت نفسي في الهند مضطرا للتخلي عن ممارسة بعض نظرياتي. وفي أثناء وجودي في «خيدا» أثناء حملة حشد المتطوعين، مرضت بسبب مشكلة في الغذاء وكنت على شفا الموت. حاولت عبثا أن أعيد بناء جسدي خائر القوى دون تناول الحليب. لجأت إلى الأطباء والمتخصصين في علم «الآيورفيدا» والعلماء الذين أعرفهم لمساعدتي في إيجاد بديل للحليب. أشار علي بعضهم بماء المنج، والبعض الآخر بزيت موهرا، وآخرون بحليب اللوز. فأخذت أهلك جسدي أثناء تجربة كل هذه الوصفات، لكن لم يساعدني أي منها على النهوض من فراش المرض. قرأ لي المتخصصون في علم «الآيورفيدا» بعض أسطر تشاراكا
2
حتى يبرهنوا لي أن الشك الديني فيما يتعلق بالغذاء لا مكان له في علاج الأمراض. لذلك لم أتوقع أن يساعدوني في الشفاء دون تناول الحليب. وكيف يمكن لمن أوصاني بتناول مرق اللحم البقري والبراندي دون تردد أن يساعدني في المثابرة على نظام غذائي خال من الحليب؟
لم يكن من الممكن أن أتناول حليب البقر أو الجاموس لالتزامي بالعهد الذي أخذته على نفسي. كان العهد بالطبع يشمل جميع أنواع الحليب، لكن نظرا لأنني كنت أعني حليب البقر والجاموس فقط عندما أخذت العهد، ونظرا لرغبتي في النجاة بحياتي، خدعت نفسي مؤكدا على المعنى الحرفي للعهد، ولذا تناولت حليب الماعز. شعرت بالقلق إزاء فقدان عهدي لروحه عندما بدأت في تناول حليب الماعز.
ومع ذلك، تملكتني فكرة تزعم حملة ضد قانون رولات.
3
وقد نمت مع هذه الفكرة رغبتي في الحياة. وبناء على ذلك، توقفت إحدى أعظم التجارب في حياتي.
أعلم أن هناك من يقول إنه لا علاقة للروح بما يأكله المرء أو يشربه تذرعا بأن الروح لا تأكل ولا تشرب، فلا يهم الطعام الذي تتناوله لكن المهم ما تعبر عنه من داخلك إلى العالم الخارجي. ولا شك أن ذلك القول يستند إلى بعض المنطق، لكن بدلا من أن أفند هذا القول سأكتفي بأن أوضح اعتقادي الشخصي الذي يقول: إن من يخشى الإله ويرغب في رؤيته وجها لوجه، يؤمن بأن التحكم في شهوة الطعام سواء كما أو كيفا ضروري مثله مثل التحكم في التفكير والكلام.
مع ذلك، كنت أخبر الآخرين عندما أكتشف فشل إحدى نظرياتي، وأحذر بشدة من تبنيها. لذلك يمكنني أن أحث أولئك الذين امتنعوا عن تناول الحليب بناء على نظريتي على ألا يواصلوا تلك التجربة إلا إذا كانت تعود عليهم بالنفع أو بناء على نصيحة الأطباء من ذوي الخبرة. فقد أثبتت لي خبرتي حتى الآن أنه للذين يعانون ضعف الهضم والذين هم طريحو الفراش، لا يوجد أي غذاء خفيف ومغذ يضاهي الحليب.
سأكون ممتنا للغاية إذا ما أخبرني أحد ذوي الخبرة في هذا المجال، إذا تصادف وقرأ هذا الفصل، عن بديل نباتي للحليب بنفس مستوى التغذية وسهولة الهضم، على أن يكون توصل لهذه المعلومة عن طريق خبرته العملية وليس من قراءاته.
هوامش
الفصل التاسع
الصراع مع السلطة
وأنتقل الآن إلى الحديث عن الإدارة الآسيوية.
كانت جوهانسبرج معقل الضباط الآسيويين. ولاحظت أن هؤلاء الضباط كانوا يضطهدون الهنود والصينيين وغيرهم بدلا من حمايتهم، وكانت تأتيني شكاوى يومية نصها: «إنهم لا يقبلون من لهم الحق في العودة للبلاد، في حين يجري تهريب من لا يحق لهم العودة مقابل 100 جنيه إسترليني. يجب أن تعالج هذا الأمر، وإلا فمن سيعالجه؟» وقد شاركتهم هذا الشعور. فإذا لم أنجح في القضاء على هذه الكارثة، سيكون وجودي في الترانسفال عديم القيمة.
أخذت في جمع الأدلة، وفور أن توافرت لدي الأدلة الكافية تقدمت إلى مأمور الشرطة الذي كان رجلا عادلا. فبدلا من أن يعرض عني، استمع لي بصبر وطلب مني أن أريه الأدلة التي بحوزتي، واستجوب الشهود بنفسه واقتنع بوجهة نظري، لكنه كان يعلم مثلي تماما أنه من الصعب في جنوب أفريقيا أن تدين هيئة محلفين من البيض شخصا من البيض لصالح الملونين. لكنه قال لي: «لكن دعنا نحاول على أي حال، فليس من الصواب أيضا أن نترك أولئك المجرمين دون أن يعانوا الخوف من أن تدينهم هيئة المحلفين، فلا بد من إلقاء القبض عليهم. أؤكد لك أنني لن أترك طريقا إلا وأسلكه.»
لم أكن في حاجة لذلك التأكيد. كنت أشك في عدد كبير من الضباط، لكن نظرا لعدم توافر الأدلة الدامغة لإدانتهم جميعا، صدرت مذكرة اعتقال فقط ضد الاثنين اللذين كنت متيقنا تماما من جرمهما.
لم يكن من الممكن أن تظل تحركاتي طي الكتمان، فالكثير من الناس علموا أنني كنت أذهب لمأمور الشرطة بصورة شبه يومية، وكان لدى الضابطين اللذين حررت ضدهما مذكرات الاعتقال جواسيس أكفاء لا بأس بهم، فقد اعتاد جواسيسهما أن يراقبوا مكتبي، وينقلوا جميع تحركاتي إلى الضابطين. ويجب أن أعترف بأن الضابطين كانا من السوء بمكان بحيث لم يكن بوسعهم استخدام الكثير من الجواسيس. ولولا مساعدة الهنود والصينيين لي، لما استطعت أن أساعد الشرطة في القبض عليهما.
فر أحد الضابطين، لكن مأمور الشرطة حصل على مذكرة لتسليم المجرمين، فقبض عليه وسلم إلى حكومة الترانسفال، فحوكم الضابطان، ومع أن الأدلة التي قدمت ضدهما كانت قوية، ومع أنه قد توفر الدليل على هروب أحدهما، فقد حكمت المحكمة ببراءتهما وأخلت سبيلهما.
آلمني حكم المحكمة وخيب أملي بشدة، وشعر مأمور قسم الشرطة بالأسف هو أيضا. فشعرت باشمئزاز تجاه مهنة المحاماة، وقد أصبحت مجرد فكرة المحاماة بغيضة في نظري لأنني وجدت أنه من الممكن تسخيرها للتستر على الجريمة.
ومع تبرئة ساحة الضابطين، فقد كان جرمهما واضحا جدا لدرجة أن الحكومة لم تستطع أن تتركهما في منصبهما، فطرد الضابطان من الخدمة، وأصبحت الإدارة الآسيوية نظيفة، فعادت الطمأنينة بقدر ما إلى الجالية الهندية.
زادت هذه الواقعة من مكانتي وأدرت المزيد من العمل، وأصبحت الجالية توفر أغلب الأموال التي كانت تفقدها شهريا بسبب الاختلاس، والتي كانت تصل إلى مئات الجنيهات. لم نتمكن من توفير جميع تلك الأموال حيث لم يكف بعض عديمي الأمانة عن ممارساتهم. لكن الآن أصبح من الممكن أن يحافظ الأمين على أمانته.
ويجب أن أذكر هنا أنه مع سوء هذين الضابطين إلا أنني لم أكن أحمل ضدهما أي ضغينة شخصية. وقد كانا على علم بهذه الحقيقة، وكنت أساعدهما عندما كانا يلجآن لي في أوقات تعرضهما للمحن. فقد عرضت عليهما بلدية جوهانسبرج العمل لديها في حالة عدم اعتراضي على ذلك العرض. فأتاني أحد أصدقائهما ليحدثني بهذا الشأن، فوافقت ألا أقف في طريقهما، وبالفعل نجحا في الحصول على العمل.
وقد كان لموقفي هذا أثر كبير في التخفيف عن الضباط الذين كنت أتعامل معهم. ومع اضطراري كثيرا إلى محاربة إدارتهم وإلى استخدام لغة شديدة اللهجة، إلا أنهم ظلوا يعاملونني بود. لم أكن حينها أعي تماما أن ذلك السلوك هو جزء من طبيعتي. لكنني أدركت فيما بعد أن ذلك السلوك كان جزءا جوهريا من أجزاء الساتياجراها وأحد خصائص الأهيمسا.
يجب أن نميز بين المرء وأعماله، ففي حين يستوجب العمل الصالح الاستحسان والعمل السيئ الازدراء، دائما ما يستحق صاحب تلك الأعمال - سواء الصالحة أو الشريرة - الاحترام أو الشفقة. فمع سهولة استيعاب القاعدة السلوكية التي تقول: «ابغض الخطيئة وليس مقترفها»، نادرا ما نجد من يعمل بها. وذلك هو السبب وراء انتشار سم الكراهية في أنحاء العالم.
إن الأهيمسا هي أساس البحث عن الحقيقة. أدرك كل يوم أن البحث عن الحقيقة يكون عديم القيمة إذا لم يعتمد على الأهيمسا كأساس له. من الطبيعي أن تقاوم نظاما ما وتهاجمه، لكن عندما تقاوم واضع ذلك النظام وتهاجمه تكون كمن يقاوم نفسه ويهاجمها. فجميعنا نحمل نفس الصفات السيئة وجميعنا خلقنا إله واحد، ولذلك فالقوى الإلهية بداخلنا مطلقة. إن ازدراء إنسان واحد يعني ازدراء تلك القوى الإلهية، ومن ثم فإن ذلك لا يضر ذلك الإنسان وحده، بل العالم أجمع.
الفصل العاشر
الذكرى المقدسة والكفارة
أدت الكثير من الحوادث في حياتي إلى قربي من أشخاص ينتمون إلى كثير من العقائد والمجتمعات، وتؤكد خبرتي معهم أنني لم أفرق بين الأقرباء والغرباء أو أبناء بلدي والأجانب أو البيض والملونين أو الهندوس وغيرهم من الهنود الذين ينتمون لديانات أخرى سواء المسلمين أو البارسيين أو المسيحيين أو اليهود. يمكنني القول بأن قلبي كان عاجزا عن القيام بمثل ذلك التمييز، ولا يمكنني الزعم بأن هذه الصفة فضيلة خاصة أتمتع بها نظرا لأنها موجودة بالفعل في طبيعتي وليست نتيجة لمجهود شخصي. أما للأهيمسا (اللاعنف) والبراهماشاريا (التحكم في شهوات النفس ) والأباريجراها (نبذ الملكية) وغيرها من الفضائل الأساسية، فأنا أتعمد تماما السعي الدائم إلى تنميتها.
كان الموظفون الذين يعملون في مكتبي كثيرا ما يقيمون معي أثناء عملي في دربان، وقد كان منهم الهندوس والمسيحيون أو الجوجراتيون والتاميليون، ولا أذكر أنني نظرت إليهم يوما إلا كأصدقائي وأفراد عشيرتي. لقد كنت أعاملهم كأفراد عائلتي، وكنت أعنف زوجتي إذا ما اعترضت على معاملتي لهم بتلك الطريقة، وكان أحد أولئك الموظفين مسيحيا، ينتمي والداه إلى طبقة المنبوذين.
كان منزلي مبنيا على الطراز الغربي، ولم تكن الغرف تحتوي على مصارف لإخراج المياه القذرة. ونتيجة لذلك، كان يوجد مبولة بكل غرفة. وكنت أنا وزوجتي نعتني بنظافتها بدلا من أن ينظفها خادم أو عامل نظافة. وبالطبع كان الموظفون الذين يعتبرون منزلي منزلا لهم ينظفون المبولة الموجودة في غرفهم بأنفسهم، لكن ذلك الموظف المسيحي كان وافدا جديدا، ومن ثم كان علينا أن نعتني نحن بغرفة نومه. وكانت زوجتي تنظف المباول الخاصة بغيره من الموظفين، لكنها لم تكن لتنظف مبولة يستخدمها أحد الذين ينتمون لطبقة المنبوذين مما أدى إلى نشوب شجار بيننا. ولم تحتمل أن أنظف تلك المبولة بنفسي، ولا أن تنظفها هي. لا أزال أذكر حتى الآن صورتها وهي توبخني، وقد احمرت عيناها غضبا وتساقطت دموعها المتلألئة على وجنتيها وهي تنزل درجات السلم حاملة المبولة بين يديها. لكنني كنت زوجا طيبا وقاسيا في الوقت ذاته. فقد كنت أعتبر نفسي معلمها، ولذا كنت أضايقها بدافع حبي الأعمى لها.
لم أكن راضيا بمجرد حملها للمبولة، وكان علي أن أجعلها تنظفها بابتهاج. فقلت رافعا صوتي: «لن أتحمل هذا الهراء في بيتي.» فاخترقت تلك الكلمات قلبها كالسهم. فصاحت قائلة: «احتفظ ببيتك لنفسك، ودعني أرحل.» لم أتمالك نفسي، وجف نبع المشاعر المتدفق بداخلي. فجذبتها من ذراعها وأخذت أجر زوجتي البائسة نحو البوابة المقابلة للسلم، وأخذت أفتحها بغرض دفعها خارج المنزل. كان فيض من العبرات يسيل على وجنتيها، وصرخت: «ألا تخجل من نفسك؟ هل نسيت نفسك إلى هذا القدر؟ إلى أين سأذهب؟ لا يوجد من يئويني هنا، لا والداي ولا أقربائي. هل تعتقد أن كونك زوجي يوجب علي أن أتحمل القيود التي تفرضها علي واعتداءك علي؟ أسألك بحق الإله أن تعود لرشدك وتغلق البوابة. لا تجعل أحدا يرانا بهذا المنظر.»
تظاهرت بالشجاعة، لكنني كنت أشعر بالخزي حقا، فأغلقت البوابة. لم أكن أستطيع التخلي عن زوجتي بنفس الدرجة التي لم تستطع هي التخلي عني بها . فلقد نشبت بيننا الكثير من المشاحنات، لكننا كنا نتصالح في النهاية ويعم السلام بيننا. ودائما ما كانت زوجتي هي المنتصرة نظرا لقدرتها الفائقة على التحمل.
الآن يمكنني أن أقص تلك الواقعة بنوع من الموضوعية نظرا لأنها ترجع إلى فترة تجاوزتها لحسن الحظ. فلم أعد ذلك الزوج الأعمى المفتون، ولم أعد معلم زوجتي. يمكن لكاستوربا الآن، إن أرادت، أن تعاملني معاملة سيئة كما كنت أعاملها فيما مضى. لقد أصبحنا أصدقاء يثق كل منا بالآخر، ولم يعد أي منا يعتبر الآخر مثيرا للشهوة. وقد عملت زوجتي على تمريضي بإخلاص في أثناء مرضي، وكانت تخدمني دون انتظار مقابل.
حدثت تلك الواقعة في عام 1898م، وهي المدة التي لم يتوافر لدي فيها تصور لمفهوم البراهماشاريا. كنت أؤمن في ذلك الوقت بأن الزوجة هي موضع شهوة زوجها ومخلوقة لتأدية أوامره، أكثر منها رفيقة وصديقة وشريكة للزوج في السراء والضراء.
لم تتغير تلك الأفكار جذريا حتى عام 1900م، وقد اتخذت شكلا ملموسا بحلول عام 1906م. لكنني أقترح الحديث عن هذا الموضوع في مقامه المناسب. يكفي القول بأن حياتي الأسرية أصبحت أكثر هدوءا وسعادة مع الاختفاء التدريجي للشهوة الجنسية من حياتي.
لا أريد أن يعتقد أحد القراء نتيجة لما ذكرت أننا كنا زوجين مثاليين، أو أن أهدافنا وغاياتنا كانت متوحدة تماما. إن كاستوربا نفسها ربما لا تدري هل كان لديها أي أهداف شخصية مستقلة عن أهدافي أم لا، ومن المحتمل أنها لم تستحسن الكثير من أعمالي حتى في هذا الوقت. لكننا لم نناقش تلك الأمور لعدم وجود طائل في ذلك. فلم يعلمها والداها أو أعلمها أنا في الوقت الذي كان يتعين علي أن أعلمها فيه، لكنها كانت تمتلك صفة عظيمة، وهي الصفة التي تمتلكها بقدر ما أغلب الزوجات الهنديات. إنها صفة تتمثل في كونها اعتبرت نفسها - سواء برغبتها أو دون رغبتها وسواء كانت تعي ذلك أو لا - محظوظة باتباعها لخطواتي، ولم تقف قط في طريق سعيي لعيش حياة خالية من الشهوات. وهكذا، ومع وجود فجوة فكرية كبيرة بيننا، كنت أشعر دائما بأن حياتنا مبنية على القناعة والسعادة والتقدم.
الفصل الحادي عشر
علاقات وثيقة بالأوروبيين
لقد أوصلني هذا الفصل إلى مرحلة أصبح من الضروري فيها أن أشرح للقارئ كيف أكتب هذه القصة من أسبوع إلى آخر.
عندما شرعت في كتابة هذه القصة لم يكن في مخيلتي خطة بعينها، فلم أكن أمتلك أي دفتر يوميات أو وثائق أبني عليها قصة تجاربي هذه، فأنا أكتب وفقا للطريقة التي يرشدني إليها الإله وقت الكتابة. لا أزعم معرفتي الجازمة بأن جميع أفكاري وأفعالي تتم بناء على إرشاد الإله، لكن عند التدقيق في الخطوات العظيمة التي أخذتها في حياتي، وكذلك تلك الخطوات التي قد تعد أقل منها شأنا، أجد أنه يمكن القول إن كل تلك الأفعال كانت بناء على توجيه الإله.
إنني لم أر الإله، ولم أعرفه حق المعرفة؛ لذلك جعلت من إيمان العالم بالإله إيمانا خاصا بي. ونتيجة لأن إيماني لا ينطمس، أعتبر ذلك الإيمان معادلا للخبرة. على أنه نظرا لخشيتي أنه قد يقال إن من يصف الإيمان بأنه خبرة إنما يعبث بالحقيقة، سأكون أكثر دقة إذ أقول إنني لا أجد الكلمة التي تصف إيماني بالإله.
لعل من السهل الآن - بقدر ما - فهم السبب وراء اعتقادي بأنني أكتب هذه القصة على النحو الذي يرشدني إليه الإله، فعندما بدأت كتابة الفصل السابق، وضعت له عنوان هذا الفصل، لكنني أدركت وأنا أكتبه أن علي ذكر نوع من التمهيد قبل أن أقص خبراتي مع الأوروبيين. وهذا ما فعلته، وبالفعل غيرت عنوان الفصل.
والآن وأنا أبدأ في كتابة هذا الفصل أجد نفسي أمام مشكلة جديدة. إن اختيار الأمور التي سأذكرها والأشياء التي سأتغاضى عنها فيما يتعلق بأصدقائي الإنجليز الذين سأتحدث عنهم يمثل مشكلة حقيقية، فلو أنني أغفلت أمورا وثيقة الصلة بالموضوع، ستصبح الحقيقة غامضة، ومن الصعب أن أقرر على الفور الأمور وثيقة الصلة بالموضوع؛ نظرا لأنني لست واثقا حتى بمدى ارتباط هذه القصة بالموضوع.
أستطيع الآن أن أفهم بصورة أوضح ما قرأته منذ عهد بعيد عن قصور جميع كتب السير الذاتية كسرد تاريخي. أنا على دراية بأنني لا أكتب في هذه القصة كل ما أذكره عن الماضي، فمن ذا الذي يستطيع القول كم من الأمور يجب أن أذكر وكم منها يجب أن أغفل سعيا وراء الحقيقة؟ وما قيمة دليل من طرف واحد غير كاف أقدمه كإثبات لأحداث معينة وقعت في حياتي؟ إذا ما جاء شخص فضولي واستجوبني حول الفصول التي كتبتها بالفعل، فلعله سيلقي الضوء على تلك الأحداث بصورة أوسع، وإذا كان ذلك الاستجواب صادرا عن ناقد عدائي، فمن الممكن أن يطري على نفسه لأنه أظهر «بطلان ادعاءاتي».
لذلك أقف للحظة لأتساءل: هل كان من الأفضل أن أتوقف عن كتابة هذه القصة؟ لكنني يجب أن أستمر في الكتابة مادام صوت الضمير بداخلي لا يمنعني من ذلك. يجب علي أن أتبع القاعدة الحكيمة التي تقول إنه لا يجب التخلي عما بدأت إلا إذا ثبت لك أنه مناف للأخلاق.
أنا لا أكتب سيرتي الذاتية بهدف إرضاء النقاد، إنما كتابة هذه السيرة تعتبر في ذاتها إحدى تجاربي مع الحقيقة. ولا شك أن أحد أسباب كتابتي لهذه السيرة هو إرضاء زملائي وتزويدهم ببعض الراحة وغذاء الفكر، فقد بدأت بالفعل في الكتابة بناء على رغبتهم. فلقد كان من الممكن ألا أكتب هذه القصة لولا إصرار السيد جيرامداس والسيد أناند. ولذا أرى أنه إذا كانت كتابتي لسيرتي الذاتية أمرا يؤخذ ضدي، فهما يتحملان اللوم معي.
أنتقل الآن إلى الموضوع الذي يشير إليه عنوان الفصل. كان بعض الأصدقاء الإنجليز يقيمون معي في دربان كما كان يعيش معي بعض الهنود كأفراد من العائلة، ولا يعني ذلك أن جميع المقيمين معي كانوا راضين عن ذلك، لكنني كنت أصر على بقائهم، ولم أكن حكيما في معالجة جميع المواقف، فقد مرت بي بعض التجارب المرة، إلا أن تلك التجارب اشتملت على كل من الهنود والأوروبيين، ومع ذلك، لا أشعر بالندم على أي منها. فمع تلك التجارب المريرة وبغض النظر عن الإزعاج والقلق اللذين كنت كثيرا ما أسببهما لأصدقائي، لم أغير تصرفاتي وتحملني أصدقائي بصدر رحب. كلما كانت علاقاتي مع الغرباء تؤلم الأصدقاء، لم أكن أتردد في إلقاء اللوم عليهم. أؤمن بأن المؤمنين الذين يرون الإله ذاته في الآخرين كما يرونه في أنفسهم، يجب أن يكونوا قادرين على العيش بين الناس جميعا بدرجة كافية من الانفصال. ويمكن بذلك صقل القدرة على الحياة، ليس بواسطة تجنب الفرص غير المنشودة لإقامة مثل تلك العلاقات، ولكن عن طريق الترحيب بها بروح الخدمة بالإضافة إلى الحفاظ على النفس دون التأثر بهم.
ومع أن منزلي كان مكتظا بالأصدقاء عند اندلاع حرب البوير، فإني استضفت اثنين من الإنجليز من جوهانسبرج كانا من معتنقي الثيوصوفية، أحدهما السيد كيتشين، الذي سأتحدث عنه بمزيد من التفصيل فيما بعد. كان أصدقائي كثيرا ما يجعلون زوجتي تذرف الدموع المريرة. ولسوء الحظ كان عليها أن تمر بالعديد من المحن بسببي. كانت هذه هي المرة الأولى التي يقيم فيها أصدقاء إنجليز معي كأفراد في أسرتي. لقد مكثت في منازل إنجليزية أثناء إقامتي في إنجلترا، وتكيفت هناك مع أسلوبهم في الحياة، وقد كانت إقامتي بتلك المنازل كإقامتي بفندق، أما هنا فالأمر كان مختلفا تماما، فالأصدقاء الإنجليز أصبحوا من أفراد عائلتي، واعتنقوا الأسلوب الهندي في القيام بالكثير من الأمور. ومع أن أثاث المنزل كان على الطراز الغربي، فإن الحياة بداخله في أغلبها كانت على الطريقة الهندية. أذكر أنني وجدت بعض الصعوبة في إبقائهم كأفراد في العائلة، لكنني أؤكد أنهم كانوا يشعرون وكأنهم في منزلهم، وقد تطورت تلك العلاقات في جوهانسبرج أكثر منها في دربان.
الفصل الثاني عشر
علاقات وثيقة بالأوروبيين (تابع)
كان لدي في جوهانسبرج في وقت ما أربعة موظفين هنود، وربما كنت أعاملهم كأبنائي أكثر من كونهم مجرد موظفين يعملون لدي. لكن ذلك العدد من الموظفين لم يكن كافيا لإنجاز العمل، فقد كان من المستحيل أن نعمل دون الطبع على الآلة الكاتبة. ولم يكن أحد منا يعرف كيفية الطباعة عليها إلا أنا، إذا صح القول. فعلمت اثنين من الموظفين كيفية الطباعة على الآلة الكاتبة، إلا أنهما لم يجيدا الطباعة بالكفاءة المطلوبة نظرا لضعف مستواهم في اللغة الإنجليزية. ثم أردت أن أدرب أحدهما ليكون محاسبا، فلم أستطع أن أحضر محاسبا من ناتال نظرا لحظر دخول أي شخص إلى الترانسفال دون تصريح. بالإضافة إلى ذلك، لم أكن مستعدا لطلب خدمة من الضابط المسئول عن إصدار التصريحات لمصلحتي الشخصية.
كنت تائها في بحر لجي دون شاطئ أرسو عليه. كانت المتأخرات تتراكم بصورة بدا معها من المستحيل، مهما حاولت، أن أوازن بين العمل المهني والعمل العام. فعزمت على استخدام موظف أوروبي، لكنني لم أكن واثقا بإمكانية استخدام رجل أبيض أو امرأة بيضاء للعمل لدى شخص ملون مثلي، لكنني قررت أن أحاول على كل حال، فتوجهت إلى وكيل للآلات الكاتبة، وطلبت منه أن يبحث لي عن كاتب اختزال. كان هناك عدد من الفتيات الراغبات في العمل، وقد وعدني بأن يحصل لي على واحدة للعمل لدي. وجد الوكيل فتاة اسكتلندية تدعى الآنسة ديك، وكانت قد وصلت حديثا من اسكتلندا. ولم يكن لديها مانع من التكسب من العمل الشريف أينما كان، وكانت في حاجة لذلك العمل. أرسل الوكيل الآنسة ديك لي، وقد أعجبت بها على الفور.
فسألتها: «ألا تمانعين في العمل لدى هندي مثلي؟»
فردت بحزم: «على الإطلاق.» - «ما الراتب الذي تتوقعين الحصول عليه؟» - «هل سيكون مبلغ سبعة عشر جنيها إسترلينيا ونصف مبلغا كبيرا؟» - «لن يكون كبيرا إذا ما أنجزت العمل الذي أريده منك. متى تستطيعين البدء في العمل؟» - «فورا إن شئت.»
سررت لحديثها وعلى الفور بدأت في إملائها عددا من الخطابات.
لم يمر وقت طويل حتى أصبحت بمنزلة ابنة أو أخت لي أكثر منها كاتبة اختزال، وكنت نادرا ما أجد خطأ في عملها. وكانت كثيرا ما تضطلع بإدارة مبالغ تصل إلى آلاف الجنيهات، وكانت مسئولة عن إمساك دفاتر الحسابات. لقد حازت ثقتي الكاملة، والأكثر من ذلك أنها أفضت إلي بعميق أفكارها ومشاعرها، فقد استشارتني في اختيارها لزوجها، وكان لي الشرف في اصطحابها إلى عريسها يوم زفافها. وما إن أصبحت الآنسة ديك السيدة ماكدونالد، اضطرت لترك العمل لدي، ومع ذلك لم تتوان قط في مساعدتي متى طلبت منها.
أصبحت في حاجة إلى كاتب اختزال بدوام كامل ليحل محل ديك، وبالفعل حالفني الحظ في العثور على فتاة أخرى. كانت هذه الفتاة تدعى الآنسة شليسن، وكان قد قدمها لي السيد كالنباخ الذي سنأتي على ذكره في الموضع المناسب. تعمل الآنسة شليسن الآن مدرسة في إحدى المدارس الثانوية بالترانسفال، وكانت تبلغ السابعة عشرة عندما جاءت للعمل معي، وكنت أنا والسيد كالنباخ لا نستطيع تحمل بعض طباعها في بعض الأوقات، وقد صارت تكتسب خبرة أكثر من عملها كاتبة. ولم تكن تقر بالتمييز العنصري، ولم تكن تأبه لسن من تتحدث إليه أو خبرته، حتى إنها لم تكن لتتردد في إهانة أي شخص وتخبره برأيها فيه وجها لوجه. وكثيرا ما أوقعني تهورها ذلك في المشاكل، لكن شخصيتها المتفتحة والواضحة كانت تزيل تلك المشاكل فور ظهورها. كنت كثيرا ما أوقع على الخطابات التي تكتبها دون أن أراجعها لأنني كنت أرى أن مستواها في اللغة الإنجليزية أفضل مني، بالإضافة إلى ثقتي الكاملة بإخلاصها.
لقد كانت عظيمة التضحية. فقد ظلت لفترة طويلة لا تتقاضى ما يزيد على 6 جنيهات إسترلينية، وكانت ترفض أن تحصل على ما يزيد على 10 جنيهات إسترلينية شهريا. وعندما كنت ألح عليها كي تأخذ المزيد من المال، كانت توبخني وتقول: «لست أعمل هنا كي أتقاضى مرتبا منك. أنا أعمل هنا لأنني أحب العمل معك وتعجبني مبادئك.»
ذات مرة كانت في حاجة إلى 40 جنيها إسترلينيا، لكنها أصرت على أن تأخذها على سبيل الدين وسددت المبلغ بالكامل العام الماضي . وقد كانت شجاعتها لا تقل عن تضحيتها. إنها من السيدات القلائل اللاتي تشرفت بمعرفتهن، ممن يتمتعن بشخصية صافية كالبلور وشجاعة تفوق شجاعة المحاربين. لقد أصبحت امرأة ناضجة الآن. وأنا لا أعرف طريقة تفكيرها تماما مثلما لم أعرفها عندما كانت تعمل معي، لكنني سأعتبر علاقتي بتلك السيدة الشابة دوما ذكرى مقدسة. ولذلك سأكون مضللا للحقيقة إن أخفيت ما أعرفه عنها.
لقد كانت تكدح من أجل القضية ليلا ونهارا، وكانت تخاطر بالخروج وحدها لتأدية بعض المهام في ظلمة الليل، وكانت ترفض بغضب أي اقتراح يتضمن توفير حراسة لها. وكان الكثير من الهنود الشجعان يكنون لها الاحترام ويتطلعون لتوجيهاتها. وقد قادت حركة الساتياجراها وحدها في الفترة التي ألقي فيها بمعظم زعماء الحركة في السجن. وقد تولت مسئولية آلاف الجنيهات، وكما هائلا من المراسلات، ومسئولية صحيفة «الرأي الهندي» لكنها مع ذلك كله لم تكل أو تمل.
إذا ما أطلقت لقلمي العنان في الحديث عن الآنسة شليسن، فلن تكفيني مياه البحر مدادا، لكنني سأختتم هذا الفصل بالاستشهاد برأي جوخلي فيها. كان جوخلي يعرف كل زملائي في العمل، وكان كثيرا ما يعبر لي عن رأيه فيهم. وقد كان يضع الآنسة شليسن في مقدمة جميع الزملاء الهنود والأوروبيين. قال لي: «نادرا ما قابلت أحدا يتسم بالتضحية والنقاء والشجاعة التي تتمتع بها الآنسة شليسن. وهي تشغل في تقديري مقعد الصدارة بين كل أصدقائك.»
الفصل الثالث عشر
الرأي الهندي
وقبل أن أستطرد في ذكر علاقاتي الوطيدة مع أوروبيين آخرين، يجب أن أوضح أمرين أو ثلاثة أمور مهمة. ومع ذلك، أجد أنه يجب أن أبدأ بذكر أحد أصدقائي الأوروبيين على الفور. لم يكن تعييني للآنسة ديك كافيا لتحقيق غرضي، فكنت في حاجة إلى المزيد من المساعدة. سبق أن أشرت في الفصول السابقة إلى السيد ريتش، لقد كنت أعرفه جيدا، وكان يعمل مديرا في إحدى الشركات التجارية. وقد وافق على ترك الشركة التي يعمل بها ومساعدتي في عملي. وبالفعل خفف عني عبئا ثقيلا.
تقدم لي السيد مادانجيت في ذلك الوقت تقريبا باقتراح لتأسيس جريدة «الرأي الهندي»، وطلب رأيي بهذا الشأن. وقد كان يعمل بالفعل في الصحافة، فأيدت اقتراحه، وبدأ عمل الجريدة في عام 1904م، وأصبح السيد مانسوخلا نازار أول رئيس تحرير للجريدة. لكن كان علي تحمل وطأة العمل، حيث كان علي أن أتحمل مسئولية الجريدة في معظم الأوقات. ولا يرجع ذلك لتقصير السيد مانسوخلا، فلقد كان يكتب في عدد كبير من الصحف وهو يعيش في الهند، لكنه لم يكن ليجرؤ على الكتابة عن المشاكل المعقدة في جنوب أفريقيا في وجودي. لقد كانت ثقته كبيرة بفطنتي، ولذلك ألقى على كاهلي مسئولية التعهد بأعمدة الافتتاحية. وكانت الجريدة ولا تزال تصدر بصورة أسبوعية حتى وقتنا هذا. وكانت تصدر في البداية باللغات الجوجراتية والهندية والتاميلية والإنجليزية. لكنني رأيت أن الأجزاء المحررة باللغتين التاميلية والهندية كانت لمجرد التظاهر، ولا تخدم الغرض الذي حررت من أجله. لذلك، ونتيجة لشعوري بأن الاستمرار في تحرير تلك الأجزاء سيشمل على قدر من الخداع، قررت أن أوقف تحريرها.
لم يكن لدي أي نية للاستثمار في تلك الجريدة، لكن سرعان ما اكتشفت أنه لن يمكن للجريدة الاستمرار دون دعمي المادي لها. وكان الهنود والأوروبيون يعرفون أنني المسئول عمليا عن إدارة الجريدة وإن لم أكن رئيس التحرير الرسمي لها. لم يكن الأمر ليمثل مشكلة إذا لم نؤسس الجريدة من البداية، لكن وقف نشاطها بعد إصدارها كان سيمثل خسارة وخزيا، وهكذا أخذت أغدق المال على الجريدة حتى أنفقت كل مدخراتي تقريبا في النهاية. أذكر ذات مرة أنني اضطررت لدفع 75 جنيها إسترلينيا شهريا.
مع ذلك، أشعر بعد مرور كل تلك السنوات أن الجريدة قد خدمت الجالية بصورة كبيرة. ولم تكن الجريدة مشروعا تجاريا قط. وقد كان أي تغيير يقع في الجريدة أثناء إدارتي لها يعكس تغيرا في حياتي الخاصة. لقد كانت الجريدة في تلك الأيام مرآة تعكس جزءا من حياتي كجريدتي «يانج إنديا» و«نافاجيفان اليوم». أخذت أخرج ما يجول بنفسي في أعمدة الجريدة أسبوعا تلو الآخر، وأخذت أشرح مبادئ وممارسة الساتياجراها كما أفهمها. ولم يخل عدد واحد من جريدة «الرأي الهندي» من مقالة بقلمي أثناء عشر سنوات حتى عام 1914م، ما عدا الفترات التي كنت أزج فيها في السجن. ولا أذكر أنني كتبت ولو كلمة واحدة في هذه المقالات دون تفكير أو قصد، أو كلمة بالغت فيها عن قصد، أو أي كلمة لمجرد إرضاء القراء. وبالفعل أصبح عملي في الجريدة تدريبا على ضبط النفس، وكانت للأصدقاء وسيلة للاطلاع باستمرار على أفكاري. ولم يجد النقاد إلا القليل ليعترضوا عليه في الجريدة. فقد أجبر أسلوبها النقاد على غمد أقلامهم الناقدة. ولم يكن من المحتمل ظهور الساتياجراها لولا وجود جريدة «الرأي الهندي». فلقد تطلع القراء للجريدة لمعرفة تقرير صادق عن حملة الساتياجراها وحقيقة وضع الهنود في جنوب أفريقيا. أما من وجهة نظري فقد أصبحت الجريدة وسيلة لدراسة الطبيعة البشرية بجميع أنواعها ودرجاتها حيث إنني كنت حريصا دائما على إنشاء علاقة قوية بين المحرر والقارئ. غرقت في بحر من الخطابات التي تحتوي على ما تفيض به قلوب مراسلي، وكان منها الودود والنقدي والمر، وفقا لمزاج كاتب الخطاب. وقد أضافت دراستي لجميع تلك المراسلات واستيعابها والرد عليها لخبرتي الكثير. لقد بدا الأمر وكأن الجالية تفكر بصوت مسموع عبر هذه المراسلات، مما جعلني أستوعب مسئولية الصحفي بصورة شاملة، وقد ساعدت قيادتي للجالية في إنجاح الحملة المستقبلية، وإجلالها وجعلها لا تقاوم.
أدركت منذ الشهر الأول من انطلاق جريدة «الرأي الهندي» أن الهدف الأوحد للصحافة هو خدمة الآخرين. إن الصحافة هي قوة عظيمة، لكن يمكن لقلم جامح أن يدمر كل ما في طريقه، مثلما يغمر السيل الجامح قرى بأكملها ويهلك الحرث. لكن عندما يكون التحكم مفروضا من جهة خارجية، يكون أكثر ضررا من الحاجة إلى التحكم في ذلك القلم. فلا يؤتي التحكم ثماره إلا إذا كان نابعا من داخل الشخص نفسه. وإن صح ذلك القول، فكم من صحفي العالم سيستطيع اجتياز ذلك الاختبار؟ ولكن من يستطيع أن يضع حدا لتلك الأقلام عديمة الفائدة؟ ومن سيكون الحكم في ذلك؟ يجب أن تسير الأقلام النافعة والأقلام عديمة النفع جنبا إلى جنب كما هو الحال مع الخير والشر بصورة عامة، ويجب على كل إنسان منا أن يختار لنفسه أي طريق يسلك.
الفصل الرابع عشر
أحياء القولي أم أحياء الجيتو؟
تعزل بعض الطبقات التي تقدم لنا أجل الخدمات، والتي يعتبرها الهندوس مع خدمتها تلك «منبوذة»، في أحياء بعيدة عن المدينة أو القرية يطلق عليها باللغة الجوجراتية
dhedvado . وقد اكتسب ذلك الاسم سمعة سيئة. وذلك على غرار ما كان في أوروبا المسيحية، عندما كان اليهود «منبوذين» فيما مضى، وكان يطلق على الأحياء التي يسكنها اليهود اسم مهين هو «الجيتو». وبنفس الطريقة، أصبحنا نحن الآن المنبوذين في جنوب أفريقيا. ويمكن أن نرى كيف نجحت التضحية التي قدمها كل من أندروز والعصا السحرية لسرينيفاسا ساستري في رد اعتبارنا.
كان اليهود القدماء يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، دون غيرهم من الخلق، مما يجلب على سلالتهم التعرض إلى جزاء غريب، وظالم. وبنفس الصورة تقريبا، اعتبر الهندوس أنفسهم المختارين (آريا) أو المتحضرين، واعتبروا الآخرين من عشيرتهم وأصدقائهم منبوذين (أناريا). أدى ذلك إلى صب انتقام غريب، ليس فقط على الهندوس في جنوب أفريقيا بل أيضا على المسلمين والبارسيين، لأنهم ينتمون إلى نفس البلد وتحمل جلودهم نفس لون بشرة إخوانهم الهندوس.
ولعل القارئ الآن قد أدرك بقدر ما معنى كلمة «أحياء» التي ذكرتها في عنوان هذا الفصل. وقد أطلق علينا لقب «قولي» المهين في جنوب أفريقيا. وتعني تلك الكلمة في الهند مجرد العتال أو العامل المستأجر، لكن للكلمة دلالة مهينة في جنوب أفريقيا. فهي تعني في جنوب أفريقيا ما تعنيه كلمة المنبوذ لدينا في الهند، ويطلق على المناطق المخصصة «للقوليز» اسم «أحياء القولي». لم يكن في مدينة جوهانسبرج مثل هذه الأحياء. لكن على عكس المدن الأخرى التي يتمتع فيها الهنود بحق الاستئجار، كان يحصل الهنود على حق استئجار الأراضي في جوهانسبرج لمدة 99 عاما. كان الناس يتكدسون في تلك الأرض التي لم تزد مساحتها مع زيادة تعداد السكان بها. وبالإضافة إلى تنظيف الحمامات الواقعة بتلك الأحياء بصورة عشوائية، لم توفر البلدية أي منشآت صحية، ناهيك عن توفير طرق ممهدة أو إضاءة جيدة. لم يكن من المتوقع أن تحافظ البلدية على الصحة العامة بتلك الأحياء، وهي لا تبالي بصالح المقيمين بها أصلا. وكان أولئك الهنود جاهلين بقواعد الصحة والعادات الصحية المحلية التي يمكن أن يتمكنوا عن طريقها من الحفاظ عليها دون إشراف البلدية. لو أن جميع من ذهبوا لتلك الأحياء لديهم حسن تصرف روبنسون كروزو، لكان الأمر قد اختلف تماما. لكن لا يوجد بيننا مهاجر واحد يشبه روبنسون كروزو. عادة ما يهاجر الناس بحثا عن الثروة والتجارة، لكن أغلب الهنود الذين سافروا إلى جنوب أفريقيا كانوا جاهلين ومجرد مزارعين فقراء يحتاجون كل الرعاية والحماية، ولم يكن عدد التجار والمثقفين الذين تبعوهم بكثير.
لقد أسهم كل من إهمال البلدية وجهل المستوطنين الهنود في تحويل ذلك الحي إلى مكان غير صحي بالمرة. والأدهى من ذلك أن البلدية استغلت ذلك المناخ غير الصحي، الذي تسببت هي فيه، كذريعة لتدمير الحي بدلا من أن تقوم بما يتعين عليها من أجل تحسين حالته. وقد استخرجت البلدية بالفعل أمرا من السلطة التشريعية المحلية لطرد المستوطنين. كانت هذه هي الأوضاع الراهنة حين استقر بي المقام في جوهانسبرج.
كان من الطبيعي أن يحصل المستوطنون على تعويض لتمتعهم بحق ملكية أراضيهم. فأقيمت محكمة خاصة لنظر قضايا الاستحواذ على الأراضي. وقد كان من المتفق عليه أنه إذا لم يكن المستأجر مستعدا لقبول عرض البلدية فيحق له أن يلجأ إلى المحكمة، وإذا تجاوز المبلغ الذي تقره المحكمة عرض البلدية، فعلى البلدية أن تتحمل التكاليف.
وكلني أغلب المستأجرين مستشارا قانونيا لهم، ولم أكن أطمح في جني الأموال من وراء اضطلاعي بتلك القضايا، فأخبرت المستأجرين بأنني سأقبل أي أتعاب تقضي بها المحكمة في حالة فوزهم، وبأتعاب مقدارها 10 جنيهات إسترلينية عن كل عقار بغض النظر عن نتيجة القضية، وعرضت عليهم تخصيص نصف الأموال التي سيدفعونها لتشييد مستشفى أو أي منشأة مماثلة من أجل الفقراء. وقد أسعدهم ذلك الاقتراح كثيرا.
خسرت قضية واحدة من بين ما يقرب من 70 قضية. ومن ثم وصلت أتعابي إلى مبلغ ضخم، لكنني اضطررت إلى إنفاق مبلغ كبير على جريدة «الرأي الهندي» التي لا تنتهي التزاماتها، وأظن أن المبلغ وصل إلى 1600 جنيه إسترليني. لقد بذلت جهودا مضنية للفوز بتلك القضايا. وكان الموكلون لا يفارقونني قط. كان أغلب موكلي من العمال العاملين بعقود لأجل ممن ينتمون إلى ولاية بيهار والمناطق المحيطة بها وجنوب الهند. وقد أسس أولئك العمال مؤسسة خاصة، منفصلة عن الهنود الأحرار من التجار، لتتناول شكاواهم الخاصة. وكان بعضهم جديرين بالثقة وكرماء وحسني السمعة. كان زعماء تلك المؤسسة هم السيد جايرامسينج رئيسا، والسيد بادري الذي كان لا يقل مكانة عن الرئيس، وقد توفي كلاهما. ولقد ساعدني كلاهما بصورة كبيرة. فكانت علاقتي بالسيد بادري وثيقة، وشارك معي بدور بارز في حركة الساتياجراها. وقد أصبحت على علاقة وثيقة بالكثير من المستوطنين الهنود من شمال الهند وجنوبها عن طريق هذين الصديقين وغيرهما من الأصدقاء. وقد كنت لهم بمنزلة الأخ أكثر مني مستشارهم القانوني، وشاركتهم في جميع أحزانهم ومحنهم الخاصة والعامة.
ولعل من المهم هنا أن أذكر الاسم الذي كان الهنود ينادونني به. كان السيد عبد الله يرفض أن يناديني باسم غاندي. ولحسن الحظ لم ينادني أحد بلقب «سيد» قط، وقد اختار السيد عبد الله لقبا حسنا، وهو أخ أو «بهاي»، وهو الأمر الذي أخذه عنه الآخرون وظلوا ينادونني به حتى رحيلي عن جنوب أفريقيا، وكان للاسم وقع جميل على أذني عندما كان يصدر عن الهنود العاملين بعقود لأجل.
الفصل الخامس عشر
الطاعون الأسود (1)
لم ينتقل الهنود فور حصول البلدية على ملكية الأراضي، فقد كان من الضروري إيجاد مساكن ملائمة للسكان قبل طردهم من الحي، ونظرا لصعوبة ذلك على البلدية، اضطر الهنود للبقاء في الأماكن «القذرة» ذاتها، وتدنت حالة الحي أكثر نتيجة لهذا التمييز. وبعد أن تخلى الهنود عن ملكية مساكنهم، أصبحوا مستأجرين لدى البلدية، مما أدى إلى تدني مستوى الصحة بصورة أكبر بكثير مما كانت عليه. فعندما كانوا هم المالكين ، كان عليهم أن يحافظوا على مستوى معين من النظافة، حتى ولو بدافع الخوف من الجزاء القانوني. لكن البلدية بالطبع، لم تشعر بأي خوف! زاد عدد المستأجرين وزادت معه القذارة والفوضى.
وفي حين كان الهنود يشعرون بالغضب جراء ذلك الوضع، كان هناك تفش سريع للطاعون، والذي يطلق عليه أيضا اسم الطاعون الرئوي وهو أفظع وأخطر من الطاعون الدبلي.
ومن حسن الحظ لم يكن حي الهنود هو السبب في تفشي المرض، وإنما أحد مناجم الذهب التي تقع بالقرب من جوهانسبرج. كان أغلب العاملين بذلك المنجم من الزنوج، وكان أصحاب العمل من البيض هم المسئولين عن نظافتهم. وكان هناك أيضا بعض الهنود الذين يعملون في المنجم، فأصيب 23 منهم سريعا بالعدوى. وعاد أولئك الهنود في أحد الأيام إلى مساكنهم في الحي بهجوم شرس بعدوى الطاعون. تصادف وجود السيد مادانجيت، الذي كان يجمع مشتركين في جريدة «الرأي الهندي» ويحصل الاشتراكات، في الحي في ذلك الوقت. وكان السيد مادانجيت شجاعا للغاية. لقد انفطر قلبه على الضحايا الذين سقطوا جراء تلك الكارثة. وأرسل لي يقول: «هناك تفش سريع لمرض الطاعون. يجب أن تحضر على الفور وتتخذ تدابير فورية، وإلا ستكون العواقب وخيمة. أرجو منك الحضور فورا.»
كسر السيد مادانجيت القفل الموضوع على أحد البيوت الخالية، ووضع كل المرضى بداخله. ذهبت إلى الحي راكبا دراجتي، وأرسلنا إلى أمين سجلات البلدية نخبره بالظروف التي اقتحمنا فيها المنزل.
هرع الطبيب جود فري، الذي كان يعمل في جوهانسبرج، إلى موقع تفشي المرض لتقديم المساعدة فور سماعه الخبر، وعمل على تطبيب وتمريض المرضى. لكن كيف يمكن لثلاثة القيام على تمريض 23 مريضا؟
أؤمن، من واقع خبرتي، أنه إذا كان قلب المرء نقيا يجد رجالا يساعدونه عند وقوع الكارثة وحلولا للخروج منها. كان يعمل في مكتبي في ذلك الوقت أربعة من الهنود، كاليانداس، ومانيكلال، وجونفانتراي ديساي، وآخر لا أذكر اسمه. كان والد كاليانداس قد عهد به إلي، ونادرا ما التقيت في جنوب أفريقيا بأي شخص أكثر أدبا وإرادة لتقديم طاعة مطلقة من كاليانداس، ولحسن الحظ لم يكن كاليانداس متزوجا حينها، فلم أتردد في أن أكلفه بمهام تنطوي على مخاطرة، لكنها في نفس الوقت عظيمة. وقد عينت مانيكلال في جوهانسبرج، وكان هو الآخر غير متزوج حسبما أتذكر، فقررت التضحية بالموظفين الأربعة، بل دعني أقول الزملاء أو الأبناء، ولم يكن هناك حاجة إطلاقا لاستشارة كاليانداس، أما الثلاثة الآخرون، فقد أبدوا استعدادهم للمساعدة فور أن طلبت ذلك منهم. لقد أجابوني إجابة موجزة ولطيفة، قائلين: «سوف نذهب أينما ذهبت.»
كان السيد ريتش يعول أسرة كبيرة. وكان يرغب في المساعدة، لكنني منعته؛ فلم يطاوعني قلبي أن أعرضه للمخاطرة، ولذلك قام بتقديم المساعدة في خارج منطقة الخطر.
لقد مررنا بليلة عصيبة، ليلة مليئة باليقظة والتمريض. لقد سبق أن مرضت أناسا كثيرين، لكن لم يكن أي منهم مصابا بالطاعون. انتقلت الشجاعة التي يتمتع بها الطبيب جودفري إلى الآخرين. ولم يكن هناك الكثير من عمل التمريض، فكان العمل منصبا على إعطاء المرضى جرعات الأدوية وتلبية احتياجاتهم والحفاظ على نظافتهم ونظافة أسرتهم والتخفيف عنهم.
سعدت كثيرا بالحماسة والشجاعة المطلقة التي عمل بها الشباب، فقد يستوعب المرء شجاعة الطبيب جودفري ورجل متمرس كالسيد مادانجيت، لكن كيف يفسر المرء روح الشباب الغر أولئك!
أذكر أننا ساعدنا جميع المرضى طوال الليل على اجتياز مرحلة الخطر.
ومع أن القصة مؤلمة، أجد أن الحادثة بأسرها من الأهمية والقيمة الدينية بمكان حتى أنني أجد نفسي ملزما بتخصيص فصلين آخرين على الأقل للحديث عنها.
الفصل السادس عشر
الطاعون الأسود (2)
عبر لي أمين سجلات البلدية عن امتنانه لأنني توليت مسئولية ذلك المنزل الخالي واعتنيت بالمرضى، وقد اعترف لي صراحة أن مجلس المدينة لا يملك الوسائل اللازمة لمواجهة مثل حالات الطوارئ تلك، لكنه وعدني بأن يخصص كل المساعدة التي يمكنه الحصول عليها لمعالجة الأمر. وفور أن استيقظ المسئولون بالبلدية وشعروا بواجبهم، لم تتأخر البلدية في اتخاذ التدابير السريعة لمعالجة الموقف.
وفي اليوم التالي، وضعت البلدية مخزنا فارغا تحت تصرفي، واقترحوا نقل المصابين إليه، لكنها لم تأخذ التدابير اللازمة لتنظيف ذلك المخزن الذي كان مهملا وقذرا، فقمنا بتنظيفه بأنفسنا وجمعنا بعض الأسرة وغيرها من المستلزمات الضرورية عن طريق جهود الهنود من أهل الخير، ثم أسسنا مستشفى مؤقت، وساعدت البلدية بتوفير ممرضة بالإضافة إلى البراندي وغيره من تجهيزات المستشفى. وظل الطبيب جودفري هو المسئول.
كانت الممرضة سيدة طيبة، وكانت ترعى المرضى بسرور، لكننا كنا نادرا ما نسمح لها بلمسهم خشية أن تنتقل إليها عدوى المرض.
تلقينا تعليمات من الأطباء بإعطاء جرعات متكررة من البراندي إلى المرضى، حتى إن الممرضة طلبت منا تناول جرعات منه أيضا على سبيل الوقاية كما تفعل هي، لكن أحدا منا لم يلمسه، فلم أكن أعتقد أن له فائدة حتى للمرضى. فأخضعت ثلاثة من المرضى من الذين لا يحتاجون لتناول البراندي للمعالجة بالطين بعد أن حصلت على إذن من الطبيب جودفري، فوضعت ضمادة مبللة من الطين على رءوسهم وصدورهم. وقد نجا اثنان فقط من المرضى، في حين توفي العشرون الآخرون في المخزن.
وفي غضون ذلك، كانت البلدية مشغولة باتخاذ التدابير الأخرى، وكان هناك حجر صحي للأمراض المعدية على بعد سبعة أميال من جوهانسبرج، فنقلنا المريضين الناجيين إلى خيام بالقرب من الحجر الصحي، وأخذنا التدابير اللازمة لإرسال أي حالات جديدة إلى هناك. وبذلك، أعفينا من عملنا هناك.
علمنا بعد بضعة أيام أن الممرضة الطيبة تعرضت لنوبة مرض وماتت من فورها. يصعب على المرء أن يتخيل كيف نجا المصابون، وكيف لم تنتقل إلينا العدوى. على كل حال، زادت التجربة من إيماني بالمعالجة بالطين وتشككي في فعالية البراندي ولو كدواء. أعلم أن إيماني ذلك غير مبني على حقائق ثابتة ولا حتى تشككي، لكنني لا أزال أحتفظ بالانطباع ذاته الذي تولد لدي وقتها، ولذلك فكرت أن من الضروري أن أذكره في هذا السياق.
كنت قد أرسلت خطابا شديد اللهجة إلى الصحافة عند تفشي الطاعون، وأدنت فيه البلدية لإهمالها للحي بعد أن أصبح ملكا لها، وذكرت أنها هي المسئولة عن تفشي الوباء. جعلني ذلك الخطاب أتعرف إلى السيد هنري بولاك، وكان هو أيضا المسئول جزئيا عن صداقتي بالراحل الكاهن جوزيف دوك.
ذكرت في فصل سابق أنني اعتدت أن أتناول طعامي في مطعم نباتي، وفي ذلك المطعم قابلت السيد ألبرت ويست حيث اعتدنا الالتقاء كل مساء، ثم كنا نذهب للمشي بعد تناولنا للعشاء. كان السيد ويست شريكا في مؤسسة صغيرة للطباعة. وقد قرأ خطابي حول تفشي وباء الطاعون في الصحف. فشعر بالقلق عندما لم يجدني في المطعم.
كنت وزملائي قد قللنا من كمية طعامنا منذ تفشي الطاعون، وذلك لأنني كنت قد تبنيت مبدأ منذ وقت طويل يقضي بالخضوع لحمية خفيفة في أوقات انتشار الأوبئة. وفي تلك الأيام، كنت أتنازل عن تناول وجبة العشاء، وكنت أنهي غدائي قبل أن يصل باقي مرتادي المطعم. فقد كنت على معرفة وثيقة بصاحب المطعم، وأخبرته بأنني أريد تجنب الاتصال بأصدقائي قدر الإمكان نظرا لأنني أشارك في تمريض المصابين بالطاعون.
لم يرني السيد ويست ليوم أو اثنين في المطعم، فوجدته في أحد الأيام يطرق بابي في ساعة مبكرة من الصباح، وكنت وقتها أستعد للخروج للمشي، فحدثني فور أن فتحت الباب، قائلا: «لم أجدك في المطعم، وخشيت أن يكون قد أصابك مكروه، فقررت أن آتي إليك في الصباح حتى أضمن وجودك في المنزل. أنا تحت تصرفك، فأنا أريد المساعدة في تمريض المصابين، وأنت تعرف أنني لا أعول أحدا.»
عبرت له عن امتناني، ودون أن أفكر لحظة، أجبته قائلا: «لن أستخدمك في التمريض، فإذا لم ترد حالات جديدة، سننتهي من عملنا في يوم أو اثنين، لكن يبقى أمر واحد.» - «ما هو؟» - «هل يمكنك تولي مسئولية جريدة «الرأي الهندي» في دربان؟ فعلى الأرجح سيكون السيد مادانجيت مشغولا هنا، وسنحتاج إلى شخص يتولى مهام الجريدة في دربان، وستخفف عني حمل هذه المشكلة إذا وافقت على الذهاب.» - «تعلم أنني شريك في مؤسسة للطباعة. وعلى الأرجح سوف أذهب إلى دربان، لكن هل يمكنني أن أعطيك إجابتي النهائية في المساء؟ فيمكن أن نتحدث أكثر عن الأمر في أثناء المشي المسائي.»
سرتني تلك الكلمات. وفي المساء تكلمنا حول الموضوع، ووافق بالفعل على الذهاب، ولم يعبأ السيد ويست بالراتب، فلم يكن يسعى خلف المال، فخصصنا له راتبا وصل إلى 10 جنيهات إسترلينية شهريا، بالإضافة إلى نسبة من الأرباح، في حالة تحقيق أرباح. سافر السيد ويست في اليوم التالي في قطار البريد المسائي متوجها إلى دربان، وقد عهد لي باسترداد مستحقاته. ومنذ ذلك الوقت وحتى الوقت الذي رحلت فيه عن شواطئ جنوب أفريقيا، شاركني السيد ويست في جميع أفراحي ومآسي.
كان السيد ويست ينتمي إلى أسرة من الفلاحين من مدينة لوث بمقاطعة لينكولنشير، وقد تلقى تعليما عاديا بالمدرسة، لكنه تعلم الكثير في مدرسة الحياة نتيجة لشدة اعتماده على نفسه. كان السيد ويست إنجليزيا نقيا ووقورا وتقيا وعطوفا.
وسوف أتحدث عن السيد ويست وعائلته بمزيد من التفصيل في الفصول التالية.
الفصل السابع عشر
احتراق الحي
كنت وزملائي قد أعفينا من مسئولية رعاية المرضى، لكن كان علينا التعامل مع الكثير من الأمور الأخرى التي نتجت عن تفشي الطاعون.
كنت قد أشرت فيما سبق إلى إهمال البلدية لحي الهنود، لكنها كانت مهتمة للغاية بما يتعلق بصحة المواطنين البيض. لقد أنفقت البلدية المبالغ الطائلة للحفاظ على صحة أولئك المواطنين البيض، والآن تغدق الأموال للقضاء على وباء الطاعون. وبغض النظر عن الخطايا التي ارتكبتها البلدية في حق الهنود، لم أملك إلا أن أثني على عنايتها بالمواطنين البيض، وقدمت إليها المساعدة الممكنة. خطر لي أنه لولا تعاوني كان سيصعب على البلدية إنجاز المهمة، وكان من الممكن ألا تتردد في استخدام القوات المسلحة وتزيد الأمر سوءا.
لكننا تفادينا ذلك الأمر برمته. أسعد البلدية تصرف الهنود، وأصبح الكثير من العمل المستقبلي فيما يتعلق بالطاعون أكثر سهولة. وقد استخدمت كل ما أوتيت من نفوذ على الهنود لأحملهم على الرضوخ لمتطلبات البلدية، وكان من الصعب على الهنود أن يقطعوا كل هذا الطريق، لكنني لا أذكر أن أحدهم قد اعترض على نصيحتي.
وضع الحي تحت حراسة مشددة، وكان من المستحيل الدخول إلى الحي أو الخروج منه دون تصريح، وكنت وزملائي نحمل تصريحات خاصة للدخول والخروج . صدر قرار بإجلاء جميع سكان الحي، ووضعهم في خيمة لمدة ثلاثة أسابيع في سهل مفتوح يبعد ثلاثة عشر ميلا عن جوهانسبرج، ثم جرى إحراق الحي. كان الاستقرار في الخيام وتوفير الإمدادات وغيرها من المستلزمات الضرورية يتطلب بعض الوقت، وكان من الضروري توفير حراسة أثناء تلك المدة.
كان يسيطر على الناس حالة من الرعب، لكن وجودي المستمر بينهم كان يطمئنهم. كان الكثير من الفقراء يدخرون أموالهم اليسيرة تحت الأرض، وكان عليهم استخراج تلك الأموال. ولم يكن لديهم مصارف ولم يعرفوا أيا منها، فأصبحت أنا بمنزلة صاحب المصرف، فتدفق فيض من الأموال إلى مكتبي، ولم يكن من الممكن أن أطالب أي عامل بأي رسوم في ظل تلك الأزمة، لكنني تكيفت مع الوضع بطريقة ما. كنت أعرف مدير المصرف الذي أتعامل معه معرفة وثيقة، فأخبرته أنني مضطر لإيداع هذه الأموال لديه. لم تكن المصارف متلهفة لتلقي مبالغ ضخمة من النحاس والفضة. وكان من الممكن أن يرفض موظفو المصرف لمس أي نقود يرجع مصدرها إلى منطقة مصابة بالطاعون، لكن مدير المصرف لم يتوان عن خدمتي بكل الصور. فتقرر تعقيم جميع الأموال قبل إرسالها إلى المصرف. وعلى ما أذكر، أودعنا ما يقرب من ستين ألف جنيه إسترليني بتلك الطريقة. ونصحت الأشخاص الذين يملكون أموالا كافية أن يودعوها كوديعة لأجل، وبالفعل تقبلوا النصيحة. وكانت النتيجة أن بعضهم اعتاد الاستثمار في المصارف.
نقل سكان الحي بقطار خاص إلى مزرعة كليبسبروت بالقرب من جوهانسبرج، وهناك وفرت لهم البلدية المؤن على نفقة الحكومة، وقد بدت المدينة وهي مليئة بالخيام كمعسكر للجيش. شعر بعض الناس غير المعتادين على مثل هذه المعسكرات بالضيق والدهشة من الإجراءات المتبعة، لكنهم لم يعانوا أي إزعاج يذكر. وقد اعتدت أن أذهب إليهم راكبا دراجتي كل يوم، ولم تمر أربع وعشرون ساعة من إقامتهم في المعسكر حتى نسوا كل بؤسهم وبدءوا في العيش بسعادة. وكنت كلما ذهبت إليهم وجدتهم يغنون ويمرحون، ولا شك أن الإقامة في الهواء الطلق قد أسهمت في تحسن صحتهم.
وأذكر أن البلدية أحرقت الحي في اليوم التالي لإخلائه. ولم تبد البلدية أي رغبة في إنقاذ أي شيء من الحريق. وفي ذلك الوقت تقريبا ولنفس السبب، أحرقت البلدية جميع الأخشاب التي قطعت من الحي وطرحت في الأسواق، وتكبدت بذلك خسائر تصل إلى ما يقرب من عشرة آلاف جنيه إسترليني. وكان السبب في ذلك هو اكتشاف بعض الفئران الميتة في السوق.
تكبدت البلدية مصروفات ضخمة، لكنها نجحت في وقف انتشار الطاعون. وهكذا استطاعت المدينة التنفس بحرية من جديد.
الفصل الثامن عشر
التعويذة السحرية لكتاب
زادت محنة انتشار وباء الطاعون من مكانتي لدى الهنود الفقراء، وزادت أيضا من عملي ومسئوليتي. وأصبحت بعض علاقاتي الجديدة مع الأوروبيين وثيقة الصلة حتى إنها أضافت إلى التزاماتي الأخلاقية.
تعرفت إلى السيد بولاك في المطعم النباتي بنفس الطريقة التي تعرفت بها إلى السيد ويست. ففي إحدى الأمسيات، أرسل لي شاب يجلس على طاولة بعيدة قليلا بطاقة للتعريف به، وأبدى رغبته في مقابلتي. فدعوته للجلوس على طاولتي.
فقال لي: «أنا محرر مساعد في جريدة «ذا كريتيك»
The Critic ، وقد شعرت برغبة شديدة في رؤيتك عندما قرأت خطابك الموجه إلى الصحافة حول تفشي الطاعون، وأنا مسرور بمقابلتك.»
لقد جذبني صدق السيد بولاك، وبدأ تعارفنا في الأمسية ذاتها، وبدا لي أننا نتبنى الكثير من الآراء المتشابهة حول موضوعات الحياة الأساسية. فقد كان يحب الحياة البسيطة، وكان يتمتع بقدرة مذهلة على نقل أي فكرة تروق له إلى حيز التنفيذ. وكانت بعض التغييرات التي أحدثها في حياته سريعة وجذرية.
كانت مصروفات جريدة «الرأي الهندي» تزداد يوما بعد يوم. وكان أول تقرير يرسله السيد ويست مقلقا. فكتب يقول: «لا أتوقع أن تدر الجريدة الأرباح المرجوة، وأخشى أننا يمكن أن نتعرض إلى الخسارة. إن الدفاتر غير منظمة، وهناك الكثير من المتأخرات التي يجب تغطيتها ولكن لا أحد يستطيع فهمها. فيلزم إجراء فحص دقيق للدفاتر. لكن لا تقلق، فسوف أعمل على تصحيح الأوضاع قدر المستطاع، وسوف أستمر في العمل سواء كان هناك أرباح أو لا.»
كان يمكن للسيد ويست أن يرحل عندما اكتشف عدم وجود أرباح، ولم أكن لألومه على ذلك. وفي الواقع، كان يحق له أن يقاضيني لأنني أخبرته بأن الأمر مربح دون امتلاك أي إثبات حقيقي، لكنه لم يشك مطلقا. أعتقد أن ذلك الموقف جعل السيد ويست يعتبرني ساذجا. وما حدث ببساطة هو أنني قبلت تقدير السيد مادانجيت دون الاهتمام بدراسته، فأخبرت السيد ويست بتوقع تحقيق أرباح.
أدرك الآن أن على من يعمل في مجال الخدمة العامة ألا يعطي بيانات دون الوثوق من صحتها. وفوق كل ذلك، يجب على الباحث عن الحقيقة أن يتوخى الحذر فيما يقول. فمن يسمح لنفسه بإقناع شخص آخر بشيء لم يتحقق منه تماما، يعرض الحقيقة إلى الخطر. وإنه ليؤلمني الاعتراف بأنني، بغض النظر عن معرفتي بهذه الحقيقة، لم أتخلص كليا من سذاجتي تلك، ويرجع السبب في ذلك إلى طموحي في إنجاز عمل أكثر مما أستطيع إنجازه بالفعل. وكثيرا ما كان ذلك الطموح يقلق زملائي أكثر مما يقلقني.
توجهت إلى ناتال فور استلامي لخطاب السيد ويست. كنت قد جعلت السيد بولاك كاتم أسراري واستأمنته عليها. جاء السيد بولاك لتوديعي على محطة القطار، وترك لي كتابا أقرؤه أثناء رحلتي، وقال لي: إنه واثق بأن الكتاب سيعجبني. كان الكتاب هو «حتى الرجل الأخير» لراسكين.
شرعت في قراءة الكتاب، ولم أستطع أن أتوقف؛ فلقد استحوذ علي. استغرقت الرحلة من جوهانسبرج إلى دربان أربعا وعشرين ساعة. كان المساء قد أقبل عند وصول القطار إلى دربان. ولم أستطع النوم طوال تلك الليلة. فقد قررت أن أغير حياتي وفقا للأفكار الواردة في الكتاب.
كان ذلك هو أول كتاب أقرؤه لراسكين. ففي أيام دراستي لم أقرأ أية كتب تقريبا بخلاف الكتب الدراسية، وبعد أن انغمست في الحياة العملية لم يتسن لي إلا اليسير من الوقت للقراءة. لذلك لا أستطيع أن أدعي أن لدي معرفة واسعة بالكتب، ومع ذلك، أعتقد أنني لم أخسر الكثير نتيجة لهذا القيد الذي فرض علي، بل على العكس، يمكن القول بأن قراءتي المحدودة تلك قد مكنتني من استيعاب ما قرأته بالكامل. وكان ضمن تلك الكتب كتاب «حتى الرجل الأخير»، الذي تسبب في إحداث تحول فوري وعملي في حياتي. وقد ترجمته فيما بعد إلى اللغة الجوجراتية تحت اسم «الخير للجميع»
Sarvodaya .
أؤمن بأنني اكتشفت بعض معتقداتي الدفينة في كتاب راسكين العظيم. ولهذا السبب استحوذ علي الكتاب وجعلني أغير من حياتي. إن الشاعر هو الذي يستطيع أن يثير أجمل المشاعر الكامنة في داخل الإنسان . وتأثير الشعر على من يتلقونه يختلف من شخص إلى آخر فكل إنسان يختلف عن الآخر في تلقيه له.
أرى أن التعاليم التي ينادي بها كتاب «حتى الرجل الأخير» هي: (1)
منفعة الفرد تكمن في منفعة الجميع. (2)
لا تقل قيمة عمل الحلاق عن قيمة عمل المحامي لأن الجميع يحق لهم أن يكسبوا قوتهم من العمل. (3)
إن حياة العمل، أي حياة الفلاح والحرفي، هي الحياة التي تستحق العيش.
وقد عرفت أول هذه التعاليم، أما ثانيها فقد أدركته على نحو يسير، لكنني لم أواجه ثالثها قط. وقد أوضح لي الكتاب أن التعليم الأول يحوي بين طياته التعليم الثاني والتعليم الثالث معا. واستيقظت قبالة الفجر، متأهبا لتنفيذ هذه المبادئ.
الفصل التاسع عشر
مزرعة فونيكس
تناقشت مع السيد ويست حول الأمر كله، ووصفت له كيف أثر كتاب «حتى الرجل الأخير» على أفكاري. واقترحت عليه أن ننقل جريدة «الرأي الهندي» إلى مزرعة يكدح بها الجميع ويحصلون على أجور متساوية ويهتمون بالمطبعة في وقت الفراغ. وافق السيد ويست على اقتراحي وحددنا راتبا يبلغ 3 جنيهات إسترلينية شهريا لكل فرد بغض النظر عن لونه أو جنسيته.
لكن المشكلة كانت تكمن في موافقة جميع العاملين في المطبعة، الذين يصل عددهم إلى 10 أفراد أو يزيد، على الذهاب إلى مزرعة نائية والاستقرار بها والرضا بمجرد بدل الإعالة. فاقترحنا على من لا يستطيع الموافقة على المشروع المقترح أن يستمر في الحصول على راتبه كما هو وأن يحاول تدريجيا الالتحاق بالمزرعة.
تحدثت إلى العمال بشأن ذلك الاقتراح. لكنه لم يرق للسيد مادانجيت الذي اعتبره اقتراحا أحمق وقال إنه قد يعرض المشروع الذي راهن بجميع أمواله عليه للخطر. وقد قال إن العمال قد يفرون، ويتوقف العمل في الجريدة مما سيؤدي لإغلاقها.
كان من بين العاملين في الجريدة أحد أبناء عمومتي، شاجانلال غاندي، وقد عرضت عليه الاقتراح في نفس الوقت الذي عرضته فيه على ويست. كان لدى شاجانلال زوجة وأطفال، لكنه اختار منذ طفولته أن يتدرب ويعمل لدي، فقد كان يثق بي تماما، ومن ثم وافق على المشروع دون أي نقاش، وظل بجانبي منذ ذلك الحين. ووافق الميكانيكي جوفينداسوامي على الاقتراح هو الآخر. أما باقي العمال فلم ينضموا إلى المشروع، لكنهم وافقوا على الانتقال حيث أنقل المطبعة.
لا أعتقد أنني أمضيت أكثر من يومين في تنظيم تلك الأمور مع العاملين. وأعلنت بعد ذلك عن حاجتي لقطعة أرض تقع بالقرب من محطة السكة الحديدية بجوار دربان، فتلقيت عرضا في فونيكس. ذهبت وبصحبتي السيد ويست لمعاينة قطعة الأرض، وفي أسبوع اشترينا عشرين أكرا
1
من الأرض. كانت الأرض تحتوي على ينبوع ماء صغير ورائع، وبعض أشجار البرتقال والمانجو. وكانت هناك قطعة أرض مجاورة تبلغ مساحتها 80 أكرا، وكانت تحتوي على العديد من أشجار الفاكهة وكوخ متهدم. فاشترينا تلك الأرض أيضا، وكانت التكلفة الكلية ألف جنيه إسترليني.
كان الراحل السيد روستومجي دائما يساندني في مثل تلك المشروعات. وعندما راقه المشروع، وضع تحت تصرفي ألواحا حديدية مستعملة مأخوذة من مخزن ضخم، وغيرها من مواد البناء التي بدأنا العمل بها، وساعدنا نجارون وعمال بناء هنود ممن ساعدوني في أثناء حرب البوير في تشييد سقيفة للمطبعة، وقد شيد ذلك البناء في أقل من شهر وقد بلغ طوله 70 قدما وعرضه 50 قدما. مكث السيد ويست وآخرون مع النجارين وعمال البناء، معرضين أنفسهم بذلك لمخاطرة كبيرة، فقد كان المكان غير مأهول بالسكان ومغطى بالعشب الكثيف، فكان مرتعا للثعابين وغير آمن للعيش فيه. في بداية الأمر عشنا جميعا في خيام، ونقلنا أغلب أمتعتنا تقريبا إلى فونيكس في أسبوع. وكانت فونيكس تبعد أربعة عشر ميلا عن دربان، وميلين ونصف الميل عن محطة فونيكس.
وكان عدد واحد فقط من «الرأي الهندي» يجب أن يطبع في الخارج، في دار ميركيري للنشر.
حاولت أن أجتذب الأصدقاء والمعارف - الذين أتوا معي من الهند والذين كانوا يعملون في مجالات شتى - إلى فونيكس ليجربوا حظهم هناك. لقد أتى أولئك الناس بحثا عن الثروة، لذلك كان من الصعب إقناعهم بالفكرة، ومع ذلك وافق بعضهم بالفعل، ومن بين أولئك أستطيع أن أتذكر اسما واحدا فقط، ماجنلال غاندي، أما البقية فقد عادوا إلى عملهم. ترك ماجنلال عمله ليجرب حظه معي، وقد برز بين رفقائي الأوائل في تجاربي الأخلاقية بقدرته وتضحيته وإخلاصه، وقد كانت مكانته بينهم فريدة لكونه عاملا حرفيا علم نفسه بنفسه.
وهكذا انطلقت مزرعة فونيكس في عام 1904م، واستمر نشر «الرأي الهندي» منها وذلك مع العقبات الكثيرة.
لكنني في حاجة إلى فصل مستقل بذاته لأذكر الصعاب الأولية التي واجهناها والتغييرات التي أحدثناها والآمال التي راودتنا والأحداث المخيبة للأمل التي تعرضنا لها.
هوامش
الفصل العشرون
الليلة الأولى
لم يكن من السهل إصدار العدد الأول من جريدة «الرأي الهندي» من فونيكس. وكادت الطبعة الأولى أن تلغى أو يتأخر إصدارها لولا اتخاذي لتدبيرين احتياطيين. لم ترق لي فكرة إحضار محرك لتشغيل المطبعة، وفكرت في أن إدارة المطبعة يدويا سيتلاءم أكثر مع مناخ العمل الزراعي الذي يجري يدويا هو الآخر، لكننا اضطررننا إلى تركيب محرك احتراق داخلي لعدم جدوى الفكرة. ثم اقترحت مع ذلك أن يكون لدى السيد ويست آلة يدوية حتى يلجأ إليها في حالة تعطل المحرك، ولذا اشترى عجلة يمكن أن تعمل يدويا. كان حجم ورق الصحف اليومية لا يتناسب مع مكان ناء مثل فونيكس. فخفضنا حجم الورقة إلى حجم الفولسكاب حتى يمكن حذف النسخ في حالة الطوارئ بمساعدة الدواسة.
كان علينا جميعا في المراحل الأولية أن نبقى لساعات متأخرة في العمل قبل يوم النشر. وكان على الجميع، كبارا وصغارا، أن يساعدوا في طي الصفحات، وكنا عادة ننهي عملنا بين الساعة العاشرة مساء ومنتصف الليل، لكن الليلة الأولى لا يمكن نسيانها. كان الورق مثبتا لكن الماكينة لم تعمل، فأحضرنا مهندسا من دربان لإصلاح الماكينة، فحاول هو والسيد ويست إصلاحها بشتى الطرق، لكن دون جدوى. خيم القلق على الجميع، فجاءني ويست في النهاية ويتملكه اليأس وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال: «لن تعمل الماكينة، وأخشى أننا لا نستطيع إصدار الصحيفة في الوقت المحدد.»
فقلت مواسيا إياه: «ليس بأيدينا أي حيلة، ولا طائل في ذرف الدموع. دعنا نرى ماذا يمكن أن نفعل. ماذا عن العجلة اليدوية؟»
فأجاب قائلا: «ومن أين لنا بالرجال ليديروها؟ إن عددنا لا يكفي لإنجاز المهمة. فالآلة تتطلب مجموعات متناوبة يتكون كل منها من أربعة رجال، وجميع رجالنا منهكين.»
لم يكن العمل في المبنى قد انتهى بعد، لذلك بقي النجارون معنا، وقد كانوا ينامون على أرضية المطبعة، فقلت مشيرا إليهم: «ألا يمكننا الاستعانة بالنجارين؟ ويمكننا العمل طوال الليل. أعتقد أن هذا الحل لا يزال متاحا أمامنا.»
قال السيد ويست: «لا أجرؤ على إيقاظ النجارين. ورجالنا منهكون تماما.»
فأجبته: «دعني أتولى هذا الأمر.»
فقال ويست: «إذن من الممكن أن ننجز العمل.»
أيقظت النجارين وطلبت منهم مساعدتنا، ولم تكن هناك حاجة للضغط عليهم، فقالوا: «وما فائدتنا إن لم نهرع للمساعدة عند الحاجة؟ استريحوا وسوف نتولى نحن أمر هذه العجلة، فهذا أمر سهل علينا.» وكان رجالنا بالطبع مستعدين للعمل.
ارتفعت معنويات ويست، وأخذ ينشد ترنيمة ونحن نعمل. شاركت النجارين في العمل، ثم أخذ البقية ينضمون إلينا كل في دوره. واستمر العمل بهذه الصورة حتى السابعة صباحا. كان لا يزال علينا القيام بالكثير من العمل، فاقترحت على السيد ويست أن يوقظ المهندس ليحاول تشغيل الماكينة مرة أخرى حتى يمكننا الانتهاء من الصحيفة في الوقت المحدد.
أيقظ ويست المهندس الذي توجه على الفور إلى غرفة الماكينة. ومن المدهش أن الماكينة عادت للعمل بمجرد أن وضع يده عليها، فعمت البهجة المكان بأسره. تساءلت: «كيف يمكن لذلك أن يحدث؟ كيف كان عملنا طوال الليلة الماضية بلا فائدة، وها هي الماكينة تعمل الآن كأن شيئا لم يصبها؟»
قال ويست أو المهندس، لا أذكر أيهما : «من الصعب أن نجد إجابة لهذه الأسئلة. فيبدو أن الآلات أحيانا تحتاج إلى الراحة مثل البشر.»
كان تعطل الماكينة اختبارا خضعنا له جميعا، وجاء إصلاحها في اللحظة الحاسمة ثمرة لعملنا المضني وإخلاصنا في ذلك العمل.
انتهينا من إعداد النسخ في الوقت المحدد، وشعر الجميع بالسعادة.
كان ذلك الإصرار الأولي ضمانا لانتظام الصحيفة، وقد خلق جوا من الاعتماد على النفس في فونيكس. ومر بنا وقت كنا نتعمد فيه ألا نستخدم الماكينة وأن نلجأ إلى العمل اليدوي فقط. شهدت تلك الأيام، في رأيي، أيام ارتفاع الروح المعنوية في فونيكس إلى أقصى درجة.
الفصل الحادي والعشرون
بولاك يقبل المخاطرة
أتحسر دائما على عدم تمكني من الإقامة في المزرعة إلا لمدة قصيرة مع أنني من قام بإنشائها في فونيكس. كنت أعتزم في الأصل أن أتخلى تدريجيا عن ممارسة المحاماة، وأذهب للعيش فيها والتكسب من العمل بيدي، وأن أجد متعة الخدمة في فونيكس، لكن الإله لم يقدر لذلك أن يكون. اكتشفت من واقع خبرتي أن الإنسان يضع الخطط التي لا تلبث أن يغيرها الإله. لكن في الوقت ذاته نجد أن النتيجة لا تتأثر عندما يكون الهدف الأساسي هو البحث عن الحقيقة، وغالبا ما تكون أفضل من المتوقع بغض النظر عن كيفية إحباط خطط الإنسان. فالتحول غير المتوقع الذي شهدته فونيكس والأحداث غير المتوقعة التي حدثت كانت بالطبع غير سيئة، لكن من الصعب القول إنها كانت أفضل من توقعاتنا الأساسية.
قسمنا الأرض التي تقع حول مبنى المطبعة إلى قطع تتكون كل منها من ثلاثة أكرات حتى يتمكن الجميع من كسب رزقه من العمل بيديه، وقد حصلت على إحدى قطع الأرض تلك، وقد اضطررنا إلى بناء منازل من الألواح الحديدية المموجة على تلك الأراضي. كنا نرغب في بناء منازل من الطين وتزويدها بسقف من القش أو الحصى على غرار منازل الفلاحين، لكننا لم نستطع فعل ذلك؛ لأن بناء المنزل بهذه الطريقة سيكون أكثر كلفة ويستغرق وقتا أطول، في حين كان الجميع متلهفين للاستقرار في أسرع وقت ممكن .
كان مانسوخلال نازار ما زال رئيس تحرير جريدة «الرأي الهندي»، فلم يقبل بالمشروع الجديد وظل يدير الجريدة من فرعها بدربان. ومع استئجارنا منضدين لحروف الطباعة في المطبعة، كانت الفكرة متاحة لجميع أفراد المزرعة لكي يتعلموا كيفية تنضيد حروف الطباعة، وهي أسهل عملية في طباعة الصحف ولكنها أكثر مللا. ومن ثم، قمنا بتعليم الذين لا يعرفون كيفية العمل، وقد بقيت بليد الذهن حتى النهاية، فقد تفوق ماجنلال غاندي علينا جميعا، وأصبح خبيرا في التنضيد مع أنه لم يعمل في الطباعة من قبل، ولم يكن سريعا فحسب، بل أدهشني بإتقانه لجميع أقسام عمل المطبعة الأخرى، ودائما ما رأيت أنه غير مدرك لما يتمتع به من قدرات.
كنا بالكاد قد استقررنا، وبالكاد انتهينا من تشييد المنازل عندما اضطررت لمغادرة ذلك العش حديث البناء والتوجه إلى جوهانسبرج؛ فلم يكن الوضع يسمح باستمرار العمل هناك دون إدارتي.
أخبرت بولاك فور عودتي إلى جوهانسبرج بالتغييرات المهمة التي أحدثتها، وكانت سعادته لا توصف عندما علم بأن الكتاب الذي أقرضني إياه أتى بتلك الثمار، فسألني: «هل يمكنني المشاركة في ذلك المشروع الجديد؟» فأجبته: «بالطبع يمكنك الانضمام للمزرعة إذا كنت ترغب في ذلك.» فقال لي: «أنا على أتم الاستعداد إذا سمحت لي بذلك.»
وقد جذب إصرار بولاك انتباهي، إذ قدم إلى رئيسه في العمل إخطارا يفيد تركه للعمل في «جريدة الناقد» خلال شهر من تاريخه، وبالفعل وصل إلى فونيكس في الوقت المحدد. وقد استطاع بنزعته الاجتماعية أن يستحوذ على قلوب الجميع، وسرعان ما أصبح أحد أفراد العائلة. وكان يتسم بالبساطة، فقد تكيف على الحياة في فونيكس بسهولة بدلا من أن يشعر بأن الحياة هناك غريبة أو شاقة. لكنني لم أستطع تركه يمكث طويلا في المزرعة، فقد قرر السيد ريتش أن يكمل دراساته القانونية في إنجلترا، وكان من المستحيل أن أتحمل عبء العمل وحدي؛ لذلك اقترحت على بولاك أن ينضم إلى العمل بالمكتب ويتدرب ليصبح محاميا. وقد فكرت في أن كلا منا سيتقاعد في النهاية ويستقر في فونيكس، لكن ذلك لم يحدث قط. كان بولاك نزاعا إلى الثقة بالآخرين، حتى إنه كان عندما يثق بأحد الأصدقاء، يحاول الاتفاق معه بدلا من مناقشته. كتب لي ذات مرة من فونيكس يخبرني بأنه على استعداد للرحيل من المزرعة والانضمام للمكتب ليتدرب ليصبح محاميا مع حبه للحياة هناك وشعوره بالسعادة التامة وآماله بتطوير المزرعة إذا ما كان ذلك سيساعد على تحقيق أهدافنا بصورة أسرع. تلقيت تلك الرسالة بسعادة، وغادر بولاك المزرعة متوجها إلى جوهانسبرج، وحضر ليتدرب في مكتبي.
وفي نفس الوقت تقريبا، التحق شخص ثيوصوفي من اسكتلندا يدعى ماكينتير بالمكتب ليتدرب لدي عندما أخبرته بأن يحذو حذو بولاك، وكنت أعده لاجتياز أحد الاختبارات المحلية.
وهكذا بدا وكأنني أغوص بعمق أكثر فأكثر في التيار المعاكس مدفوعا بالغاية المحمودة لتحقيق الأهداف المنشودة في فونيكس سريعا. ولولا إرادة الإله، لوجدت نفسي محاصرا في تلك الشبكة تحت اسم الحياة البسيطة.
وسوف أصور بعد بضعة فصول كيف نجوت أنا ومبادئي على نحو لم يتوقعه أحد أو حتى يتخيله.
الفصل الثاني والعشرون
العناية الإلهية
فقدت الأمل في العودة إلى الهند في المستقبل القريب، وكنت قد وعدت زوجتي أن أعود خلال عام، ومر العام دون أن أجد أي فرصة لعودتي، فقررت أن أرسل لإحضارها هي والأطفال.
كسر ذراع ابني، رامداس، حين كان يلعب مع ربان السفينة التي كانت تقلهم إلى جنوب أفريقيا، فاعتنى الربان بابني وأحضر طبيب السفينة لرعايته، وعندما هبط رامداس إلى الشاطئ، كانت يداه موضوعة في معلاق. وقد نصحه الطبيب بأن يلجأ إلى أحد الأطباء المؤهلين عند عودته إلى المنزل ليعالجه. لكنني في ذلك الوقت كنت مؤمنا تماما بتجاربي في المعالجة بالطين، حتى إنني نجحت في إقناع بعض موكلي بتجريب المعالجة المائية والمعالجة بالطين.
ماذا كان يمكن أن أقوم به من أجل رامداس وقتها؟ فقد كان يبلغ الثامنة فقط من عمره، فسألته إذا كان يريدني أن أضمد جرحه، فابتسم وأخبرني بأنه ليس لديه مانع على الإطلاق. لم يكن من الممكن له في تلك السن الصغيرة أن يقرر الأفضل له ، لكنه كان يعرف جيدا الفرق بين الشعوذة والمعالجة الطبية السليمة. وكان يعلم بعادتي في المعالجة بالمنزل، وكان يملك من الثقة ما يكفي ليعهد لي بنفسه. أخذت أنزع الضمادة وأنا أشعر بالخوف وجسدي يرتعد، وغسلت الجرح، ثم وضعت كمادة من الطين الصافي عليه وربطت الذراع، ثم أعدت ربط الذراع، وأخذت أقوم بهذا العمل يوميا لما يقرب من الشهر حتى شفي الجرح تماما. لم يكن هناك أي مشاكل في العلاج، وبالفعل شفي الجرح أثناء المدة التي حددها طبيب السفينة لشفائه إذا ما خضع للعلاج بالصورة التقليدية.
وكان لتلك التجربة وغيرها من التجارب الفضل في إيماني بوسائل المعالجة المنزلية، وأخذت أواصل استخدامها بمزيد من الثقة، وقد وسعت نطاق استخدام تلك المعالجات، فجربت المعالجة بالطين والمعالجة بالماء والمعالجة بالصوم في حالات الجروح والحمى وسوء الهضم واليرقان وغيرها من الشكاوى، وقد أثبتت تلك المعالجات فعاليتها في أغلب الحالات. لكنني اليوم لا أملك الثقة التي كنت أتمتع بها في جنوب أفريقيا، وأثبتت لي خبرتي أن تلك التجارب تحتوي على مخاطر جلية.
فالإشارة إلى تلك التجارب لا تهدف إلى إثبات نجاح تلك الطرق العلاجية، فأنا لا أستطيع أن أزعم نجاح أي تجربة تماما. حتى الأطباء لا يستطيعون أن يدعوا نجاح تجاربهم تماما. إن الهدف من وراء ذلك هو أن أبين أن على من يخوض تجارب جديدة أن يبدأ بتجربتها بنفسه. فهذا من شأنه أن يعجل بالوصول إلى الحقيقة، والإله دائما يحفظ الشخص الصادق.
كانت المخاطر التي أحاطت بتجاربي المتعلقة بتوثيق صداقتي بالأوروبيين بنفس خطورة تجاربي في العلاج بالعناصر الطبيعية. لكنها كانت من نوع مختلف. على أنني لم أفكر قط في مخاطر توطيد تلك الصداقات.
دعوت بولاك للإقامة معي، وأصبحنا نعيش كإخوة أشقاء، وكان بولاك خاطبا، وقد استمرت تلك الخطبة لبضع سنوات، وأجل الزواج إلى وقت مناسب، وأعتقد أن بولاك كان يرغب في ادخار مبلغ من المال قبل أن يبدأ حياته الزوجية. وكان بولاك يعرف عن راسكين أكثر مني، لكن بيئته الغربية وقفت حائلا بينه وبين الممارسة الفورية لمبادئ راسكين. لكنني ناشدته قائلا: «عندما يكون هناك اتفاق بين قلبين، كما هو الوضع في حالتك، فمن الخطأ أن تؤجل الزواج لمجرد اعتبارات مالية، فإذا اعتبرنا أن الفقر عائق للزواج، فلن يتزوج الفقراء أبدا. إنك تعيش معي الآن، وليس عليك تحمل أي نفقات في المنزل. أرى أنه عليك أن تتزوج في أقرب فرصة ممكنة.» وكما ذكرت في فصل سابق، لم يكن هناك حاجة لمناقشة أي أمر مع بولاك لأكثر من مرة. وقد أعجب بولاك بقوة حجتي، وعلى الفور أرسل إلى خطيبته التي كانت وقتها في إنجلترا، والتي وافقت على طلب الزواج بكل سرور. وبالفعل وصلت السيدة بولاك إلى جوهانسبرج في بضعة أشهر. لم يكلفهما حفل الزفاف شيئا، حتى إنهما لم يجدا من الضروري شراء ثوب خاص بالمناسبة، ولم يكونا في حاجة لشعائر دينية لإتمام الزواج، فقد كانت السيدة بولاك مسيحية المولد، في حين كان بولاك يهوديا، وكانت الديانة المشتركة بينهما هي الأخلاق.
يمكنني أن أذكر في هذا المقام حادثة طريفة ذات صلة وقعت أثناء حفل الزفاف هذا. كان أمين سجل الزيجات الأوروبية لا يستطيع أن يسجل زواجا بين السود أو الملونين. وكنت أقوم في حفل الزفاف بدور شاهد الزوج، ولم يكن ذلك بسبب عدم قدرتنا على إحضار صديق أوروبي للقيام بذلك الدور، ولكن بولاك لم يكن ليحتمل الاقتراح، فذهب ثلاثتنا إلى مسجل عقود الزواج، لكن كيف كان له أن يتحقق من أن الزوجين اللذين أقوم بالشهادة على زواجهما من البيض؟ فاقترح المسجل تأجيل تسجيل الزواج حتى يستعلم عنهما. وكان اليوم التالي يوافق الأحد، واليوم الذي يليه يوافق عيد رأس السنة، وهو عطلة رسمية، وكان تأخيره للزواج بتلك الحجة الواهية مع استيفائه للشروط القانونية أكثر مما يمكن تحمله. كنت أعرف القاضي الذي كان يترأس إدارة التسجيل، فذهبت إليه ومعي الزوجان، فأعطاني مذكرة كي أسلمها للمسجل، وبالفعل تم الزواج.
وحتى ذلك الوقت كنت أعرف جميع الأوروبيين الذين يعيشون معنا بصورة أو بأخرى. لكن الآن انضمت سيدة إنجليزية جديدة إلى العائلة، ولا أذكر مطلقا وجود أي خلاف بيننا وبين الزوجين حديثي الزواج. ومع وقوع بعض المشاحنات بين السيدة بولاك وزوجتي، لا يمكن القول بأنها تتعدى ما يمكن أن يحدث في العائلات التي تنتمي لأصل واحد. ويجب أن نتذكر أن عائلتي كانت تتضمن أصولا مختلفة، حيث نقبل جميع الأجناس وجميع الشخصيات. وعند النظر إلى الفرق بين العائلات ذات الأصل الواحد والعائلات التي تنتمي إلى أصول مختلفة، نجد أن ذلك التمييز مجرد خيال، فجميعنا ننتمي إلى عائلة واحدة.
من الأفضل أن أتحدث في هذا الفصل عن زفاف ويست أيضا. لم تكن أفكاري حول البراهماشاريا قد نضجت تماما في تلك المرحلة من عمري، لذلك كنت أسعى إلى تزويج جميع أصدقائي العزاب. وعندما ذهب ويست لزيارة أهله في لوث، أشرت عليه بألا يعود إلا وهو متزوج إذا أمكن. كانت فونيكس هي منزلنا المشترك، ونظرا لأنه كان من المفترض أننا جميعا أصبحنا مزارعين، فلم نكن نخشى تبعات الزواج المعتادة. عاد ويست إلينا وبصحبته السيدة ويست، التي كانت شابة جميلة من سكان مدينة ليستر، وكانت تنتمي إلى أسرة تعمل بصناعة الأحذية في أحد المصانع بالمدينة، وقد اكتسبت هي نفسها بعض الخبرة من العمل في ذلك المصنع. وقد وصفتها بالجمال لأن جمال أخلاقها هو الذي جذبني إليها من أول لحظة، فالجمال الحقيقي يكمن في نقاء القلب. وقد حضرت والدة زوجة ويست بصحبتهما من إنجلترا، ولا تزال تلك المرأة العجوز على قيد الحياة حتى وقتنا هذا، وقد جعلتنا جميعا نشعر بالخزي من أنفسنا بمثابرتها وطبيعتها المبهجة والمرحة.
وبنفس الطريقة التي أقنعت بها أصدقائي الأوروبيين بالزواج، شجعت أصدقائي الهنود على إحضار أسرهم من الهند. وهكذا تطورت فونيكس لتصبح قرية صغيرة، حيث حضرت ست أسر واستقرت، وأخذت في التكاثر هناك.
الفصل الثالث والعشرون
نظرة خاطفة على المنزل
لقد رأينا كيف بدأ الاتجاه إلى البساطة في دربان مع ارتفاع النفقات المنزلية، لكن المنزل في جوهانسبرج خضع لنظام أكثر صرامة في ظل تعاليم راسكين.
وقد جعلت منزلي في أبسط صورة يمكن أن يكون عليها منزل محام. وكان يجب ألا تقل قطع الأثاث الموجودة في المنزل عن عدد معين. كان التغيير داخليا أكثر منه خارجيا. وزاد ميلي إلى القيام بجميع الأعمال اليدوية بنفسي، وجعلت أطفالي أيضا ينتهجون نفس السبيل.
بدأنا نحضر الخبز المعد من دقيق القمح الخالي من الخميرة في المنزل وفقا لوصفة كون، بدلا من أن نشتريه من الخباز. كان دقيق المطحنة العادي لا يصلح لهذا الغرض، ورأينا أن استخدام الدقيق المطحون يدويا سيكون أكثر بساطة وصحة واقتصادا، فاشتريت مطحنة يدوية بثمن 7 جنيهات إسترلينية. كانت العجلة الحديدية أثقل من أن يشغلها شخص بمفرده، وكانت تستلزم فردين لإدارتها، وكنت غالبا ما أشغلها مع بولاك والأطفال، وكانت زوجتي أحيانا تساعدنا هي الأخرى، مع أننا كنا نقوم بطحن القمح في الساعة التي كانت تبدأ فيها عمل المطبخ. ثم انضمت إلينا السيدة بولاك فور وصولها، وكانت عملية الطحن تمرينا مفيدا للأطفال، ولم يكن العمل على المطحنة أو غيره من الأعمال مفروضا عليهم، بل كانت مساعدتهم لنا هواية، وكان يمكنهم التوقف عن العمل عند شعورهم بالتعب. لكن أولئك الأطفال، ومن ضمنهم الأطفال الذين سآتي على ذكرهم لاحقا، لم يخذلوني قط. ولا يعني ذلك أنه لم يكن هناك متلكئون في العمل، لكن الأغلبية كانوا ينجزون أعمالهم بصورة مرضية، ولا أزال أتذكر بعض الأطفال الذين كانوا يتجنبون العمل أو يتظاهرون بالتعب في تلك الأيام.
استعنا بخادم للعناية بالمنزل، وكان يعيش معنا كفرد من العائلة، وقد اعتاد الأطفال أن يساعدوه في عمله. كان كناس البلدية يتولى إزالة الفضلات، لكننا كنا نتولى نظافة الحمام بأنفسنا بدلا من أن نطلب من الخادم تنظيفه أو نتوقع منه ذلك، وكان ذلك تدريبا جيدا للأطفال. وكانت نتيجة ذلك أنه لم ينم لدى أي ابن من أبنائي بغض تجاه عمل عمال النظافة، ومن ثم أصبحت لديهم خلفية جيدة عن الصحة العامة. كان نادرا ما يصاب أحد أفراد العائلة في جوهانسبرج بمرض، لكن الأطفال كانوا يتولون مسئولية التمريض عن طيب خاطر إذا ما وقعت إصابة. لن أقول إنني كنت لا أبالي بتعليمهم، لكنني لم أتردد في التضحية بذلك التعليم، ومن ثم لدى أبنائي سبب ليشكوا مني، وبالطبع كانوا أحيانا يعبرون عن شكواهم تلك، وعلي أن أعترف بأنني مذنب بقدر ما. كانت لدي الرغبة في أن يحصلوا العلم، حتى إنني حاولت أن أعلمهم بنفسي، لكنني كنت أتوقف من وقت إلى آخر. ونظرا لأنني لم أتخذ أي تدابير أخرى لتعليمهم الخاص، اعتدت أن آخذهم معي يوميا للمشي إلى المكتب ومنه إلى المنزل - وهي مسافة تصل إلى 5 أميال ككل، وكان ذلك المشي تدريبا جيدا لي وللأطفال، وكنت أحاول أن أوجههم عن طريق التحدث إليهم في أثناء المشي إذا لم يكن هناك من يحتاج إلى اهتمامي. لقد تربى جميع أبنائي في جوهانسبرج بتلك الطريقة، باستثناء ابني الأكبر هاريلال الذي بقي في الهند. أعتقد أنني كنت سألقنهم تعليما مثاليا إذا ما تمكنت من تخصيص ساعة على الأقل لتعليمهم بانتظام، لكن للأسف فشلت في أن أكفل لهم تعليما كافيا. كان ابني الأكبر كثيرا ما يسر لي باستيائه ويعلنه في الصحف، أما أبنائي الآخرون فقد سامحوني على تقصيري واعتبروه أمرا لا مفر منه. لا أشعر بالأسى على ما حدث، وإن كنت أشعر بالندم فذلك لأنني لم أكن أبا مثاليا، لكنني أعتقد أنني ضحيت بتعليمهم في مقابل ما آمنت به حقا، أو ربما خطأ، بأنه خدمة للجالية، وأنا على يقين من أنني لم أقصر في القيام بما يلزم لبناء شخصيتهم، وأؤمن بأن توفير ما يلزم لبناء شخصية الأبناء هو واجب إلزامي على جميع الآباء. ومع محاولاتي، أعتقد أنه عند وجود أي نقيصة عند أبنائي فهذا لا يعكس نقصا في رعايتي لهم، وإنما يعكس النقائص التي يعانيها كلا الوالدين.
يرث الأطفال صفات والديهم، أو على الأقل سماتهم الجسدية. والبيئة المحيطة أيضا لها دور مهم في التأثير عليهم، لكن المصدر الأساسي الذي يعتمد عليه الطفل في بداية حياته هو ما ورثه عن آبائه وأجداده. وقد رأيت أطفالا نجحوا في التغلب على آثار وراثة الصفات السيئة، وذلك لأن النقاء هو صفة متأصلة في الروح.
كثيرا ما كانت تدور بيني وبين بولاك مناقشات حادة حول مدى أهمية تلقين الأطفال اللغة الإنجليزية، لقد آمنت دائما بأن الآباء الهنود الذين يدربون أبناءهم على التفكير والتحدث بالإنجليزية منذ نعومة أظافرهم، إنما يخونون أطفالهم ووطنهم حارمين إياهم من الميراث الروحي والاجتماعي للأمة بحيث يجعلونهم غير قادرين على خدمة وطنهم. ولهذه الأسباب كنت دائما أصر على التحدث إلى أبنائي باللغة الجوجراتية. لم يكن ذلك يروق بولاك لاعتقاده بأن ذلك سيفسد مستقبلهم، وكان يؤكد بكل ما أوتي من عاطفة وقوة أن تعلم الأطفال للغة عالمية كالإنجليزية منذ طفولتهم سيميزهم عن غيرهم في سباق الحياة. لكنه فشل في إقناعي بحجته. ولا أذكر إذا كنت قد أقنعته بصحة موقفي أم أنه توقف عن مجادلتي عندما لمس مني العناد. كان ذلك منذ عشرين عاما، ومنذ ذلك الوقت لم يتغير موقفي بل ازداد عمقا نتيجة لما تعرضت له من خبرات. ومع أن أبنائي لم يتلقوا أي تعليم يذكر، فقد كانت معرفتهم باللغة الأم التي اكتسبوها بصورة طبيعية في صالحهم وصالح وطنهم؛ لأنهم لم يصطبغوا بصبغة الأجانب التي كان يمكن أن يصبحوا عليها لولا تدخلي. وأصبح أبنائي يتكلمون لغتين، فهم يتحدثون ويكتبون بالإنجليزية بسهولة كبيرة نتيجة لاتصالهم اليومي بمجموعة كبيرة من الأصدقاء الإنجليز ولأنهم يعيشون في بلد تتخذ من الإنجليزية لغة التحدث الرئيسية.
الفصل الرابع والعشرون
لزولو «ثورة»
اعتقدت أنني استقررت في جوهانسبرج، لكن أظن أنه لم يكتب لي أن أحيا حياة مستقرة. فما إن شعرت بأنني سأعيش في سلام، حتى حدث ما لم يتوقعه أحد. حملت الصحف خبر اندلاع «ثورة» الزولو في ناتال. لم أكن أحمل ضغينة ضد الزولو، فلم يتعرضوا بالأذى لأي من الهنود. وكانت تساورني شكوك بشأن «الثورة» ذاتها. وكنت أؤمن حينها بأن الإمبراطورية البريطانية تهدف إلى خير العالم. فمنعني شعور صادق بالولاء حتى من تمني تعرض الإمبراطورية لأي سوء. ومن ثم لم تؤثر أحقية الغاية التي قامت من أجلها «الثورة» أو عدم أحقيتها على قراري. كان لدى ناتال قوات دفاع من المتطوعين، وكانت الأبواب مفتوحة لمتطوعين جدد. نمى إلى علمي أن هناك تعبئة لتلك القوة من أجل القضاء على «الثورة».
اعتبرت نفسي من مواطني ناتال لما لي من صلة وثيقة بها، فكتبت إلى الحاكم معبرا عن استعدادي، إذا كان هناك ضرورة، لتشكيل فرقة إسعاف من الهنود، وقد قبل العرض على الفور.
لم أكن أتوقع مثل هذه الموافقة السريعة، ومن حسن الحظ، كنت قد اتخذت التدابير اللازمة حتى قبل أن أكتب الخطاب، وكنت قد قررت التخلي عن بيت جوهانسبرج إذا ما تمت الموافقة على عرضي. وكان بولاك سيشتري منزلا صغيرا وكانت زوجتي ستذهب لتستقر في فونيكس. وقد وافقت زوجتي موافقة تامة على قراري، ولا أذكر أنها سبق واعترضت على قراراتي المتعلقة بمثل تلك الأمور طوال حياتي. وهكذا أرسلت إخطارا إلى مالك الأرض كما جرت العادة، فور أن تسلمت رد الحاكم، يفيد إخلائي للمنزل في شهر من تاريخه، ثم أرسلت بعض الأمتعة إلى فونيكس وتركت البعض الآخر لدى بولاك.
توجهت إلى دربان وأخذت أحث الناس على الانضمام إلى الفرقة، ولم نكن في حاجة إلى عدد كبير من الأشخاص، وكنا مجموعة من أربعة وعشرين فردا، منهم أربعة جوجراتيين غيري. وكان باقي المتطوعين من العاملين بعقود لأجل ممن ينتمون إلى جنوب الهند، عدا واحد كان بشتونيا
1
حرا.
منحني كبير الضباط الأطباء رتبة رقيب أول مؤقتة ومنح ثلاثة رجال اخترتهم بنفسي رتبة رقيب وآخر رتبة عريف. وكان ذلك وفقا للعرف السائد وبغرض منحي مكانة وتسهيل عملي، وتسلمنا زينا الرسمي من الحكومة. ظلت فرقتنا تشارك في العمليات مباشرة لما يقرب من ستة أسابيع. وعند وصولي إلى مكان «الثورة» لم أجد ما يشير إلى ما تحمله معنى كلمة «ثورة»، فلم يكن هناك أي مقاومة تذكر. والسبب وراء المبالغة في تسمية الشغب الذي حدث «ثورة» يرجع إلى أن أحد زعماء الزولو دعا إلى الامتناع عن دفع ضريبة جديدة فرضت على قومه، واعتدى على الرقيب الذي ذهب لتحصيل الضريبة. كنت متعاطفا مع الزولو، وعند وصولي إلى المركز الرئيسي سعدت كثيرا لعلمي بأن عملنا الرئيسي سيتمثل في تطبيب جراح المصابين من الزولو. رحب بنا الطبيب المسئول، وأخبرنا أن البيض لا يريدون تمريض المصابين من الزولو، وأن جروحهم تتقيح وأنه ضاق ذرعا بالوضع، وقد رحب بوصولنا كنجدة لأولئك الأبرياء، وزودنا أيضا بالضمادات والمطهرات وغيرها، واصطحبنا إلى المستشفى. سر المصابون من الزولو لرؤيتنا. وكان الجنود البيض يقفون عند السياج التي تفصل بيننا وبينهم وحاولوا إقناعنا بالعدول عن تمريضهم، ونتيجة لتجاهلنا إياهم، ثاروا غضبا وأخذوا ينهالون بالسباب على الزولو.
وتدريجيا أصبحت على اتصال مباشر مع أولئك الجنود، وتوقفوا عن إزعاجنا. كان من بين قادة القوات العقيد سباركس والعقيد ويلي، الذي عارضني بشدة في 1896م. وقد أدهشهم موقفي، واستدعوني بصورة خاصة وشكروني، وقدموني إلى اللواء ماكينزي. ويجب أن أوضح للقارئ أن أولئك الضباط لم يكونوا جنودا محترفين، فقد كان العقيد ويلي محاميا مشهورا بدربان، وكان العقيد سباركس مالكا لمحل جزارة مشهور في دربان، وكان اللواء ماكينزي مزارعا بارزا في ناتال. كان جميع أولئك الرجال النبلاء متطوعين، وتلقوا تدريبا وخبرة عسكرية.
لم تكن إصابات الجرحى الذين نعمل على تمريضهم من جراء المعارك، فقد أخذ جزء منهم كسجناء للاشتباه فيهم، وقد حكم عليهم القائد بالجلد، الذي تسبب لهم في قروح خطيرة. ونتيجة لعدم تقديم العناية الطبية إلى أولئك المصابين، تقيحت الجروح. أما باقي المصابين فكانوا من الزولو الموالين للحكومة، ومع أن أولئك الزولو الموالين للحكومة كانوا يحملون شارات تميزهم عن الزولو «الأعداء»، فقد أطلق الجنود عليهم النار عن طريق الخطأ.
وبالإضافة إلى عملي هذا، كان علي أن أعد الوصفات الطبية وأصرفها للجنود البيض. ولم يكن ذلك صعبا علي نظرا لأنني تلقيت تدريبا لمدة عام في مستشفى الطبيب بووث الصغيرة، وقد ساعدني عملي ذلك في التعرف إلى الكثير من الأوروبيين.
كانت فرقتنا ملحقة بفرقة عسكرية خفيفة الحركة. وكانت لدى الفرقة أوامر بالتحرك إلى أي مكان يبلغ عن وجود خطر به. كانت الفرقة أقرب لكونها مشاة راكبة. وفور انتقال معسكرنا، كان علينا أن نكمل طريقنا سيرا على الأقدام حاملين النقالات على أكتافنا. وحدث مرتين أو ثلاث مرات أن كان علينا أن نسير مسافة أربعين ميلا في اليوم. لكنني ممتن لأننا حيثما ذهبنا كنا نقوم بالعمل الذي يرضي الإله، فقد كان علينا أن ننقل الزولو الموالين، الذين أصيبوا خطأ، على النقالات إلى معسكرنا وأن نرعاهم ونمرضهم.
هوامش
الفصل الخامس والعشرون
مراجعة النفس
كانت «ثورة» الزولو مليئة بالخبرات الجديدة التي اكتسبتها، وجعلتني أفكر بجدية في كثير من الأمور. لم تبين لي حرب البوير الأحداث المروعة التي تقع في الحرب بالقوة التي بانت لي في «الثورة». ولم تكن «ثورة» الزولو حربا، وإنما كانت صيدا للبشر. وهذا ليس رأيي الشخصي، بل هو رأي الكثير من الإنجليز الذين تحدثت إليهم. كان الاستماع كل صباح إلى دوي طلقات بنادق الجنود وهي تنفجر في القرى البريئة، والعيش بينها، اختبارا لي. لكنني تحملت ذلك، وخاصة لأن عمل فرقتي كان منصبا فقط على تمريض المصابين من الزولو، فلولا وجودنا ورعايتنا للزولو، لم يكن أحد ليهتم بهم. لذلك، أراح ذلك العمل ضميري.
لكن كان هناك الكثير مما يدعو المرء إلى التفكير. كان السكان في ذلك الجزء من البلاد قليلين، وكان يتناثر عدد قليل ومتباعد من أكواخ الزولو بين التلال والوديان، حيث يقيم الزولو البسطاء والذين قيل عنهم «متوحشون». كنت كثيرا ما أستغرق في تفكير عميق وأنا أسير في هذه العزلة المهيبة، سواء كنت أحمل مصابين أو لا.
أخذت أتأمل عهد البراهماشاريا ومعانيه المتضمنة، وأخذت جذور قناعاتي تتأصل. ناقشت البراهماشاريا مع زملائي، ولم أكن وقتها مدركا كيف كان عهد البراهماشاريا عاملا أساسيا لإدراك الذات، لكنني أدركت بوضوح أنه لا يمكن لمن ينشد خدمة الإنسانية بكامل روحه أن يفعل ذلك إلا عن طريق البراهماشاريا. وأدركت أنه يجب علي أن أقدم المزيد من ذلك النوع من الخدمة، وأنني سوف أكون غير كفء لهذه الخدمة إذا ما انخرطت في متع الحياة الأسرية وإنجاب الأطفال وتربيتهم.
باختصار، لم أستطع العيش ساعيا خلف إشباع احتياجات الجسد والروح معا. ففي الوضع الراهن على سبيل المثال، لم يكن من الممكن أن ألقي بنفسي في أتون المعارك إذا كانت زوجتي حاملا، فدون الالتزام بعهد البراهماشاريا، ستتعارض خدمة العائلة مع خدمة الجالية، لكنهما سيسيران جنبا إلى جنب عند التزامي بعهد البراهماشاريا.
ونتيجة لتفكيري ذلك، تولدت لدي رغبة شديدة في أخذ العهد النهائي، وأدخلت علي إمكانية اتخاذ العهد نوعا من السعادة. وقد وجد الخيال متسعا من الحرية وفتح آفاقا غير محدودة للخدمة.
وبينما أنا في خضم عمل بدني وعقلي عنيف، إذا بتقرير يفيد قرب انتهاء أعمال قمع «الثورة»، ويذكر أن الفرقة ستسرح قريبا. سرحنا من الخدمة بعد ورود التقرير بيوم أو يومين، ووصلنا إلى منازلنا في بضعة أيام.
وبعد فترة وجيزة تسلمت خطابا من الحاكم يشكر فيه فرقة الإسعاف بوجه خاص على خدماتها.
ناقشت موضوع عهد البراهماشاريا بلهفة مع شاجانلال وماجنلال وويست وغيرهم فور وصولي إلى فونيكس. راقتهم الفكرة جميعا وقبلوا الالتزام بالعهد، لكنهم أيضا أوضحوا صعوبة المهمة. وقد ألزم بعضهم أنفسهم بالالتزام بالعهد بشجاعة، وأعرف أن بعضهم نجح في ذلك أيضا.
وأنا أيضا أخذت العهد بأن التزم بالبراهماشاريا مدى الحياة. يجب أن أقر بأنني لم أكن أدرك وقتها أهمية وضخامة المهمة التي أخذتها على عاتقي كليا. فلا تزال الصعاب تواجهني حتى الآن. كانت أهمية العهد تكمن في تأثيره علي أكثر فأكثر. كانت الحياة غير ممتعة وأقرب لحياة الحيوانات دون الالتزام بعهد البراهماشاريا؛ فالحيوان بطبيعته لا يعرف التحكم في شهوات النفس، أما الإنسان فهو إنسان لأنه قادر على التحكم في نفسه، ويكون إنسانا إلى المدى الذي يمارس فيه التحكم في شهوات النفس. فالتمجيد الوارد في كتبنا الدينية للبراهماشاريا، والذي كنت أعتقد أنه مبالغ فيه، يبدو لي الآن وبوضوح يزداد يوما بعد يوم؛ مستحقا تماما وناتجا عن خبرة.
أدركت أن الالتزام بعهد البراهماشاريا المفعم بقوة مذهلة ليس أمرا سهلا، وبالطبع لا يتعلق بالجسد وحده، فالعهد يبدأ بفرض قيود على الجسد، لكنه لا يتوقف عند ذلك الحد، فكمال العهد يحول دون حتى مجرد الفكرة السيئة. فالملتزم الحقيقي بالبراهماشاريا لن يحلم حتى بإشباع الرغبة الجسدية، وسيكون أمامه أن يقطع شوطا كبيرا إلى أن يصل إلى تلك الدرجة.
ومن وجهة نظري كان الالتزام حتى بالشق الجسدي من البراهماشاريا مليئا بالصعاب. أما الآن فيمكنني القول بأنني أشعر بالأمان، لكن لا يزال علي التحكم الكلي في تفكيري، وهو أمر جوهري للغاية. وليس السبب في ذلك قصور في إرادتي أو تقصير في المحاولة، لكن مع ذلك لا يزال تفكيري يمثل مشكلة تتسلل إلي عن طريقها الأفكار غير المرغوب فيها وتشن علي غاراتها الغادرة. أنا على يقين من وجود مفتاح لكبح تلك الأفكار، لكن على كل إنسان أن يجده بنفسه. لقد ترك لنا القديسون والكهنة خبراتهم، لكنهم لم يقدموا لنا وصفة شاملة ومؤكدة النجاح. وذلك نتيجة لأن الكمال أو العصمة من الخطأ هي نعمة إلهية، ولذا ترك لنا من يبغون وجه الإله «المانترا»،
1
مثل «الراماناما» وأضفوا عليها قداسة بزهدهم وراعوها بنقائهم. فمن المستحيل السيطرة على التفكير دون التسليم الكامل لرحمة الإله. هذا هو التعليم الذي تنص عليه جميع الكتب الدينية، وأنا أدرك تلك الحقيقة في كل لحظة من لحظات كفاحي للوصول إلى الالتزام الكامل بالبراهماشاريا.
لكنني سأروي جزءا من تاريخ ذلك الجهاد والكفاح في فصول تالية. وسأختتم هذا الفصل بالإشارة إلى كيفية شروعي في المهمة. وجدت الالتزام بالعهد سهلا في بداية تحمسي له. وغيرت أول ما غيرت في نظام حياتي النوم في نفس الفراش مع زوجتي أو محاولة الاختلاء بها.
وهكذا انتهت فكرة البراهماشاريا التي كنت ملتزما بها طواعية منذ عام 1900م بأخذي عهد البراهماشاريا في منتصف عام 1906م.
هوامش
الفصل السادس والعشرون
ميلاد الساتياجراها
كانت الأحداث في جوهانسبرج مواتية لتجعل من ذلك التطهير للذات خطوة تمهيدية لميلاد الساتياجراها. يمكنني الآن أن أرى أن جميع الأحداث التي مرت في حياتي، والتي بلغت ذروتها باتخاذي عهد البراهماشاريا، كانت تهيئني خفية للساتياجراها. ولد مبدأ الساتياجراها قبل أن نبتكر له اسم «ساتياجراها»، وبالطبع عند نشأة المبدأ لم أكن أنا نفسي أعرف له اسما، فحتى في اللغة الجوجراتية كنا نستخدم العبارة الإنجليزية
passive resistance
التي تعني «المقاومة السلبية» عند الحديث عن هذا المبدأ. لكن عندما وجدت في أحد اجتماعات الأوروبيين أن هذا المصطلح «المقاومة السلبية» قد فسر بضيق أفق، وأنه يعتبر سلاح الضعفاء، ويتصف بالكراهية، ويمكن أن يظهر أخيرا في صورة أعمال عنف، كان علي أن أعترض على جميع تلك الأقوال وأوضح الطبيعة الحقيقية للحركة الهندية. وكان من الواضح الحاجة إلى اسم جديد يصوغه الهنود أنفسهم للتعريف بنضالهم.
لم أستطع التوصل إلى اسم جديد مع محاولاتي، وهكذا عرضت جائزة اسمية في جريدة «الرأي الهندي» يحصل عليها من يقترح أفضل اسم، فصاغ ماجنلال غاندي الاسم «ساداجراها» (سات = الحقيقة، أجراها = ثبات) وفاز بالجائزة. لكنني غيرت الاسم ليكون أكثر وضوحا إلى «ساتياجراها»، الذي أصبح منذ ذلك الحين اسما مميزا للنضال في اللغة الجوجراتية.
إن تاريخ ذلك النضال يصلح لجميع الأغراض العملية، إنه تاريخ عمري المتبقي في جنوب أفريقيا، وبالأخص تجاربي مع الحقيقة بها. لقد كتبت الجزء الأكبر من ذلك التاريخ في سجن ييرافدا وانتهيت منه بعد إطلاق سراحي، وقد نشرته جريدة نافاجيفان، ثم صدر في شكل كتاب. أخذ السيد فالجي جوفيندجي ديساي يترجم ذلك الكتاب إلى اللغة الإنجليزية لجريدة «كارنت ثوت»
Current Thought ، لكنني الآن أتخذ التدابير اللازمة لنشر الترجمة الإنجليزية
1
في شكل كتاب في أقرب وقت حتى يتمكن، من يرغب، من التعرف على أهم تجاربي في جنوب أفريقيا. أوصي من لم يطلع على كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا أن يقرأه بإمعان. لن أعيد ذكر ما ورد في الكتاب، لكنني سأتعرض في الفصول القليلة القادمة لبعض الأحداث الشخصية التي حدثت لي في جنوب أفريقيا ولم أذكرها في الكتاب. وعند انتهائي، سأبدأ على الفور في إعطاء القارئ فكرة عن تجاربي في الهند. لذلك على من يرغب في مراعاة الترتيب الزمني لتلك التجارب أن يضع كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا أمامه.
هوامش
الفصل السابع والعشرون
المزيد من التجارب الغذائية
كنت أتوق للالتزام بالبراهماشاريا فكرا وقولا وفعلا، وكنت أيضا متلهفا لتكريس جل وقتي لنضال الساتياجراها وأن أعد نفسي لها عن طريق زيادة نقاء نفسي. وهكذا وجدت نفسي مضطرا لإحداث بعض التغييرات في حياتي وأن أفرض على نفسي المزيد من القيود فيما يتعلق بالطعام. كان الدافع وراء التغييرات السابقة صحيا بقدر كبير، أما التجارب الجديدة فكانت بدافع ديني.
كان للصوم والقيود الغذائية في تلك المرحلة دور أكثر أهمية في حياتي، فعاطفة الإنسان تصاحب بصورة عامة شهوة الطعام، وهكذا كان الحال معي. لقد واجهت العديد من الصعوبات في محاولة السيطرة على العاطفة والطعام، ولا أستطيع أن أدعي حتى في الوقت الحالي أنني نجحت في السيطرة عليهما كليا. وكنت أعتبر نفسي شرها، فلم يبد لي ذلك قيدا كما كان يظن أصدقائي، فلولا القيود الغذائية التي فرضتها على نفسي، لكنت انحدرت إلى مستوى أقل من الحيوانات ومت منذ أمد بعيد، ومع ذلك، بذلت جهودا مضنية للتخلص من عيوبي بعد أن أدركتها بصورة كافية. وبفضل تلك الجهود، كرست قوتي البدنية ووقتي طوال تلك السنين للعمل.
نتيجة لإدراكي لضعفي ونتيجة لاتصالي غير المتوقع برفقة جيدة، بدأت اتباع نظام غذائي يقتصر على الفاكهة أو الصوم في عيد «إيكيداشي»
1
والالتزام أيضا بالاحتفال بعيد «جانماشتامي»
2
وغيرها من الأعياد الدينية.
بدأت باتباع نظام غذائي يقتصر على الفاكهة، لكن من منطلق التحكم في شهوات النفس لم أجد فرقا كبيرا بين نظام غذائي مكون من الفاكهة ونظام يتكون من الحبوب. فقد وجدت أن متعة التذوق ذاتها متوافرة في كلا النظامين، بل إنها قد تتوافر أكثر في الفاكهة إذا اعتاد المرء عليها؛ لذلك السبب نظرت نظرة جدية إلى الصوم أو تناول وجبة واحدة فقط في أيام الأعياد الدينية. وإذا ما احتجت إلى كفارة أو ما شابهها، كنت أستغل تلك الفرصة أيضا للصوم.
لكنني وجدت أيضا أن الغذاء يحدث متعة أكبر، وزادت رغبتي في الطعام نتيجة لشدة ضعف جسدي. واتضح لي أن الصوم سلاح ذو حدين فيمكن أن يستخدم كسلاح فتاك بغرض التساهل وبنفس الطريقة يمكن أن يستخدم كضابط للنفس، وقد أثبتت العديد من خبراتي اللاحقة وخبرات غيري تلك الحقيقة المروعة. كنت أرغب في تنمية بنيتي الجسدية وممارسة التدريبات الرياضية، لكن نظرا لأن هدفي الرئيسي كان التحكم في نفسي والتغلب على شهوة الطعام، اخترت أولا نوعا واحدا من الطعام ثم اخترت نوعا آخر وفي نفس الوقت وضعت حدا لكمية الطعام. لكن الاستمتاع بالطعام ظل يطاردني، فكلما تركت شيئا وأخذت آخر، كان ذلك الآخر يمنحني متعة أكبر وأكثر عذوبة من سابقه.
وقد لازمني في تلك التجارب الكثير من الرفاق ، أهمهم هيرمان كالنباخ. وقد كتبت عن السيد هيرمان في كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا، ولا حاجة لأن أعيد الكلام ذاته هنا. كان كالنباخ يلازمني دائما، سواء في الصوم أو في التغييرات في النظام الغذائي. كنت أقيم معه في منزله عندما كانت حركة الساتياجراها في أوجها، وناقشنا التغييرات التي أحدثناها في الغذاء ووجدنا أن النظام الغذائي الجديد يوفر لنا متعة أكثر من النظام القديم. بدا مثل ذلك الحديث ممتعا للغاية وقتها، ولم أر فيه خطأ على الإطلاق. لكن خبرتي علمتني أنه كان من الخطأ الحديث عن متعة الطعام؛ فالمرء لا يأكل لكي يشبع شهوته، وإنما ليحافظ على وظائفه الجسدية. عندما يساعد كل عضو حسي الجسد الذي يساعد بدوره الروح؛ يختفي المذاق الخاص للطعام، ووقتها فقط يبدأ الجسد في العمل بالطريقة الفطرية الصحيحة.
مهما تعددت الخبرات ومهما عظمت التضحية، لا تعتبر عزيزة في سبيل تحقيق ذلك التناغم مع الطبيعة. لكن للأسف يندفع التيار في الوقت الحالي بشدة في الاتجاه المعاكس. نحن لا نخجل من التضحية بالعديد من أرواح الآخرين لتزيين الجسد الفاني، ومن أجل محاولة إطالة العمر لبضع لحظات زائلة، مما ينتج عنه قتل أنفسنا جسدا وروحا. ونفسح المجال أمام المئات من الأمراض الجديدة من أجل محاولة إشفاء مرض واحد قديم. وأثناء سعينا للتمتع بالملذات الحسية، نفقد في النهاية قدرتنا حتى على الاستمتاع. كل تلك الأمور تمر أمام أعيننا، وليس هناك من هو أكثر عمى ممن يعمون عن رؤيتها.
بعد أن ذكرت الهدف من تلك التجارب وتسلسل الأفكار التي قادت إليها، أقترح الآن أن أصف التجارب الغذائية بمزيد من التفصيل.
هوامش
الفصل الثامن والعشرون
شجاعة كاستوربا
لقد نجت زوجتي من الموت ثلاث مرات بأعجوبة جراء إصابتها بمرض خطير، وقد كان شفاؤها بواسطة المعالجة المنزلية. عندما أصابتها النوبة الأولى من المرض، كانت الساتياجراها في طور التطور أو كانت على وشك الانطلاق. وكانت زوجتي كثيرا ما تتعرض للنزيف، وقد نصحني صديق طبيب بإخضاعها إلى عملية جراحية، وقد وافقت على إخضاعها للعملية بعد أن ترددت قليلا. لقد كانت كاستوربا شديدة الضعف والهزال، وكان على الطبيب أن يجري العملية دون مخدر. نجحت العملية، وقد خضعت كاستوبا للعملية بشجاعة مذهلة مع أنها تسببت لها في ألم فظيع. كان الطبيب وزوجته التي عملت على تمريض كاستوربا يقدمان لها رعاية كاملة، وكان ذلك في دربان، فسمح لي الطبيب بالذهاب إلى جوهانسبرج، وأخبرني ألا أقلق عليها.
ومع ذلك، تلقيت خطابا بعد مرور بضعة أيام يفيد تدهور حالة كاستوربا، بحيث أصبحت غير قادرة على الجلوس على الفراش، وقد فقدت الوعي ذات مرة. كان الطبيب يعلم أنه لا يمكنه أن يقدم لها الخمر أو اللحم دون موافقتي. فاتصل بي في جوهانسبرج يطلب إذني ليقدم لها مرق اللحم البقري، فرفضت طلبه، لكنني أخبرته باستشارة كاستوربا إذا كانت حالتها تسمح بإبداء رأيها في المسألة، وأن لها مطلق الحرية في الاختيار. قال الطبيب: «لكنني أرفض أن أستشير المريض في هذا الأمر. يجب أن تحضر بنفسك إذا كنت لا تريد أن أصف لزوجتك الطعام الذي أراه مفيدا لصحتها، فلن أتحمل مسئولية تعريض حياة زوجتك للخطر.»
أخذت القطار المتوجه إلى دربان في نفس اليوم، وقابلت الطبيب الذي صدمني قائلا بهدوء: «لقد قدمت إلى زوجتك مرق اللحم البقري بالفعل حتى قبل أن أتصل بك.»
قلت للطبيب: «لا يمكنني أن أسمي هذا إلا خداعا.»
أجاب الطبيب بثبات: «عندما يصف الطبيب دواء أو غذاء لمريض لا يسمى ذلك خداعا. وفي الحقيقة، نحن الأطباء نعتبر من الأفضل أن نخدع المرضى أو أقاربهم إذا كانت هذه هي الطريقة التي نستطيع أن ننقذ بها حياة المرضى.»
كنت أشعر بألم عميق، لكنني حافظت على هدوئي. فقد كان الطبيب رجلا صالحا وصديقا شخصيا. وكنت أدين له ولزوجته بالجميل، لكنني لم أكن مستعدا لتحمل سلوكياته الطبية.
قلت للطبيب: «ماذا تقترح الآن. فأنا لن أسمح أبدا بأن تتناول زوجتي اللحم حتى إذا كان هذا سيؤدي إلى وفاتها، إلا إذا كانت هي ترغب في تناوله.»
أجاب الطبيب: «يمكنك الاحتفاظ بفلسفتك، لكن ما دمت الطبيب المعالج لزوجتك فيجب أن يكون لي حق إعطائها أي شيء أراه في مصلحتها. وإذا كان هذا الأمر لا يروقك، فيؤسفني أن أخبرك بأن عليك أن تنقلها. فأنا لا أستطيع أن أراها تموت أمامي.» - «هل تعني أنه علي أن أنقلها على الفور؟» - «متى طلبت منك أن تنقلها؟ أنا أرغب فقط في أن تمنحني كامل الحرية في التصرف. إذا وافقت على هذا، سأبذل أنا وزوجتي كل ما يمكننا لإنقاذها، ويمكنك حينها الرحيل دون أن تقلق. لكن إذا لم تفهم هذا الأمر السهل، لن يكون أمامي إلا أن أطلب منك نقل زوجتك من هنا.»
أظن أن أحد أبنائي كان برفقتي حينها، وقد اتفق معي على أن أمه لا يجب أن تتناول مرق اللحم البقري. تحدثت إلى كاستوربا نفسها بعد ذلك، لكنها كانت في غاية الضعف، ولم يكن من الممكن استشارتها في الأمر، وشعرت أنه من واجبي المؤلم أن أستشيرها، فأخبرتها عن الحديث الذي دار بيني وبين الطبيب، فأجابتني بحزم: «لن أتناول مرق اللحم البقري. إن من النادر في هذا العالم أن يولد المرء إنسانا، وإنني لأفضل الموت بين ذراعيك على تلويث جسدي بتلك الأشياء الكريهة.»
أخذت أناشدها وأخبرها بأنه ليس عليها أن تحذو حذوي، وذكرت لها بعض الأصدقاء والمعارف الهندوس الذين لا يترددون في تناول اللحم أو الخمر كدواء، لكنها كانت مصرة على موقفها، فقالت: «لا، لن أفعل. أرجو أن تنقلني على الفور.»
شعرت بالسعادة، وقررت نقلها مع أنني كنت أشعر ببعض القلق. أخبرت الطبيب بقرارها، فهتف بغضب: «يا لك من رجل قاسي القلب! كان يجب عليك أن تخجل من طرح الموضوع عليها وهي في حالتها هذه. إن زوجتك في حالة لا تسمح بنقلها، فهي لا تستطيع أن تتحمل أقل مجهود، ولن أندهش إذا ما ماتت في الطريق، لكنني لن أمنعك إن كنت مصرا، وإذا رفضت تناولها مرق اللحم البقري، فلن أخاطر بتركها هنا ولو حتى ليوم واحد.»
فقررنا ترك المكان على الفور. كانت السماء تمطر رذاذا، وكانت المحطة تبعد قليلا عنا، وكان علينا ركوب القطار من دربان إلى فونيكس، ومنها نقطع طريقا يبلغ ميلين ونصف الميل لنصل إلى المزرعة. كنت بالطبع أخوض مخاطرة كبيرة، لكنني وثقت بالإله وواصلت مهمتي. بعثت برسول إلى فونيكس قبل أن أصل إليها، وأرسلت معه رسالة إلى ويست لكي ينتظرنا في المحطة ويحضر معه أرجوحة شبكية وزجاجة من الحليب الساخن وزجاجة من الماء الساخن وستة رجال لحمل كاستوربا بواسطة الأرجوحة الشبكية. واستأجرت عربة «ريكاشا» لكي أتمكن من أن أستقل القطار التالي ووضعتها بها وهي في تلك الحالة الخطيرة وانطلقنا.
لم تكن كاستوربا في حاجة لمن يخفف عنها، بل على العكس، كانت هي تواسيني قائلة: «لا تقلق، لن يصيبني مكروه.»
لقد كان جسدها مجرد عظم يكسوه القليل من اللحم، ولم تكن تناولت أي طعام منذ أيام. كان رصيف المحطة طويلا للغاية، ولم يكن من الممكن أن تدخل العربة إلى داخل المحطة، فكان علينا أن نمشي مسافة طويلة حتى نصل إلى القطار، فحملت كاستوربا بين ذراعي ووضعتها في عربة القطار. وعند وصولنا إلى فونيكس، حملناها على الأرجوحة الشبكية، وهناك فقط أخذت تستجمع قواها ببطء بعد أن خضعت للمعالجة المائية.
جاءنا أحد رجال الدين بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام من وصولنا إلى فونيكس، وقد سمع عن الطريقة الصارمة التي رفضنا بها نصيحة الطبيب، فجاء يناشدنا، بدافع العطف، أن نرجع عن قرارنا، وأذكر أن ولدي مانيلال ورامداس كانا حاضران عندما زارنا رجل الدين هذا، فأخبرنا أن تناول اللحم ليس بإثم، وأخذ يقتبس من تعاليم الحكيم مانو.
1
لم يرق لي ذكره لمثل ذلك الكلام أمام زوجتي ، لكنني تحملت كلامه بدافع الاحترام، وكنت أعرف السطور التي ذكرها من كتاب مانو، لكنها لم تكن لتثنيني عن وجهة نظري. وكنت أعلم أن هناك من يرى أن تلك السطور منتحلة، وحتى إذا لم تكن منتحلة، سأظل متمسكا بآرائي فيما يتعلق بالنباتية بغض النظر عما ورد في النصوص الدينية. كان إيمان كاستوربا راسخا، ومع أنها لا تفهم النصوص المقدسة، لكن تقاليد أجدادها الدينية كانت كافية لها. كان أبنائي يثقون كثيرا باعتقادي، فلم يلقوا بالا لخطاب رجل الدين. لكن كاستوربا أنهت الحوار على الفور، فقالت له: «بغض النظر عن أي شيء يمكن أن تقوله، لا أريد أن أشفى بواسطة تناول مرق اللحم البقري، وأرجو ألا ترهقني أكثر من هذا. يمكنك مناقشة الأمر مع زوجي وأبنائي إذا أردت، لكنني مصرة على رأيي.»
هوامش
الفصل التاسع والعشرون
الساتياجراها في المنزل
دخلت السجن لأول مرة في عام 1908م. ووجدت أن القوانين المفروضة على المساجين مماثلة للقوانين التي يتبعها من يلتزم بعهد البراهماشاريا طواعية - وهو من ينشد التحكم في شهوات النفس. فقد كان أحد تلك القوانين، على سبيل المثال، يقضي بأن ينهي المساجين وجبة العشاء قبل غروب الشمس، ولم يكن يسمح للهنود أو الأفارقة بتناول الشاي أو القهوة. وكان يمكنهم إضافة الملح إلى الطعام المطهو إذا أرادوا، لكن لم يكن يسمح لهم بوضع أي إضافات لمجرد إشباع شهيتهم. وعندما طلبت من طبيب السجن تقديم مسحوق الكاري ووضع الملح على الطعام في أثناء طهيه، أجابني قائلا: «لست هنا لإشباع شهيتك. ومن الناحية الصحية، أجد أن مسحوق الكاري ليس عاملا غذائيا أساسيا، أما لملح فليس هناك فرق بين أن تضعه في أثناء الطهي أو بعده.»
وأخيرا تغيرت تلك القيود، وهو أمر لم يكن سهلا، لكن في كلتا الحالتين كانت القواعد المفروضة تساعدني على التحكم في شهوات نفسي. نادرا ما تنجح القيود التي يفرضها عامل خارجي على الإنسان، لكن عندما يفرض الإنسان تلك القيود على نفسه تؤتي ثمارها بلا ريب. توقفت وقتها عن تناول الشاي وكنت أنتهي من وجبة العشاء قبل غروب الشمس. والآن لا يتطلب الالتزام بهذين القيدين مني أي مجهود.
ومع ذلك حدثت واقعة أجبرتني على الامتناع عن تناول الملح بالكلية، وقد استمر ذلك القيد لمدة عشر سنوات متواصلة. قرأت في بعض الكتب التي تتناول النباتية أن الملح ليس مكونا غذائيا رئيسيا للإنسان، بل على العكس فالطعام الخالي من الملح أكثر فائدة من الناحية الصحية. واستنتجت أن البراهماشاري يستفيد من الطعام الخالي من الملح. وقرأت وأدركت أن أصحاب الأجساد الضعيفة يتعين عليهم تجنب الحبوب، التي كنت مغرما بها بشدة.
بدأت كاستوربا، التي حظيت بفترة راحة قصيرة بعد خضوعها للعملية الجراحية، في التعرض للنزيف مرة أخرى، وبدا المرض مستعصيا، ولم تجد المعالجة المائية وحدها نفعا، ولم تكن كاستوربا مؤمنة بالطرق العلاجية التي أتبعها، لكنها لم تعارضها، وبالطبع لم تطلب أية مساعدة خارجية، وعندما فشلت كل محاولاتي العلاجية، ناشدتها أن تمتنع عن تناول الملح والحبوب، وكانت ترفض مهما توسلت إليها أو ذكرت حججا تؤيد وجهة نظري. لم تجد في نهاية الأمر إلا أن تتحداني، فقالت لي: إنه حتى أنا لا يمكنني أن أمتنع عن تناول تلك العناصر الغذائية إذا ما طلب مني ذلك. تملكني شعور بالألم مصحوبا بشعور بالسعادة، فقد أسعدني أن أجد الفرصة لأعبر لها عن مقدار حبي لها، فقلت لها: «أنت مخطئة. فإذا كنت مريضا ونصحني الطبيب بالامتناع عن تناول هذه المواد الغذائية أو غيرها، كنت سأستمع لنصيحته دون تردد، ولأثبت لك ذلك، سأمتنع عن تناول الملح والحبوب لمدة عام دون وجود حاجة طبية، وسواء امتنعت أنت أم لا.»
دهشت كاستوربا بشدة وهتفت بحزن شديد: «أرجو أن تسامحني، لم يكن علي أن أغضبك، فأنا أعرفك جيدا، وأعدك أن أمتنع عن جميع هذه الأشياء، لكنني أستحلفك بالإله أن ترجع عن عهدك، فأنا لن أستطيع تحمل ذلك.» - «إن امتناعك عن تناول تلك المواد الغذائية سيعود عليك بالنفع، ولا يراودني أي شك في أن صحتك ستتحسن عند امتناعك عن تلك المواد الغذائية. أما أنا، فلا يمكنني الرجوع عن عهد أخذته جادا على نفسي، ولا شك أن ذلك سيعود علي بالنفع، فالقيود، أيا كان الدافع وراءها، دائما ما تفيد الرجال. لذلك يجب أن تتركيني وشأني. وسيكون هذا اختبارا لي، وفي نفس الوقت مساندة معنوية لك لأساعدك على الالتزام بقرارك.»
هكذا فقدت الأمل في إقناعي بالعدول عن عهدي، قائلة: «أنت شديد العناد، ولا تصغ إلا لنفسك.» وأخذت تبكي منفسة عن حزنها.
أود أن أعتبر تلك الواقعة نموذجا لمبدأ الساتياجراها، وواحدة من أجمل ذكريات حياتي.
بدأت كاستوربا بعد ذلك في التحسن بسرعة، وسواء نتيجة لتناول الغذاء الخالي من الملح والحبوب أو نتيجة لغيرها من التغيرات التي أحدثتها في طعامها، أو نتيجة لحرصي الشديد على الالتزام الصارم بضوابط الحياة الأخرى، أو نتيجة للإثارة العقلية التي سببتها الواقعة، فأنا لا أعلم أي تلك العوامل كان له الفضل الأكبر في شفائها. لكن كاستوربا استجمعت قواها بسرعة، وتوقف النزيف تماما. وقد أضافت تلك الواقعة إلى سمعتي كمعالج.
أما أنا، فقد أصبحت في حال أفضل بعد أن امتنعت عن تناول تلك المواد الغذائية، ولم أكن أشتاق للأشياء التي أمتنع عنها. مر العام ووجدت حواسي أكثر خضوعا من ذي قبل. لقد أثارت تلك التجربة لدي الرغبة في التحكم في شهوات النفس، فامتنعت عن تناول تلك المواد الغذائية لمدة طويلة بعد عودتي إلى الهند، ولم أتناول الملح والحبوب سوى مرة واحدة أثناء وجودي في لندن في 1914م، لكنني سوف أتحدث عن تلك الواقعة والطريقة التي عدت بها لتناول تلك المواد الغذائية في فصل لاحق.
لقد جعلت العديد من زملائي يجربون تناول الغذاء الخالي من الملح والحبوب، وقد أحرزت نتائج جيدة في جنوب أفريقيا. قد يكون هناك رأيان مختلفان فيما يتعلق بقيمة هذا الغذاء من وجهة النظر الطبية، أما من الناحية المعنوية فلا يراودني شك في استفادة الروح من أي نوع من أنواع العزوف عن الملذات. يجب أن يختلف طعام من يلتزم بالتحكم في شهوات النفس عمن هو غارق في الملذات، بنفس الطريقة التي يجب أن يختلف بها أسلوب حياة كل منهما. إن الطامحين إلى الالتزام بالبراهماشاريا كثيرا ما يفسدون نهايتهم باتباع طرق تتناسب مع حياة الملذات.
الفصل الثلاثون
نحو التحكم في شهوات النفس
أوضحت في الفصل السابق كيف كان مرض كاستوربا دافعا لإحداث بعض التغييرات في نظامي الغذائي، وقمت بالمزيد من التغييرات في مرحلة لاحقة لدعم عهد البراهماشاريا، كان أول تلك التغييرات امتناعي عن تناول الحليب، وكنت قد علمت، أول ما علمت، من رايشاندباي أن الحليب يثير الشهوة الجنسية، وقد أكدت الكتب التي تتناول النباتية تلك الفكرة، لكنني لم أكن أستطيع أن أقرر الامتناع عن تناول الحليب ما دمت لم ألتزم بعهد البراهماشاريا. كنت قد أدركت منذ وقت طويل أن الحليب عنصر غير ضروري للإنسان، لكن لم يكن من السهل علي أن أمتنع عنه. وفي حين كانت ضرورة الامتناع عن الحليب من أجل التحكم في شهوات النفس تلح علي، إذ بي أطلع على بعض المطبوعات من كلكتا تصف التعذيب الذي يلاقيه البقر والجاموس على يد مالكيه، وقد كان لتلك المطبوعات أثر مذهل علي، فناقشت الأمر مع السيد كالنباخ.
لقد قدمت السيد كالنباخ إلى القراء في كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا، وأشرت إليه في فصل سابق، ومع ذلك أجد أنه من الضروري أن آتي على ذكره هنا بمزيد من التفصيل. لقد التقينا معا بمحض الصدفة، فقد كان صديقا للسيد خان، الذي عرفني إليه عندما وجد في أعماقه حبا للدنيا ومتاعها.
وعندما تعرفت إلى السيد كالنباخ أذهلني حبه للرفاهية والبذخ، ومع ذلك طرح في أول لقاء لنا عددا من الأسئلة الدينية الدقيقة. تحدثنا بالصدفة عن تخلي جوتاما بوذا عن متاع الحياة. وسرعان ما تحولت علاقتنا إلى صداقة وطيدة، حتى إننا أصبحنا نفكر بنفس الطريقة. وكانت لديه قناعة بأن عليه أن يقوم بذات التغييرات التي قمت بها في حياتي.
كان السيد كالنباخ في ذلك الوقت عزبا، وكان ينفق 1200 روبية شهريا على نفسه بالإضافة إلى إيجار المنزل، أما الآن فقد خفض تكاليف معيشته حتى أصبح ينفق 120 روبية لا غير شهريا. وقد بدأنا نعيش معا بعد انفصالي عن الأسرة وإطلاق سراحي من السجن لأول مرة. لقد عشنا حياة قاسية حقا.
وفي ذلك الوقت أجرينا نقاشا حول تناول الحليب، فقال كالنباخ: «نحن نتحدث باستمرار عن الآثار السلبية للحليب، فلماذا لا نمتنع عنه؟ فالامتناع عنه أمر ضروري بلا شك.» كنت مندهشا من الاقتراح الذي رحبت به بشدة. وأخذ كل منا عهدا على نفسه في ذلك الوقت وفي ذلك المكان بأن يمتنع عن تناول الحليب، وكان ذلك في مزرعة تولستوي في عام 1912م.
لكن لم يكن ذلك الامتناع كافيا لي. ولم تمر فترة كبيرة بعد ذلك حتى قررت أن أعيش على نظام غذائي يقتصر على الفاكهة فقط، وكان يتكون من أرخص الفواكه المتوفرة حينها، وكنا نطمح إلى العيش في مستوى أشد الناس فقرا.
وقد وجدنا أن النظام الغذائي الذي يقتصر على الفاكهة مريح للغاية. فتقريبا لم تعد هناك حاجة للطهي، فقد كان طعامنا يتكون عادة من الفول السوداني النيئ والموز والبلح والليمون وزيت الزيتون.
ويجب هنا أن أحذر الطامحين إلى الالتزام بعهد البراهماشاريا، لقد اكتشفت علاقة وثيقة بين الطعام والبراهماشاريا، لكن يظل العقل ولا شك العامل الرئيسي في الموضوع. فالعقل غير الطاهر، الذي يدرك صاحبه عدم طهره، لا يمكن للصوم أن يطهره، ولا يمكن لأي تغيير في النظام الغذائي أن يؤثر عليه، فلا يمكن اقتلاع الرغبة الملحة التي تسيطر على العقل إلا عن طريق دراسة الشخص الممعنة لأفعاله ومشاعره والاستسلام لإرادة الإله ورحمته. ومع ذلك توجد علاقة وثيقة بين العقل والجسد، ودائما ما يتحرق العقل الشهواني شوقا إلى الأطعمة الشهية والترف، ولتجنب ذلك يجب فرض القيود الغذائية والصوم. فالعقل الشهواني يصبح عبدا للحواس بدلا من أن يسيطر عليها، ولذلك يكون الجسد في حاجة دائمة لأطعمة نقية وغير محفزة ولصوم دوري.
فمن يستخفون بالضوابط الغذائية والصوم يرتكبون خطأ لا يقل حجما عن خطأ من يجعلون حياتهم بأكملها مرهونة بها. لقد علمتني خبرتي أن الضوابط الغذائية والصوم يساعدان بصورة كبيرة من تميل عقولهم للتحكم في شهوات النفس. وفي الواقع، دون الاستعانة بالصوم والضوابط الغذائية، يكون من الصعب اقتلاع الرغبات الملحة من العقل كليا.
الفصل الحادي والثلاثون
الصوم
بدأت الصوم كوسيلة للتحكم في شهوات النفس تقريبا في ذات الوقت الذي أقلعت فيه عن تناول الحليب والحبوب والذي بدأت فيه تجربة الاعتماد على نظام غذائي يقتصر على الفاكهة. وقد انضم لي السيد كالنباخ في الصوم. كنت معتادا على الصوم أحيانا لكن لأسباب صحية محضة، وقد علمت من صديق لي أن الصوم عامل أساسي للتحكم في النفس.
كنت ألتزم بالصيام في عيد «إيكيداشي» وغيره من مناسبات الصوم عندما كنت في الهند؛ نظرا لأن أسرتي كانت من أتباع الإله فيشنو، ولأن والدتي اعتادت أخذ أقسى العهود على نفسها، لكن الأمر وقتها كان مجرد تقليد لأمي وسعي لإرضاء والداي.
لم أكن أفهم في ذلك الوقت فعالية الصوم أو أؤمن بها. لكنني حذوت حذو الصديق الذي سبق أن ذكرته وبدأت أواظب على صيام يوم «إيكيداشي» عندما رأيته يصومه بدافع النفع والأمل في دعم عهد البراهماشاريا. وكقاعدة عامة، يسمح الهندوس لأنفسهم بتناول الحليب والفاكهة في أيام الصوم، وكنت ألتزم بذلك النوع من الصوم يوميا، لكنني الآن بدأت أصوم بصورة كلية، فلا يدخل جوفي سوى الماء.
تصادف حلول الشهر الهندوسي شرافان
Shravan
1
مع وقت حلول شهر رمضان عند المسلمين عندما بدأت تلك التجربة. لم يكن أفراد عائلة غاندي يلتزمون بنذور الإله فيشنو فحسب، ولكن أيضا بنذور الإله شيفا، وكانوا يزورون معابد الإله شيفا كما يزورون معابد الإله فيشنو. وكان بعض أفراد العائلة يلتزمون بالصوم حتى المغيب (برادوشا) أثناء شهر شرافان، وقد قررت أن أسير على دربهم.
وقد خضنا تلك التجارب المهمة أثناء إقامتنا في مزرعة تولستوي، حيث كنت أنا والسيد كالنباخ نقيم مع بعض الأسر من أتباع الساتياجراها، ومن بينهم الشباب والأطفال الذين أنشأنا من أجلهم المدارس، وكان من بين أولئك الشباب أربعة أو خمسة مسلمين، وكنت دائما ما أساعدهم على الالتزام بجميع شعائر دينهم، وقد حرصت على التحقق من تأديتهم لصلواتهم اليومية. وكان هناك الشباب المسيحي والبارسي الذين اعتبرت من واجبي أن أشجعهم على الالتزام بشعائرهم الدينية.
وهكذا أخذت أحث الشباب المسلمين على الالتزام بصوم شهر رمضان، وكنت بالطبع قد عقدت العزم على الصوم إلى مغيب الشمس، لكنني حينها دعوت أيضا الشباب الهندوس والبارسيين والمسيحيين للانضمام إلي، وأوضحت لهم أن من الأفضل أن تنضم إلى آخرين في أي أمر يتعلق بالامتناع عن الملذات، فرحب العديد من سكان المزرعة باقتراحي. ولم يكن لزاما على الشباب من الهندوس والبارسيين أن يلتزموا بكل ما يفعله الشباب المسلمون، فقد كان على الشباب المسلمين أن ينتظروا حتى غروب الشمس لكي يتناولوا إفطارهم، أما غيرهم من الشباب فلم يكونوا ينتظرون مغيب الشمس، ومن ثم كانوا قادرين على إعداد الوجبات الشهية لأصدقائهم المسلمين. ولم يكن عليهم أن يتناولوا طعام السحور قبل بزوغ الفجر كالمسلمين. وبالطبع كان الجميع يشربون الماء أثناء الصوم ما عدا المسلمين.
نتيجة لخوض هذه التجربة، اقتنع الشباب بقيمة الصوم، وتولدت بينهم حماسة رائعة.
كان جميع المقيمين بمزرعة تولستوي نباتيين ويجب أن أعترف بامتنان أن الفضل في ذلك يرجع إلى احترامهم لمشاعري. لا بد وأن الشباب المسلمين قد افتقدوا مذاق اللحم أثناء شهر رمضان، لكن أحدا منهم لم يشك قط. لقد كانوا مسرورين بالطعام النباتي، وكثيرا ما كان الشباب الهندوس يعدون لهم الأطعمة النباتية الشهية في حدود ما يتماشى مع بساطة المزرعة.
لقد استطردت في الحديث عن الصوم متعمدا في هذا الفصل، فلم يكن من الممكن أن أذكر مثل تلك الذكريات اللطيفة في أي موضع آخر. ووصفت بصورة غير مباشرة إحدى شيمي، وهي حبي لمشاركة زملائي في أي أمر أرى فيه فائدة. كان الشباب حديثي العهد بالصوم، لكن بفضل الصوم حتى المغيب وصوم رمضان استطعت أن أرغبهم في الصوم كوسيلة للتحكم في النفس.
وهكذا ساد جو من التحكم في شهوات النفس بصورة طبيعية في المزرعة. والآن انضم إلينا جميع سكان المزرعة في الحفاظ على الصوم الكامل أو الجزئي، الذي أنا على يقين بفائدته. لا أستطيع أن أجزم بمدى تأثير ذلك الامتناع عن الأكل على قلوبهم وسعيهم للتغلب على شهوات الجسد. أما أنا فعلى يقين بأنني أفدت كثيرا من الناحيتين الجسدية والمعنوية، لكنني أعلم أنه ليس من الضروري أن يؤثر الصوم وغيره من الضوابط على جميع الأشخاص بالصورة ذاتها.
يمكن أن يساعد الصوم على كبح الرغبة الشهوانية إذا ما كان الغرض منه التحكم في النفس. وفي واقع الأمر، وجد بعض الأصدقاء أن شهوتهم وشهيتهم للطعام قد زادتا بعد التزامهم بالصوم. وهذا يعني أن الصوم يكون عديم الفائدة إذا لم يكن مصحوبا برغبة مستمرة في التحكم في النفس. إن الآية المعروفة الواردة في الفصل الثاني من الباجافاد جيتا تستحق الذكر في هذا السياق:
تبتعد مدركات الحواس عمن لا ينميها، ولكن يستمر شوقه إليها، لكن حتى ذلك الشوق يختفي عند إدراكه للحقيقة الأسمى.
وبذلك يكون الصوم وغيره من الضوابط المماثلة؛ من الوسائل التي تؤدي إلى التحكم في النفس، لكنها ليست الوسائل الوحيدة للوصول إليه. وإذا لم يصاحب الصوم الجسدي صوم روحاني، سينتهي الأمر بكارثة وسيتحول إلى مجرد نفاق.
هوامش
الفصل الثاني والثلاثون
العمل كناظر
أتمنى أن يضع القارئ في ذهنه أنني أذكر في هذه الفصول أمورا لم آت على ذكرها في كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا أو ذكرتها فيه على نحو خاطف، وبذلك سيتوصل القارئ بسهولة إلى العلاقة بين الفصول الأخيرة.
دعت الزيادة في عدد المقيمين بالمزرعة إلى ضرورة توفير تعليم للشباب والفتيات، وكان منهم شباب من الهندوس والمسلمين والبارسيين والمسيحيين وبعض الفتيات الهندوسيات. لم يكن من الممكن أن نستخدم مدرسين متخصصين، ولم أجد ضرورة لذلك، ويرجع ذلك إلى ندرة المدرسين الهنود الأكفاء، وحتى إذا ما وجدوا فلن يوافق أي مدرس على الذهاب إلى مكان يبعد 21 ميلا عن جوهانسبرج مقابل مبلغ زهيد من المال. ولم يكن لدينا بالطبع المال الوفير. لم أجد ضرورة لإحضار مدرسين من خارج المزرعة. وكنت لا أؤمن بنظام التعليم السائد، وكنت أفكر في اكتشاف النظام الصحيح عن طريق الخبرة والتجربة. وقد كان ذلك من منطلق علمي بأن التعليم الحقيقي لا يمكن أن يلقنه سوى الوالدين وحدهما في ظل الظروف المثالية، وحينها لا يسمح إلا بأدنى قدر من المساعدة الخارجية. وقد كنت أرى سكان مزرعة تولستوي كعائلة واحدة أقوم فيها مقام الأب، وكان علي أن آخذ على عاتقي مسئولية تدريب الصغار وتعليمهم.
وبالطبع لم تخل الفكرة من النقائص. لم يكن جميع الأطفال على صلة بي منذ طفولتهم فمنهم من نشأ في ظروف وبيئة مختلفة، ولم يكونوا ينتمون للديانة ذاتها. كيف يمكنني أن أعدل تماما بين أولئك الأطفال في ظل تلك الظروف إذا مارست دور رب العائلة؟
لكنني كنت دائما أعطي الأولوية لتهذيب الروح أو بناء الشخصية. ونظرا لشعوري بالثقة بأن التعليم الأخلاقي يمكن أن يمنح للجميع على حد سواء مع اختلاف أعمارهم ونشأتهم؛ قررت أن أمارس دور الأب على مدار اليوم. اعتبرت أن بناء الشخصية هو الأساس السليم لتعليمهم، وكنت واثقا أنه بعد ترسيخ ذلك الأساس سيتمكن الأطفال من تعلم جميع المسائل الأخرى بأنفسهم أو بمساعدة الأصدقاء.
بدأت تنظيم بعض الفصول الدراسية بمساعدة السيد كالنباخ والسيد براجي ديساي لتقديري الكامل لضرورة حصول الأطفال على التعليم الأكاديمي. ولم أحط من قدر الاهتمام ببناء الجسم الذي كانوا ينمونه في أثناء قيامهم بأعمال الحياة اليومية، فلم يكن هناك خدم في المزرعة وكان سكان المزرعة يقومون بالعمل كله، بداية من الطبخ حتى أعمال النظافة. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك الكثير من أشجار الفاكهة وعدد لا بأس به من الحدائق التي تحتاج إلى الرعاية، وكان السيد كالنباخ مغرما برعاية الحدائق، وقد اكتسب بعض الخبرة في ذلك المجال أثناء عمله في إحدى الحدائق الحكومية النموذجية. وقد كان لزاما على جميع الأطفال ممن لا يعملون في المطبخ أن يخصصوا بعض الوقت لرعاية تلك الحدائق. وكان الأطفال يقومون بالجزء الأكبر من تلك الأعمال التي كانت تتضمن الحرث وقطع الأشجار ورفع الأحمال، وقد منحهم ذلك العمل التدريب البدني اللازم. كان الأطفال يستمتعون بالعمل، ولم يكونوا بصورة عامة في حاجة إلى أي تدريب أو ألعاب أخرى. بالطبع كان منهم من يتظاهر بالمرض ويتهرب من العمل، وفي بعض الأحيان كانوا جميعا يفعلون ذلك. وكنت أحيانا أتغاضى عن مزاحهم، لكنني كثيرا ما كنت حازما في معاملتي معهم، وأستطيع القول بأن تلك المعاملة الحازمة لم ترق لهم، لكنني لا أذكر أن أحدا منهم اعترض عليها. وكنت عندما أعاملهم بحزم أقنعهم بحجة أنه ليس من الصواب أن يلعب المرء أثناء العمل. لكن ذلك الاقتناع لم يكن يدوم طويلا، فما هي إلا لحظات حتى يتركوا العمل ويذهبوا للعب، ومع ذلك نجحنا في هدفنا وأصبح بنيانهم الجسماني قويا. كان نادرا ما يصاب أحد من سكان المزرعة بمرض، لكن يجب الإقرار بأن جزءا كبيرا من الفضل في ذلك يعود إلى الهواء النقي والمياه النقية وساعات تناول الطعام المنتظمة.
وسأتحدث الآن بإيجاز عن التدريب المهني لأولئك الأطفال. كنت عازما على تعليم جميع الأطفال بعض الحرف اليدوية المفيدة. ذهب السيد كالنباخ لذلك الغرض إلى دير للكهان ممن أخذوا على أنفسهم العهد بالامتناع عن الكلام، وعاد وقد تعلم حرفة صناعة الأحذية. تعلمت من كالنباخ الحرفة وعلمتها للأطفال الذين كان لديهم الاستعداد لتعلمها. وكان السيد كالنباخ يتمتع ببعض الخبرة في حرفة النجارة، وذلك بالإضافة إلى أحد سكان المزرعة، فأقمنا فصلا صغيرا لتعليم النجارة. علاوة على ذلك، كان جميع الأطفال تقريبا يعرفون كيفية الطبخ.
كانت تلك الأمور بأكملها جديدة على الأطفال، فلم يدر بخلدهم أنه سيجب عليهم يوما أن يتعلموا تلك المهارات، فقد كان التعليم الذي يتلقاه الأطفال الهنود في جنوب أفريقيا يشمل القراءة والكتابة وعلم الحساب فقط.
وضعنا قاعدة في المزرعة تنص على ألا يطلب من الأطفال القيام بأي عمل لا يشاركهم فيه المعلمون، ولذلك لم يكونوا يقومون بأي عمل إلا وهناك معلم ينسق العمل بينهم ويشاركهم فيه بالفعل. فكان الأطفال يتعلمون جميع المهارات ببهجة وسرور.
وسأتناول التعليم الأكاديمي وبناء الشخصية في الفصول التالية.
الفصل الثالث والثلاثون
التعليم الأكاديمي
رأينا في الفصل السابق كيف وفرنا التدريب البدني وبصورة ثانوية التدريب المهني في مزرعة تولستوي. مع أن عملية التدريب لم تتم بالصورة التي ترضيني، لكن يمكن القول بأنها كانت ناجحة.
على كل حال، كان التعليم الأكاديمي أكثر صعوبة، فلم أكن أمتلك الموارد أو الأدوات التعليمية اللازمة، ولا حتى الوقت الذي كنت أرغب في تخصيصه للمهمة. كان المجهود البدني الذي اعتدت بذله يجعلني منهكا تماما في نهاية اليوم، وكنت أذهب إلى الفصول الدراسية في الوقت الذي أكون فيه في أشد الحاجة إلى الراحة، ونتيجة لذلك كنت أحاول أن أغالب النوم بصعوبة، مع أنه من المفترض أن أكون نشيطا في الفصل. كان علي أن أعمل في أوقات الصباح في المزرعة وفي تأدية الأعمال المنزلية، ومن ثم كان يجب تأخير ساعات المدرسة إلى ما بعد تناول وجبة الغداء، فلم يكن هناك وقت آخر ملائم للمدرسة.
كنا نخصص ثلاث حصص على الأكثر للتعليم الأكاديمي، وكنا ندرس اللغات الهندية والتاميلية والجوجراتية والأردية، وكان التعليم يجري باللغة الدارجة التي يستخدمها الأطفال، وذلك بالإضافة إلى تدريس اللغة الإنجليزية. وكان من الضروري أيضا إعطاء الأطفال من الهنود الجوجراتيين خلفية عن اللغة السنسكريتية، وتزويد جميع الأطفال بمعلومات أولية عن التاريخ والجغرافيا وعلم الحساب.
توليت تدريس اللغتين التاميلية والأردية، وقد اكتسبت ما لدي من معرفة محدودة باللغة التاميلية أثناء رحلاتي البحرية وأثناء وجودي في السجن. لم تتعد معرفتي باللغة التاميلية ما احتواه كتيب بوب
1
الرائع عنها. وقد اكتسبت معرفتي بكتابة اللغة الأردية أثناء رحلة بحرية واحدة، وكانت معرفتي باللغة مقصورة على الكلمات البارسية والعربية المألوفة التي سمعتها أثناء اتصالي بأصدقائي من المسلمين. أما اللغة السنسكريتية، فقد كانت معرفتي بها لا تزيد عما تعلمته في المدرسة الثانوية، وحتى معرفتي باللغة الجوجراتية لم تكن بمستوى أفضل مما يتعلمه الطالب في المدرسة.
كان ذلك هو رأس المال الذي كان علي أن أديره. وفي غياب الأدوات التعليمية، كان زملائي أفضل مني. لكن أفادني حبي للغات بلدي وثقتي بمقدرتي كمدرس وجهل طلابي، وفوق كل ذلك سماحتهم.
كان جميع الأطفال التاميليين مولودين في جنوب أفريقيا، لذلك كانوا يعرفون القليل عن اللغة التاميلية ولم يكونوا يعرفون أي شيء عن الكتابة، وهكذا كان علي أن أعلمهم الكتابة وقواعد اللغة، وقد كانت مهمة سهلة بقدر كبير. كان تلاميذي على علم بأنهم قادرون على التغلب علي في المحادثة باللغة التاميلية في أي وقت، وكانوا يقومون بالترجمة لي إذا ما زارني أحد التاميليين ممن لا يعرفون الإنجليزية، تعاملنا مع الأمر بمرح نظرا لأنني لم أحاول قط أن أخفي جهلي عن تلامذتي، فكنت أظهر نفسي أمامهم على حقيقتها المجردة، لذلك لم أفقد حبهم أو احترامهم مطلقا مع جهلي الكبير باللغة. كان تعليم اللغة الأردية للأطفال المسلمين أكثر سهولة نسبيا. فقد كانوا يعرفون كيفية الكتابة. فاقتصر دوري بسهولة على حثهم على القراءة وتحسين خطهم في الكتابة.
كان أولئك الأطفال غير متعلمين ولم يتلقوا تعليما مدرسيا بصورة عامة. لكنني وجدت أثناء تعليمي إياهم أنه ليس هناك الكثير لألقنهم إياه، سوى تخليصهم من كسلهم والإشراف على دراستهم. ونتيجة لشعوري بالرضا عن ذلك، كنت قادرا على التعامل مع الأطفال ذوي الأعمار المختلفة وتعليم موضوعات مختلفة في الحجرة الدراسية ذاتها.
أما الكتب الدراسية التي كثيرا ما نسمع عنها، فلم أشعر قط بالحاجة إليها. لا أذكر أنني استفدت كثيرا من الكتب التي كانت متاحة لدي. فلم تكن هناك ضرورة على الإطلاق لأن ألقي على عاتق الأطفال كما هائلا من الكتب، ولطالما رأيت أن الكتاب المدرسي الحقيقي للتلميذ هو مدرسه. لا أذكر إلا القليل مما علمني إياه مدرسي من الكتب، لكنني أذكر جيدا الأمور التي تعلمتها منهم بعيدا عن الكتب.
يستوعب الأطفال عن طريق حاسة السمع بصورة أكبر وبمشقة أقل من الاستيعاب عن طريق حاسة البصر. لا أذكر أنني قرأت أي كتاب بالكامل مع الأطفال، لكنني كنت أنقل لهم كل ما استوعبته من قراءتي للعديد من الكتب بأسلوبي الخاص. ويمكنني القول بأنهم لا يزالون يتذكرون تلك المعلومات. وكان عليهم بذل الجهد لتذكر ما تعلموه في الكتب، أما ما علمتهم إياه شفاهة فقد كانوا يرددونه بسهولة مطلقة. كانوا ينظرون إلى القراءة على أنها عمل شاق، أما الاستماع إلي فقد كان متعة إذا نجحت في جعل الموضوع مشوقا. وكنت أقيم قدرتهم على الاستيعاب بأسئلتهم التي كانت تثيرها موضوعاتي.
هوامش
الفصل الرابع والثلاثون
التدريب الروحاني
كان التدريب الروحاني للأطفال أكثر صعوبة بكثير من تدريبهم البدني والذهني. اعتمدت على الكتب الدينية بقدر محدود في التدريب الروحاني، وبالطبع كنت أؤمن بأن على كل تلميذ أن يتعرف على مبادئ ديانته ويحصل على معرفة عامة بنصوصها الدينية، لذلك عملت قدر المستطاع على توفير تلك المعرفة لهم، لكنني كنت أرى أن ذلك يقع تحت مسمى التدريب الفكري. أدركت، حتى قبل أن أبدأ في تعليم الصغار في مزرعة تولستوي بزمن طويل؛ أن تدريب الروح هو أمر قائم بذاته، إن تنمية الروح تبني الشخصية وتمكن الشخص من السعي وراء معرفة الإله وإدراك الذات. وأعتقد أن ذلك كان جزءا أساسيا من عملية تعليم الصغار، وأنه لا طائل في تعليم الصغار أي شيء دون تهذيب الروح، بل يمكن أن يضر بهم.
أنا على علم بالخرافة التي تقول بأن إدراك الذات لا يكون إلا في المرحلة الرابعة من العمر، أي «نكران الذات»، لكن من المعروف أن من يؤجلون الإعداد لتلك الخبرة القيمة حتى المرحلة الأخيرة من حياتهم لا يصلون إلى إدراك الذات بل إلى شيخوخة مماثلة لمرحلة طفولة ثانية ومثيرة للشفقة، ويصبحون عبئا على هذه الدنيا. أذكر بوضوح أنني كنت أؤمن بتلك الآراء حتى في أثناء قيامي بالتدريس، أي في المدة ما بين 1911م و1912م، مع أنني ربما لم أعبر عنها بنفس الأسلوب.
كيف كان يمكنني إذن أن ألقنهم ذلك التدريب الروحاني؟ جعلت الأطفال يستذكرون الترانيم ويتلونها، وأخذت أقرأ لهم من الكتب التي تتناول القواعد الأخلاقية. لكن ذلك لم يكن كافيا لي. وقد أدركت عن طريق قربي منهم أن التدريب الروحاني لا يمكن أن يؤخذ من الكتب، فتدريب الروح لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق تدريب الروح، مثله مثل التدريب البدني الذي لا يمكن أن يحدث دون تدريب الجسد، ومثل التدريب الفكري الذي لا يمكن أن يتم إلا بواسطة تدريب العقل. إن التدريب الروحاني يعتمد بصورة كلية على حياة المعلم وشخصيته. فعلى المعلم أن ينتبه لتصرفاته وسلوكياته في جميع الأوقات، سواء كان وسط تلاميذه أو لا.
ومن الممكن أن يؤثر أسلوب حياة المعلم على روح تلاميذه، حتى وإن باعدت بينهم الأميال. فلا جدوى من تعليم الأطفال الصدق إذا ما كنت أنا كاذبا. ومن المستحيل أن ينجح معلم جبان في تخريج أطفال شجعان، وكذلك من لا يعرف ضبط النفس لا يمكن له أن يعلم تلاميذه قيمة ضبط النفس. لذلك قررت أن أكون نموذجا عمليا خالدا للأطفال من الذكور والإناث الذين يعيشون حولي، وهكذا أصبح تلاميذي هم معلمي، فتعلمت أن أكون صالحا وأن أعيش مستقيما حتى ولو كان ذلك فقط من أجلهم. يمكنني القول بأن النظام والقيود المتزايدة التي فرضتها على نفسي في مزرعة تولستوي كانت ناشئة في معظمها عن أولئك التلاميذ.
كان أحد التلاميذ جامحا وعنيدا وكذابا ومشاكسا، وفي إحدى المرات، ثار ذلك التلميذ بعنف شديد، الأمر الذي أثار سخطي. ولم يكن قد سبق لي معاقبة أي تلميذ من تلامذتي، لكنني كنت غاضبا للغاية في تلك المرة. حاولت أن أقنعه بالحجة، لكنه كان عنيدا وحاول أن يخدعني، وفي النهاية تلقفت مسطرة كانت قريبة مني، وضربته بها على ذراعه، فشعرت برجفة تسري في جسدي وأنا أضربه، وأعتقد أنه لاحظ تلك الرجفة. وكانت تلك الواقعة غريبة تماما على جميع التلاميذ. صرخ التلميذ وأخذ يبكي ملتمسا العفو، ولم يكن بكاؤه من أثر الضربة، فقد كان قادرا على أن يرد لي الضربة إذا ما أراد ذلك حيث إنه كان شابا يافعا قوي البنية في السابعة عشرة من عمره، لكن ما جعله يذرف العبرات حقا كان إدراكه لمدى الألم الذي شعرت به لاضطراري للجوء إلى العنف، ومنذ ذلك الحين لم يعصني أبدا. لكنني حتى الآن أشعر بالأسف على فعلتي تلك. أخشى أن أكون قد أظهرت له في ذلك اليوم الجانب الوحشي في شخصيتي وليس الجانب الروحاني.
ولطالما كنت من المناهضين للعقاب الجسدي، وأذكر أنني لم أنزل عقابا جسديا بأي من أبنائي إلا مرة واحدة. ونتيجة لذلك، لم أستطع منذ ذلك الحين أن أقرر هل كانت معاقبتي لتلميذي صوابا أم خطأ. لكن على الأرجح لم يكن ذلك التصرف لائقا لأنه نتج عن غضب ورغبة في العقاب. فلو كان ما فعلت تعبيرا عن حزني فقط لكنت اعتبرته تصرفا مبررا. لكن الدافع وراء تصرفي في تلك الحالة كان متداخلا.
جعلتني تلك الواقعة أفكر مليا في تصرفاتي، وعلمتني طريقة أفضل لتقويم تلاميذي، ولا أعلم هل كانت تلك الطريقة لتنفع في التعامل مع الواقعة التي تحدثت عنها أم لا. سرعان ما نسي التلميذ ما حدث، ولا أعتقد أنه أظهر أي تقدم كبير منذ ذلك الحين. لكن تلك الواقعة جعلتني أستوعب واجب المعلم نحو تلاميذه بصورة أفضل.
كثيرا ما كان يسيء الأطفال التصرف بعد تلك الواقعة، لكنني لم ألجأ قط إلى العقاب الجسدي. وهكذا استطعت أن أدرك قوة الروح بصورة أفضل أثناء سعيي لتلقين التدريب الروحاني لتلاميذي من الأولاد والفتيات.
الفصل الخامس والثلاثون
زوان وسط الحنطة
وفي مزرعة تولستوي، وجه السيد كالنباخ انتباهي إلى مشكلة لم تخطر لي على بال. فكما سبق أن ذكرت كان بعض أطفال المزرعة سيئي الخلق وجامحين، وكان منهم الكسالى. وكان أولادي يختلطون بتلك النوعية من الأطفال أثناء اليوم، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأطفال الذين يتمتعون بنفس سماتهم. أزعج ذلك السيد كالنباخ، لكنه ركز على خطأ اختلاط أبنائي بأولئك الغلمان سيئي الخلق.
وذات مرة عبر لي عن رأيه صراحة قائلا: «لا يروقني اختلاط أبنائك بغيرهم من الأطفال سيئي الخلق، فلا يمكن أن نتوقع إلا أن تسوء أخلاقهم نتيجة لتلك الرفقة السيئة.»
لا أذكر هل كانت المسألة قد أربكتني وقتها أم لا، لكنني أتذكر ما أجبته به: «كيف لي أن أفرق بين أبنائي والأطفال الكسالى؟ فأنا مسئول عن الجميع. لقد حضر أولئك الصغار لأنني دعوتهم، وإذا أعطيتهم مبلغا من المال وصرفتهم، فسيهربون على الفور إلى جوهانسبرج ويعودون إلى أساليبهم القديمة في العيش. سأصدقك القول، على الأرجح يرى الأطفال وأولياء أمورهم أنهم بحضورهم إلى هنا قد فرضوا علي التزاما، وأنا وأنت نعرف أن عليهم تحمل الكثير من المصاعب هنا، لكن واجبي واضح. يجب علي أن أحافظ على بقائهم هنا، ومن ثم يجب أن يعيش أولادي معهم. وبالطبع لا تريدني أن أغرس في أبنائي الشعور بأنهم أعلى منزلة من الأطفال الآخرين وهم في ذلك العمر؛ فغرس مثل هذه الفكرة في أذهانهم سيكون خطأ فادحا، لكن اختلاطهم بغيرهم من الأطفال سيكون تدريبا جيدا لهم، فسوف يمكنهم ذلك من التمييز بين الخير والشر بأنفسهم. ولماذا لا نؤمن بأن أبنائي يمكن أن يؤثروا بالإيجاب على رفقائهم، إذا كانوا يتمتعون بصفات جيدة بالفعل؟ على كل حال، لا يمكنني إلا أن أبقي على أبنائي هنا، حتى لو كان ذلك ينطوي على بعض المخاطر.»
ولم يكن من السيد كالنباخ إلا أن هز رأسه.
أعتقد أنه لا يمكن القول بأن النتيجة كانت سيئة، فلا أعتقد أن أبنائي قد تأثروا سلبا بتلك التجربة، بل على العكس، أرى أنهم اكتسبوا منها بعض الدروس، فلقد قضت تلك التجربة على أي كبر يمكن أن يكون قد أصابهم، وعلمتهم كيفية التعامل مع مختلف الأطفال، وخضعوا للاختبار وهذبوا أنفسهم.
وقد أثبتت لي تلك التجربة وغيرها من التجارب أن الأطفال المهذبين لا تسوء أخلاقياتهم عندما يتعلمون مع الأطفال سيئي الخلق ويرافق كل منهما الآخر، شريطة أن يحدث ذلك تحت إشراف الوالدين وأولياء الأمور ورعايتهم.
فالأطفال الذين يعزلهم آباؤهم بعيدا عن الناس ليسوا دائما محصنين من جميع الإغراءات والإغواءات المفسدة، لكن الحقيقة هي أنه عند اختلاط الفتيان والفتيات الذين تربوا في بيئات مختلفة وتعليمهم معا، يخضع الوالدان والمعلمون إلى أصعب اختبار وعليهم أن يكونوا يقظين على الدوام.
الفصل السادس والثلاثون
الصوم كفارة
مع مرور الأيام، تبين لي مدى صعوبة تربية الفتيان والفتيات وتعليمهم على نحو سليم. فقد كان علي أن أمس قلوبهم إذا ما أردت أن أكون معلمهم وراعيا لهم بحق. كان يجب أن أشاركهم أفراحهم وأحزانهم، وأن أساعدهم في حل المشاكل التي تواجههم، وأن أوجه مطامح الشباب المتدفقة إلى الطريق الصحيح.
خلت مزرعة تولستوي تقريبا من السكان عند الإفراج عن بعض أنصار حركة الساتياجراها، وكان أغلبية القلة المتبقية ممن ينتمون إلى فونيكس، لذلك نقلتهم إلى فونيكس، وهناك كان علي أن أعاني محنة شديدة.
كنت مضطرا في تلك الأيام إلى التنقل بين جوهانسبرج وفونيكس. تلقيت في إحدى المرات التي كنت فيها بجوهانسبرج أخبار سوء أخلاق اثنين من أفراد الجماعة. لم أكن لأشعر بنفس الصدمة لو كان ورد إلي خبر فشل الساتياجراها، فقد كان وقع الخبر علي كالصاعقة. استقللت القطار المتوجه إلى فونيكس في نفس اليوم، وقد أصر السيد كالنباخ على مرافقتي حين لاحظ سوء حالتي، ولم يكن ليتحمل فكرة ذهابي وحدي لأنه كان الشخص الذي حمل لي تلك الأخبار المزعجة.
وفي أثناء الرحلة، بدت لي مهمتي واضحة. شعرت أن المعلم أو الراعي مسئول بصورة أو بأخرى عن زلات تلاميذه أو من هم في رعايته، وهكذا اتضحت لي مسئوليتي تجاه تلك الواقعة وضوح الشمس. سبق أن حذرتني زوجتي من الأمر، لكنني تغاضيت عن تحذيرها بسبب طبيعتي التي تميل إلى الثقة بالآخرين. وجدت أن الطريقة الوحيدة التي يمكن عن طريقها أن يدرك الشخصان المذنبان مدى الأسى الذي أشعر به وعمق ذنبهم هي أن أعاقب نفسي، ففرضت على نفسي الصوم سبعة أيام، وتعهدت بأن أتناول وجبة واحدة يوميا لمدة أربعة أشهر ونصف الشهر. وقد حاول السيد كالنباخ أن يقنعني بالعدول عن قراري ذلك، لكن بلا جدوى. وسلم في نهاية الأمر بأهمية الكفارة، وصمم على الانضمام إلي، فلم أستطع مقاومة عاطفته الشفافة.
شعرت براحة كبيرة لأن القرار كان يعني التخلص من عبء كان يثقل كاهلي، وخمد غضبي تجاه المخطئين فسمح ذلك بتدفق شعور بالشفقة عليهما. وهكذا وصلت إلى فونيكس وأنا هادئ بقدر كبير، فقمت بعمل المزيد من التحريات وحصلت على المزيد من المعلومات التي كنت في حاجة إلى معرفتها.
آلم الجميع فرضي لتلك الكفارة، لكنه لطف الجو العام للأحداث. فقد أدرك الجميع كيف يكون الوضع رهيبا عندما يرتكب الإنسان إثما، ومن ثم ازدادت العلاقة بيني وبين الفتيان والفتيات قوة وأصبحت أوثق وأكثر صدقا.
لم تمر مدة طويلة حتى اضطرني حدث نشأ بسبب تلك الواقعة إلى الصوم لمدة أربعة عشر يوما، وقد فاقت نتائج ذلك الصوم توقعاتي.
لست أقول بذكري لتلك الوقائع أن من واجب المعلم أن يلجأ إلى الصوم كلما ارتكب تلامذته إثما، ومع ذلك أرى أنه في بعض الحالات يستدعي الأمر اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب القاسي، لكن ذلك يستلزم وضوح الرؤية والقدرة الروحانية. فلا قيمة للصوم عندما لا يتوافر حب حقيقي بين المعلم وتلميذه، أو عندما لا يكون إثم التلميذ قد مس كينونة المعلم، أو عندما لا يكون لدى التلميذ أي احترام للمعلم، بل قد يكون الصوم ضارا في تلك الحالة. وهكذا نرى أن هناك مجالا للشك في مدى ملاءمة الصوم في مثل تلك الحالات، لكن المعلم بلا شك يكون مسئولا عن أخطاء تلاميذه.
لم تكن الكفارة الأولى صعبة على أي منا، ولم أضطر إلى تأجيل أو وقف أي من أنشطتي المعتادة. يحضرني أنه أثناء مدة تلك الكفارة اعتمدت على الفاكهة وحدها في طعامي. أما المدة الأخيرة من الصوم الثاني فقد عانيت فيها كثيرا. وكنت وقتها لم أدرك كليا فعالية «الراماناما» المذهلة، وكانت قدرتي على التحمل أقل. ولم أكن أعلم كيفية الصوم، وبالأخص ضرورة تناول كمية هائلة من الماء، بغض النظر عن الغثيان الذي قد يسببه ذلك أو سوء مذاقها. علاوة على ذلك، أصبحت مهملا بقدر ما في الصوم الثاني عندما مر الصوم الأول بسهولة، ففي الصوم الأول كنت أستخدم حمامات الطبيب كون بصورة يومية، في حين تخليت عنها بعد يومين أو ثلاثة أيام من الصوم الثاني، وأخذت أتناول كميات محدودة من الماء نظرا لأنها كانت سيئة المذاق وتبعث على الغثيان. جف حلقي وأصبح واهيا، ولم أكن أستطيع الكلام في الأيام الأخيرة من الصوم إلا بصوت منخفض، ومع ذلك، كنت أقوم بعملي بواسطة الإملاء عند ضرورة الكتابة. كنت أستمع إلى قراءات من «الرامايانا» وغيره من الكتب المقدسة. وكان لدي من القوة ما يكفي لأتمكن من مناقشة جميع المسائل المستعجلة وتقديم المشورة بشأنها.
الفصل السابع والثلاثون
التوجه للقاء جوخلي
أجد نفسي مضطرا للتغاضي عن ذكر الكثير من ذكرياتي في جنوب أفريقيا.
في ختام كفاح «الساتياجراها» في 1914م، أرسل إلي جوخلي كي أعود إلى الوطن عن طريق لندن. وعليه أبحرت أنا وكاستوربا وكالنباخ إلى إنجلترا في شهر يوليو/تموز.
حجزت ثلاث تذاكر في الدرجة الثالثة، فقد بدأت السفر في الدرجة الثالثة أثناء حركة «الساتياجراها». لكن شتان بين التجهيزات المتوفرة في الدرجة الثالثة بسفن ذلك المسار والتجهيزات المتوفرة في السفن أو القطارات الهندية. ففي تلك السفن والقطارات الهندية، كنا بالكاد نجد المقاعد، وكان الأصعب منها الحصول على أماكن النوم، وكانت التجهيزات متواضعة ومستوى النظافة بها متدنيا. أما في رحلتنا إلى لندن فقد وجدنا صورة مختلفة. فقد كان المكان فسيحا وكان مستوى النظافة معقولا، وقد وفرت لنا الشركة مالكة السفينة تسهيلات خاصة. فقد وفرت لنا الشركة حماما إضافيا، وأصدرت تعليمات إلى الموظف المسئول بأن يزودنا بالفاكهة والمكسرات لأننا من آكلي الفاكهة. ومن المعروف أن ركاب الدرجة الثالثة لا يحصلون على كميات كبيرة من الفاكهة. وكان لتلك التسهيلات الفضل في أننا أمضينا الثمانية عشر يوما على متن السفينة في راحة تامة.
أجد أن بعض الأحداث التي وقعت على ظهر السفينة تستحق الذكر. كان السيد كالنباخ مغرما بالمناظير المعظمة، وكان يمتلك زوجا أو اثنين من المناظير الثمينة. كنا ندخل في نقاشات يومية حول تلك المناظير، وكنت أحاول أن أقنعه بأن حيازته لتلك المناظير لا تتماشى مع البساطة التي نطمح إليها. وذات يوم وصلت مناقشتنا إلى الذروة وساعتها كنا واقفين على مقربة من كوة غرفتنا، فقلت له: «لماذا لا تلقي هذه المناظير في البحر وتنهي الأمر بدلا من أن تظل محل خلاف بيني وبينك؟»
أجاب كالنباخ: «بالطبع، يمكنك أن تلقي بهذه الأشياء اللعينة بعيدا.»
قلت: «أنا أعني ما أقول.»
فأجابني بسرعة: «وأنا كذلك.»
وفي الحال ألقيت بالمناظير في غيابة البحر. كانت تلك المناظير تقدر بمبلغ 7 جنيهات إسترلينية، لكن قيمتها الحقيقة كانت تكمن في افتتان السيد كالنباخ بها، ومع ذلك لم يندم قط على التخلص منها. كانت هذه واحدة من بين الأحداث الكثيرة التي وقعت بيني وبين السيد كالنباخ.
كنا نتعلم بتلك الطريقة شيئا جديدا كل يوم، فقد كان كلانا يحاول السير في طريق الحقيقة، وبطبيعة الحال، تخلصنا من مشاعر الغضب والأنانية والبغض وغيرها في مسيرنا هذا، وإلا لكان من المستحيل الوصول إلى الحقيقة. إن من اتبع هواه وأضلته عاطفته لن يصل إلى الحقيقة أبدا حتى وإن صلحت نواياه وصدق كلامه؛ فالوصول إلى الحقيقة يتطلب التخلص من زخم المشاعر المزدوجة، مثل الحب والكراهية والسعادة والشقاء.
لم يكن قد مر على انتهاء صومي مدة طويلة عندما شرعنا في رحلتنا البحرية. ولم أكن قد استعدت كامل قوتي بعد. اعتدت أن أتجول على ظهر السفينة كنوع من التدريب لإنعاش شهيتي وهضم ما تناولت من طعام. لكنني لم أكن قادرا حتى على ممارسة ذلك التدريب، فقد كان يسبب لي ألما في عضلة الساق الخلفية حتى إن حالتي ازدادت سوءا بوصولي إلى لندن. وهناك تعرفت إلى الطبيب جيفراج ميهتا، فأخبرته عن صومي والألم الذي تلاه، فقال لي: «إذا لم تحظ بقسط كامل من الراحة لبضعة أيام، أخشى أن ساقك ستفقد قدرتها على الحركة.»
وقد علمت حينها أن على الشخص الذي انتهى من صوم طويل ألا يتعجل في استعادة قوته الخائرة، وأن يكبح شهيته للطعام. فالخروج من مدة الصوم يتطلب المزيد من الحرص وربما تطلب الأمر ضوابط تزيد على ما يتطلبه الصوم ذاته.
وفي ماديرا وردت إلينا الأخبار بإمكانية اندلاع الحرب العالمية الأولى في أي لحظة. وفي أثناء عبورنا للقناة الإنجليزية، تلقينا أنباء اندلاع الحرب بالفعل. اضطررنا للتوقف لبعض الوقت، فقد كان من الصعب مرور السفينة خلال الألغام البحرية التي وضعت في كافة أرجاء القناة. وقد استغرق الوصول إلى ساوث هامبتون يومين.
أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا في الرابع من أغسطس/آب، ووصلنا لندن في السادس من نفس الشهر.
الفصل الثامن والثلاثون
دوري في الحرب
علمت فور وصولي إلى إنجلترا أن جوخلي حال حائل بينه وبين العودة من فرنسا التي ذهب إليها لأسباب صحية. ولم يكن أحد يعرف متى سيعود نتيجة لانقطاع الاتصالات بين فرنسا وإنجلترا، ولم أشأ العودة إلى الوطن دون أن أراه، لكن أحدا لا يعرف متى سيعود تحديدا.
ماذا كان يمكن أن أفعل في تلك المدة؟ وماذا كان واجبي تجاه الحرب؟ كان سورابجي أداجانيا، الذي كان رفيقي في السجن وأحد أنصار الساتياجراها، يدرس المحاماة وقتها في لندن. فقد أرسلناه إلى إنجلترا ليؤهل نفسه ليصبح محاميا لكونه واحدا من أفضل أفراد جماعة الساتياجراها، وذلك لكي يتمكن من أن يحل محلي في حالة عودتي إلى جنوب أفريقيا. وقد كان الطبيب برانجيفانداس ميهتا يتكفل بنفقاته. وبوساطته وبرفقته عقدت لقاءات مع الطبيب جيفراج ميهتا وغيره ممن كانوا يستكملون دراستهم في إنجلترا، وبعد التشاور معهم، دعونا إلى انعقاد اجتماع للهنود المقيمين في بريطانيا العظمى وأيرلندا، وقد عرضت آرائي على الحضور.
شعرت بأن على الهنود المقيمين في إنجلترا أن يقوموا بواجبهم في الحرب، فقد تطوع الطلاب الإنجليز للخدمة في الجيش، ولا يجب أن يكون الهنود أقل منهم. ارتفعت أصوات الاحتجاج على ذلك الرأي، فقد قيل إن هناك اختلافا كبيرا بين الهنود والإنجليز، فنحن عبيد وهم أسياد، فكيف يتعاون العبد مع السيد في وقت حاجة السيد إليه؟ ألا يجب على العبد الذي يبغي الحصول على حريته أن يستغل تلك الفرصة؟ لكنني لم أقتنع بتلك الحجة وقتها. كنت أعرف الفرق بين الهنود والإنجليز، لكنني لم أؤمن بأننا انحدرنا إلى مستوى العبيد. شعرت حينها أن المسئولية تقع على المسئولين البريطانيين أكثر منها على النظام البريطاني، وأننا يمكن أن نغير موقفهم عن طريق الحب. فإذا كنا في حاجة إلى مساعدة الإنجليز وتعاونهم لتحسين وضعنا الاجتماعي، فمن واجبنا أن ننال مساعدتهم تلك بوقوفنا بجانبهم في وقت شدتهم. كان النظام يتضمن عددا من العيوب، لكنه لم يبد لي غير محتمل كما هو الحال الآن. لكن إذا رفضت التعاون مع الحكومة البريطانية الآن نتيجة لفقداني الثقة بالنظام، فكيف لأولئك الأصدقاء حينها أن يتعاونوا معها، وقد فقدوا الثقة ليس بالنظام فحسب بل بالمسئولين أيضا؟
رأى الأصدقاء المعارضون للفكرة أن ذلك هو الوقت المناسب لإصدار إعلان جريء يتناول طلبات الهنود وتحسين وضعهم.
كنت أرى أنه لا ينبغي أن نستغل ضائقة الإنجليز، وأن من الحكمة واللياقة ألا نعرض طلباتنا في أثناء الحرب. وهكذا التزمت برأيي ودعوت الذين يرغبون في التطوع للخدمة العسكرية، وقد لاقت تلك الدعوة استجابة واسعة، فلم يوجد إقليم أو ديانة تقريبا إلا وحضر منها مجموعة من المتطوعين.
كتبت خطابا إلى اللورد كرو أطلعه فيه على تلك الحقائق، وأعبر له عن استعدادنا لتلقي تدريب على عمل فرق الإسعاف إذا كان ذلك التدريب شرطا لقبول عرضنا.
تردد اللورد كرو قليلا لكنه قبل بالعرض في نهاية الأمر، وشكرنا على عرض خدماتنا على الإمبراطورية في الوقت الحاسم.
بدأ المتطوعون في تلقي التدريبات التمهيدية على الإسعافات الأولية للمصابين تحت إشراف الطبيب كانتلي، كانت مدة الدورة التدريبية قصيرة فاستمرت لستة أسابيع، لكنها غطت جميع العناصر التي تدرس في الدورة التدريبية الكاملة للإسعافات الأولية.
انضم إلى الدورة التدريبية مجموعة مكونة من 80 فردا، وخضعنا للاختبار بعد مرور الستة أسابيع، وتجاوزنا جميعا الاختبار ما عدا واحدا، وبدأت الحكومة في إخضاع الناجحين للتدريبات العسكرية وغيرها من التدريبات اللازمة، وكان العميد بيكر هو الضابط المسئول عن تلك التدريبات.
وقد كان مشهد لندن في تلك الآونة رائعا، فلم يكن أحد يشعر بالرعب، لكن الجميع كانوا منشغلين بالمساعدة في الحرب كل قدر استطاعته. بدأ تدريب البالغين على فنون القتال، لكن ماذا كان على الشيوخ والمقعدين والنساء أن يفعلوا؟ كان هناك الكثير من العمل الذي يمكنهم القيام به إذا أرادوا، فأخذوا يقصون الأقمشة ويصنعون الملابس والضمادات للجرحى.
تعهدت جمعية الليسيم
Lyceum ، وهي جمعية نسائية، بصنع أكبر عدد ممكن من الملابس من أجل الجنود. كانت السيدة ساروجيني نايدو ضمن أعضاء تلك الجمعية، فكرست حياتها كلها للعمل. وقد كان ذلك أول لقاء لي بها حين وضعت أمامي كومة من الأقمشة المقصوصة بصورة نمطية، وطلبت مني أن أحيكها كلها ثم أعيدها إليها. رحبت بطلبها واستطعت، بمساعدة الأصدقاء، أن أنهي أكبر كمية ممكنة من الأقمشة أثناء مدة التدريب على الإسعافات الأولية.
الفصل التاسع والثلاثون
معضلة روحانية
وصلني برقيتان فور وصول أخبار تقدمي وغيري من الهنود للخدمة في الحرب إلى جنوب أفريقيا. كانت البرقية الأولى من السيد بولاك الذي تساءل عن مدى توافق انضمامي للحرب مع إيماني بمبدأ الأهيمسا.
لقد توقعت إلى حد ما تلك المعارضة، وقد تناولت تلك المسألة في كتاب «هند سواراج» أو (الحكم الذاتي للهند)،
1
وكنت أناقش الأمر مع أصدقائي في جنوب أفريقيا ليل نهار، وقد أقررنا جميعا أن الحرب عمل غير أخلاقي، فكيف أرغب في الاشتراك في الحرب وأنا من رفض أن يقاضي من اعتدوا عليه، خاصة وأنا لا أعرف مدى عدالة القضية التي تحارب من أجلها الأطراف المتقاتلة؟ كان الأصدقاء يعرفون بالطبع أنني اشتركت في حرب البوير من قبل، لكنهم ظنوا أن آرائي تغيرت منذ ذلك الحين.
في واقع الأمر، كانت الأسباب التي دفعتني للمشاركة في حرب البوير هي ذات الأسباب التي جعلتني أقرر الاشتراك في هذه الحرب. كنت على دراية كاملة بأن الاشتراك في الحرب لا يتفق مطلقا مع مبدأ الأهيمسا، لكن مهمة المرء لا تكون واضحة دائما، فكثيرا ما يضطر الباحث عن الحقيقة إلى تلمس طريقه في الظلمات.
إن الأهيمسا هو مبدأ شامل، وما نحن إلا بشر عاجزون عالقون وسط نيران العنف (هيمسا). فالقول المأثور الذي يشير إلى أن الإنسان يحيا على حساب حياة الآخرين يحمل معنى عميقا. فالإنسان لا يمكن أن يعيش دون أن يمارس عنفا خارجيا، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد. إن حياة الإنسان في حد ذاتها - من مأكل ومشرب وتنقل - تشتمل بالضرورة على بعض العنف، أو تدمير لحياة الآخرين إذا صح القول. وهكذا نجد أن المخلص للأهيمسا يظل مخلصا لمعتقده إذا كانت جميع أفعاله نابعة من عاطفته، وإذا ما نأى بنفسه قدر المستطاع عن تدمير المخلوقات الأضعف منه وحاول أن يحافظ عليها. ومن ثم هو يسعى باستمرار إلى التحرر من دائرة العنف المميت، وسوف يحرز تقدما في تحكمه في شهوات نفسه وتنميته للعاطفة، لكنه لن يستطيع أبدا أن يتخلص من العنف الخارجي بالكلية.
ومرة أخرى نجد أن الفرد عندما يخطئ يؤثر خطأه على الجميع لأن أساس الأهيمسا هو وحدة الحياة مجتمعة، ولذلك لا يمكن أن يتحرر الإنسان كليا من العنف. فما دام الإنسان كائنا اجتماعيا، لا يمكنه إلا أن يشارك في العنف الذي يستلزمه قيام المجتمع ذاته. عندما ينشب صراع بين دولتين، تكون مهمة المناصر لمبدأ اللاعنف أن يوقفه، أما من هو غير كفء للقيام بتلك المهمة أو من لا يقدر على مقاومة الحرب أو غير المؤهل لمقاومتها، فيمكنه أن يشارك في الحرب لكنه يعمل في الوقت نفسه وبصدق على تحرير نفسه وأمته والعالم أجمع من الحرب.
كنت آمل أن أحسن وضعي ووضع أبناء وطني بواسطة اللجوء إلى الإمبراطورية البريطانية. فعندما كنت في إنجلترا، كنت أنعم بحماية الأسطول البريطاني. وباحتمائي بقدرتها التسليحية، كنت أشارك بصورة مباشرة في العنف الذي يمكن أن تقوم به. لذلك وجدت نفسي أمام ثلاثة خيارات إذا ما أردت أن أحافظ على علاقتي بالإمبراطورية وأن أعيش تحت رايتها: كان الخيار الأول أن أعلن المقاومة الصريحة للحرب، وأن أقاطع الإمبراطورية وفقا لمبادئ الساتياجراها إلى أن تغير الإمبراطورية من سياستها العسكرية. وكان الخيار الثاني أن أتسبب في إلقائي في السجن بتهمة العصيان المدني لقوانين الإمبراطورية التي أرى وجوب عصيانها. أما الخيار الثالث، فكان أن أشارك في الحرب إلى جانب الإمبراطورية ومن ثم أكتسب القدرة العقلية والبدنية اللازمة لمقاومة العنف الذي تنطوي عليه. وكنت أفتقر لتلك القدرة العقلية والبدنية، لذلك وجدت أنه ليس أمامي إلا الاشتراك في الحرب.
لا فرق في نظري بين الجنود المقاتلة وغير المقاتلة إذا ما نظرنا إلى الأمر من حيث مبدأ اللاعنف. فمن يتطوع للعمل لدى عصابة ما ناقلا للأخبار أو كحارس في أثناء ممارستهم لأعمالهم الإجرامية أو يعمل على تمريضهم إذا أصيب أحدهم، لا يقل جرمه عن أفراد العصابة أنفسهم. وكذلك الحال للذين يعملون على رعاية جرحى الحرب، فأيديهم لا تخلو من إثم الحرب.
لقد حدثت نفسي بتلك الأمور كلها، حتى قبل أن أستلم برقية بولاك، وفور أن تسلمت البرقية ناقشت تلك الآراء مع الكثير من الأصدقاء، وتوصلت إلى أن من واجبي أن أتقدم للخدمة في الحرب. وحتى في الوقت الحالي أرى أن ذلك القرار لم يكن خاطئا، ولا أشعر بالندم على ما أقدمت عليه فقد كنت أرى جوانب إيجابية في الحفاظ على العلاقة مع إنجلترا.
أعلم أنه حتى في ذلك الوقت لم أستطع الحصول على تأييد جميع أصدقائي لموقفي. كانت المسألة شائكة. كان هناك مجال لاختلاف الآراء، ومن ثم بذلت كل ما في وسعي لتوضيح أسبابي لمن يؤمنون بمبدأ الأهيمسا ويبذلون جهودا جادة لممارسته على مختلف المستويات الاجتماعية. إن الباحث عن الحقيقة لا يمكنه أن يقدم على أي فعل بدافع الخضوع للعادات المتبعة، بل عليه دائما وأبدا أن يكون متفتحا لقبول أي تعديل في سلوكياته، وأن يعترف بخطئه عندما يكتشفه مهما كانت العواقب.
هوامش
الفصل الأربعون
نموذج مصغر للساتياجراها
اشتركت بالفعل في الحرب بدافع الواجب، لكن ما حدث هو أنني لم أستطع الاشتراك مباشرة في الحرب، واضطررت في الواقع إلى تقديم ما يمكن أن يسمى نموذجا مصغرا للساتياجراها حتى في تلك الفترة الحرجة.
سبق أن ذكرت أنه تم تعيين أحد الضباط ليكون مسئولا عن تدريبنا فور قبولنا وإدراجنا في الدورة التدريبية. كنا جميعا على قناعة بأن ذلك القائد العسكري يمكنه ممارسة القيادة فيما يتعلق بالأمور التقنية فقط، أما فيما يتعلق بغير ذلك من الأمور فأكون أنا قائد الفرقة التي تتبعني مباشرة في المسائل التي تتعلق بالنظام الداخلي، وذلك يعني أنه كان على القائد العسكري أن يتعامل مع الفرقة عن طريقي، لكن القائد العسكري محا من ذهننا ذلك الوهم الذي كنا نعيشه من أول وهلة.
كان السيد سورابجي أداجانيا رجلا حصيفا، فقال لي: «احذر من ذلك الرجل، فيبدو أنه يريد أن يمارس دور القائد علينا. إننا لن ننصاع إلى أوامره، فلا يمكننا أن نقبله إلا كمدرب لنا. زد على ذلك أن الشباب الذين عينهم لتدريبنا يعاملوننا كما لو كانوا أسيادنا.»
كان أولئك الشباب من طلاب جامعة أوكسفورد، وقد حضروا لتدريبنا، وقد عينهم القائد كقادة لوحدتنا.
كنت قد لاحظت استبداد القائد العسكري، لكنني حاولت تهدئة سورابجي وطلبت منه ألا يقلق، لكنه لم يكن يقتنع بسهولة.
فقال لي مبتسما: «أنت تميل إلى الثقة بالآخرين ميلا مفرطا. سوف يخدعك هؤلاء الأشخاص بكلمات تثير الشفقة، وسوف تطلب منا اللجوء إلى الساتياجراها عندما تكتشف حقيقتهم، وحينها ستشعر بالأسى، وتجعلنا جميعا نشعر بالأسى معك.»
فأجبت قائلا: «وماذا تتوقع أن تجد غير الأسى بعد أن انضممت إلي؟ إن من الطبيعي أن يتعرض نصير الساتياجراها للخداع، دع القائد العسكري يخدعنا، ألم أخبرك مرارا وتكرارا أن المخادع لا يخدع إلا نفسه في النهاية؟»
انطلقت ضحكة مدوية من سورابجي، ثم قال: «حسنا، استمر في الوقوع ضحية للخداع. ففي يوم ما ستلقى حتفك بسبب الساتياجراها، وسوف تجر أشخاصا أبرياء مثلي إلى حتفهم معك.»
ذكرتني تلك الكلمات بما كتبته لي ايميلي هوب هاوس فيما يتعلق بحملة «عدم التعاون» حين قالت: «لن أتعجب إذا ساقك بحثك عن الحقيقة إلى الإعدام في يوم من الأيام. أرجو من الإله أن ينير لك طريق الحق ويحفظك من كل سوء.»
جرى ذلك الحديث مع سورابجي فور تعيين القائد العسكري، واحتدمت علاقتنا بالقائد خلال أيام معدودة. كنت بالكاد قد استعدت قوتي بعد صوم الأربعة عشر يوما عندما بدأت في المشاركة في التدريبات العسكرية، وكنت أسير إلى المكان المحدد للتدريبات الذي يبعد ميلين عن المنزل، فأعياني ذلك الأمر وسبب لي الإصابة بالتهاب الغشاء البلوري، وكان علي أن أمضي عطلة نهاية الأسبوع في المعسكر وأنا في تلك الحالة الصحية المتدهورة، فعدت إلى المنزل في حين ظل الآخرون في المعسكر، وهنا حدث الموقف الذي فتح الباب أمام ظهور الساتياجراها.
بدأ القائد العسكري يمارس سلطته ببعض الحرية، وقد أوضح لنا صراحة أنه القائد المطلق في جميع الأمور، سواء العسكرية أو غير العسكرية، وقد جرعنا في الوقت ذاته مذاق سلطته. هرع سورابجي إلي، فلم يكن يستطيع تحمل مثل ذلك الاستبداد، فقال لي: «لن نتلقى أوامرنا إلا منك. ما زلنا في معسكر التدريب، ومع ذلك تصدر إلينا العديد من الأوامر السخيفة، فهناك تمييز جائر يحدث بيننا وبين أولئك الشباب المعينين لتدريبنا، ويجب أن نتحدث إلى القائد العسكري بهذا الشأن، وإلا فلن نستطيع الاستمرار على هذا الوضع. لن ينصاع الطلاب الهنود وغيرهم ممن انضموا إلى فرقتنا إلى أي أوامر سخيفة. ومن غير المقبول أن نتحمل فقدان احترامنا لأنفسنا بسبب قضية اشتركنا فيها في الأصل بدافع احترام الذات.»
توجهت إلى القائد العسكري ووجهت انتباهه إلى الشكاوى التي تلقيتها، فكتب لي يطلب مني وضع تلك الشكاوى في صورة كتابية، وفي الوقت ذاته قال لي: «أخبر أصحاب تلك الشكاوى بأن عليهم رفع شكواهم لي بواسطة قادة الوحدة الذين عينوا، والذين سيرفعونها لي عن طريق المدربين.»
فأخبرته بأنني لم أطالب بأية سلطة، وأنني من الناحية العسكرية لست إلا جنديا مثل غيري من الجنود. كل ما هنالك هو أنني رأيت أنه بصفتي رئيس فرقة المتطوعين، ينبغي أن يسمح لي بصورة غير رسمية أن أكون ممثلا عنهم. وعبرت عن الشكاوى والطلبات التي تلقيتها، ولا سيما الاستياء الشديد الناتج عن تعيين قادة الوحدة دون مراعاة شعور أعضاء الفرقة، وأنه يجب إلغاء تعيينهم، وأن يدعى أفراد الفرقة لانتخاب قادة الوحدة بعد الحصول على موافقة القائد.
لم ترق تلك الشكاوى والطلبات للقائد العسكري، الذي قال: إن انتخاب أعضاء الفرقة لقادة الوحدة يخالف جميع الأنظمة العسكرية، وإن إلغاء التعيينات التي نفذت بالفعل سيدمر النظام كله.
نتيجة لذلك عقدنا اجتماعا قررنا فيه الانسحاب من الخدمة. أوضحت للأعضاء العواقب الوخيمة التي ستنتج عن اتباع الساتياجراها. لكن الأغلبية العظمى صوتت لصالح القرار الذي تضمن امتناع أعضاء الفرقة عن تأدية أي تدريبات أو معسكرات إذا لم تلغ تعيينات قادة الوحدة (العرفاء) الذين عينوا بالفعل وأن يمنح أعضاء الفرقة فرصة انتخاب القادة بأنفسهم.
أرسلت حينها خطابا إلى القائد العسكري أخبره فيه بخيبة الأمل الشديدة التي أصبت بها عندما وصل لي خطابه الذي كان يحمل رفضه لاقتراحي. وأخبرته بأنني لم أتطلع إلى ممارسة أي نوع من أنواع السلطة، وأن شغلي الشاغل كان خدمة المصابين. ووجه انتباهه إلى أن لي خبرة سابقة في ذلك الأمر. وأوضحت له أنه مع أنني لم أكن أحمل أي رتبة رسمية في فرقة الإسعاف الهندية بجنوب أفريقيا أثناء حرب البوير، لم يكن هناك أي صلة مباشرة بين العقيد جالوي والفرقة، ولم يقدم العقيد على خطوة دون الرجوع لي حتى يطلع على رغبات الفرقة. وألحقت بالخطاب نسخة من القرار الذي توصلنا إليه في الليلة السابقة.
كان أثر كلامي على القائد سلبيا، فقد شعر أن الاجتماع الذي عقدناه والقرار الذي توصلنا إليه يعتبرا انتهاكا خطيرا للنظام.
وهنا أرسلت خطابا إلى وزير شئون الهند أطلعه فيه على جميع الحقائق، وألحقت به نسخة من القرار. فأرسل يشرح لي أن الأوضاع في جنوب أفريقيا كانت مختلفة عن الأوضاع الحالية، ووجه انتباهي إلى أن القائد العسكري قد عين قادة الوحدة وفقا للقوانين، لكنه أكد لي أنه عند تعيين قادة للوحدة في المستقبل، سيأخذ القائد العسكري توصياتي في الاعتبار.
جرت بيننا بعد ذلك مراسلات عديدة، لكنني لا أريد أن استطرد في الحديث عن تلك الواقعة المؤلمة. يكفي أن أذكر هنا أن تجربتي تلك كانت مماثلة للتجارب التي نشهدها يوميا في الهند. نجح القائد العسكري عن طريق التهديد حينا والدهاء حينا آخر في غرس بذور الخلاف داخل الفرقة، فبعض الذين كانوا قد وافقوا على القرار رضخوا لتهديداته أو قدرته على الإقناع ونقضوا عهدهم.
وفي تلك الأثناء، وصل حشد هائل من الجنود المصابين على نحو غير متوقع إلى مستشفى نيتلي، فطلب من فرقتنا تقديم خدماتها، وقد ذهبت المجموعة التي استطاع القائد أن يثنيها عن قرارها إلى نيتلي، أما باقي أفراد الفرقة فرفضوا الذهاب. وكنت طريح الفراش، لكنني كنت على اتصال بأفراد الفرقة. شرفني السيد روبيرتس، وكيل وزير شئون الهند، بالاتصال بي عدة مرات أثناء تلك الأيام. وقد أصر على أن أقنع من رفضوا الذهاب إلى نيتلي بالعدول عن قرارهم، واقترح أن يشكلوا فرقة مستقلة، وقال: إنه عند ذهابهم إلى مستشفى نيتلي يمكن أن يكون القائد العسكري هناك هو رئيسهم الوحيد، ومن ثم لن يفقدوا احترامهم لأنفسهم. وسيرضي ذلك الحكومة، وفي نفس الوقت سيجري تقديم خدمة مفيدة إلى عدد ضخم من المصابين الذين تلقتهم المستشفى. راقني ذلك الاقتراح كما راق رفقائي في الفرقة، فعدل أعضاء الفرقة الذين كانوا قد رفضوا الذهاب إلى نيتلي في بادئ الأمر عن قرارهم.
وبقيت وحيدا مستلقيا على فراشي، أحاول التأقلم مع ذلك الوضع القاسي.
الفصل الحادي والأربعون
إحسان جوخلي
لقد تحدثت من قبل عن إصابتي بالتهاب الغشاء البلوري أثناء إقامتي بإنجلترا، وقد عاد جوخلي إلى لندن بعد إصابتي بالمرض بفترة وجيزة، واعتدت أنا وكالنباخ أن نذهب لزيارته بانتظام. كانت نقاشاتنا تدور في أغلبها عن الحرب. واعتاد كالنباخ، وهو العالم بجغرافيا ألمانيا والذي سافر إلى أوروبا كثيرا، أن يريه على الخريطة الأماكن المختلفة ذات الصلة بالحرب. وعند إصابتي بمرض التهاب الغشاء البلوري، أصبحت تلك الإصابة محل نقاش يومي. وقد كانت تجاربي الغذائية مستمرة حتى في ذلك الوقت، فكان طعامي يتكون من الفول السوداني والموز الناضج وغير الناضج والليمون وزيت الزيتون والطماطم والعنب وغيرها. وقد تجنبت تماما الحليب والحبوب وما شابهها.
تولى الطبيب جيفراج معالجتي، وقد ألح علي كي أعود لتناول الحليب والحبوب، لكنني كنت مصمما على رأيي. وصل الخبر إلى جوخلي، الذي لم يكن مقتنعا كثيرا بأسباب اتباعي لنظام الطعام المقتصر على الفاكهة. فأرادني أن أتناول ما يصفه لي الطبيب كي أتماثل للشفاء.
كان من الصعب ألا أستجيب لضغوط جوخلي، فعندما لم يقبل مني الرفض، توسلت إليه كي يمهلني يوما لأفكر في المسألة. عدت إلى المنزل وبصحبتي كالنباخ، وأخذنا نناقش واجبي. لقد كان رفيقي في تجربتي تلك، وكانت التجربة تروقه، لكنه كان يرى أن علي أن أتخلى عنها إذا كان هناك ضرورة صحية. لذلك كان علي أن أقرر بنفسي وفقا للصوت النابع من داخلي.
أمضيت الليل بطوله أفكر في تلك المسألة. إن تخلي عن التجربة يعني التخلي عن جميع أفكاري المتعلقة بتلك التجربة مع أنني لا أجد بها أي نقيصة. كان السؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدى يجب علي أن أستجيب لضغوط جوخلي المدفوعة بالحب؟ وإلى أي مدى يمكنني أن أعدل في تجربتي من أجل ما يطلق عليه العناية بالصحة؟ قررت أخيرا الالتزام بالتجربة في المسائل التي يحركها الدافع الديني، وأن ألتزم بنصيحة الطبيب عندما يكون الدافع خلاف ذلك. كانت الاعتبارات الدينية تأتي في المقام الأول فيما يتعلق بامتناعي عن تناول الحليب. كان يتراءى أمامي مشهد رعاة الماشية (جوفال) في كلكتا وهم يستخدمون الأساليب القاسية لاستخلاص الحليب من أبقارهم وجاموسهم حتى آخر قطرة. وتملكني شعور بأن الحليب المستخلص من الحيوانات لا يمكن أن يكون طعاما للإنسان، مثله مثل اللحم. فاستيقظت في الصباح وأنا عازم على الالتزام بقرار امتناعي عن تناول الحليب، وقد أراحني ذلك القرار بصورة كبيرة. خشيت مفاتحة جوخلي في الأمر، لكنني كنت واثقا بأنه سيحترم قراري.
وفي المساء، توجهت بصحبة كالنباخ لزيارة جوخلي في نادي الأحرار الوطني
National Liberal Club . وكان أول سؤال طرحه علي هو: «حسنا، هل قررت الأخذ بنصيحة الطبيب؟»
أجبته برفق ولكن بحزم: «أنا على استعداد للأخذ بنصيحته في جميع الأمور إلا أمرا واحدا، وأرجو ألا تلح علي فيه، فلقد قررت أن أستمر في الامتناع عن تناول الحليب أو منتجاته أو اللحوم. وإن كان امتناعي عن تناول تلك المواد الغذائية يعني أن ألقى حتفي، فأرى أن الموت أحب إلي من تناولها.»
سألني جوخلي: «هل هذا هو قرارك النهائي؟»
فقلت له: «للأسف لا يمكنني العدول عن هذا القرار وإن كنت أعلم أنه سيحزنك، لكنني أطلب منك أن تسامحني.»
أجاب جوخلي ببعض الأسى ولكن بعاطفة جياشة: «أنا غير موافق على قرارك، فأنا أراه لا يمت للدين بصلة. لكن على كل حال لن ألح عليك بعد الآن.» فتوجه إلى الطبيب جيفراج ميهتا وقال: «أرجوك، لا تزعجه بعد الآن. صف له أي علاج في حدود الضوابط التي وضعها لنفسه.»
أبدى الطبيب اعتراضه، لكن لم يكن بيده حيلة، فنصحني بتناول حساء المنج، مضافا إليه كميات يسيرة من الحلتيت.
1
وبالفعل أخذت بنصيحته، فتناولت ذلك الحساء ليوم أو يومين، لكنه زاد من شعوري بالألم. وعندما وجدته عديم الفائدة، عدت لتناول الفاكهة والمكسرات. وبالطبع استمر الطبيب في معالجته الخارجية، التي خففت كثيرا من ألمي، لكن القيود التي كنت أفرضها على نفسي كانت تمثل له عائقا كبيرا.
في غضون ذلك، غادر جوخلي إلى الوطن لأنه لم يستطع تحمل الضباب الذي يعم لندن في شهر أكتوبر/تشرين الأول.
هوامش
الفصل الثاني والأربعون
علاج التهاب الغشاء البلوري
أقلقني استمرار مرضي بالتهاب الغشاء البلوري، لكنني كنت على علم بأن العلاج لا يكمن في تناول الدواء بل في إجراء تعديلات على النظام الغذائي مدعمة بالمعالجات الخارجية.
دعوت الطبيب النباتي المشهور ألينسون، الذي سبق وعالج أمراضا بواسطة إجراء تعديلات على النظام الغذائي، والذي التقيت به في عام 1890م. تفحصني الطبيب بصورة شاملة، وشرحت له كيف قطعت على نفسي عهدا بالامتناع عن تناول الحليب، فطمأنني قائلا: «أنت لست في حاجة لتناول الحليب. في الواقع، أريدك أن تمتنع عن تناول الدهنيات لبضعة أيام.» ثم نصحني بتناول الخبز الأسمر، والخضروات النيئة مثل البنجر والفجل والبصل وغيرها من الدرنات والخضروات، ذلك بالإضافة إلى الفاكهة الطازجة، ولا سيما البرتقال. وكنت أبشر الخضروات بشرا جيدا بدلا من طهيها إذا ما صعب علي مضغها.
استمررت على تلك الحال لما يقرب من ثلاثة أيام، لكن الخضروات النيئة لم تناسبني تماما. ولم تمكني حالة جسدي الواهن من الحكم على التجربة حكما منصفا، فكنت أتململ من تناول الخضروات النيئة.
نصحني الطبيب ألينسون بفتح نوافذ غرفتي على مدار الأربع والعشرين ساعة، والاستحمام بمياه فاترة، وتدليك الأجزاء المصابة بالزيت، والسير في الهواء الطلق من ربع الساعة إلى نصف الساعة. وقد راقتني تلك الاقتراحات كلها.
كانت غرفتي تحتوي على نوافذ فرنسية، فكنت إذا فتحتها ستسمح بدخول المطر إلى الغرفة. ولم يكن من الممكن فتح نافذة التهوية، فلجأت إلى كسر الزجاج للسماح للهواء النقي بالدخول إلى الغرفة، وفتحت النوافذ بطريقة لا تسمح بدخول المطر.
أدت تلك التغييرات إلى تحسن صحتي، إلا أنها لم تشفني تماما.
كانت السيدة سيسيليا روبرتس تزورني أحيانا فقد أصبحنا أصدقاء. وقد أرادت بشدة أن تقنعني بتناول الحليب، لكنها بدأت تبحث عن بديل للحليب عندما وجدتني عنيدا. أشار عليها أحد الأصدقاء بمسحوق الحليب الجاف الممزوج بالشعير، وأكد لها عن جهل أنه خال تماما من الحليب، وأنه مستحضر كيماوي يحتوي على جميع خصائص الحليب. كنت أعلم أن السيدة سيسيليا تكن احتراما كبيرا لمبادئي الدينية، ولذلك وثقت بها بصورة مطلقة. أذبت المسحوق في المياه وتناولته لأجد مذاقه مماثلا لمذاق الحليب تماما، فقرأت المحتويات المكتوبة على الزجاجة، فوجدت أنه حضر من الحليب، لكن ذلك كان بعد فوات الأوان، فامتنعت عن تناوله.
أخبرت السيدة سيسيليا بما حدث، وطلبت منها ألا تقلق بذلك الشأن، فحضرت بأقصى سرعة لتخبرني بمدى أسفها. لم يقرأ صديقها الملصق المكتوب على الزجاجة بالمرة. رجوتها ألا تقلق وعبرت لها عن أسفي لأنني لم أستطع الاستفادة من البديل الذي تكبدت مشقة كبيرة للحصول عليه، وأكدت لها أنني لم أشعر بالاستياء أو الذنب على الإطلاق لتناول الحليب نتيجة للالتباس الذي حدث.
يجب أن أتغاضى عن ذكر العديد من الذكريات الجميلة الأخرى التي تتعلق بعلاقتي بالسيدة سيسيليا. يمكنني أن أفكر في العديد من الأصدقاء الذين كانوا مصدرا كبيرا للمواساة والعون أثناء المحن والإخفاقات التي مررت بها، فالمؤمن يمكنه أن يرى فيهم رحمة الإله التي يجعل بها مذاق الأحزان حلوا.
خفف الطبيب ألينسون من القيود التي كان قد فرضها علي عندما زارني مرة أخرى، فسمح لي بتناول زبدة الفول السوداني أو زيت الزيتون للحصول على الدهنيات وتناول الخضروات المطهوة، إذا أردت، مع الأرز، فرحبت كثيرا بتلك التغييرات الغذائية، لكن ذلك كله لم يشفني تماما. كنت لا أزال في حاجة ماسة لمن يمرضني، وكنت مضطرا للاستلقاء في أغلب الأحيان في الفراش.
كان الطبيب ميهتا يزورني أحيانا ليفحصني، واستمر يخبرني أن بإمكانه أن يشفيني من مرضي إن أنا أخذت بنصيحته.
وفي ظل تلك الظروف، زارني السيد روبرتس ذات يوم وحثني بشدة على العودة إلى الوطن. قال لي: «لن تتمكن من الذهاب إلى نيتلي وأنت في هذه الحالة. وسنتعرض إلى طقس أشد برودة. أنصحك بشدة بالعودة إلى الهند، فهناك فقط يمكن أن تتماثل للشفاء بصورة تامة. وإذا ظلت رحى الحرب دائرة بعد تماثلك للشفاء، فسوف تجد الكثير من الفرص لتقديم المساعدة . وأنا أرى أن ما أسهمت به بالفعل ليس بقليل.»
أخذت بنصيحته وبدأت الاستعداد للعودة إلى الهند.
الفصل الثالث والأربعون
العودة إلى الوطن
رافقني السيد كالنباخ إلى إنجلترا بغرض التوجه إلى الهند، وكنا نقيم معا، وبالطبع كنا نرغب في السفر على متن السفينة ذاتها، لكن الألمان كانوا يتعرضون لرقابة شديدة حتى إننا كنا غير واثقين بإمكانية حصول السيد كالنباخ على جواز السفر الذي بذلت كل ما بوسعي للحصول عليه. وأرسل السيد روبرتس، الذي كان يدعم حصول كالنباخ على جواز السفر، ببرقية إلى الحاكم البريطاني لهذا الغرض. لكن سرعان ما تلقينا رد اللورد هاردنج الذي ورد فيه: «إن حكومة الهند، للأسف، غير مستعدة لتحمل هذه المخاطرة.» فاستوعبنا جميعا قوة الرد.
شعرت بأسى شديد لفراق السيد كالنباخ، لكنني كنت أرى أن أساه أشد، فلو أنه استطاع الحضور إلى الهند، لكان الآن يعيش حياة سعيدة وبسيطة كفلاح ونساج. أما الآن فهو يعيش في جنوب أفريقيا بنفس نمط حياته القديمة، ويعمل بنشاط مهندسا معماريا.
كنا نرغب في استقلال الدرجة الثالثة، لكن لم يكن هناك أماكن خالية في سفن شركة «بي أند أو»، فاضطررنا للسفر في الدرجة الثانية. أخذنا معنا الفاكهة الجافة التي أحضرناها من جنوب أفريقيا، نظرا لأنه سيكون من الصعب الحصول عليها على متن السفينة حيث تتوافر الفاكهة الطازجة.
عصب الطبيب ميهتا أضلاعي بواسطة «جص ميدي»، وطلب مني ألا أزيله حتى نصل إلى البحر الأحمر، فتحملت تلك المشقة لمدة يومين، لكنني لم أستطع التحمل أكثر من ذلك. وبصعوبة كبيرة أزلت الجص واستعدت الحرية في الاستحمام والاغتسال.
كان غذائي يتكون بصورة أساسية من المكسرات والفاكهة. شعرت بالتحسن يوما بعد يوم، وكانت حالتي أفضل بكثير عند مرورنا بقناة السويس. كنت لا أزال ضعيف البدن، لكنني كنت قد تجاوزت مرحلة الخطر. وأخذت في زيادة تدريباتي البدنية تدريجيا. وقد أرجعت ذلك التحسن بصورة كبيرة إلى الهواء النقي الذي يسود المنطقة المعتدلة.
لا أعلم إذا كان ما لاحظته في رحلتي تلك ناتجا عن خبرة سابقة أم عن أي سبب آخر، لكن الفجوة التي شاهدتها بين الركاب الإنجليز والهنود على متن السفينة لم أكن قد شاهدتها حتى في رحلتي من جنوب أفريقيا. تحدثت بالفعل إلى القليل من الركاب الإنجليز لكن الحديث كان في أغلبه رسميا، وكان نادرا ما يدور حديث ودي كتلك الأحاديث التي كانت تدور على متن سفن جنوب أفريقيا. كان السبب وراء ذلك - على ما أعتقد - الفكرة القائمة في الوعي أو اللاوعي عند الإنجليز التي تقول بأنهم ينتمون إلى الجنس الحاكم، والشعور القائم في أذهان الهنود بأنهم ينتمون إلى الجنس المحكوم.
كنت أتوق للعودة إلى الوطن والتخلص من ذلك المناخ.
ما إن وصلنا إلى ميناء عدن، حتى بدأنا نشعر بأننا في الوطن بالفعل. كنا على معرفة وثيقة بعائلة عدنوالا، فقد قابلنا السيد كيكوباد كافاسجي دينشاو في دربان، وكانت تربطنا به وبزوجته علاقة وثيقة.
وصلنا إلى بومباي بعد بضعة أيام. يا لها من فرحة تغمر المرء عندما يعود إلى وطنه الحنون بعد غيبة دامت عشر سنوات.
حضر جوخلي لاستقبالي في بومباي مع تدهور حالته الصحية. كنت أقترب من الهند ويراودني أمل متقد في أن أتوحد معه، ومن ثم أشعر بالخلاص. إلا أن مشيئة القدر لم ترد لذلك الأمل أن يتحقق.
الفصل الرابع والأربعون
بعض ذكرياتي مع المحاماة
قبل أن أتطرق إلى حياتي في الهند، أجد أنه من الضروري أن أذكر بعض تجاربي في جنوب أفريقيا التي لم آت على ذكرها متعمدا بعد.
طلب مني بعض الأصدقاء الذين يعملون بالمحاماة أن أورد بعض الذكريات المتعلقة بممارستي لمهنة المحاماة. لكن حجم تلك الذكريات هائل للغاية، بحيث تحتاج إلى مجلد كامل ليحتويها، وعندها سأجدها تنحرف بي عن غايتي من هذا الكتاب. لكن على الأرجح لن يضر ذكر بعض تلك التجارب التي كان لها تأثير على رحلة بحثي عن الحقيقة.
أذكر أنني سبق أن أشرت إلى أنني لم ألجأ قط إلى الكذب في عملي بالمحاماة، وأن جزءا كبيرا من ممارستي للمحاماة كان في نطاق العمل العام الذي لم أتقاض عنه إلا مصروفات القضايا ، وحتى تلك المصروفات كنت أحيانا ما أتكفل بها هي الأخرى. كنت أظن أن هذه العبارة كافية عند الحديث عن ممارستي للمحاماة، لكن أصدقائي يريدون مني أن أستطرد أكثر في الحديث، ويبدو أنهم يعتقدون أن ذكري لبعض المواقف التي رفضت فيها أن أحيد عن الصدق، ولو باقتضاب، قد يعود بالنفع على مهنة المحاماة.
سمعت عندما كنت طالبا أن مهنة المحاماة هي مهنة الكذابين، لكن هذا القول لم يكن له أي تأثير علي لأنني لم يكن لدي أي نية في الحصول على منصب أو مال باللجوء للكذب.
وقد خضع مبدئي هذا للعديد من الاختبارات في جنوب أفريقيا. كنت غالبا ما أعلم أن خصومي قد دربوا شهودهم على الأقوال التي سيدلون بها أمام المحكمة، ولو أنني شجعت موكلي وشهودهم على الكذب لكنا فزنا بتلك القضايا، ولكنني كنت دائما أقاوم ذلك الإغراء. ولا أذكر إلا موقفا واحدا شككت فيه، بعد أن فزنا بالقضية، أن موكلي قد خدعني. كنت أتمنى من أعماق قلبي ألا أفوز بقضية إلا إذا كان موكلي فيها على حق. أما أتعابي فلا أذكر أنني جعلتها مشروطة بفوزي بالقضية. فسواء فاز موكلي بالقضية أو خسرها، كنت أتوقع الحصول على أتعابي لا أكثر ولا أقل.
كنت أحذر أي موكل جديد منذ البداية من أنني لا أقبل الدعاوى الكاذبة أو تدريب الشهود على الإدلاء بالشهادة، وبذلك بنيت سمعة جعلت الموكلين لا يحضرون أي دعوى كاذبة إلي. وبالطبع كان بعض موكلي يوكلونني في الدعاوى الصادقة ويأخذون الدعاوى التي يشوبها شك إلى غيري من المحامين.
ذات مرة، صادفتني قضية كانت بمنزلة اختبار قاس لي، تقدم بها أحد أفضل موكلي. كانت القضية تتضمن حسابات شديدة التعقيد وقد استمرت طويلا. وقد نظرت القضية بصورة جزئية أمام محاكم مختلفة، وفي النهاية أحالت هيئة المحكمة الجزء الخاص بإمساك الدفاتر إلى تحكيم بعض المحاسبين المؤهلين. كان قرار التحكيم في صالح موكلي، لكن المحكمين ارتكبوا خطأ في الحسابات عن غير قصد. ومع صغر حجم ذلك الخطأ إلا إنه كان خطيرا لأنهم قيدوا في جانب الدائن بندا كان من المفترض أن يقيد في جانب المدين. واعترض الخصوم على الحكم لأسباب غير ذلك السبب. وكنت وقتها محاميا مبتدئا لدى موكلي، وعندما علم المحامي المتمرس بالخطأ، رأى أن موكلنا ليس ملزما بالاعتراف به، فقد كان يرى أن المحامي غير ملزم بالإفصاح عن أي معلومات قد تضر بمصلحة موكله، لكنني أخبرته بأن علينا إخبار هيئة المحكمة بوجود الخطأ.
لكن المحامي المتمرس قال مؤكدا: «هناك احتمال قوي أن تلغي المحكمة الحكم، ولا يوجد محام عاقل يمكن أن يعرض مصلحة موكله للخطر إلى هذه الدرجة. على كل حال، لا يمكنني أن أخوض مثل هذه المخاطرة. فلا أحد يعرف حجم المصروفات التي قد يتكبدها موكلنا في حالة إعادة نظر القضية من جديد، ولن يستطيع أحد أن يجزم بالحكم النهائي.»
كان الموكل حاضرا أثناء ذلك النقاش الذي دار بيني وبين المحامي الآخر.
قلت: «أشعر بأن علينا وعلى موكلنا أن نخوض المخاطرة. لماذا نجزم بأن المحكمة ستصدر حكما خاطئا لأننا بسهولة أقررنا بوجود الخطأ؟ وإن افترضنا أن إقرارنا بالخطأ عاد بالسلب على مصلحة موكلنا، فما الضرر في ذلك؟»
فقال المحامي الآخر: «ولماذا نقر بالخطأ في الأصل؟»
أجبته قائلا: «ما الذي يدريك بأن المحكمة أو الخصم لن يكتشفوا الخطأ؟»
أجاب المحامي بعزم: «حسنا، هل ستتولى أنت القضية؟ فأنا لست على استعداد للسير في القضية بطريقتك.»
فأجبته بتواضع: «إذا كنت لن تتولاها أنت، أنا على استعداد لتولي القضية إذا ما أراد موكلنا ذلك. ولسوف أتنحى عن القضية تماما إذا لم نقر بالخطأ.»
نظرت إلى موكلي الذي بدا مرتبكا قليلا. لقد توليت القضية من بدايتها، وكان الموكل يثق بي تماما، وكان يعرفني جيدا. فقال: «حسنا، سوف تتولى القضية وتقر بالخطأ. لا ضير إذا خسرنا القضية إذا كان هذا قدرنا. فالإله دائما يقف بجانب الحق.»
أدخلت كلمات موكلي علي السرور. وعاد المحامي الآخر ليحذرني وأشفق علي لعنادي، لكنه مع ذلك هنأني.
وسنرى في الفصل التالي ما حدث في المحكمة.
الفصل الخامس والأربعون
ألاعيب محامين؟
لم يساورني شك بشأن صحة نصيحتي لموكلي، لكنني كنت أشك في مدى قدرتي على تولي القضية باقتدار. شعرت أن الترافع في قضية بتلك الصعوبة أمام المحكمة العليا سيكون أكثر خطورة، فوقفت أمام هيئة المحكمة أرتعش وجلا.
وما إن أشرت إلى الخطأ في الحسابات، حتى قال أحد القضاة: «هل هذا أحد ألاعيب المحامين يا سيد غاندي؟»
شعرت بجسدي يغلي عند سماعي لذلك الاتهام. فقد كان من الصعب أن أحتمل اتهامي باستخدام الألاعيب دون أي مبررات تدعمه.
قلت في نفسي: «من الصعب النجاح في قضية بذلك القدر من الصعوبة في ظل وجود قاض متحامل من البداية.» لكنني استجمعت أفكاري وأجبته: «أنا مندهش سيادتكم من أن تشتبه في ممارستي للألاعيب دون أن تستمع إلي.»
قال القاضي: «أنا لا أتهمك بشيء، إنما هو مجرد إيحاء.» - «إن هذا الإيحاء يبدو لي كالاتهام. ألتمس من عدالتكم أن تنصت لي أولا، ثم يمكنك أن توجه لي الاتهام إذا ما وجدت سببا لذلك.»
أجاب القاضي: «آسف لمقاطعتك، يمكنك المضي في مرافعتك.»
كنت أملك وثائق كافية لدعم مرافعتي. وقد حزت انتباه هيئة المحكمة من البداية بفضل السؤال الذي وجهه لي القاضي. شعرت بشجاعة كبيرة واستغللت الفرصة للخوض في توضيح أكثر تفصيلا. استمعت هيئة المحكمة لي بسعة صدر، وتمكنت من إقناع المحكمة بأن الخطأ الذي حدث كان نتيجة للإهمال ليس إلا. ومن ثم شعرت هيئة المحكمة بأن ليس عليها إلغاء الحكم بأكمله، وهو الأمر الذي تطلب الكثير من الجهد.
بدا لي أن محامي الخصم شعر بالطمأنينة لاعتقاده بأنه لن يكون في حاجة للترافع كثيرا بعد الإقرار بالخطأ. لكن القضاة أخذوا في مقاطعته لاقتناعهم بأن الخطأ جاء نتيجة لزلة قلم يمكن تعديلها بسهولة. عمل محامي الخصم جاهدا على معارضة الحكم، لكن القاضي الذي كان يشك في في البداية أصبح الآن إلى جانبي تماما.
فسأله القاضي: «ماذا كنت ستفعل لو أن السيد غاندي لم يقر بالخطأ؟» - «كان من المستحيل أن نتمكن من الاستعانة بمحاسب أكثر خبرة وأمانة من المحامي الذي استعنا به.»
استطرد القاضي قائلا: «تفترض المحكمة أنك ملم بقضيتك تماما. إذا لم يكن لديك ما تعرضه على المحكمة غير الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه أي محاسب ذي خبرة، لن تجد المحكمة ضرورة لإجبار الأطراف للجوء إلى محاكمة جديدة ومصروفات جديدة بسبب خطأ واضح. لن نطلب بدء محاكمة جديدة بسبب خطأ يمكن تصحيحه بسهولة.»
وهكذا رفضت المحكمة اعتراض المحامي. ولا أذكر هل صدقت المحكمة على الحكم بعد تصحيح الخطأ أو أمرت المحكم بتصحيحه.
سعدت بقرار المحكمة، وكذلك سعد به موكلي والمحامي المتمرس. وتأكدت قناعتي بأنه يمكن ممارسة المحاماة دون الحيد عن الصدق.
فليتذكر القارئ إذن أنه حتى الصدق في ممارسة المهنة لا يمكنه أن يخلصها من عيوبها الأساسية التي تفسدها.
الفصل السادس والأربعون
تحول الموكلين إلى زملاء
إن الفرق بين ممارسة المحاماة في ناتال وممارستها في الترانسفال يكمن في أن نقابة المحامين في ناتال كانت عامة، فكان يمكن لمحامي المرافعات، الذي في درجة مدافع، أن يعمل وكيلا قانونيا أيضا. أما في الترانسفال فنجد، كما هو الحال في بومباي، أن الوكلاء القانونيين منفصلون عن المدافعين. وكان محامي المرافعات يتمتع بحق الاختيار بين العمل مدافعا أو وكيلا قانونيا. ولذلك، اعتمدت أثناء إقامتي في ناتال كمدافع، أما في الترانسفال فسعيت للحصول على اعتمادي وكيلا قانونيا. فعملي مدافعا كان سيحول بيني وبين الاتصال المباشر بالهنود، ولم يكن الوكلاء القانونيون البيض في جنوب أفريقيا ليوكلوني.
لكن حتى في الترانسفال كان المجال مفتوحا أمام الوكلاء القانونيين للمثول أمام القضاة. وفي إحدى المرات، بينما كنت أترافع في قضية أمام قاض في جوهانسبرج، اكتشفت أن موكلي قد خدعني، ورأيته ينهار تماما في منصة الشهود، وعلى الفور طلبت من القاضي رد الدعوى. دهش محامي الخصم من موقفي، وسر القاضي بما فعلت. عنفت موكلي لتوكيلي في قضية باطلة، فقد كان يعلم أنني لا أقبل أبدا مثل تلك القضايا. وعندما ناقشته في الأمر، أقر بخطئه، وأعتقد أنه لم يسخط علي لأنني طلبت من القاضي رد الدعوى. على كل حال، لم يؤثر تصرفي في تلك القضية بالسلب على ممارستي للمحاماة، بل جعل عملي أكثر يسرا. ووجدت أن التزامي بقول الصدق عزز من سمعتي الحسنة بين العاملين بالمهنة، ومع حاجز اختلاف اللون الذي كان يقف حائلا بيني وبينهم، كنت قادرا في بعض الأحيان على الفوز بتقديرهم.
واعتدت أثناء ممارستي للمحاماة ألا أخفي جهلي عن موكلي أو زملائي، وكنت عندما أجد نفسي تائها، أنصح موكلي باستشارة محام آخر. وفي حالة تمسك الموكل بي، كنت أطلب منه أن يسمح لي بطلب مساعدة محام آخر يفوقني خبرة. وقد جعلتني صراحتي أحوز على إعجاب موكلي وثقتهم المطلقة. وكانوا دائما يتطوعون لدفع الأتعاب الإضافية في حالة الحاجة إلى استشارة محام أكثر خبرة. وقد ساعدتني تلك الثقة وذلك الإعجاب في تأدية العمل العام.
أشرت في الفصول السابقة إلى أن الهدف من ممارستي للمحاماة في جنوب أفريقيا كان خدمة الجالية، ولتحقيق تلك الغاية، كان لا بد من اكتساب ثقة الناس. قدم الشعب الهندي الكريم عملا مهنيا لخدمة الجالية كان يمكن أن يتقاضوا عنه أجرا، وعندما طلبت منهم أن يعانوا ويلات السجن من أجل الحصول على حقوقهم، وافق العديد منهم بكل سرور. ولم تكن موافقتهم على طلبي بسبب صحته أكثر منها نتيجة لثقتهم وإعجابهم بي.
يجول العديد من الذكريات العطرة بخاطري الآن وأنا أكتب هذا الجزء من الكتاب. فقد تحول المئات من موكلي إلى أصدقاء وزملاء حقيقيين في الخدمة العامة، وقد أضفت صلتي بهم البهجة على حياة كانت مليئة بالصعاب والمخاطر.
الفصل السابع والأربعون
كيف نجا موكلي
لعل اسم بارسي روستومجي أصبح مألوفا لدى القارئ الآن. فقد أصبح روستومجي موكلي وزميلي في الحال، أو يمكن القول إنه كان زميلي ثم أصبح موكلي. وقد كان يثق بي إلى درجة جعلته يطلب مني النصح حتى في شئونه الخاصة، ويأخذ بما أنصحه به. وحتى في أثناء مرضه، كان يطلب مساعدتي. ومع اختلاف أساليب معيشتنا، لم يتردد في قبول أساليبي في المعالجة.
وقع روستومجي ذات مرة في مأزق شديد، وقد كان يخبرني بأغلب المسائل المتعلقة بعمله، إلا أنه تعمد إخفاء شيء واحد عني. كان روستومجي مستوردا كبيرا للبضائع التي يحضرها من بومباي وكلكتا، وكان كثيرا ما يلجأ إلى تهريب البضائع، لكن لم يكن أحد يشك فيه لعلاقته الجيدة بموظفي الجمارك. وقد اعتادوا أن يقبلوا الفواتير التي يقدمها بثقة عند فرض الرسوم الجمركية عليه، وربما كان منهم من يتستر على تهريبه للبضائع.
وسأستخدم هنا التشبيه البليغ الذي ذكره الشاعر الجوجراتي أخو
Akho
1
حين قال: إن السرقة كالزئبق لا يمكن كتمانها. ولم يكن روستومجي استثناء للقاعدة. فهرع صديقي إلي والدموع تتساقط من عينيه، وقال: «لقد خدعتك يا أخي، وقد افتضح أمري اليوم. لقد قمت بعملية تهريب للبضائع. سيزج بي في السجن وألاقي هلاكي. أنت وحدك يمكنك تخليصي من هذا المأزق. أنا لم أخف عنك غير هذا الأمر، فلم أشأ أن أزعجك بحيل التجارة تلك. وهذا هو سبب عدم إخباري إياك بأمر تهريب البضائع. لكنني في أشد الندم الآن.»
هدأت من روعه، وقلت له: «إن خلاصك بيد الإله وحده. أما أنا فأنت تعرفني جيدا. لن أستطيع أن أساعدك إلا باعترافك بالجريمة.»
شعر روستومجي المسكين بخزي عميق. وقال لي: «أليس اعترافي أمامك كافيا؟»
أجبته برفق: «أنت لم ترتكب جرما في حقي، بل في حق الحكومة، فكيف يمكن أن يكون اعترافك أمامي كافيا؟»
قال بارسي روستومجي: «بالطبع سأفعل ما تنصحني به، لكن ألن تتشاور مع محامي القديم السيد ...؟ إنه أحد أصدقائي أيضا.»
أثبتت التحقيقات أن عمليات التهريب كانت تحدث منذ فترة طويلة، لكن الجريمة الفعلية كانت تتضمن كمية ضئيلة من البضائع. ذهبنا إلى محاميه، الذي درس أوراق القضية، ثم قال: «ستنظر القضية أمام هيئة المحلفين، وآخر شيء يمكن توقعه هو أن تبرئ هيئة محلفين ناتالية أحد الهنود، لكنني لن أفقد الأمل في البراءة.»
لم أكن على معرفة وثيقة بذلك المحامي. قاطعه روستومجي قائلا: «أنا أشكرك على تعاونك، لكنني أريد أن يتولى السيد غاندي هذه القضية؛ فهو يعرفني جيدا. وبالطبع سيأخذ بمشورتك عندما تستدعي الحاجة.»
وهكذا ذهبنا إلى متجر روستومجي بعد أن انتهينا من مسألة الاستعانة بذلك المحامي الآخر.
قلت له موضحا رأيي: «أعتقد أنه ينبغي ألا تنظر المحكمة هذه القضية في الأصل. فأمر مقاضاتك أو العدول عنها متروك لمأمور الجمارك، الذي سيرجع بدوره إلى توجيهات المدعي العام، وأنا على استعداد لمقابلة كليهما. أقترح أن تعرض عليهما دفع الغرامة التي يحددونها، ونأمل أن يكونا مستعدين لقبولها. أما في حالة رفضهما، فيجب أن تكون مستعدا لدخول السجن. أرى أن الخزي يكمن في ارتكاب الجريمة ذاتها أكثر منه في دخول السجن. لقد ارتكبت عملا مخزيا بالفعل، ويجب أن تعتبر السجن كفارة عنه. والكفارة الحقيقية هي أن تعزم على ألا تعود إلى تهريب البضائع أبدا.»
لا أستطيع القول بأن روستومجي استوعب كل ما أخبرته به تماما. لقد كان رجلا شجاعا، لكن شجاعته خذلته في ذلك الوقت، فقد كان اسمه وسمعته معرضين للخطر. وماذا سيفعل إذا انهار الصرح الذي شيده بعد عناء؟
قال لي: «حسنا، لقد أخبرتك بأنني رهن إشارتك. افعل ما تراه صوابا.»
لقد استخدمت كل مهاراتي في الإقناع في تلك القضية، فقابلت مأمور الجمارك وأخبرته بالقضية كلها بشجاعة، ووعدته بأن أضع جميع الدفاتر تحت تصرفه، وأخبرته بمدى شعور روستومجي بالندم.
قال لي مأمور الجمارك: «أنا أحترم السيد روستومجي. ويؤسفني أن يرتكب مثل هذه الفعلة النكراء. أنت تعرف ما يتعين علي فعله. يجب أن أسير وفق تعليمات المدعي العام، ولذلك أنصحك بأن تستخدم مهاراتك في الإقناع معه.»
قلت له: «سأكون ممتنا إذا لم تصر على إحالة القضية إلى المحكمة.»
وبعد أن حصلت منه على وعد بذلك، بدأت في مراسلة المدعي العام وقابلته. يسعدني القول بأنه قدر صراحتي المطلقة واقتنع بأنني لم أخف عنه شيئا.
لا أتذكر إن كان إصراري وصراحتي في هذه القضية أو قضية غيرها هما السبب في قوله لي: «أعتقد أنك لن تقبل بالرفض أبدا.»
سويت قضية بارسي روستومجي. وتم الاتفاق على أن يدفع غرامة بلغت ضعف قيمة البضائع التي اعترف بتهريبها. اختزل روستومجي وقائع القضية بأكملها وكتبها على ورقة، ثم وضعها في إطار وعلقها على حائط مكتبه كتذكير دائم لورثته وزملائه التجار.
حذرني أصدقاء روستومجي ألا أنخدع بهذا الندم العابر. وعندما أخبرت روستومجي بذلك التحذير، قال لي: «وكيف لي أن أخدعك؟»
هوامش
الجزء
تجاربي مع الحقيقة
الفصل الأول
التجربة الأولى
وقبل أن أصل إلى الوطن، كانت المجموعة التي انطلقت من فونيكس قد وصلت بالفعل. وتم ذلك مع أن الخطة الأصلية كانت تقضي بأن أسبقهم أنا، لكن انشغالي في إنجلترا بالحرب أخل بجميع حساباتنا. وعندما وجدت أنني سأمكث في إنجلترا إلى أجل غير مسمى، كان يجب أن أجد مكانا لإقامة مجموعة فونيكس، وكنت أرغب في أن يقيموا جميعا في الهند، إن أمكن، وأن يعيشوا بنفس الطريقة التي كانوا يعيشون بها في فونيكس. لم أكن أعرف أي مقر يمكن أن يذهبوا للإقامة فيه. نتيجة لذلك، أرسلت إليهم برقية أطلب منهم فيها مقابلة السيد أندروز والعمل بما يوصي به.
وهكذا أقاموا بصورة مبدئية في جوروكول كانجري
Gurukul Kangri ، حيث عاملهم الراحل السيد شراداناند جي كأبنائه. بعد ذلك أقاموا في شانتينيكيتان أشرام
Shantiniketan Ashram ،
1
حيث غمرهم الشاعر العظيم طاغور ورفاقه بفيض من الحب. وقد أفادتهم الخبرات التي اكتسبوها أثناء إقامتهم في هذين المكانين كما أفادتني.
كان الشاعر طاغور والسيد شراداناند جي والمدير سوشيل رودرا بمنزلة الثالوث المقدس لدى أندروز، كما اعتدت أن أخبره. فكان لا يكف عن التحدث عنهم عندما كان في جنوب أفريقيا. وتعتبر أحاديث السيد أندروز الدائمة عن ذلك الثلاثي العظيم من أجمل الذكريات وأكثرها قوة. وبالطبع عرف السيد أندروز مجموعة فونيكس بالسيد سوشيب رودرا. لم يكن لدى السيد رودرا مقر للإقامة لكنه كان يمتلك منزلا وضعه تحت تصرف مجموعة فونيكس كليا. وفي يوم واحد من وصولهم استطاعت أسرته أن تنسيهم الغربة كما لو أنهم لم يفتقدوا فونيكس على الإطلاق.
ولم أعلم أن مجموعة فونيكس تعيش في شانتينيكيتان إلا عند وصولي إلى بومباي. فكنت أتوق لمقابلتهم في أسرع وقت ممكن بعد مقابلة جوخلي.
كانت حفلات الاستقبال التي أعدت لي في بومباي تعد فرصة لتقديم ما يمكن أن يطلق عليه صورة مصغرة للساتياجراها.
وفي الحفلة التي أقيمت على شرفي في منزل السيد جيهانجير بيتيت، لم أجرؤ على التحدث باللغة الجوجراتية. فقد شعرت، وأنا من عاش أفضل أيام حياته بين العاملين، بأني شخص بسيط تماما وسط تلك الفخامة المبهرة. وذلك مع أنني كنت أبدو أكثر تحضرا وقتها بقدر ما عن الآن، وأنا أرتدي العباءة الكاثياوارية والعمامة والدهوتي. لكن الأبهة والفخامة التي رأيتها في منزل السيد بيتيت جعلتني أشعر بالضيق. ومع ذلك تكيفت مع الوضع بصورة جيدة حيث التمست الحماية في ظل السيد فيروزشاه.
ثم أقام الجوجراتيون حفلة استقبال على شرفي. فلم يكن الجوجراتيون ليتركوني دون احتفال، وقد أقامها الراحل السيد أوتاملال تريفيدي. اطلعت على برنامج الحفلة مسبقا. وقد حضر الحفل السيد جناح، لكنني لا أذكر إذا كان قد حضر بصفته الرئيس أو المتحدث الرئيسي، وقد ألقى كلمة قصيرة وبارعة باللغة الإنجليزية. وأعتقد أن جميع الكلمات الأخرى التي ألقيت في الحفل كانت باللغة الإنجليزية هي الأخرى. وحينما جاء دوري للتحدث، عبرت عن امتناني باللغة الجوجراتية وأوضحت تحيزي للغتين الجوجراتية والهندستانية. وعبرت عن اعتراضي المتواضع على استخدام اللغة الإنجليزية في اجتماع للجوجراتيين. وقد فعلت ذلك بقليل من التردد، فقد كنت أخشى أن يعتبر الحضور أنه من غير اللائق أن يحتج شخص قليل الخبرة مثلي قد عاد إلى الوطن بعد فترة طويلة من الغربة على العادات الراسخة لديهم. لكن لم يبد لي أن أحدا قد أساء فهم إصراري على التحدث باللغة الجوجراتية، وأسعدني أن أجد الجميع يميلون إلى الاتفاق معي في احتجاجي.
وهكذا شجعني ذلك اللقاء على الاعتقاد بأنني لن أجد مشكلة في طرح أفكاري الجديدة على أبناء وطني.
وذهبت إلى بونا، إلى حيث استدعاني جوخلي، محملا بهذه الخبرات الأولية بعد أن أقمت لفترة وجيزة في بومباي.
هوامش
الفصل الثاني
مع جوخلي في مدينة بونا
فور وصولي إلى بومباي، أرسل لي جوخلي رسالة أخبرني فيها بأن الحاكم البريطاني يرغب في رؤيتي، وأنه من اللائق أن أستجيب لرغبته قبل التوجه إلى بونا. وعلى ذلك، قمت بزيارة الحاكم. وبعد توجيه الأسئلة المعتادة في تلك المواقف، قال لي: «أريد أن أطلب منك شيئا واحدا. أرغب في أن ترجع إلي عندما تعتزم القيام بأية خطوة تتعلق بالحكومة.»
فأجبته: «يمكنني أن أعدك بذلك بكل سرور، فكوني من أنصار الساتياجراها يجب أن أفهم وجهة نظر الطرف الآخر الذي أعتزم التعامل معه، وأن أحاول الاتفاق معه قدر الإمكان. لقد التزمت بذلك في جنوب أفريقيا، وأعتزم الالتزام به هنا أيضا.»
شكرني اللورد ويلينجدون، وقال: «يمكنك أن تزورني وقتما شئت، وسترى أن حكومتي لا تتعمد اتخاذ أي قرارات خاطئة.»
فأجبته: «إنني أعتمد على إيماني بهذه الحقيقة.»
ذهبت بعد ذلك إلى مدينة بونا. أجد أنه من المستحيل أن أذكر جميع الذكريات الجميلة التي عشتها في تلك الفترة الرائعة. لقد غمرني جوخلي وأعضاء «جمعية خدمة الهند»
Servants of India Society
بمشاعر جياشة. أتذكر أن جوخلي قد استدعى جميع الأعضاء لملاقاتي. وقد ناقشت جميع الموضوعات معهم بصراحة.
كان جوخلي حريصا على انضمامي إلى الجمعية، وقد كنت حريصا على انضمامي لها أنا الآخر. لكن الأعضاء رأوا أنه من غير اللائق انضمامي إلى الجمعية نظرا للاختلاف الكبير بين أهداف وأساليب كل منا في العمل. أما جوخلي، فقد كان يؤمن بأنه مع تمسكي بمبادئي إلا أنه يمكنني في ذات الوقت أن أتقبل مبادئهم.
فقال لي جوخلي: «لكن أعضاء الجمعية لم يستوعبوا حتى الآن استعدادك للموافقة على حل وسط، فهم متمسكون بمبادئهم، ويميلون تماما إلى الاستقلال. آمل أن يقبلوا انضمامك إلينا، لكن إذا لم يقبلوا بذلك فعليك ألا تعتبر ذلك قلة تقدير أو قلة حب لك. إنهم مترددون لأنهم يخشون من تعريض احترامهم العظيم لك للخطر. وسواء أصبحت عضوا رسميا في الجمعية أو لا، سأعتبرك دائما عضوا.»
أخبرت جوخلي بنواياي. فسواء أصبحت عضوا في الجمعية أم لا، سأكون في حاجة إلى مقر منعزل لأستقر فيه أنا ورفاقي من فونيكس، ومن الأفضل أن يكون ذلك المكان في جوجرات؛ فقد كنت أرى أن كوني جوجراتيا سيجعلني أخدم الوطن أفضل عن طريق خدمة جوجرات. وقد راقت تلك الفكرة لجوخلي، وقال: «لا فض فوك. سوف أتحمل تكاليف ذلك المقر الذي سأعتبره منزلي، وذلك مهما كانت نتيجة محادثاتك مع أعضاء الجمعية.»
شعرت بالسعادة تغمر قلبي. فقد أسعدني التخلص من مسئولية جمع التبرعات وعدم اضطراري للعمل بمفردي، وأنه يمكنني الاعتماد على مرشد محل ثقة في وقت الشدة. لقد أزال ذلك كله عبئا ثقيلا عن كاهلي.
وهكذا استدعي الطبيب ديف، وطلب منه فتح حساب باسمي في دفاتر الجمعية وأن يوفر لي كل ما أطلبه من أجل الحصول على المقر الخاص بنا والنفقات العامة.
أصبحت مستعدا الآن للذهاب إلى شانتينيكيتان، وأقام جوخلي حفلة في ليلة رحيلي اقتصرت على أصدقاء مختارين. وقد حرص على طلب الأطعمة التي أشتهيها، كالفاكهة والمكسرات. أقيمت الحفلة على بعد خطوات من غرفة جوخلي، لكنه لم يكن في حالة تسمح له بحضور الحفلة والتجول فيها، ومع ذلك جعله الحب الذي يكنه لي يصر على الحضور، وقد حضر بالفعل، لكن أغشي عليه واضطررنا لحمله. لقد اعتاد جوخلي أن يتعرض لحالات إغماء كتلك، لذلك أرسل إلينا فور أن استعاد وعيه يطلب منا استكمال الحفلة.
بالطبع لم تكن تلك الحفلة إلا تجمعا اجتماعيا في الهواء الطلق أمام مبنى استضافة الزوار، وتجاذب الأصدقاء الأحاديث الودية أثناء تناول الأطعمة الخفيفة كالفول السوداني والبلح وفاكهة الموسم الناضجة.
لكن نوبة الإغماء تلك لم تكن لتصبح أمرا معتادا في حياتي.
الفصل الثالث
هل كان تهديدا؟
انطلقت من بونا إلى راجكوت وبورباندار، حيث كان علي مقابلة أرملة أخي وغيرها من الأقارب.
كنت قد غيرت من أسلوب ملابسي أثناء فترة الساتياجراها في جنوب أفريقيا ليتماشى مع ثياب العاملين بعقود لأجل، وقد حافظت على ارتداء نفس ذلك الزي في إنجلترا داخل المنزل. وعند وصولي إلى بومباي كنت أرتدي ملابس كاثياوارية تتكون من قميص ودهوتي وعباءة ووشاح أبيض مصنوعة جميعها من القماش الهندي المغزول من القطن المحلوج. لكنني اعتبرت أن الوشاح والعباءة سيمثلان عبئا حيث إنني كنت مسافرا من بومباي في الدرجة الثالثة، فتخليت عنهما واشتريت قبعة كشميرية بسعر يتراوح بين 8 و10 آنات. فأي شخص يرتدي ثيابي تلك سوف يعتبر فقيرا بلا شك.
نتيجة لتفشي الطاعون في تلك الفترة، كان ركاب الدرجة الثالثة يفحصون في مدينة فيرامجام أو وادهوان - لا أذكر أيهما بالضبط. كنت مصابا بحمى خفيفة. وعندما اكتشف المفتش أن حرارتي مرتفعة، طلب مني أن أقدم نفسي إلى المسئول الطبي في راجكوت ودون اسمي لديه.
لا بد أن أحدا قد أرسل إلى العاملين بالخدمة العامة يخبرهم بأنني سأمر بمدينة وادهوان لأن موتيلال الذي كان يعمل خياطا، والذي كان شخصا معروفا في مجال الخدمة العامة في المدينة، كان ينتظرني في المحطة. وقد حدثني عن سلطات الجمارك بمدينة فيرامجام والصعاب التي يعانيها ركاب الدرجة الثالثة على يديها. لم يكن لدي رغبة كبيرة في التحدث؛ بسبب إصابتي بالحمى، فحاولت أن أنهي النقاش بإجابة قصيرة فخرجت في صيغة سؤال: «هل أنت مستعد لدخول السجن؟»
كنت أعتقد أن موتيلال أحد الشباب المندفعين الذين لا يفكرون قبل أن يتحدثوا. لكنه لم يكن كذلك، فقد أجابني بترو حازم: «بالطبع سندخل السجن، شريطة أن تكون أنت قائدنا. فكوننا من كاثياوار يجعلنا أحق الناس بقيادتك. بالطبع لا أعني أن نبقيك معنا الآن، لكن يجب أن تعدنا بأن تمكث معنا عند عودتك. ستسر كثيرا عند رؤية عمل رجالنا ونشاطهم، وثق تماما أننا سنكون رهن إشارتك حالما تستدعينا.»
لقد أسرني موتيلال بكلامه. وقد مدحه رفيقه قائلا: «إن صديقنا مجرد خياط، لكنه ناجح في مهنته حتى إنه يستطيع كسب 15 روبية شهريا بسهولة - وهو كل ما يحتاج. فهو يعمل ساعة يوميا، ويكرس بقية وقته للعمل العام. إنه قائدنا هنا، ويتفوق علينا ونحن أصحاب الشهادات.»
أصبحت على علاقة وثيقة بموتيلال بعد ذلك، ورأيت أن رفيقه لم يكن مبالغا في مدحه إياه. وأصر على تمضية بعض الأيام شهريا في مقر الجماعة التي كانت حديثة النشأة وقتها من أجل تعليم الأطفال فن الحياكة، بالإضافة إلى المساعدة في أعمال الحياكة اللازمة للجماعة. كان موتيلال يحدثني بصورة يومية عن فيرامجام والصعاب التي يواجهها الركاب هناك، والتي أصبحت لا تطاق . وقد توفي في ريعان شبابه نتيجة لإصابته بمرض مفاجئ، الأمر الذي أدى إلى معاناة الخدمة العامة في وادهوان من دونه.
تقدمت إلى المسئول الطبي في اليوم التالي لوصولي إلى راجكوت، حيث كانت سمعتي تسبقني، وقد شعر الطبيب بالخزي وسخط على المفتش. ولم أر أن شعوره ذلك ضروريا لأن المفتش لم يقم إلا بواجبه، ولم يكن يعرف هويتي، وحتى إن كان يعرفني كان عليه أن يؤدي واجبه. لم يسمح الطبيب بأن أعود إليه مرة أخرى، وبدلا من ذلك أصر على إرسال مفتش لي.
إن فحص ركاب الدرجة الثالثة هو أمر ضروري في مثل تلك الظروف. وإذا ما رغب ذوي الشأن، أيا كانت مناصبهم، في السفر في الدرجة الثالثة فعليهم الخضوع طواعية إلى كل اللوائح التي يخضع لها الفقراء، وعلى المسئولين أن يكونوا محايدين في تطبيقها. وقد اكتشفت أن المسئولين يعاملون ركاب الدرجة الثالثة كأنهم قطيع من الخراف. فيتحدثون إليهم باحتقار، ولا يتحملون منهم ردا أو نقاشا. وكان على ركاب الدرجة الثالثة الرضوخ لتعليمات المسئول كما لو كانوا خدمه، وكان يمكن للمسئول أن يوسعهم ضربا ويبتزهم دون أدنى مساءلة، وألا يمنحهم تذاكرهم إلا بعد أن يعرضهم لأكبر قدر ممكن من المضايقة، ولا سيما عدم لحاقهم بالقطار. لقد شاهدت كل تلك الأحداث بأم عيني، ولا يمكن إصلاح تلك الأوضاع إلا إذا تفهم بعض المتعلمين والأثرياء طواعية وضع الفقراء، وسافروا في الدرجة الثالثة، ورفضوا التمتع بالمميزات التي يحرم منها الفقراء، وناضلوا من أجل التخلص من الصعاب والمضايقات والظلم التي يعانيها الفقراء ويمكن تجنبها بدلا من اعتبارها أمرا طبيعيا.
وأينما ذهبت في كاثياوار، كنت أستمع إلى شكاوى حول القيود التي تفرضها سلطات الجمارك في فيرامجام. لذلك قررت على الفور الاستفادة من عرض اللورد ويلينجدون. فهممت بجمع كل ما كتب بشأن ذلك الموضوع، وأقنعت نفسي بأن الشكاوى مبنية على أساس قوي، وبدأت مراسلة حكومة بومباي. قمت بزيارة السكرتير الخاص للورد ويلينجدون، بل وزرت اللورد رسميا، وقد عبر اللورد ويلينجدون عن تعاطفه مع القضية، لكنه ألقى اللوم على حكومة دلهي، وقد قال لي: «لو كان الأمر في نطاق سلطتنا، لأزلنا ذلك الحاجز منذ أمد بعيد. يجب أن تخاطب حكومة الهند بهذا الشأن.»
أجريت اتصالات بحكومة الهند، لكنني لم أتسلم سوى إشعار بالاستلام. ولم يكن هناك سبيل لإصلاح الوضع إلا عندما قابلت اللورد شيلمسفورد فيما بعد، وقد عبر اللورد شيلمسفورد عن دهشته عندما أطلعته على الحقائق المتعلقة بالوضع؛ فلم يكن لديه أي معلومات عن ذلك الأمر. أنصت لي اللورد بصدر رحب، وطلب على الفور وثائق حول فيرامجام، وقد وعدني بإزالة الحاجز إذا لم يكن لدى السلطات أي تفسير أو حجة لفرضه. وفي بضعة أيام من تلك المقابلة، قرأت في الصحف عن إزالة الحاجز الجمركي بفيرامجام.
اعتبرت ذلك الحدث إشارة لحلول الساتياجراها في الهند. فقد عبر لي الحاكم البريطاني في مقابلتي مع حكومة بومباي، عن رفضه للإشارة إلى الساتياجراها في كلمة كنت قد ألقيتها في باجاسرا (بكثياوار).
فسألني: «ألا يعتبر ذلك تهديدا؟ وهل تعتقد أنه يمكن لحكومة قوية أن ترضخ للتهديدات؟»
فأجبته: «لم يكن ذلك تهديدا، بل كان الغرض منه توعية الشعب. إن من واجبي إطلاع الشعب على جميع الوسائل المشروعة لعرض شكاواهم. فعلى كل أمة ترغب في أن تحصل على الاستقلال أن تعرف جميع سبل الحصول على حريتها، وعادة ما يتحدثون عن العنف كخيار أخير. أما الساتياجراها، فإنها سلاح سلمي ينبذ العنف، وأجد أن من واجبي شرح كيفية ممارستها وحدودها. ولا شك لدي في قوة الحكومة البريطانية، لكنني لا يساورني أدنى شك أيضا في أن الساتياجراها وسيلة فعالة.»
فأومأ الحاكم الفطن برأسه في شك، وقال: «سوف نرى.»
الفصل الرابع
شانتينيكيتان
انطلقت من راجكوت إلى شانتينيكيتان، حيث غمرني المعلمون والطلبة بالحب. وقد كان الاستقبال مزيجا رائعا من البساطة والفن والحب. وهناك قابلت كاكاساهيب كاليلكار لأول مرة.
كنت أجهل وقتها سبب تسمية كاليلكار باسم «كاكاساهيب»، لكنني علمت بعد ذلك أن السيد كيشافراو ديشباندي، الذي كان رفيقا وصديقا حميما لي في إنجلترا، والذي كان يدير مدرسة في مدينة بارودا تحمل اسم «جانجاناث فيديالايا»، كان قد منح المعلمين ألقابا عائلية بغية توفير مناخ عائلي داخل المدرسة، وهكذا حاز السيد كاليكار، الذي كان معلما بالمدرسة، على لقب «كاكا» (العم). أما فادك فكان يدعى «ماما» (الخال)، وكان هاريهار شارما يدعى «أنا» (الأخ). كما حصل الآخرون على أسماء مماثلة. وقد انضم أنانداناند (سوامي) صديق كاكا وباتواردهان (أبا) إلى العائلة لاحقا، وقد أصبحوا جميعا زملائي واحدا تلو الآخر بمرور الوقت. وكان السيد ديشباندي نفسه يحمل لقب «ساهيب». وقد تفرقت العائلة عند تفكك مدرسة فيديالايا، لكن أعضاء العائلة لم يتخلوا عن العلاقة الروحانية التي تربطهم أو الأسماء التي حصلوا عليها قط.
رحل كاكاساهيب كي يكتسب خبرة من المؤسسات المختلفة، وقد تصادف وجوده هناك عند وصولي إلى شانتينيكيتان. وكان شينتامان شاستريجي، الذي ينتمي لنفس المؤسسة، هناك هو الآخر، وقد ساعد كلاهما في تعليم اللغة السنسكريتية.
كانت جماعة فونيكس تقيم في مسكن منفصل في شانتينيكيتان. وكان يترأسهم ماجنلال غاندي، وكان يحرص على الالتزام بتطبيق جميع القواعد التي كانت متبعة في مزرعة فونيكس، ورأيت أنه استطاع أن يحوز انتباه جميع المقيمين في شانتينيكيتان بقوة حبه وسعة معرفته وشدة مثابرته.
كان أندروز وبيرسون في شانتينيكيتان. وكان من ضمن المعلمين البنجاليين الذين ربطتنا بهم صلة قوية بقدر ما - السادة: جاجاداناند بابو، ونيبال بابو، وسانتوش بابو، وكشيتيموهان بابو، ونجيب بابو، وشاراد بابو، وكالي بابو.
وكعادتي اختلطت بالمعلمين والطلبة في وقت وجيز، واجتذبتهم إلى مناقشة حول الاعتماد على النفس. وقد أوضحت للمعلمين أنه إذا تمكنوا هم والأطفال من الاستغناء عن خدمات الطهاة وقاموا بطهي طعامهم بأنفسهم، فسيتمكنوا من السيطرة على المطبخ فيما يتعلق بالصحة الجسدية والمعنوية للأطفال، وسيكون ذلك درسا عمليا للطلبة في الاعتماد على النفس. لم يحبذ اثنان أو ثلاثة منهم الفكرة، وهزوا رءوسهم استنكارا، في حين استحسن بعضهم الاقتراح بحماسة. وقد رحب الأطفال بالاقتراح، حتى لو بدافع ميلهم الغريزي للتجديد فحسب. وبالفعل بدأنا خوض التجربة. وعندما سألت الشاعر الكبير طاغور عن رأيه، أخبرني بأنه لا مانع لديه بشرط موافقة المعلمين. فقال للطلاب : «إن التجربة تحتوي على مفتاح الحكم الذاتي.»
بدأ بيرسون في بذل ما في وسعه من أجل إنجاح التجربة، وألقى بنفسه في خضمها بحماسة. شكلت مجموعة لجمع الخضروات وأخرى لتنظيف الحبوب وغيرها. تولى السيد نجيب مع آخرين مهمة الإشراف على نظافة المطبخ والمنطقة المحيطة به. وقد كنت سعيدا وأنا أراهم يعملون والمجراف في أيديهم.
لكنني لم أكن لأتوقع أن يعتاد مائة وخمسة وعشرون طفلا مع معلميهم مثل ذلك العمل البدني بتلك السهولة. واعتدنا أيضا عقد مناقشات يومية. وقد أعيا الإرهاق البعض في مرحلة مبكرة، لكن بيرسون لم يكن ليستسلم. كنت دائما ما أجده يؤدي إحدى المهام أو يجوب المطبخ وابتسامته تعتلي وجهه، فقد أخذ على عاتقه مهمة تنظيف الأواني الضخمة. أخذت مجموعة من الطلبة تلعب على آلة السيتار لتسري عن المجموعة المكلفة بالتنظيف، وكان الجميع يتمتعون بالحماسة، وأصبحت شانتينيكيتان خلية نحل نشيطة.
إن من سمات تلك التغييرات أنها تأخذ في التطور بمجرد أن تبدأ، فلم يتوقف الأمر عند تولي مجموعة فونيكس للمطبخ بنفسها، بل كانت تطهو أبسط الأطعمة. وكنا نتجنب إضافة البهارات، وكان الأرز والعدس وحتى طحين القمح تطهى معا وفي نفس الوقت باستخدام فرن بخاري. وقد أسس أطفال شانتينيكيتان مطبخا مماثلا بغية إدخال بعض الإصلاحات على المطبخ البنجالي، وكان معلم أو اثنان من المعلمين يديران ذلك المطبخ بمساعدة بعض الطلبة.
على كل حال انهارت تلك التجربة بمرور الوقت، وأرى أن المؤسسة الشهيرة لم تخسر شيئا عندما خاضت تلك التجربة لمدة وجيزة، بل قد ساعدت بعض الخبرات المكتسبة أثناء التجربة المعلمين في عملهم.
كنت أنوي الإقامة في شانتينيكيتان لبعض الوقت، لكن مشيئة القدر كانت مغايرة لرغبتي، فلم يمر أسبوع على إقامتي بشانتينيكيتان حتى تلقيت برقية من بونا تحمل نبأ وفاة جوخلي. وساد الحزن أرجاء شانتينيكيتان، وجاءني الجميع ليعبروا لي عن تعازيهم، وعقد اجتماع خاص في معبد شانتينيكيتان أشرام لرثاء جوخلي الذي كانت وفاته خسارة قومية. وقد كان الاجتماع مهيبا. ورحلت في اليوم ذاته مع زوجتي وماجنلال إلى بونا، في حين مكث البقية في شانتينيكيتان.
رافقني أندروز إلى بوردوان، فسألني: «هل تعتقد أنه سيأتي وقت تولد فيه الساتياجراها في الهند؟ وإذا كان ذلك ممكنا، متى سيحدث ذلك في رأيك؟»
قلت له: «من الصعب التنبؤ بمثل ذلك الأمر؛ فأنا لن أستطيع القيام بأي عمل لمدة عام. فقد أخذ علي جوخلي عهدا بأن أجول الهند لاكتساب المزيد من الخبرة، وألا أعبر عن آرائي فيما يتعلق بالقضايا العامة حتى انتهاء تلك المدة. وحتى عقب انتهاء تلك المدة، لن أتسرع في الإعلان عن آرائي، لذلك أعتقد أن الساتياجراها لن تولد قبل ما يقرب من خمس سنوات.»
وأذكر في هذا السياق أن جوخلي اعتاد السخرية من بعض أفكاري الواردة في كتابي «هند سواراج» أو (الحكم الذاتي للهند)، وكان يقول: «سوف تغير آراءك تلقائيا بعد أن تمكث عاما في الهند.»
الفصل الخامس
معاناة ركاب الدرجة الثالثة
واجهنا في بوردوان الويلات التي يعانيها ركاب الدرجة الثالثة، حتى عند الحصول على تذكرة السفر. فقد قيل لنا: «لا تحجز تذاكر الدرجة الثالثة في مثل هذا الوقت المبكر.» وبصعوبة توجهت إلى ناظر المحطة حيث دلني أحد الأشخاص متفضلا على مكانه، وعرضت علي ناظر المحطة المشكلة التي نواجهها، ولم يكن منه إلا أن أعطانا نفس الإجابة. ذهبت لشراء التذاكر فور فتح شباك التذاكر، لكن الأمر لم يكن هينا، فقد كانت الغلبة للأقوى. واستمر الركاب، الذين كانوا يتقدمون غير مبالين بالآخرين، في دفعي خارج الصف الواحد تلو الآخر، وهكذا كنت تقريبا آخر من حصل على التذكرة.
وصل القطار ، وكان ركوبه مشكلة أخرى. كان الوضع تبادلا مفتوحا للعنف والتدافع بين الركاب الموجودين بالفعل في القطار وأولئك الذين يحاولون الركوب. وقطعنا الرصيف ذهابا وإيابا، لكننا كنا نقابل الإجابة ذاتها أينما ذهبنا: «لا يوجد مكان شاغر.» ذهبت إلى موظف القطار، الذي قال لي: «يجب عليك أن تحاول الجلوس في أي مكان تجده، أو يمكنك انتظار القطار التالي.»
أجبته باحترام: «لكن لدي شئون مستعجلة في انتظاري.» لم يكن لدى الموظف وقت للاستماع لي، فشعرت بالضيق. أخبرت ماجنلال بأن يجلس في أي مكان، ودخلت أنا وزوجتي إلى مقصورة تقع بين درجات القطار، وقد شاهدنا موظف القطار ونحن ندخل المقصورة، وفي محطة أسانسول، جاء يطالبنا بأجرة إضافية، فقلت له: «إن من واجبك أن تجد لنا مكانا نجلس فيه، ونظرا لأنك لم توفر لنا ذلك المكان، جلسنا هنا، ويسعدنا الانتقال إلى الدرجة الثالثة إذا وجدت لنا مكانا هناك.»
قال الموظف: «لا تجادلني، لا يمكنني أن أجد لك مكانا. إما أن تدفع الأجرة الإضافية أو تخرج.»
كنت أريد الوصول إلى بونا بأية وسيلة؛ ولهذا لم أرغب في التشاجر مع الموظف، فدفعت له الأجرة الإضافية حتى بونا، لكنني شعرت بالاستياء للظلم الواقع علي.
وصلنا إلى موجالساراي في الصباح. وكان ماجنلال قد استطاع الحصول على مقعد في الدرجة الثالثة، فانتقلت إليه. أخبرت مفتش القطار بما حدث، وطلبت منه أن يمنحني شهادة تثبت انتقالي إلى مقصورة الدرجة الثالثة في محطة موجالساراي، لكنه رفض. تقدمت إلى سلطات السكك الحديدية للحصول على فارق الأجرة، وكانت الإجابة التي تلقيتها: «لا يمكننا رد الأجرة الإضافية دون وجود شهادة بذلك، لكننا سنستثنيك، غير أننا لا يمكننا رد الأجرة الإضافية المتعلقة بالمسافة من بوردوان إلى موجالساراي.»
ومنذ ذلك الحين خضت العديد من التجارب أثناء السفر في الدرجة الثالثة، التي إذا كتبتها بأكملها لملأت مجلدا بأكمله. لكن لا يسعني إلا أن أشير إلى تلك التجارب بإيجاز في هذه الفصول. وأشعر دائما وأبدا بأسف عميق لاضطراري للتخلي عن السفر في الدرجة الثالثة نظرا لتدهور صحتي.
إن الويلات التي يعانيها ركاب الدرجة الثالثة ترجع بلا شك إلى استبداد سلطات السكك الحديدية، لكن لا ننسى أن فظاظة الركاب وعاداتهم السيئة وأنانيتهم وجهلهم تتحمل هي أيضا جزءا من اللوم. إن ما يدعو للأسف هو أنهم في أغلب الأحيان لا يدركون أنهم يتصرفون بطريقة سيئة أو قذرة أو أنانية، فهم يعتقدون أن كل ما يفعلونه هو أمر طبيعي، ولعل ذلك كله يرجع إلى عدم اهتمامنا «نحن المتعلمين» بهم.
عند وصولنا إلى كاليان كان التعب قد أعيانا. حصلت أنا وماجنلال على قدر من المياه من أنبوب المياه بالمحطة للاغتسال، وبينما أتدبر أمر حمام زوجتي، إذ بالسيد كول، من «جمعية خدمة الهند»، يتقدم إلينا. كان السيد كول ذاهبا إلى بونا أيضا. وعرض أن يأخذ زوجتي إلى حمام الدرجة الثانية. ترددت في الموافقة على ذلك العرض الكريم. كنت أعلم أن زوجتي ليس لديها أي حق في استعمال حمام الدرجة الثانية، لكنني تغاضيت في النهاية عن تلك الحقيقة. أعرف أن هذا ليس من شيم أنصار الحقيقة. ولم يكن التغاضي عن تلك الحقيقة بسبب حاجة زوجتي الماسة للذهاب إلى الحمام، لكن ولع الزوج بزوجته يغلب على إخلاصه للحقيقة. وقد ورد في «الأبانيشاد»
1
أن وجه الحقيقة يتوارى خلف الستار الذهبي للوهم (المايا).
هوامش
الفصل السادس
السعي للانضمام إلى الجمعية
وجدنا أنفسنا عند وصولنا إلى بونا، وبعد أن قمنا بمراسم التأبين (الشرادها)، نناقش مستقبل الجمعية وهل سأنضم إليها أم لا. واكتشفت أن موضوع العضوية هذا أمر دقيق للغاية. لم أكن في حاجة إلى قبولي عضوا في الجمعية عندما كان جوخلي حيا، فلم يكن علي إلا أن أنفذ رغباته، وهو الوضع الذي كنت أعشقه. كنت في حاجة إلى مرشد أهل للثقة وأنا أنطلق عبر بحر الحياة الهندية العامة العاصف. لقد كان جوخلي مرشدي، وكنت أشعر بالأمان في وجوده. أما وقد رحل، فكان علي أن أعتمد على نفسي. وشعرت أن من واجبي أن أسعى للانضمام إلى الجمعية لاعتقادي أن ذلك سيريح روح جوخلي. وهكذا ودون تردد، بدأت السعي للانضمام إلى الجمعية.
كان أغلب أعضاء الجمعية موجودين في بونا في ذلك الوقت. وبدأت أناشدهم قبولي بالجمعية، وحاولت تبديد مخاوفهم تجاهي، لكنني وجدتهم منقسمين. ففريق منهم كان مؤيدا لانضمامي، أما الفريق الآخر فكان معارضا بشدة. كنت أعلم أن كلا الفريقين يكنون لي كل الحب والتقدير، لكن من المحتمل أن ولاءهم للجمعية كان يفوق ذلك الحب، أو على الأقل لا يقل عنه، ونتيجة لذلك كانت جميع نقاشاتنا خالية من الضغائن، ومقصورة على أمور تتعلق بالمبادئ. كان الفريق المعارض لانضمامي إلى الجمعية يستند إلى اختلاف آرائنا حول العديد من المسائل الحيوية، وإلى أن عضويتي في الجمعية يمكن أن تعرض الأهداف التي أسست من أجلها للخطر. وكان ذلك الأمر بالطبع غير مقبول لديهم.
تفرقنا بعد إجراء مناقشات مطولة، وتقرر إرجاء إصدار القرار النهائي لتاريخ لاحق.
شعرت بالقلق عند عودتي إلى المنزل. هل كان يكفي أن أقبل في الجمعية بغالبية الأصوات؟ وهل سيتفق ذلك وولائي لجوخلي؟ وعندما رأيت ذلك الخلاف الحاد بين أعضاء الجمعية حول قبول عضويتي من عدمه، رأيت أن من الأفضل أن أسحب طلب الانضمام، وأجنب المعارضين لانضمامي الوقوع في موقف حرج، واعتقدت أن هنا يكمن إخلاصي للجمعية وجوخلي. وقد خطر لي ذلك القرار فجأة، وعلى الفور كتبت إلى السيد شاستريجي أطلب منه إلغاء الاجتماع المؤجل. وقدر الفريق المعارض لانضمامي إلى الجمعية قراري، فقد أنقذهم قراري من الوقوع في موقف صعب، وهو الأمر الذي قوى من صداقتنا. وقد أدى سحب طلب عضويتي إلى تفعيل دوري عضوا حقيقيا في الجمعية.
وقد أثبتت لي الأيام أن عدم انضمامي رسميا إلى الجمعية كان قرارا صائبا، وأن اعتراض الفريق المعارض لانضمامي كان في محله. وأثبتت التجربة أيضا أن مبادئي مختلفة تماما عن مبادئ الجمعية، لكن إدراكنا لتلك الخلافات لم يؤثر بأي حال على صداقتنا ولم يسبب أي ضغائن بيننا. فقد استمرت مشاعر الأخوة تجمعنا، وظل منزل بونا التابع للجمعية ملاذا روحيا لي.
حقا لم أصبح عضوا رسميا في الجمعية، لكنني كنت دائما وأبدا عضوا روحيا، فالعلاقة الروحانية أهم بكثير من العلاقة المادية، والعلاقة المادية تكون كجسد بلا روح إذا لم تصاحبها العلاقة الروحانية.
الفصل السابع
كومب ميلا
توجهت بعد ذلك إلى رانجون لمقابلة الطبيب ميهتا، لكنني توقفت في الطريق في كلكتا. وهناك نزلت ضيفا على الراحل السيد بهوبيندراناث باسو، وهنا تجلى كرم الضيافة البنجالية في أفضل صوره. كنت في تلك الآونة أتبع النظام الغذائي المقتصر على الفاكهة بصرامة، فأمر لي بكل أنواع الفاكهة والمكسرات المتوفرة في كلكتا، وظلت سيدات المنزل مستيقظات طوال الليل لانشغالهن بإزالة القشرة الخارجية للمكسرات المختلفة، وأولين عناية فائقة بإعداد الفاكهة النضرة بالطريقة الهندية، وأعددن عدة أطعمة شهية لرفاقي، ومن بينهم ابني رامداس. ومع تقديري لتلك الضيافة الكريمة، إلا أنني لم أستطع تحمل فكرة أن يتولى بيت بأكمله استضافة ضيفين أو ثلاثة ضيوف، لكنني لم أجد مفرا من تلك المجاملة المحرجة.
كنت مسافرا على ظهر السفينة وأنا في طريقي إلى رانجون. وفي حين شعرنا بالخجل في منزل السيد باسو نتيجة لاهتمامه الزائد بنا، وجدنا أنفسنا في السفينة نعاني إهمالا تاما، حتى تجاه وسائل الراحة الأساسية لركاب ظهر السفينة. فقد كان الحمام شديد القذارة، والمراحيض كانت كأنها بالوعات نتنة. فلكي يستخدم المرء المرحاض، كان عليه أن يخوض في القاذورات أو أن يقفز من فوقها.
كان الوضع فوق طاقة البشر، فتوجهت إلى كبير الموظفين، ولكن دون جدوى. وقد أسهم الركاب بعاداتهم السيئة في اكتمال تلك الصورة القذرة، فكانوا يبصقون في أماكن جلوسهم، وينثرون فضلات الطعام والسجائر وأوراق نبات التنبول في المكان. كانت الضوضاء تعم الأجواء، وكان كل راكب يحاول الحصول على أكبر مساحة ممكنة. وكانت الأمتعة تشغل حيزا أكبر مما يشغله الركاب أنفسهم. وهكذا عانينا لمدة يومين في ظل تلك المحنة القاسية.
وقد كتبت خطابا إلى وكيل شركة السفن عند وصولي إلى رانجون أخبره فيه بجميع الوقائع التي شاهدتها. وبفضل ذلك الخطاب وجهود الطبيب ميهتا، كانت رحلة العودة أفضل بقدر ما.
ومن جديد عاد نظامي الغذائي القاصر على الفاكهة ليمثل مشكلة لمضيفي، لكنني استطعت التحكم في ضخامة قائمة الطعام بعض الشيء نظرا لأن منزل الطبيب ميهتا كان بنفس مستوى منزلي. لكن شهيتي وعيني رفضتا أن تضعا قيودا فعلية على أنواع الأطعمة نظرا لأنني لم أحدد عدد الأصناف التي يمكن أن أتناولها. لم يكن هناك ساعات محددة لتناول الطعام، لكنني كنت أفضل تناول العشاء قبل الغروب. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تناول العشاء قبل الساعة الثامنة أو التاسعة.
كان ذلك في عام 1915م، وهو موعد انعقاد مهرجان كومب الذي ينعقد في هاردفار مرة كل اثني عشر عاما. لم أكن أتوق إلى حضور المهرجان، لكنني كنت متلهفا لمقابلة مهاتما مونشيرامجي الذي كان في المدرسة الروحانية الخاصة به. أرسلت الجمعية التي كان جوخلي ينتمي إليها عددا كبيرا من المتطوعين للخدمة في المهرجان، برئاسة السيد هريداياناث كونزرو، وبصحبة الطبيب ديف بصفته المسئول الطبي. وطلب مني إرسال جماعة فونيكس لمساعدتهم، مما جعل ماجنلال غاندي يسبقني. وقد لحقت بالمجموعة عند عودتي من رانجون.
كانت الرحلة من كلكتا إلى هاردفار تحديدا شاقة. وكنا أحيانا ما نجد مقصورات منعدمة الإضاءة. وبداية من مدينة سهارنبور، جرى تكديسنا في عربات البضائع والماشية التي لم يكن لها أسقف. وقد أحرقنا لهيب شمس الظهيرة المتوهجة من فوقنا والأرضية الحديدية المتأججة من أسفلنا. ولم تستطع آلام العطش التي سببتها مثل هذه الرحلة إقناع الهندوس المتمسكين بالعادات الدينية بتناول الماء إذا كان من يد «مسلم». ويجب أن أشير إلى أن أولئك الهندوس أنفسهم لا يترددون لهذه الدرجة عندما يصف لهم الطبيب في أثناء مرضهم الخمر أو مرق لحم البقر، أو عندما يقدم لهم المسئول عن تركيب الأدوية الماء، مسلما كان أو مسيحيا.
علمتنا الإقامة في شانتينيكيتان أن أعمال النظافة ستكون مهمتنا الأساسية في الهند. نصبت الخيام الخاصة بالمتطوعين في هاردفار في أحد المعابد التي توفر الإقامة والطعام مجانا (الدهارماشالا)، وحفر الطبيب ديف بعض الحفر كي تستخدم كمراحيض. وكان عليه أن يستأجر عمال نظافة للاعتناء بتلك المراحيض. وهنا وجدت عملا لمجموعة فونيكس، حيث عرضنا تنظيف المراحيض بالتراب وتولي مهمة التخلص من القاذورات. وقد قبل الطبيب ديف عرضنا بكل سرور. كنت أنا من تقدم بالعرض، لكن ماجنلال غاندي هو الذي تولى المهمة. كان عملي يتلخص في الجلوس في خيمتي، والظهور للناس وأن أجري مناقشات دينية وغير دينية مع العديد من الحجاج الذين كانوا يزورونني. وهكذا لم يتبق لدي وقت لأنفرد بنفسي؛ فقد كان أولئك الأشخاص الذين يرغبون في التبرك برؤيتي يتبعونني حتى مكان الاغتسال، ولم يتركوني حتى في أثناء تناول طعامي. وهكذا أدركت في هاردفار الانطباع العميق الذي خلفته خدماتي المتواضعة في جنوب أفريقيا عني في جميع أنحاء الهند.
وكنت في وضع لا أحسد عليه، فقد كنت في مأزق شديد. فعندما كنت غير معروف، كان علي تحمل العناء الذي يعانيه الملايين من أبناء البلاد، أثناء السفر عبر السكك الحديدية على سبيل المثال. وعندما أصبحت محاطا بالحشود التي سمعت بأمري، وقعت ضحية لجنونهم برؤيتي. كثيرا ما كنت أتحير في تقرير أي الوضعين أسوأ. لكنني على الأقل أعرف أن الحب الأعمى من أولئك الأشخاص للتبرك برؤيتي كثيرا ما أثار غضبي، وجعل قلبي يتألم. وذلك في حين كان السفر يرفع من معنوياتي مع المشقة الناتجة عنه، ونادرا ما أدى إلى غضبي.
كنت في تلك الأيام من القوة بحيث أستطيع التجوال كثيرا، ولحسن الحظ لم أكن معروفا بالدرجة التي تجعلني أتسبب في جلبة كبيرة عند خروجي إلى الشوارع. وأثناء جولاتي لاحظت غفلة الحجاج ونفاقهم وقذارتهم أكثر مما لاحظت تقواهم. فقد بدا وكأن النساك المتواجدين هناك قد ولدوا ليتمتعوا بملذات الحياة.
وهنا رأيت بقرة بخمس أقدام! اندهشت كثيرا عند رؤيتي لذلك المشهد، لكن سرعان ما حررني رجال العلم من ذلك الوهم. إن البقرة ذات الأقدام الخمس كانت أضحية المخادعين الجشعين. وعلمت أن القدم الخامسة لم تكن إلا قدما قد أخذت من عجل حي وألحقت بالبقرة! وقد استخدمت تلك القسوة المزدوجة بغرض الاحتيال على الجهال. فلم يكن هناك هندوسي واحد يمكن ألا ينجذب لبقرة ذات خمسة أقدام. ولا يوجد هندوسي واحد يمكن أن يبخل بأمواله لشراء مثل تلك البقرة الخارقة.
وجاء يوم المهرجان. لقد كان ذلك اليوم يوما مهما لي. لم أكن قد ذهبت إلى هاردفار بهدف الحج؛ فلم أفكر قط في التردد على أماكن الحج للتحلي بالتقوى. لكن لا يمكن أن يكون ذلك الحشد المكون من مليون وسبعمائة ألف رجل كله من المنافقين أو مجرد زائرين للمكان، وكنت على يقين بأن رجالا لا حصر لهم قد أتوا لنيل الثواب ولتزكية أنفسهم. إن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يعرف المرء إلى أي مدى يزكي مثل ذلك النوع من الاعتقاد الروح.
وهكذا أمضيت الليل بطوله غارقا في التفكير. كان هناك تلك الأرواح التقية التي يحيط بها النفاق من كل جانب، لكن لا إثم عليهم أمام بارئهم. إن كانت زيارة هاردفار خطيئة في حد ذاتها، فيجب أن أعارضها علانية وأرحل عن المكان في يوم المهرجان. أما إذا كان الحج إلى هاردفار ومهرجان كومب ليس بخطيئة، فيجب أن أفرض على نفسي قيودا تكفيرا عن الآثام المتفشية هناك وأطهر نفسي. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب علي؛ فحياتي قائمة على القرارات التأديبية. أخذت أفكر في الإزعاج غير الضروري الذي سببته لمضيفي في كلكتا ورانجون، الذين استضافوني بحفاوة، ولذلك قررت حصر الأصناف التي يشملها غذائي اليومي، وأن أتناول وجبة العشاء قبل الغروب. كانت لدي قناعة بأنه لو لم أفرض على نفسي تلك القيود، سأعرض بذلك مضيفي لإزعاج كبير في المستقبل، وسوف أجعلهم ينشغلون بخدمتي بدلا من أن أشغل نفسي بالخدمة. فأخذت عهدا على نفسي بألا أتناول في اليوم أكثر من خمسة أصناف من الطعام، وألا أتناول الطعام بعد غروب الشمس، وفكرت بإمعان في الصعاب التي يمكن أن أواجهها، وكنت أريد ألا أترك ولو ثغرة واحدة، فأخذت أفكر فيما يمكن أن يحدث إذا ما أصبت بمرض إذا اعتبرت الدواء من ضمن الأصناف الخمس، ولم أقم بأي استثناء لأصناف بعينها. وقررت في النهاية ألا أقوم بأية استثناءات تحت أي ظروف.
مر على التزامي بتلك العهود ثلاث عشرة سنة حتى الآن، وقد أخضعتني تلك العهود إلى اختبار قاس، لكن أستطيع القول بأنها كانت بمثابة درعي الواقي. فأعتقد أن تلك العهود قد أبقت على حياتي لبضع سنوات إضافية، ونجتني من العديد من الأمراض.
الفصل الثامن
جسر لاكشمان جولا
شعرت براحة تامة عندما ذهبت إلى «المدرسة الروحانية» ولاقيت مهاتما مونشيرامجي ببنيته الضخمة، وعلى الفور شعرت بالاختلاف الشديد بين السكينة التي تخيم على المدرسة الروحانية والضجيج والضوضاء التي تعج بها هاردفار.
غمرني مهاتما مونشيرامجي بالاهتمام. وكان جميع «البراهماشاريين» ودودين للغاية. وهناك تعرفت لأول مرة إلى أشاريا راماديفجي، وأدركت في الحال القوة والنفوذ اللذين يتمتع بهما. كانت آراؤنا مختلفة حول العديد من القضايا، لكن سرعان ما تحولت معرفتنا إلى صداقة.
دارت بيني وبين راماديفجي وغيره من الأساتذة مناقشات طويلة حول ضرورة ضم التدريب الصناعي ضمن نشاطات المدرسة. وقد تألمت كثيرا عندما حانت لحظة الوداع.
سمعت الكثير من الثناء عن جسر لاكشمان جولا (جسر معلق يمتد عبر نهر الجانج) الذي يبعد قليلا عن مدينة هريشيكيش، وقد ألح علي العديد من الأصدقاء ألا أغادر هاردفار دون أن أرى الجسر. وكنت أرغب في قطع تلك الرحلة سيرا على الأقدام، وهكذا ذهبت إلى الجسر على مرحلتين.
أتى العديد من النساك لزيارتي في هريشيكيش، حيث تعلق بي أحدهم بصورة خاصة. وهناك كانت جماعة فونيكس التي أثار وجودها العديد من التساؤلات لديه.
دارت بيني وبين ذلك الناسك مناقشات دينية، وأدرك منها أنني على دراية بأمور الدين. لكنه رآني وأنا لا أرتدي عمامتي أو قميصي حيث كنت قد عدت للتو من الاغتسال في نهر الجانج. وقد أحزنه ألا يرى «الشيخا» (خصلة الشعر الخلفية) برأسي والقلادة المقدسة حول عنقي، فقال: «يؤسفني أن أرى هندوسيا مؤمنا دون القلادة المقدسة والشيخا. فهما يرمزان للهندوسية، ويجب على كل هندوسي أن يتحلى بهما.»
وهنا أذكر قصة التخلي عن القلادة المقدسة والشيخا. فعندما كنت طفلا فقيرا في العاشرة من عمري، كنت أغبط البراهمة وهم يرتدون بتباه مجموعة من المفاتيح المتدلية من أربطتهم المقدسة، وكنت أتمنى لو استطعت أن أفعل مثلهم. لم يكن ارتداء القلادة المقدسة وقتها شائعا بين أسر التجار بكاثياوار، لكن في ذلك الوقت انطلقت حركة تنادي بفرض ارتدائها على الثلاث طبقات العليا، ونتيجة لذلك، ارتدى العديد من أفراد عشيرة غاندي القلادة المقدسة. وقد منحنا المعلم البرهمي، الذي كان يعلم اثنين أو ثلاثة منا «الراما راكشا»، القلادة المقدسة. ومع أنني لم أجد فرصة للحصول على مجموعة من المفاتيح، إلا أنني حصلت على مفتاح واحد وبدأت أرتديه بتباه. ولا أذكر إذا كنت قد افتقدت القلادة المقدسة كثيرا عندما فقدتها فيما بعد أم لا، لكن ما أعرفه يقينا هو أنني لم أحاول الحصول على قلادة أخرى.
كان هناك العديد من المحاولات حسنة النية وأنا أتقدم في السن لكي أرتدي القلادة المقدسة مرة أخرى في كل من الهند وجنوب أفريقيا، لكن تلك المحاولات لم تنجح، فقد كنت أرى أنه لا يحق لأي من الطبقات الثلاث العليا ارتداء تلك القلادة المقدسة ما دام لا يحق لمن ينتمون «للشودرا»
1
ارتداؤها. ولم أر سببا وجيها يدفعني لتبني عادة أجدها غير ضرورية. لم يكن اعتراضي على القلادة ذاتها، لكنني رأيت أن أسباب ارتدائها واهية.
نظرا لأنني من أتباع الإله فيشنو، كنت بالطبع أرتدي حول عنقي قلادة من الخرز (كانثي). وقد كان زعماء العشيرة يفرضون التحلي بالشيخا. لكنني تخلصت منها عشية رحيلي إلى إنجلترا، خشية أن يعرضني مظهرها إلى السخرية وأن تجعلني أبدو كالبرابرة في عيون الإنجليز. في واقع الأمر، دفعني ذلك الخوف إلى أن أؤثر على ابن عمي، شاجانلال غاندي، ليتخلص منها في جنوب أفريقيا. فقد كنت أخشى أن تقف عائقا في طريق عمله العام، وهكذا جعلته يتخلص منها مع الألم الذي يمكن أن يشعر به جراء ذلك.
صرحت بالحقيقة كاملة لرجل الدين، فقلت له: «لن أرتدي القلادة المقدسة، لأنني لا أجد ضرورة لارتدائها لأن الهندوسي سيظل هندوسيا حتى لو لم يرتدها. علاوة على ذلك، من المفترض أن ترمز القلادة المقدسة إلى تجديد الروح، الأمر الذي يستلزم محاولة حقيقية من جانب مرتديها لعيش حياة أسمى وأطهر. وأشك في أن أيا من الهندوس - في الوضع الراهن الذي تشهده الهندوسية والهند - يمكنه أن يدعي الحق في ارتداء علامة تحمل ذلك المعنى. ولا يمكن للهندوس أن يتمتعوا بذلك الحق إلا بعد أن تطهر الهندوسية نفسها من مبدأ النبذ، وتزيل جميع الفوارق بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا، وتتخلص من الآثام الأخرى والعادات الزائفة التي أصبحت تعج بها؛ ولذلك كله يرفض عقلي الاقتناع بفكرة ارتداء القلادة المقدسة. ومع ذلك، أرى أن اقتراحك بشأن الشيخا جدير بالاعتبار، لقد اعتدت في مدة ما أن أحافظ عليها، لكنني أزلتها نتيجة لشعور خاطئ بالخزي منها. لذلك أعتقد أن علي أن أتركها تنمو من جديد. ولسوف أناقش الأمر مع رفاقي.»
لكنه لم يقدر موقفي فيما يتعلق بالقلادة المقدسة؛ فذات الأسباب التي استندت إليها في رفضي ارتداء القلادة المقدسة، بدت له مؤيدة لارتدائها. وحتى الآن لم يتغير موقفي تجاه ارتداء القلادة المقدسة عنه في هريشيكيش. وما دامت هناك أديان شتى، ستظل هناك حاجة لأصحاب كل من تلك الديانات للتحلي بعلامة ظاهرة تميزهم. لكن عندما تتحول تلك العلامة إلى تميمة ووسيلة لإثبات سمو ديانة ما على الديانات الأخرى، فيجب التخلي عنها. ولا أرى اليوم أن القلادة المقدسة وسيلة للرقي بالهندوسية، ولذلك لا أبالي بارتدائها.
أما الشيخا التي تسبب خوفي في التخلي عنها، فقد قررت أن أتركها تنمو من جديد بعد أن استشرت أصدقائي.
والآن أعود للحديث عن جسر لاكشمان جولا. أسرني جمال المناظر الطبيعية الخلابة في هريشيكيش ولاكشمان جولا، وقد انحنيت تبجيلا لأسلافنا لذوقهم الرفيع وإحساسهم بجمال الطبيعة، ولبصيرتهم التي جعلتهم يربطون تلك المناظر الطبيعية الجميلة بدلالة دينية.
لكن الطريقة التي كان يستخدم بها الناس تلك المناطق الخلابة كانت تؤرقني. فقد كان الحال في هريشيكيش لا يختلف عنه في هاردفار، إذ كان الناس يلوثون الطرق وضفاف نهر الجانج الفاتنة. بل إنهم لم يترددوا حتى في تدنيس مياه نهر الجانج المقدسة. لقد آلمني كثيرا أن أرى الناس يقضون حاجتهم في الشوارع وعلى ضفاف النهر، في حين كان يمكنهم بسهولة الذهاب إلى مكان أبعد بقليل لتجنب الأماكن العامة.
كان لاكشمان جولا، في رأيي، مجرد جسر معلق من الحديد يمتد عبر نهر الجانج. علمت أن ذلك الجسر في الأصل كان من الحبال، لكن واحدا من أهل الخير ممن ينتمون إلى منطقة ماروار قرر تدمير الجسر المصنوع من الحبال وتشييد جسر حديدي بتكلفة باهظة، ثم سلمه بعد ذلك إلى الحكومة! لا أستطيع التحدث عن الجسر المصنوع من الحبال لأنني لم أره قط، لكنني أرى أن الجسر الحديدي لا مكان له وسط تلك المناظر الطبيعية، فوجوده يشوه ذلك المنظر الرائع. كان تسليم مفاتيح ذلك الجسر إلى الحكومة لمحة تفوق كل ولاء، وتفوق حتى ولائي في تلك الأيام.
كانت «السفارج أشرام»
Svargashram
التي يصل إليها المرء بعد أن يقطع الجسر في حالة يرثى لها، فقد كانت عددا من السقائف البالية المصنوعة من ألواح الحديد المجلفن. وقد علمت أن تلك السقائف شيدت من أجل الساداكاس (الطامحين إلى الكمال الروحاني). كانت السقائف خالية تقريبا من مظاهر الحياة في ذلك الوقت، وقد ترك المقيمون في المبنى الرئيسي انطباعا سلبيا.
لقد كانت الخبرات التي اكتسبتها في هاردفار عظيمة القيمة. فقد ساعدتني بصورة كبيرة في تحديد المكان الذي سأعيش فيه والأعمال التي سأقوم بها.
هوامش
الفصل التاسع
تأسيس الجماعة
كانت رحلتي إلى مهرجان كومب هي زيارتي الثانية إلى هاردفار.
أنشئت «مؤسسة الساتياجراها»
Satyagraha Ashram
في الخامس والعشرين من شهر مايو/أيار 1915م. أرادني السيد شراداناند جي أن أستقر في هاردفار، في حين اقترح علي بعض أصدقائي من كلكتا أن أستقر في فايديانثادام، وحثني آخرون بشدة على اختيار راجكوت. لكن عند مروري بأحمد آباد، ألح علي العديد من الأصدقاء أن أستقر هناك، وتطوعوا بالتكفل بتكاليف إنشاء المقر بالإضافة إلى منزل لنعيش فيه.
كنت أميل إلى الاستقرار في أحمد آباد. فكنت أرى أن انتمائي إلى جوجرات، سيمكنني من تقديم أفضل خدمة للوطن عن طريق اللغة الجوجراتية. وكانت أحمد آباد أفضل مكان لإحياء صناعة الغزل اليدوي المنزلية حيث كانت مركزا قديما للنسج اليدوي. وكان يراودني أمل في أن يكون حجم المساعدات المالية التي سيقدمها الأغنياء بالمدينة أفضل من أي مكان آخر نظرا لأن المدينة كانت عاصمة جوجرات.
وبالطبع كانت قضية النبذ ضمن المسائل التي نوقشت مع الأصدقاء في أحمد آباد. وأوضحت لهم أنني سأنتهز أول فرصة لقبول أي مرشح منبوذ في الجماعة إذا كان مؤهلا لذلك.
قال أحد الأصدقاء من أتباع الإله فيشنو وهو يشعر بالرضى عن نفسه: «وهل هناك منبوذ يمكن أن يتناسب مع شروطك؟»
قررت أخيرا أن أؤسس الجماعة في أحمد آباد .
كان السيد جيفانلال ديساي، الذي كان يعمل محاميا في أحمد آباد، هو الشخص الذي ساعدني بصورة رئيسية في أمر الإقامة. وقد عرض أن يترك لنا منزله المكون من طابق واحد في كوشراب، لكننا قررنا أن نستأجره.
كان أول الأمور التي يجب علينا أن نفصل فيها هو اسم الجماعة، فتشاورت مع الأصدقاء، وكان ضمن الأسماء المقترحة «سيف أشرام» (جماعة الخدمة)، و«تابوفان» (جماعة الزهد)، وغيرها من الأسماء. راقني الاسم «سيف أشرام»، إلا أنه لا يؤكد على أسلوب الخدمة. أما الاسم «تابوفان»، فبدا لي كنوع من الادعاء؛ فمع أن الزهد كان قريبا لقلوبنا، لا يمكننا أن ندعي أننا من الزهاد. كانت عقيدتنا ترتكز على الالتزام بالحقيقة، وكان عملنا البحث عن الحقيقة والإصرار عليها. أردت أن يعلم شعب الهند الطريقة التي استعملتها في جنوب أفريقيا، وكنت أرغب في اختبار مدى إمكانية تطبيق تلك الطريقة في الهند، لذلك اخترت أنا ورفاقي الاسم «جماعة الساتياجراها»، حيث يعكس هدفنا ووسيلة الخدمة.
كان من الضروري وضع لائحة تنظيمية لإدارة الجماعة، فجرى إعداد صيغة أولية للائحة، ودعونا الأصدقاء ليعبروا عن آرائهم بشأنها. ولا أزال أذكر تعليق السيد جوروداس بانيري من بين الآراء العدة التي تلقيناها، فقد راقت اللائحة للسيد جوروداس بانيري، لكنه اقترح إدراج التواضع كأحد مقتضيات اللائحة لإيمانه بأن الجيل الجديد يفتقر إلى التواضع. ومع أنني كنت أدرك وجود ذلك العيب، فقد خشيت أن تفقد فضيلة التواضع جوهرها عندما تتحول لقانون يلتزم به. إن الدلالة الحقيقية للتواضع هي تنحية الذات، فتنحية الذات هي الخلاص «موكشا». ولا يمكن أن يكون التواضع ذاته قانونا ملزما، لكن يمكن أن يكون هناك قوانين أخرى تساعد على التحلي به. فإذا كانت أفعال من يطمح إلى الخلاص أو القائم على الخدمة لا تتسم بالتواضع والإيثار، إذن لا توجد رغبة حقيقية في الخلاص أو تقديم الخدمة. فتقديم الخدمة دون التحلي بالتواضع يعتبر أنانية وغرورا.
كانت جماعتنا وقتها تضم ما يقرب من ثلاثة عشر تاميليا. حضر معي خمسة منهم من جنوب أفريقيا، أما باقي الأصدقاء فحضروا من أنحاء أخرى من البلد. كان قوام الجماعة ككل خمسة وعشرين فردا من رجال ونساء.
وهكذا أسسنا الجماعة، حيث كان الجميع يتناولون الطعام في مطبخ واحد، ويحاولون جميعا العيش كعائلة واحدة.
الفصل العاشر
الاختبار
لم يكن قد مر على إنشاء الجماعة سوى بضعة أشهر عندما خضنا اختبارا لم أكن أتوقعه البتة. تلقيت خطابا من أمريتلال ثاكار نصه: «هناك أسرة متواضعة وصادقة من المنبوذين ترغب في الانضمام إلى جماعتك. هل تقبل انضمامها؟»
شعرت بالحيرة، فلم أتوقع أن تطلب أسرة منبوذة الانضمام لجماعتنا بتقديم من رجل مثل ثاكار بابا. واستشرت رفاقي في موضوع الخطاب، فرحبوا بالأمر.
كتبت إلى أمريتلال ثاكار أعبر له عن موافقتنا على قبول الأسرة المنبوذة، شريطة استعداد جميع أفراد الأسرة للتقيد بقوانين الجماعة.
كانت الأسرة تتكون من دادابهاي وزوجته دانيبين وابنتهما لاكشمي وطفل صغير، وكان دادابهاي يعمل مدرسا في بومباي. وافق جميع أفراد الأسرة على التقيد بقوانين الجماعة، وبالفعل قبلوا.
لكن انضمام تلك الأسرة تسبب في هياج الأصدقاء الذين كانوا يدعمون الجماعة، فقابلنا أول ما قابلنا مشكلة استخدام بئر الماء الذي كان يتحكم فيه جزئيا مالك المكان. اعترض المسئول عن رفع المياه من البئر زاعما أن قطرات المياه المتساقطة من دلونا ستلوثه، فأخذ يسبنا ويسيء إلى دادابهاي. طلبت من الجميع تحمل الإساءة والاستمرار في سحب المياه مهما كلف الأمر، وقد شعر الرجل بالخزي عندما وجدنا لا نرد إساءته وتوقف عن إزعاجنا.
تجمدت جميع المساعدات المالية تماما، ولم يكن الصديق، الذي طرح السؤال عن مدى قدرة شخص منبوذ على الالتزام بقواعد الجماعة، يتوقع قط أن يحدث مثل ذلك الأمر.
ترددت إشاعات، مع توقف المساعدات المالية، حول اعتزام مقاطعتنا اجتماعيا، وقد كنا مستعدين لذلك الموقف. كنت قد أخبرت رفاقي أننا لن نرحل عن أحمد آباد حتى وإن قاطعنا الناس وحرمونا من المرافق العامة، وسنذهب للعيش في مساكن المنبوذين ونحيا بالمال الذي نستطيع أن نكسبه من عمل أيدينا.
تصاعدت الأحداث حتى جاء ماجنلال غاندي في أحد الأيام وقال لي: «لقد نفدت مواردنا المالية، ولم يتبق ما يكفينا للشهر المقبل.»
أجبت بهدوء: «إذن سنذهب إلى مساكن المنبوذين.»
لم تكن تلك المرة الأولى التي أمر فيها بمثل هذه المحنة. وفي جميع المحن، كان الإله يرسل لي العون في آخر لحظة. ذات صباح، وبعد أيام قليلة من إطلاع ماجنلال لي على الأزمة المالية التي نعانيها، جاءني أحد الأطفال يخبرني بأن أحد الأشخاص ينتظرني في عربته، فخرجت له، وعندما قابلته، سألني: «أريد أن أساعد جماعتكم. فهل تقبل مساعدتي؟»
فقلت له: «بالتأكيد. ولأصدقك القول، لقد نفدت مواردنا المالية.»
قال لي: «سآتي غدا في نفس الموعد. هل سأجدك هنا؟»
أجبت: «نعم.» ثم رحل.
توقفت العربة بالقرب من المقر في اليوم التالي في الساعة المحددة بالضبط، وانطلق منها صوت البوق. فأتاني الأطفال بالأخبار. لم يدخل الرجل إلى المقر، فخرجت لرؤيته. وضع الرجل في يدي حزمة من النقود الورقية بقيمة 13000 روبية، ثم انصرف.
لم أتوقع تلك المساعدة قط، ويا لها من طريقة لتقديم المساعدة! لم يزر الرجل النبيل مقر الجماعة من قبل. وأذكر أنني لم أقابله إلا مرة واحدة. إنه لم يزر المكان ولم يطرح الأسئلة، بل قدم المساعدة بسهولة ثم انصرف! كانت هذه التجربة فريدة من نوعها. أخرت تلك المساعدة الرحيل إلى مساكن المنبوذين، فوقتها شعرنا أن لدينا ما يكفينا لمدة عام قادم.
وإذ كانت الرياح الهوجاء تعصف بنا من الخارج، كان هناك عاصفة تطيح بالجماعة من داخلها. بدا لي أن زوجتي وغيرها من النساء لم يحبذن فكرة قبول الأصدقاء المنبوذين في الجماعة، مع أن الأصدقاء المنبوذين اعتادوا أن يزوروني في جنوب أفريقيا ويقيموا ويأكلوا معي. لاحظت بوضوح تجاهلهن، إن لم يكن كرههن، للسيدة دانيبين. وعلى عكس الهدوء الذي واجهت به الضائقة المالية، لم أستطع تحمل تلك العاصفة الداخلية. كانت دانيبين امرأة عادية، وكان دادابهاي ذا تعليم محدود لكنه كان فطنا. كنت معجبا بصبره. نعم كان ينفجر غضبا في بعض الأحيان، لكن بصورة عامة كنت منبهرا بالصبر الذي يتحلى به. وقد ناشدته أن يتغاضى عن الإهانات التي يمكن التغاضي عنها. وما كان منه إلا أن وافق على طلبي، بل جعل زوجته تحذو حذوه.
كان قبول تلك الأسرة درسا قيما للجماعة، لقد أعلنا للعالم أجمع منذ البداية أن الجماعة لن تؤيد مبدأ النبذ. وهكذا أصبح الأشخاص الذين كانوا يريدون مساعدة الجماعة على أهبة الاستعداد، وأصبح عمل الجماعة في ذلك الاتجاه سهلا بقدر كبير. ولعل تكفل الهندوس من أصحاب الاعتقاد السليم بالجزء الأكبر من نفقات الجماعة المتزايدة يوميا يعد مؤشرا واضحا لتغير مبدأ النبذ بصورة حقيقية. وبالطبع يوجد الكثير من الأدلة الأخرى على ذلك التغير، لكن حقيقة عدم تردد الهندوس الصالحين في مساعدة الجماعة حيث نتناول الطعام مع المنبوذين ليس بدليل هين.
للأسف أجد نفسي مضطرا للتغاضي عن ذكر العديد من الأحداث المتعلقة بهذا الموضوع، على سبيل المثال كيفية تناولنا للمسائل الدقيقة التي انبثقت عن ذلك الموضوع الرئيسي، وكيف كان علينا التغلب على بعض الصعاب غير المتوقعة، وغيرها من الأمور المتعلقة إلى حد بعيد بوصف تجاربي مع الحقيقة. وسوف تشهد الفصول التالية نفس المشكلة. فسأضطر إلى حذف تفاصيل مهمة؛ نظرا لأن العديد من الشخصيات المشتركة في الأحداث لا تزال على قيد الحياة، ومن غير اللائق ذكر أسمائهم في أحداث اشتركوا فيها دون تصريح منهم بذلك، ومن الصعب الحصول على موافقتهم أو أن يراجعوا الفصول التي تشير إليهم من حين إلى آخر، ومثل ذلك الإجراء يتجاوز حد هذه السيرة الذاتية. لذلك سأروي بقية القصة - التي أرى أنها لا تزال قيمة على الحال التي هي عليه للباحثين عن الحقيقة - مع حذف لا مفر منه لبعض الأجزاء. ومع ذلك، أتمنى، بمشيئة الإله، أن أصل بالقصة إلى أيام حملة «عدم التعاون».
الفصل الحادي عشر
إلغاء الهجرة بعقود لأجل
سنترك الحديث عن الجماعة قليلا، والتي تعرضت في بداية نشأتها إلى عواصف داخلية وخارجية، وسنتحول للحديث بإيجاز عن أمر كان يشغل بالي.
إن العاملين بعقود لأجل هم أولئك العمال الذين هاجروا من الهند للعمل بمقتضى عقد مدته خمس سنوات أو أقل. ألغيت الضريبة التي فرضت على المهاجرين العاملين بعقود لأجل في ناتال والتي كانت تقدر بمبلغ 3 جنيهات إسترلينية بموجب اتفاقية غاندي - سمطس التي عقدت في عام 1914م. لكن الهجرة من الهند بصورة عامة كانت لا تزال في حاجة إلى معالجة.
وفي مارس/آذار من عام 1916م، تقدم بانديت مدان موهان مالفيا بقرار في المجلس التشريعي الإمبراطوري لإلغاء نظام العمل بعقود لأجل. وقد أعلن اللورد هاردنج، ردا على القرار المقترح بقوله: إنه قد حصل على وعد من حكومة جلالة الملك بإلغاء هذا النظام في الوقت المناسب. لكنني شعرت أن الهند لا يمكنها قبول مثل ذلك الرد المبهم، وأن على شعبها أن يثور بغية الإلغاء الفوري لهذا النظام. لقد سمحت الهند بوجود ذلك النظام بتهاونها التام، ورأيت أن الوقت قد حان ليثور الشعب من أجل مثل ذلك الإصلاح. قابلت بعض الزعماء، وكتبت مقالات في الصحف، ووجدت أن الرأي العام يجمع على الإلغاء الفوري لهذا النظام. تساءلت: هل يمكن أن يكون ذلك الموضوع مناسبا لقيام الساتياجراها؟ لم يكن لدي أدنى شك في أن إجابة ذلك السؤال هي «نعم»، لكنني لم أكن أدري السبيل إلى ذلك.
ولم يخف الحاكم البريطاني، في غضون ذلك، معنى «الإلغاء التدريجي» الذي قال عنه إنه سيحدث «أثناء مدة معقولة تسمح بتقديم ترتيبات بديلة».
وفي فبراير/شباط من عام 1917م، طلب السيد مالفيا إذنا ليقدم مشروع قرار بشأن الإلغاء الفوري للنظام، لكن اللورد شيلمسفورد رفض منحه الإذن، وهنا حان الوقت كي أجوب مشارق الهند ومغاربها لاستنفار جميع أبناء الوطن.
فكرت في أنه من اللائق زيارة الحاكم البريطاني قبل أن أبدأ في استثارة أبناء وطني، وطلبت مقابلة الحاكم البريطاني، فوافق على الفور. كان السيد مافي، الذي يحمل الآن لقب السير جون مافي، سكرتير الحاكم البريطاني الشخصي، وقد توطدت علاقتي به كثيرا. أجريت محادثات مرضية مع اللورد شيلمسفورد، الذي وعد بمساعدتي لكن بصورة غير واضحة.
بدأت جولتي في البلاد انطلاقا من بومباي. وتعهد السيد جيهانجير بيتيت بعقد الاجتماع تحت رعاية الجمعية الإمبراطورية للمواطنة
Imperial Citizenship Association . اجتمعت اللجنة التنفيذية للجمعية أولا لصياغة القرارات التي ستقدم أثناء الاجتماع، وحضر اجتماع اللجنة كل من الدكتور ستانلي ريد، والسيد (يحمل حاليا لقب سير) لالوباي، والسيد ناتاراجان، والسيد بيتيت، وقد ركزت المناقشات على تحديد المدة التي سيطلب من الحكومة إلغاء هذا النظام أثناءها. طرحت ثلاثة اقتراحات، وهي: الإلغاء «في أسرع وقت ممكن»، والإلغاء «بنهاية شهر يوليو»، و«الإلغاء الفوري». كنت أؤيد تحديد تاريخ محدد للإلغاء، بحيث نستطيع وقتها تقرير رد الفعل الذي علينا القيام به في حالة عدم تلبية الحكومة لطلبنا في المدة المحددة. كان السيد لالوباي يدعم اقتراح «الإلغاء الفوري»، فقال: إن كلمة «فوري» تشير إلى مدة سابقة على نهاية شهر يوليو/تموز. فأوضحت أن الناس لن يفهموا معنى كلمة «فوري». وإن كنا نرغب في أن يقوموا بعمل حقيقي، علينا أن نعطيهم كلمة أكثر وضوحا. فيمكن أن يفسر كل شخص كلمة «فوري» حسب فهمه الخاص، فتفسرها الحكومة بطريقة، ويفسرها الناس بطريقة أخرى. أما عبارة «نهاية شهر يوليو» فليس بها مجال لأي لبس. وفي حالة عدم قيام الحكومة بأي إجراء حتى ذلك التاريخ، يمكننا أن نلجأ إلى سبل أخرى. اقتنع الدكتور ريد بوجهة نظري، وأخيرا وافق السيد لالوباي. اخترنا نهاية شهر يوليو/تموز موعدا نهائيا لإعلان إلغاء النظام، وقد مررنا قرارا يحمل ذلك المعنى في الاجتماع العام. وقد صدرت قرارات مماثلة في الاجتماعات التي عقدت في جميع أنحاء الهند.
كرست السيدة جايجي بيتيت جهدها ووقتها لتشكيل وفد من السيدات لزيارة الحاكم البريطاني، وأذكر من ضمن السيدات اللاتي اشتركن في الوفد من بومباي، السيدة تاتا والراحلة ديلشاد بيجام. وقد كان لذلك الوفد أثر عظيم، وقد أعطى الحاكم البريطاني الوفد ردا مشجعا.
قمت بزيارة كراتشي وكلكتا وغيرها. وقد عقدت اجتماعات بناءة في كل مكان، وكانت الحماسة تملأ الجميع. في الحقيقة، لم أكن أتوقع مثل تلك الحماسة عندما بدأت في استثارة الشعب.
كنت أسافر في تلك الفترة وحيدا، وهو الأمر الذي عرضني للعديد من التجارب العجيبة. كان رجال التحقيقات الجنائية يطاردونني أينما ذهبت، لكنهم لم يضايقونني لأنني لم يكن لدي ما أخفيه، ومن جهتي لم أسبب لهم أي مشاكل. ولحسن الحظ، لم أكن وقتها قد حظيت بلقب المهاتما، مع أن الاسم كان شائعا بين من يعرفونني.
وأذكر موقفا واحدا أزعجني فيه المحققون في محطات عدة وسألوني عن تذكرتي، ودونوا رقمها، وبالطبع، أجبت عن جميع أسئلتهم في الحال. وقد اعتقد الركاب أنني «ناسك» أو «متقشف». وقد غضبوا عندما وجدوا المحققين يضايقونني في كل محطة، وانهالوا عليهم بالسباب. فصاحوا قائلين: «لماذا تزعج الناسك المسكين دون سبب؟» ثم توجهوا إلي قائلين: «لا تظهر تذكرتك لهؤلاء الأنذال.»
فخاطبتهم برفق، قائلا: «لا ضرر في أن أظهر لهم تذكرتي؛ إنهم يقومون بواجبهم.» لكن كلامي لم يكن كافيا لإرضاء الركاب، فأظهروا تعاطفا أكثر تجاهي، وأخذوا يعترضون بشدة على هذا النوع من الإساءة للأبرياء.
كان إزعاج المحققين هينا بالنسبة للصعاب الأخرى التي لقيتها، فقد كانت المشكلة الحقيقية في الصعاب التي لاقيتها أثناء السفر في الدرجة الثالثة، وقد خضت أقسى تجربة في الطريق من لاهور إلى دلهي. كنت مسافرا من كراتشي إلى كلكتا عن طريق لاهور حيث كان علي تغيير القطار، فوجدت استحالة في إيجاد مقعد خال في القطار. كان القطار مكتمل العدد، ولم يستطع الركوب إلا من لجئوا إلى القوة، وغالبا ما كانوا يتسللون عبر النوافذ إذا كانت الأبواب مؤصدة. كان علي الوصول إلى كلكتا في الموعد المحدد لانعقاد الاجتماع، ولم أكن لأتمكن من الوصول في الوقت المحدد إذا ما فاتني ذلك القطار. فقدت الأمل تقريبا في ركوب القطار. لم يكن أحد يريد أن يجلسني عندما أتاني أحد الحمالين بعد أن رأى المأزق الذي أنا فيه، وقال لي: «أعطني اثنتي عشرة آنة وسأحصل لك على مقعد.» فأجبته: «حسنا، جد لي مقعدا وسأعطيك الاثنتي عشرة آنة.» أخذ الشاب ينتقل من عربة إلى أخرى يتوسل إلى الركاب، لكن أحدا لم يعره انتباها. وما إن أوشك القطار على الانطلاق، حتى قال بعض الركاب: «لا يوجد مكان هنا، لكن يمكنك أن تزج به داخل العربة إذا أردت، وسيكون عليه أن يقف.» فسألني الحمال : «ما رأيك؟» فوافقت بكل سرور، وبالفعل دفعني إلى العربة من النافذة. وهكذا وجدت مكانا في القطار، وفاز الحمال بالاثنتي عشرة آنة.
كان الليل اختبارا حقيقيا. كان الركاب الآخرون جالسين بصورة أو بأخرى. ظللت واقفا لمدة ساعتين ممسكا بسلسلة السرير العلوي. في غضون ذلك، أخذ بعض الركاب في مضايقتي باستمرار. سألوني: «لماذا لا تجلس؟» حاولت إقناعهم أن ذلك يرجع لعدم وجود مكان شاغر، لكنهم لم يتحملوا وقوفي مع أنهم كانوا مضجعين كليا على الأسرة العلوية. لقد كانوا لا يملون من مضايقتي، ولم أمل أنا من الرد عليهم بلطف، وقد هدأهم ذلك في النهاية. سألني بعضهم عن اسمي، وعندما عرفوا هويتي شعروا بالخزي، فاعتذروا لي وأفسحوا لي مكانا، وكانت تلك مكافأة صبري. كنت خائر القوى، وشعرت بدوار في رأسي، لقد ساعدني الإله عندما كنت في حاجة ماسة إلى العون.
وصلت بهذه الطريقة إلى دلهي ومنها إلى كلكتا. وقد كان مضيفي أمير مدينة قاسم بازار، رئيس الاجتماع في كلكتا. ولم تكن الحماسة في كلكتا أقل منها في كراتشي. وقد حضر الاجتماع الكثير من الإنجليز.
وقد أعلنت الحكومة وقف الهجرة بعقود لأجل من الهند قبل حلول نهاية شهر يوليو/تموز.
كانت المرة الأولى التي تقدمت فيها بشكوى ضد النظام في عام 1894م، وكنت آمل في أن ينتهي ذلك النظام «شبه الاستعبادي»، كما كان يطلق عليه السيد ويليام ويلسون هانتر.
أسهم الكثير من الأشخاص في الثورة التي بدأت في 1894م، لكن لا مفر من أن أقول بأن الساتياجراها قد عجلت بالنتيجة.
وأرجو لمن يريد من القراء الاطلاع على المزيد من تفاصيل تلك الثورة ومن شاركوا فيها أن يرجع إلى كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا.
الفصل الثاني عشر
صبغ النيلة
شامباران هي أرض الملك الهندي الأسطوري جاناكا. وكما كانت تلك الأرض تعج ببساتين المانجو، كانت أيضا مليئة بمزارع النيلة حتى عام 1917م. فقد كان على المستأجرين بأرض شامباران بموجب القانون تخصيص ثلاث حصص من أصل كل عشرين حصة من الأرض لزراعة نبات النيلة من أجل مالك الأرض . وهو ما عرف باسم نظام «التينكاثيا»، نظرا لأن كل ثلاث حصص «كاثا»
1
من أصل عشرين (التي تشكل أكرا) يجب أن تخصص لزراعة النيلة.
لا أنكر أنني في ذلك الوقت لم أكن أعرف حتى اسم شامباران، ناهيك عن موقعها الجغرافي، ولم تكن لدي أدنى فكرة عن مزارع النيلة. سبق أن رأيت عبوات النيلة لكنني لم أتخيل أن زراعتها وصناعتها هي ثمرة شقاء وعذاب آلاف المزارعين في تشامباران.
وقد كان راجكومار شوكلا من ضمن المزارعين الذين يعيشون تحت وطأة ذلك العذاب. وكان يتوق إلى تخليص أولئك المزارعين الذين يعانون مثله عبء زراعة النيلة.
قابلني ذلك الرجل في مدينة لوكناو، حيث ذهبت لحضور اجتماع الحزب الذي عقد في 1916م. قال الرجل: «سوف يخبرك المحامي بكل ما يتعلق بمحنتنا.» وحثني على الذهاب إلى شامباران. كان «المحامي» هو نفسه السيد براجكيشور براساد الذي أصبح زميلي الأغر في شامباران، والذي يمثل روح الخدمة العامة في بيهار. أحضر راجكومار شوكلا إلى خيمتي المحامي الذي كان يرتدي سترة سوداء من صوف الألباكا وسراويل. وقد فشل السيد براجكيشور وقتها في ترك انطباع جيد لدي، واعتقدت أنه مجرد محام يستغل المزارعين البسطاء. وكعادتي، وبعد أن سمعته يتحدث عن شامباران قلت له: «لا يمكنني أن أدلي برأيي دون أن أرى الوضع بنفسي. يمكنك أن تقدم الاقتراح إلى الحزب، لكن أرجو أن تتركني في الوقت الحالي.» كان راجكومار شوكلا بالطبع في حاجة إلى بعض العون من الحزب. تقدم السيد براجكيشور براساد بالاقتراح إلى الحزب، معبرا عن تعاطفه مع أهل شامباران. وقد تمت الموافقة على الاقتراح بالإجماع.
كان راجكومار شوكلا مسرورا لكن ذلك لم يكن كافيا له، فقد أرادني أن أزور شامباران بنفسي وأن أشاهد الآلام التي يعانيها الفلاحون هناك، أخبرته أنني سوف أدرج شامباران في الجولة التي سأقوم بها وسأمكث بها يوما أو يومين، فقال لي: «يوم واحد سيفي بالغرض. وسوف ترى الحال بأم عينك.»
وانطلقت من لوكناو إلى كاونبور
Cawnpore
حيث لحق بي راجكومار شوكلا. فألح علي بقوله: «إن شامباران قريبة جدا من هنا، وأرجو أن تزورها يوما واحدا.» فأجبته متعهدا: «أرجو أن تعفيني هذه المرة، لكنني أعدك بأن آتي.»
عدت إلى مقر الجماعة، حيث وجدت راجكومار شوكلا الذي يطاردني في كل مكان أذهب إليه. فقال لي: «أرجوك أن تحدد يوم زيارتك لشامباران الآن.» فقلت له: «حسنا، يجب أن أكون في كلكتا في أيام كذا وكذا، يمكنك أن تأتي لمقابلتي وقتها وتصطحبني من هناك.» لم أكن وقتها أدري إلى أين سأذهب؟ وماذا سأفعل؟ وماذا سأرى؟
وقبل أن أذهب إلى مسكن السيد بهوبينبابو في كلكتا، كان راجكومار شوكلا قد سبقني واستقر هناك بالفعل. وهكذا، استطاع ذلك المزارع الأمي البسيط، الذي يتمتع بعزم ثابت، أن يحوز إعجابي.
وفي أوائل عام 1917م، رحلنا عن كلكتا متوجهين إلى شامباران ونحن نبدو كالقرويين. لم أكن أعرف حتى القطار الذي سنستقله، فأخذني هو إليه، وسافرنا معا حتى وصلنا إلى باتنا في الصباح.
كانت تلك هي زيارتي الأولى إلى باتنا، ولم يكن لدي هناك أي أصدقاء أو معارف يمكن أن أفكر في الإقامة لديهم. كنت أعتقد أن راجكومار شوكلا، الفلاح البسيط، يملك بعض النفوذ في باتنا. لقد تعرفت إليه بصورة أفضل في أثناء الرحلة، وعند وصولنا إلى باتنا كنت قد علمت كل شيء عنه. كان راجكومار شوكلا ساذجا تماما، فلم يكن المحامون الذين يحسبهم أصدقاءه في الحقيقة بأصدقائه، ولم يكن في نظرهم إلا خادما، فبين أولئك الموكلين من المزارعين وبين محاميهم فجوة تمتد باتساع نهر الجانج وقت الفيضان.
اصطحبني راجكومار شوكلا إلى مسكن السيد راجيندرا في باتنا، وكان السيد راجيندرا قد ذهب إلى مدينة بوري أو مكان آخر غاب عن خاطري الآن. كان في المنزل خادم أو خادمان لكنهما لم يعيرانا أي انتباه. كان معي من الطعام ما يكفيني، وكنت أرغب في تناول البلح فاشتراه لي رفيقي من السوق.
كان مبدأ النبذ يسود بيهار على نحو صارم، فلم يكن من الممكن أن أسحب الماء من البئر حين يستخدمه الخدم خشية أن تلوثهم قطرات الماء التي تتساقط من دلوي، حيث لم يكن الخدم يعلمون إلى أي طبقة أنتمي. أرشدني راجكومار إلى حمام المنزل الداخلي، لكن الخدم أسرعوا ودلوني على الحمام الموجود خارج المنزل. لم يفاجئني ذلك كله أو يغضبني فقد اعتدت مثل تلك الأمور. إن الخدم لم يفعلوا إلا ما اعتقدوا أن السيد راجيندرا يريدهم أن يقوموا به.
زادت تلك الخبرات المسلية من احترامي لراجكومار شوكلا، وساعدتني أيضا على معرفته أكثر. وأدركت حينها أنه لا يمكنني أن أترك راجكومار شوكلا يقودني، وأن علي أن أتولى زمام الأمور بنفسي.
هوامش
الفصل الثالث عشر
البيهاري النبيل
تعرفت إلى مولانا مظهر الحق في لندن عندما كان يدرس المحاماة. وقد جدد تلك المعرفة عندما قابلته في اجتماع الحزب في بومباي في 1915م - وهو العام الذي كان يترأس فيه الرابطة الإسلامية - ودعاني للإقامة لديه في أي وقت أكون فيه في باتنا. تذكرت تلك الدعوة، وأرسلت إليه لأخبره بالغرض من الزيارة. وعلى الفور أتى في عربته وألح علي في قبول ضيافته، فتوجهت إليه بالشكر، وطلبت منه أن يرشدني إلى وجهتي بواسطة أول قطار، فدليل السكك الحديدية لا ينفع الغرباء مثلي. تحدث مع راجكومار شوكلا، واقترح أن أتوجه إلى موزافاربور
Muzaffarpur
أولا. وكان هناك قطار متوجه إلى ذلك المكان في المساء، فودعني وأنا أستقله ورحل.
كان المدير كريبالاني وقتها في موزافاربور. وقد كنت أعرفه منذ زيارتي إلى حيدر أباد. فقد حدثني الدكتور تشويثرام عن تضحيته الجليلة وحياته البسيطة ومقر الإقامة الذي يديره الدكتور تشويثرام من أموال الأستاذ كريبالاني. لقد كان يعمل أستاذا في الكلية الحكومية، بموزافاربور، وكان قد استقال للتو من منصبه عندما وصلت إلى موزافاربور. كنت قد أرسلت إليه برقية لأعلمه بوصولي، فقابلني في المحطة وبصحبته مجموعة كبيرة من الطلبة مع أن القطار وصل في منتصف الليل. لم يكن الأستاذ كريبالاني يمتلك مسكنا خاصا به، وكان يعيش لدى الأستاذ مالكاني الذي أصبح مضيفي الفعلي. ولم تكن استضافة أستاذ حكومي لشخص مثلي أمرا معتادا في ذلك الوقت.
حدثني الأستاذ كريبالاني عن وضع بيهار البائس، ولا سيما إقليم تيرهوت. وأعطاني فكرة عامة عن مدى صعوبة مهمتي. لقد كان الأستاذ كريبالاني على علاقة وطيدة بأهل بيهار، وقد تحدث إليهم بالفعل عن المهمة التي أتيت من أجلها إلى بيهار.
وفي الصباح، زارتني مجموعة من المحامين. وأذكر من بينهم رامنافمي براساد، نظرا لإعجابي بجديته.
قال لي رامنافمي: «لا يمكنك إنجاز المهمة التي أتيت من أجلها إذا ما بقيت هنا (يقصد بذلك مسكن الأستاذ مالكاني)، يجب أن تأتي للعيش مع أحدنا. إن السيد جايا محام مشهور هنا، وقد أتيت نيابة عنه لأدعوك للإقامة في منزله. لن أخفي أننا جميعا نخشى الحكومة، لكن علينا أن نقدم لك كل ما في استطاعتنا من العون. إن أغلب الأمور التي أخبرك بها راجكومار شوكلا صحيحة، وللأسف لا يوجد أحد من زعمائنا هنا اليوم. على كل حال، لقد أرسلت برقية إلى كليهما: السيد براجكيشور براساد، والسيد راجيندرا براساد. وأتوقع وصولهما قريبا. ومن المؤكد أنهما سيتمكنان من تزويدك بجميع المعلومات التي تحتاجها، وسيساعدانك بصورة كبيرة. أرجو أن تأتي معي إلى منزل السيد جايا.»
لم أستطع أن أرفض مثل ذلك الطلب مع ترددي خوفا من إحراج السيد جايا، لكنه طمأنني. وهكذا ذهبت لأقيم في منزله، حيث غمرني وأهل بيته بفيض من الحب.
وصل السيد براجكيشور من داربهانجا والسيد راجيندرا من بوري. لكن السيد براجكيشور لم يكن حينها هو نفس الشخص الذي قابلته في لوكناو. فقد أذهلني هذه المرة بتواضعه وبساطته وطيبته وإيمانه الفائق، وهي السمة التي يتسم بها البيهاريون وأدخلت على قلبي السرور. وقد كان احترام المحامين البيهاريين له مفاجأة سارة لي.
وسرعان ما وجدت نفسي مرتبطا بتلك الدائرة من الأصدقاء بصداقة أبدية. أطلعني السيد براجكيشور على وقائع القضية، وكان قد اعتاد تولي قضايا المزارعين الفقراء. وكان هناك قضيتان معلقتان عند وصولي، وقد كان يفرح عندما يفوز بأي من تلك القضايا لشعوره بأنه يفعل شيئا من أجل أولئك الفقراء، ولم يكن ذلك بسبب عدم تقاضيه أتعابا من أولئك الفلاحين البسطاء. فالمحامون يؤمنون بأنه إذا لم يتقاضوا أتعابا من الموكلين فإنهم لن يجدوا المال اللازم للإنفاق على أسرهم، ولن يكونوا قادرين على تقديم مساعدة فعالة للفقراء. وقد أذهلتني مبالغ الأتعاب التي يتقاضونها ومستوى أتعاب محامي المرافعات في البنجال وبيهار.
فقد قال لي البعض: «نحن ندفع 10000 روبية لهذا المحامي وذاك؛ مقابل مشورتهم.» لم أسمع مبالغ تتكون من أقل من أربعة أرقام في أية قضية.
عاتبت الأصدقاء بلطف، وقد استمعوا لي ولم يسيئوا فهمي.
فقلت لهم: «بعد أن اطلعت على هذه القضايا، توصلت إلى أن علينا التوقف عن اللجوء إلى المحاكم، فذلك لا يعود علينا بكثير من النفع. فالمحاكم تكون عديمة الفائدة عندما يكون الفلاحون محطمين ومذعورين. إن المساعدة الحقيقية تكمن في تحريرهم من الخوف. يجب ألا يغمض لنا جفن حتى نخلص بيهار من نظام التينكاثيا. كنت أظن أنني سأتمكن من الرحيل في غضون يومين، لكنني أدركت الآن أن العمل هنا قد يستغرق سنتين، وأنا على استعداد للتضحية بذلك الوقت إذا لزم الأمر. أنا الآن أشعر بالدافع، لكنني أحتاج إلى مساعدتكم.»
وجدت السيد براجكيشور هادئا للغاية. فقال لي بهدوء: «سنقدم لك كل ما في استطاعتنا من عون، لكن نرجو أن تخبرنا بنوع المساعدة التي ستحتاجها.»
وأخذنا نتحدث على هذا المنوال حتى منتصف الليل.
قلت لهم: «لن أحتاج كثيرا إلى خبرتكم القانونية، بل سأحتاج إلى مساعدة في الأعمال المكتبية والترجمة. وقد لا يكون هناك مفر من دخول السجن، لكن بقدر حبي لقبولكم لتلك المخاطرة، لكم الحق في العمل إلى المدى الذي تستطيعون تحمله، فحتى تخليكم عن مهنتكم لمدة غير معلومة وعملكم بالأعمال المكتبية ليس بالأمر الهين. وأجد صعوبة في فهم اللهجة الهندية المحلية، ولن أتمكن من قراءة الوثائق المكتوبة بحروف كايثي
1
أو اللغة الأردية، وسأطلب منكم أن تترجموها لي، ولن نستطيع أن ندفع مقابلا لذلك العمل. فيجب أن يؤدى بدافع الحب وروح الخدمة.»
استوعب السيد براجكيشور كلامي على الفور، وبدأ يوجه لي الأسئلة هو ورفاقه الواحد تلو الآخر. وقد حاول التحقق من المعاني المتضمنة في كل ما ذكرت، كالمدة التي سأحتاج أثناءها إلى خدماتهم، وعدد الأشخاص الذين سأكون في حاجة إليهم، وإذا ما كان من الممكن أن يتناوبوا في الخدمة، وغير ذلك من الأمور. ثم سأل المحامين عن مدى قدرتهم على التضحية.
وأخيرا، أعطوني ذلك التأكيد: «سيفعل عدد منا كل ما تطلبه منهم. وسيكون بعضنا معك للمدة التي تحتاجها. لكن فكرة دخول السجن أمر جديد علينا، إلا أننا سنحاول التأقلم معه.»
هوامش
الفصل الرابع عشر
مع الأهيمسا وجها لوجه
كان هدفي دراسة وضع الزراع بشامباران، وفهم شكواهم ضد أصحاب مزارع النيلة، ولتحقيق تلك الغاية، كان علي مقابلة آلاف الفلاحين، لكنني اعتبرت أنه من الضروري أن أعرف رأي أصحاب المزارع في القضية وأن أرى مفوض الإقليم قبل أن أبدأ في التحقيق في الوضع، فطلبت مقابلة كل من أصحاب المزارع والمفوض، وبالفعل قابلتهم.
أخبرني أمين سر جمعية أصحاب المزارع
أنني دخيل، ولا يحق لي التدخل بين أصحاب المزارع والمستأجرين، لكن مع ذلك يمكنني تقديم أي شكوى لدي كتابيا. فأخبرته بلطف أنني لا أعتبر نفسي دخيلا، وأن من حقي الاستعلام عن حالة المستأجرين إذا ما أرادوا مني ذلك.
أخذ المفوض يتنمر علي عندما قمت بزيارته، ونصحني بالرحيل حالا عن تيرهوت.
أطلعت رفقائي على كل ما حدث، وأخبرتهم بأن هناك احتمالا قويا أن تعوقني الحكومة عن المضي قدما في مهمتي، وأنه قد يزج بي في السجن في وقت سابق لما توقعته. وأخبرتهم أن من الأفضل أن أعتقل في موتيهاري أو بيتياه
Bettiah
إن أمكن، ومن ثم كان يستحسن أن أتوجه إلى تلك الأماكن في أسرع وقت ممكن.
كانت شامباران مقاطعة تابعة لإقليم تيرهوت، وكانت موتيهاري مركزها الرئيسي. كان منزل راجكومار شوكلا يقع بالقرب من بيتياه، وفي الجوار كان الفلاحون المنتمون إلى منطقة كوثي هم الأفقر في المقاطعة. أراد راجكومار شوكلا أن أقابلهم، ولم تكن حماستي لرؤيتهم تقل عن حماسته.
وهكذا انطلقت ورفاقي إلى موتيهاري في نفس اليوم. استضافنا السيد جوراخ براساد في منزله الذي أصبح نزلا للإقامة. وقد كان المنزل بالكاد يسعنا جميعا. وفي ذات اليوم علمنا أن أحد الفلاحين على بعد خمسة أميال من موتيهاري قد تعرض للإساءة، وقد تقرر أن أذهب بصحبة السيد دارانيدار براساد لرؤيته في صباح اليوم التالي. وعليه توجهنا إلى المكان المنشود على ظهر أحد الفيلة. والشيء بالشيء يذكر، كان استخدام الفيلة شائعا في شامباران شيوع العربات في جوجرات. لم نكد نتخطى منتصف الطريق حتى لحق بنا مبعوث من قائد الشرطة وأخبرنا بأنه يرسل إلينا تحياته. وقد أدركت معنى الرسالة. تركت السيد دارانيدار لكي ينطلق إلى وجهته الأصلية، وركبت العربة التي أحضرها مبعوث قائد الشرطة، فسلمني حينها أمرا يقضي برحيلي عن شامباران، وأوصلني إلى وجهتي. وعندما طلب مني الإقرار بتسلم الأمر، كتبت ما يفيد بأنني لا أعتزم الاستجابة للأمر وترك شامباران حتى أنتهي من استقصاء الأوضاع هناك. وعليه تسلمت مذكرة استدعاء لمحاكمتي في اليوم التالي لمخالفتي للأمر.
ظللت مستيقظا طوال الليل أكتب الخطابات وأملي التعليمات اللازمة للسيد براجكيشور براساد.
انتشرت أخبار الأمر والاستدعاء كانتشار النار في الهشيم، وقيل لي إن موتيهاري قد شهدت في ذلك اليوم أحداثا لم تشهدها من قبل، فقد عج منزل السيد جوراخ والمحكمة بالناس. لحسن الحظ كنت قد انتهيت من عملي في الليل، لذلك كنت قادرا على التعامل مع الحشود، وقد كان رفقائي نعم العون، فعملوا على تنظيم الحشود الغفيرة التي كانت تتبعني حيثما ذهبت.
نشأ بيني وبين المسئولين - ممثل الهيئة الإدارية والقاضي وقائد الشرطة - نوع من المودة. كان يمكنني أن أعترض على الأوامر التي تلقيتها بصورة قانونية، لكن بدلا من ذلك، قبلتها جميعا، وعاملت المسئولين بصورة لائقة. فعلموا بذلك أنني لم أرد الإساءة إليهم بصورة شخصية، بل كنت أريد أن أقدم مقاومة مدنية ضد أوامرهم. هكذا اطمأن المسئولون، وبدلا من مضايقتي، انتفعوا بتعاوني أنا ورفقائي في تنظيم الحشود. لكن ذلك كان برهانا جليا على أن سلطتهم قد تزعزعت. تخلص الناس ساعتها من الخوف من العقاب وخضعوا لقوة الحب الذي أظهره صديقهم الجديد.
ويجب أن يتذكر القارئ أنه لم يكن هناك من يعرفني في شامباران، فقد كان جميع الفلاحين جهلاء. وكانت شامباران معزولة عن باقي أجزاء الهند نتيجة لموقعها الجغرافي في أقصى شمال نهر الجانج ومباشرة أسفل سلسلة جبال الهيمالايا قرب نيبال. ولم يكن حزب المؤتمر معروفا تقريبا في تلك الأجزاء من البلاد. وحتى من سمعوا عن الحزب خشوا من الانضمام إليه أو حتى ذكر اسمه. والآن دخل حزب المؤتمر وأعضاؤه تلك الأرض بوجود حقيقي، وإن لم يكن تحت اسم الحزب.
قررت بعد استشارة رفاقي ألا نقوم بأي عمل تحت اسم الحزب. لقد أردنا العمل من أجل العمل وليس من أجل السمعة، والجوهر وليس الشكل. وقد كانت الحكومة والمتحكمين فيها - أصحاب المزارع - يبغضون اسم الحزب بشدة. لقد كان الحزب في نظرهم نموذجا يمثل نزاعات المحامين، والتهرب من القانون من خلال ثغراته، والقنابل وجرائم الفوضى، والدبلوماسية والنفاق. ولذلك كان علينا أن نصحح صورتنا لدى كل من الحكومة وأصحاب المزارع، وبناء عليه، قررنا ألا نذكر اسم الحزب وألا نخبر الفلاحين به. فلقد رأينا أن إدراكهم لروح الحزب واتباعهم لها أهم من اسم الحزب.
ونتيجة لذلك لم نرسل أي مبعوثين، سواء علانية أو خفية، بالنيابة عن الحزب للإعداد لوصولنا. كان راجكومار شوكلا عاجزا عن الوصول إلى الآلاف من الفلاحين؛ فهم لم يشهدوا أي عمل سياسي بينهم من قبل، ولم يكونوا على دراية بما يجري في العالم خارج شامباران. ومع ذلك كله، استقبلوني وكأننا أصدقاء قدامى. لا أكون مبالغا حين أقول إنني في الاجتماع مع الفلاحين كنت أواجه الإله والأهيمسا والحق، بل هي الحقيقة بكل موضوعية.
وعندما بحثت في سبب وصولي لذلك الإدراك، لم أجد إلا حبي للناس. ولم يكن هذا بدوره إلا تعبيرا عن إيماني الراسخ بالأهيمسا.
لقد كان ذلك اليوم في شامباران من الأيام التي لا تنسى في حياتي، وكان يوما سعيدا لي وللفلاحين.
من الناحية القانونية، كان من المفترض أن أخضع للمحاكمة، لكن في الواقع كانت الحكومة هي التي تخضع للمحاكمة. وهكذا نجح المفوض في إيقاع الحكومة في الفخ الذي كان قد نصبه لي.
الفصل الخامس عشر
إسقاط الدعوى
بدأت المحاكمة. كان ممثل الادعاء والقاضي وغيرهم من المسئولين قلقين وفي حيرة من أمرهم. وكان ممثل الادعاء يلح على القاضي كي يؤجل نظر القضية، لكنني تدخلت وطلبت منه عدم تأجيل القضية نظرا لرغبتي في الاعتراف بمخالفة أمر الرحيل عن شامباران، وقرأت البيان الموجز الآتي:
أرجو من عدالة المحكمة الإذن لي بأن أدلي ببيان موجز يعرض أسباب إقدامي على خطوة خطيرة مثل مخالفة الأمر الذي صدر طبقا للمادة 144 من قانون الإجراءات الجنائية. وفي رأيي المتواضع، أجد أن ما حدث لم يكن إلا اختلافا في وجهات النظر بيني وبين الإدارة المحلية. لقد أتيت إلى البلاد بدافع تقديم خدمات إنسانية ووطنية. وما فعلته عن أمري، بل استجابة لدعوة ملحة لكي آتي وأساعد المزارعين، الذين يشكون من سوء معاملة أصحاب مزارع النيلة لهم. ولم أكن لأستطيع تقديم أي مساعدة دون دراسة المشكلة. ولذلك أتيت لدراسة المشكلة بمساعدة الإدارة وأصحاب المزارع، إن أمكن ذلك. وأنا في ذلك لا يحركني أي دافع آخر، ولا أصدق أن حضوري يمكن أن يخل بالنظام العام ويسبب خسائر في الأرواح؛ فأنا أمتلك خبرة واسعة في مثل هذه الأمور، لكن الإدارة مع ذلك فكرت بطريقة مختلفة. أنا أقدر المشكلة التي تواجهها الإدارة، وأعترف أيضا بأنها لا تستطيع إقامة دعوى إلا بناء على المعلومات التي تتلقاها. وبما أنني مواطن يلتزم بالقانون، تدعوني فطرتي إلى الامتثال إلى الأمر الذي تلقيته. لكن ذلك كان سيخل بإحساسي بالواجب تجاه من أتيت من أجلهم ، فلا يمكنني أن أخدمهم الآن إلا عن طريق بقائي بينهم. ولذلك لم أستطع أن أتراجع طواعية. ولم أستطع في خضم تلك الصراعات إلا أن ألقي بمسئولية إبعادي عنهم على عاتق الإدارة. أنا على دراية كاملة بأن الشخص الذي يحتل مكانة في الحياة العامة الهندية مثلي، يجب أن يكون حريصا على إعطاء المثال الجيد للآخرين. لدي اعتقاد راسخ أنه في ظل النظام المعقد الذي نحيا فيه، يكون التصرف الآمن والمشرف الوحيد لشخص يحترم ذاته، عندما يتعرض لظروف مماثلة لتلك التي أواجهها؛ هو أن يحذو حذوي بأن يخضع دون اعتراض لعقوبة العصيان.
ليس هدفي من إلقاء هذا البيان تخفيف عقوبتي، بل توضيح حقيقة أن مخالفتي للأمر لم تكن بسبب عدم احترامي للسلطة الشرعية، وإنما نتيجة لانصياعي للقانون الأسمى الذي يحكمنا نحن البشر، ألا وهو صوت الضمير.
لم يصبح هناك أي سبب لتأجيل القضية الآن، لكن كلا من القاضي وممثل الادعاء فوجئا بموقفي، فأمر القاضي بتأجيل النطق بالحكم. وفي غضون ذلك أرسلت تفاصيل ما حدث كاملة إلى الحاكم البريطاني والأصدقاء في باتنا والسيد مدان موهان مالافيا، وغيرهم.
وقبل أن أمثل أمام المحكمة لسماع الحكم، أرسل القاضي رسالة خطية تفيد أمر نائب الحاكم بإسقاط التهمة الموجهة ضدي. وكتب لي ممثل الهيئة الإدارية يخبرني بأن لي مطلق الحرية في استكمال التحقيق الذي أعتزم إجراءه وأنه يمكنني طلب أي مساعدة من المسئولين. كانت تلك النتيجة السريعة والسعيدة مفاجأة لم يتوقعها أي منا.
توجهت لزيارة مسئول الهيئة الإدارية، السيد هيكوك، الذي بدا لي رجلا صالحا ونصيرا للعدالة. وقد أخبرني بأنني أستطيع الاطلاع على أي وثائق أريدها، وأنه يمكنني مقابلته متى شئت.
وهكذا شهدت البلاد أول نموذج عملي مباشر في «العصيان المدني». تم تناول الأمر بحرية على المستوى المحلي وفي الصحافة، وحصل التحقيق على دعاية غير متوقعة.
كان من الضروري لنجاح التحقيق أن تظل الحكومة محايدة، لكنه لم يكن في حاجة إلى دعم المراسلين الصحفيين أو كتابة مقالات افتتاحية في الصحف. وفي الواقع، كان الوضع في شامباران حساسا وصعبا للغاية، حتى إن النقد الحماسي المبالغ فيه أو التقارير العرقية قد تتسبب بلا شك في تدمير قضيتي. بناء على ذلك، بعثت برسائل إلى رؤساء تحرير الصحف الرئيسية أطلب منهم فيها ألا يرسلوا أي مراسلين لأنني سوف أرسل إليهم كل الموضوعات التي تحتاج للنشر وسأبقيهم على علم بتطورات الأحداث.
كنت أعلم أن إقرار الحكومة لوجودي في شامباران قد أثار استياء أصحاب المزارع، وكنت أعلم أن المسئولين أيضا لم يرقهم وجودي، مع عدم قدرتهم على التصريح بذلك علانية. لذلك كان يمكن لأية تقارير خاطئة أو مضللة أن تزيد من سخطهم جميعا. وحينها سيصبون جم غضبهم على الفلاحين المساكين والمذعورين بدلا من أن يصبوه علي، وهو ما سيعيق بحثي عن حقيقة القضية.
ومع كل هذه التدابير الوقائية، أثار أصحاب المزارع ضدي حملة عدائية، فنشرت الصحف جميع أنواع الأكاذيب عني وعن رفقائي. لكن حرصي الشديد وإصراري على الحقيقة، حتى فيما يتعلق بأدق التفاصيل، جعلا السيف الذي وضعوه على رقبتي يرتد على رقابهم.
لم يترك أصحاب المزارع سبيلا للقدح في السيد براجكيشور إلا وسلكوه، لكن كانوا كلما قدحوا فيه زاد احترام العامة له.
رأيت أنه من غير اللائق أن أرسل في طلب الزعماء من الأقاليم الأخرى في ظل ذلك الوضع الحساس. وكان السيد مالفيا قد أرسل لي يخبرني أنه يمكنني أن أرسل في طلبه وقتما شئت، لكنني لم أرد أن أزعجه. وهكذا حلت دون إضفاء الصبغة السياسية على الصراع. ومع ذلك كنت أحيانا أرسل تقارير إلى الزعماء والصحف الرئيسية، ليس بغرض نشرها وإنما لمجرد إطلاعهم على مجريات الأحداث. وجدت أنه حتى عندما تكون الغاية سياسية والقضية غير سياسية، فإن الإنسان يضر بها عندما يضفي عليها الصبغة السياسية ولكنه يدعمها عندما يحافظ عليها ضمن نطاق غير سياسي. كان الصراع في شامباران دليلا على أن الخدمة المجردة من المصالح الشخصية في أي مكان في العالم تساعد الدولة سياسيا في النهاية.
الفصل السادس عشر
أساليب العمل
كي أتحدث عن التحقيق بالتفصيل، يجب أن أذكر تاريخ مزارعي شامباران في تلك المرحلة، وهو ما لا مجال له في هذه الفصول. كان تحقيق شامباران تجربة جريئة مع الحقيقة والأهيمسا، وسوف أذكر من وقت إلى آخر الأحداث التي تستحق الذكر في هذا السياق. وللاطلاع على المزيد من التفاصيل، أرجو من القارئ قراءة كتاب السيد راجيندرا براساد عن تاريخ الساتياجراها في شامباران باللغة الهندية، الذي يتوافر منه الآن نسخة باللغة الإنجليزية.
1
والآن نعود إلى موضوع هذا الفصل. لم يكن من الممكن إجراء التحقيق في منزل السيد جوراخ دون أن أطلب منه إخلاءه تقريبا. ولم يكن الموتيهاريون قد تخلصوا من خوفهم إلى درجة تأجير منزل خاص لنا. على كل حال، استطاع السيد براجكيشور أن يجد لنا منزلا تحيط به مساحات مفتوحة، فانتقلنا إليه.
كان من المستحيل تأدية العمل دون توافر الأموال. ولم يكن شائعا حتى ذلك الوقت طلب الأموال من العامة من أجل القيام بهذا النوع من الأعمال. كان السيد براجكيشور وأصدقاؤه مجموعة من المحامين الذين يسهمون بأموالهم الخاصة أو يحصلون عليها من الأصدقاء متى كانت هناك فرصة لذلك. فكيف كان من الممكن أن يطلبوا المال من العامة في حين يستطيعون هم ونظراؤهم توفيره؟ يبدو أن هذه هي الحجة التي كانوا يستندون إليها. فقررت ألا أقبل أي أموال من مزارعي شامباران، حتى لا يساء فهم مثل ذلك العمل. وقررت ألا أطلب من الدولة بصورة عامة أي أموال من أجل إجراء التحقيق، وهو الأمر الذي كان من الممكن أن يفسر على أنه خاص بجميع ولايات الهند وأن يضفي على التحقيق صبغة سياسية. عرض الأصدقاء من بومباي تقديم مبلغ 15000 روبية، لكنني شكرتهم ورفضت المبلغ. لقد قررت أن أحصل على أكبر حجم ممكن من الأموال من البيهاريين الأغنياء المقيمين في خارج شامباران بمساعدة براجكيشور، وأن ألجأ إلى صديقي الطبيب ميهتا من رانجون إذا ما احتجنا إلى أموال إضافية. وقد وافق الطبيب ميهتا بسرور على توفير أي مبالغ قد نحتاجها. وهكذا تخلصنا من أي قلق بشأن توفير الأموال. كنا لن نحتاج على الأرجح إلى مبالغ ضخمة حيث كنا مقيدين بترشيد النفقات تمشيا مع الفقر الذي يسود شامباران. وبالفعل أثبتت التجربة في النهاية أننا لم نكن في حاجة إلى أي مبالغ كبيرة. أعتقد أن إجمالي النفقات لم يتجاوز الثلاث آلاف روبية، وأذكر أننا استطعنا توفير بضع مئات من الروبيات من الأموال التي كنا قد جمعناها.
كانت أساليب معيشة رفقائي محل سخرية دائمة أثناء الأيام الأولى. كان لكل محام خادم وطباخ خاص، ومن ثم مطبخ خاص به، وكانوا عادة يتناولون عشاءهم عند منتصف الليل. ومع أنهم كانوا يتحملون نفقاتهم الخاصة، كان سلوكهم هذا يقلقني. لكن صداقتي بهم حالت دون وقوع أي سوء فهم بيننا، وبالفعل تقبلوا نقدي بصدر رحب. وأخيرا اتفقنا على الاستغناء عن الخدم وتوحيد المطابخ والالتزام بساعات محددة لتناول الطعام. وتقرر إنشاء مطعم نباتي مشترك نظرا لأننا لم نكن جميعا نباتيين وكانت تكلفة إنشاء مطبخين باهظة. وشعرنا بضرورة الإصرار على تناول الوجبات اليسيرة.
استطعنا عن طريق تلك التدابير خفض النفقات بصورة كبيرة، واستطعنا أن نوفر الكثير من الوقت والطاقة وهما العاملان اللذان كنا في حاجة ماسة إليهما. جاءت حشود من الفلاحين للإدلاء بإفاداتهم، وتبعهم حشد من الرفقاء الذين ملئوا المنزل والحديقة عن آخرها. وكثيرا ما كانت محاولات رفقائي للحيلولة بيني وبين من يرغبون في رؤيتي تبوء بالفشل، وكان علي أن أظهر للناس في أوقات محددة. كنا في حاجة إلى خمسة أو سبعة متطوعين على الأقل من أجل تدوين إفاداتهم، وحتى مع ذلك العدد كان هناك من الناس من يعودون إلى منازلهم في المساء دون أن يتمكنوا من الإدلاء بإفاداتهم. ولم تكن جميع تلك الإفادات مهمة، فقد كان الكثير منها مكررا لكننا كنا مضطرين لأخذها حتى نرضي الناس، فقد احترمت شعورهم نحو القضية.
كان على من يدونون الإفادات أن يلتزموا بعدد من القواعد. فقد كانوا يستجوبون كل مزارع بدقة، ويرفضون من يفشل في الإجابة على أسئلتهم. كان ذلك يستغرق وقتا أطول، لكنه جعل أكثر الإفادات مؤكدة.
وكانت تلك الإفادات دائما ما تسجل في حضور ضابط من إدارة التحقيقات الجنائية. كان يمكننا أن نمنع الضابط من الحضور، لكننا قررنا منذ البداية ألا نمانع في حضور ضباط دائرة التحقيقات الجنائية، ليس ذلك فحسب بل قررنا أن نعاملهم بلياقة وأن نزودهم بجميع المعلومات التي يمكن أن نطلعهم عليها، فلم يكن ذلك ليسبب لنا أي ضرر. وعلى العكس تماما، أدى حضور ضباط إدارة التحقيقات إلى شعور الفلاحين بمزيد من الطمأنينة. وفي حين كان حضور الضباط يزيل شعور الفلاحين بالخوف، كان من ناحية أخرى يمثل قيدا طبيعيا على وقوع أي أفعال أو أقوال مبالغ فيها. لقد كانت مهمة أصدقائنا من إدارة التحقيقات الجنائية أن يوقعوا بالناس، الأمر الذي جعل الفلاحين يتوخون الحذر.
ونظرا لعدم رغبتي في إثارة أصحاب المزارع ورغبتي في الوصول إلى اتفاق معهم عن طريق اللجوء إلى الكياسة، أصررت على أن أكتب رسائل إلى أصحاب المزارع الذين وجهت ضدهم ادعاءات خطيرة وأن أقابلهم. وقابلت المسئولين بجمعية أصحاب المزارع، وقدمت إليهم شكاوى المزارعين، وتعرفت على وجهة نظرهم. وقد كرهني بعضهم، في حين لم يبال بي البعض الآخر، وتعامل القليل منهم معي بلياقة.
هوامش
الفصل السابع عشر
الرفقاء
كان السيدان براجكيشور وراجيندرا رفيقين منقطعي النظير. وقد دفعني إخلاصهما إلى عدم الإقدام على أي خطوة دون دعمهما. وكانا أتباعهما أو رفقاؤهما - شامبو وأنوجراه وداراني ورامنافمي وغيرهم من المحامين - بجانبنا دائما. وكان كل من فينديا وجاناكداري يأتيان لمساعدتنا من حين إلى آخر. وقد كان أولئك الرفقاء جميعا من بيهار. وكانت مهمتهم الأساسية تدوين إفادات المزارعين.
ولم يكن أمام الأستاذ كريبالاني إلا أن يشارك معنا. ومع أنه كان ينتمي إلى السند، فإنه كان يتسم بروح البيهاريين أكثر من أبناء بيهار أنفسهم. لقد رأيت القليل فقط من الزملاء الذين استطاعوا الاندماج في الإقليم الذي يختارون الحياة فيه، وكان كريبالاني أحد أولئك الزملاء. فقد جعل من المستحيل على أي شخص أن يشعر بأنه ينتمي لإقليم آخر، وكان حارسي الرئيسي، حتى إنه جعل هدفه الرئيسي في الحياة في ذلك الوقت أن يحميني ممن يسعون لرؤيتي. كان كريبالاني يرد الناس عني تارة بخفة ظله التي لا تنضب، وباللجوء إلى التهديدات غير العنيفة تارة أخرى. وعندما يحل المغيب، كان يعود إلى مهنته كمدرس ويمتع رفقاءه بالحديث عن دراسات وتعليقات تاريخية ويبعث روح الشجاعة في أي زائر يتسم بالجبن.
سجل مولانا مظهر الحق اسمه في القائمة الدائمة للمتطوعين الذين يمكنني الاعتماد عليهم متى دعت الحاجة، وواصل زيارتنا مرة أو مرتين شهريا. لقد كانت العظمة والفخامة التي كان يعيش فيها حينها مختلفة كليا عن الحياة البسيطة التي يعيشها الآن. وقد جعلتنا الطريقة التي اندمج بها معنا نشعر بأنه واحد منا مع أن ملابسه الأنيقة كانت تعطي انطباعا مختلفا للغرباء.
وبعد أن أصبحت على دراية أكبر ببيهار، رأيت أنه من المستحيل القيام بعمل دائم في الإقليم دون تعليم الفلاحين، فقد كان جهل المزارعين أمرا محزنا. فكان المزارعون إما أن يسمحوا لأطفالهم بالتجول حول مزارع النيلة أو العمل بكد في تلك المزارع من طلوع الشمس حتى غروبها مقابل قطعتي نقود نحاسية في اليوم. كانت أجور الذكور في تلك الأيام لا تتجاوز العشرة بايس، في حين لم تتجاوز أجور الإناث ستة بايس، والأطفال ثلاثة بايس. وكان من يكسب أربع آنات في اليوم يعتبر سعيد الحظ.
قررت بعد مشورة رفقائي أن ننشئ مدرسة ابتدائية في ست قرى. وقد كان من ضمن شروطنا أن يوفر أهل القرية المسكن والمأكل للمدرسين، في حين نتكفل نحن بباقي النفقات. كان أهل القرى لا يملكون إلا المال اليسير، لكنهم استطاعوا توفير الطعام. وبالطبع، عبروا عن استعدادهم للإسهام بالحبوب وغيرها من المواد الأولية.
وكان توفير المدرسين من المشاكل العويصة التي واجهتنا، فكان من الصعب إيجاد مدرسين محليين للعمل مقابل أجر زهيد أو دون مقابل. كنت أرى أنه لا يجب أن نعهد بالأطفال إلى مدرسين متوسطي المستوى مطلقا. وكان المستوى الأخلاقي للمدرسين أهم من مستواهم العلمي.
أصدرت مناشدة عامة لطلب مدرسين متطوعين، وقد لاقت تلك المناشدة استجابة سريعة. فأرسل السير جانجادارو ديشباندي كلا من باباساهيب سومان وبونداليك. وحضرت السيدة أفانتيكاباي جوخلي من بومباي والسيدة أنانديباي فايشامبايان من بونا. وأرسلت إلى الجماعة لإرسال شوتالال وسوريندراناث وولدي ديفداس. وفي نفس الوقت تقريبا، انضم إلينا ماهديف ديساي وناراهاري باريخ وزوجاتهما. واستدعيت كاستوربا للمساعدة في العمل. كان ذلك الفريق قويا حقا. كانت السيدة أفانتيكاباي والسيدة أنانديباي على مستوى كاف من التعليم، لكن السيدتين دورجا ديساي ومانيبين باريخ لم يكن لديهما إلا مجرد معرفة باللغة الجوجراتية. أما كاستوربا فلم تكن تعرف حتى اللغة الجوجراتية. فكيف كان لأولئك السيدات التدريس للأطفال باللغة الهندية؟
شرحت للسيدات أنه ليس عليهن تعليم الأطفال قواعد اللغة والقراءة والكتابة وعلم الحساب، بقدر تعليمهم النظافة والأخلاق الحميدة. وأوضحت لهم عدم وجود اختلاف كبير بين حروف اللغات الجوجراتية والهندية والماراثية كما كن يتوقعن، وأن تعليم الحروف الهجائية والأرقام في الفصول الابتدائية لا يمثل أي صعوبة؛ ونتيجة لذلك، كانت الفصول التي تولتها تلك السيدات من أنجح الفصول، وقد زودتهم تلك التجربة بالثقة والرغبة في العمل. كانت السيدة أفانتيكاباي مدرسة مثالية، فقد كرست نفسها وروحها للعمل، واستخدمت مواهبها الفائقة من أجله. وقد استطعنا بواسطة أولئك السيدات الوصول إلى النساء القرويات بدرجة ما.
لكنني لم أرغب في التوقف عند حد توفير التعليم الابتدائي. فقد كانت القرى غير صحية، حيث كانت الطرق مليئة بالقاذورات والآبار محاطة بالطين والرائحة السيئة وكانت الأفنية قذرة بدرجة لا يمكن تحملها. وكان كبار السن في حاجة ماسة إلى توعيتهم بشأن النظافة، وقد كانوا جميعا يعانون أمراضا جلدية شتى؛ لذا قررنا القيام بأكبر قدر ممكن من العمل الصحي والتوغل في كل جانب من جوانب حياتهم.
كنا في حاجة إلى أطباء للقيام بتلك المهمة؛ فطلبت من جمعية خدمة الهند أن يرسلوا إلينا الطبيب الراحل ديف. وكانت تربطني بالطبيب ديف صداقة حميمة، فوافق بسرور على تقديم خدماته لمدة ستة أشهر. وكان المدرسون، رجالا ونساء، يعملون تحت إدارته.
وقد تلقوا تعليمات واضحة بألا يشغلوا بالهم بالشكاوى ضد أصحاب المزارع أو السياسة. وكل من لديه شكوى كان يحيلها لي، فلا أحد يغامر من تلقاء نفسه. والتزم الأصدقاء بتلك التعليمات بأمانة رائعة ، حتى إنني لا تحضرني أي واقعة حدث فيها مخالفة تلك التعليمات.
الفصل الثامن عشر
التوغل في القرى
عهدنا بإدارة كل مدرسة، قدر المستطاع، إلى رجل واحد وامرأة واحدة. فكان على المتطوعين الاعتناء بالإسعافات الطبية والصحة العامة، وكان النساء يتعاملن مع النساء أمثالهن.
كانت مسألة الإسعافات الطبية أمرا يسيرا. فقد كانت الأدوية التي نزود بها المتطوعين لا تزيد على زيت الخروع والكينين ومرهم الكبريت. وكان المريض يتناول زيت الخروع إذا كان مصابا بلسان فرائي أو اشتكى من الإمساك. أما في حالة الإصابة بالحمى، فكان يتناول الكينين بعد تناول جرعة من زيت الخروع. أما مرهم الكبريت فكان يستعمل في حالات البثور والحكة الجلدية بعد غسيل الأجزاء المصابة كليا. ولم يكن يسمح للمرضى بأخذ الأدوية إلى المنزل. وعند وجود أي حالات مستعصية، كنا نستشير الطبيب ديف الذي اعتاد زيارة كل مركز في أيام محددة من الأسبوع.
وقد استفاد عدد كبير من الناس من تلك الإسعافات البسيطة. ولن يستغرب القارئ خطة العمل تلك إذا ما تذكر أن الأمراض المنتشرة في ذلك الوقت كانت قليلة وتحتاج إلى معالجة بسيطة دون حاجة إلى مساعدة المتخصصين. وقد أوفت الترتيبات التي اتخذناها باحتياجات الناس بصورة كبيرة.
أما المشاكل الصحية فقد كانت معالجتها صعبة. فلم يكن الناس مستعدين للقيام بأي عمل بأنفسهم. حتى العاملون بالحقول لم يكونوا مستعدين لإزالة القاذورات الخاصة بهم، لكن الطبيب ديف لم يكن سريع الاستسلام. فقد ركز هو والمتطوعون معه على تنظيف القرية بصورة مثالية. فقاموا بكنس الطرق والأفنية، وتنظيف الآبار، وملء الأحواض المحيطة، وأقنعوا أهل القرية بلطف بتقديم متطوعين من بينهم. وقد أجبروا الناس في بعض القرى على العمل بدافع الشعور بالخزي، في حين كان الناس في بعض القرى الأخرى مليئين بالحماسة حتى إنهم مهدوا الطرق لتسهيل تنقلي من مكان إلى آخر. ولم تخل تلك التجارب الرائعة من بعض التجارب المرة التي تملكت فيها الناس اللامبالاة، وأذكر أن من القرويين من عبر صراحة عن عدم استحسانه لذلك العمل.
وأعتقد أنني لن أخرج عن الموضوع إذا ذكرت تجربة سبق ووصفتها من قبل في الكثير من اللقاءات. كانت إحدى المدارس التي أنشأناها تقع في قرية صغيرة تحمل اسم بيتيهارفا
Bhitiharva . وبالصدفة كنت في زيارة إحدى القرى الأصغر منها في المنطقة المجاورة لها، فوجدت بعض النساء يرتدين ملابس شديدة الاتساخ، فطلبت من زوجتي أن تسألهن عن السبب الذي منعهن من غسيل ملابسهن. تحدثت زوجتي إلى النساء، فأخذتها إحداهن إلى كوخها وقالت: «أرأيت؟ لا يوجد هاهنا صندوق أو خزانة تحتوي على أي ملابس أخرى. إن الساري الذي أرتديه هو الرداء الوحيد الذي أملكه، فكيف لي أن أغسله؟ أخبري المهاتما أن يحضر لي ساريا آخر ويمكنني عندها أن أعدك بالاستحمام وارتداء ملابس نظيفة كل يوم.»
لم يكن ما يعانيه أهل ذلك الكوخ أمرا استثنائيا، فكنا نجد مثل تلك المعاناة في العديد من القرى الهندية. ويعيش الناس في الكثير من الأكواخ في الهند دون ي أثاث ودون أن يغيروا ثيابهم، ولا يملكون إلا مجرد خرقة لستر عوراتهم.
هناك تجربة أخرى أريد أن أذكرها. كان الخيزران والعشب متوافرين في شامباران، وكانت المدرسة الموجودة في بيتيهارفا مصنوعة من هذين العنصرين، فأشعل شخص ما - ربما يكون من رجال أحد أصحاب المزارع المحيطة - النار فيها في إحدى الليالي. ولم يكن من الحكمة بناء المدرسة من العشب والخيزران مرة أخرى. وكان السيد سومان وكاستوربا هما المسئولين عن المدرسة، فقرر السيد سومان تشييد مبنى جيد، وبفضل عمله المؤثر، تعاون معه الكثيرون، وسرعان ما أصبح المبنى المصنوع من الطوب جاهزا. وهكذا زالت المخاوف المتعلقة باشتعال المبنى مرة ثانية.
وهكذا اكتسب المتطوعون عن طريق المدارس التي شيدوها والعمل الصحي والإسعافات الطبية ثقة أهل القرية واحترامهم. واستطاعوا أن يؤثروا فيهم بصورة إيجابية.
لكن يجب أن أعترف بأن أملي في أن أضع أساسا دائما لذلك العمل البناء لم يتحقق. فقد مكث المتطوعون مدة مؤقتة، ولم أستطع توفير أي متطوعين آخرين من الخارج. وكان العاملون الدائمون الذين يعملون مجانا من بيهار غير متاحين. وفور انتهاء عملي في شامباران، اجتذبني العمل الذي كان يعد له في تلك الفترة إلى خارج الإقليم. على أي حال، كانت الأشهر القليلة التي أمضيناها في العمل في شامباران ذات أثر عميق، بحيث يمكن رؤية أثرها بصورة أو بأخرى حتى الآن.
الفصل التاسع عشر
عندما يكون الحاكم عادلا
في الوقت الذي كنا ننفذ فيه عمل الخدمة الاجتماعية الذي وصفته في الفصول السابقة، كان العمل الخاص بتدوين شكاوى المزارعين من الناحية الأخرى يتقدم بخطى سريعة. تلقينا آلاف الإفادات حول تلك الشكاوى التي كان لها عظيم الأثر. زاد العدد المتنامي للمزارعين الذين يدلون بإفاداتهم من حنق أصحاب المزارع ، مما دفعهم إلى بذل كل ما في استطاعتهم من أجل إفساد التحقيق.
وذات يوم تسلمت خطابا من حكومة بيهار نصه: «إن التحقيق الذي تقوم به قد أستغرق وقتا كافيا. فهل من الممكن أن تنهيه الآن وتغادر بيهار؟» كانت صياغة الخطاب مهذبة، لكن المغزى كان واضحا.
فكتبت في ردي على الخطاب أنه يجب مد مدة التحقيق، وأنني غير عازم على مغادرة بيهار إلا بعد حل المشاكل التي يعانيها الناس. وأوضحت أنه يمكن للحكومة أن تنهي التحقيق إذا ما قبلت شكاوى المزارعين كشكاوى حقيقية وأنصفتهم، أو بالاعتراف بأن المزارعين تقدموا بقضية مستوفاة الأدلة من أجل إجراء تحقيق رسمي يجب البدء فيه على الفور.
طلب السير إدوارد جيت، نائب الحاكم البريطاني، رؤيتي معبرا عن استعداده لإجراء التحقيق. ودعاني كي أصبح عضوا في اللجنة المسئولة عن التحقيق، فتحققت من أسماء باقي أعضاء اللجنة. وقد قررت بعد استشارة رفقائي أن أشارك في اللجنة، شريطة تمتعي بحق التشاور مع رفقائي أثناء إجراء التحقيق، وأن تقر الحكومة بأن عضويتي في اللجنة لا تعني التخلي عن عملي ممثلا للمزارعين، وأنه إذا كانت نتيجة التحقيق غير مرضية لي يكون لي الحق في توجيه المزارعين ونصحهم بخطة العمل التي سيسيرون عليها.
قبل السير إدوارد جيت بشروطي لإيمانه بعدالتها وصحتها، وأعلن بالفعل عن بدء التحقيق. وعين الراحل السير فرانك سلاي رئيسا للجنة.
كان قرار اللجنة في صالح المزارعين، وأوصت برد أصحاب المزارع لجزء من المبالغ التي استولوا عليها من المزارعين والتي رأت اللجنة عدم شرعيتها. وأوصت اللجنة أيضا بإلغاء نظام «تينكاثيا» بموجب القانون.
وقد أسهم السير إدوارد بصورة كبيرة في تقديم اللجنة لتقرير إجماعي وفي تمرير مشروع قانون الزراعة وفقا لتوصيات اللجنة. ولولا اتخاذه لموقف حازم واستغلاله لبراعته في ذلك الموضوع، لما صدر التقرير بالإجماع ولم يكن قانون الزراعة ليمرر. وقد استخدم أصحاب المزارع كل ما أوتوا من نفوذ، حيث إنهم عارضوا مشروع القانون بعنف متجاهلين بذلك ما جاء في التقرير. لكن السير إدوارد جيت ظل ثابتا على موقفه حتى النهاية ونفذ كل ما جاء في التقرير من توصيات.
وهكذا انتهى نظام «تينكاثيا» الذي ظل قائما لما يقرب من قرن من الزمان، وانتهت معه سيطرة أصحاب المزارع. واستعاد المزارعون، الذين طالما عانوا القمع، ممتلكاتهم. وهكذا انتهت الخرافة التي تزعم استحالة إزالة صبغ النيلة.
كنت أرغب في الاستمرار في ذلك العمل البناء لبضع سنوات أخر، وأن أشيد المزيد من المدارس، وأن أنخرط بصورة أكثر فاعلية في القرى. وقد كان كل شيء معدا للعمل، لكن الإله لم يشأ أن أنفذ تلك الخطط كما حدث كثيرا من قبل. فقد كانت مشيئة القدر أقوى من خططي وساقتني للعمل في مكان آخر.
الفصل العشرون
الاختلاط بالعمال
بينما كنت أنهي عملي في اللجنة، تسلمت خطابا من السادة موهانلال بانديا وشانكارلال باريخ يخبرانني فيه بعجز المحاصيل في إقليم خيدا، ويطلبان مني توجيه الفلاحين غير القادرين على تسديد الضريبة. ولم يكن لدي الرغبة أو القدرة أو الشجاعة كي أقدم لهم النصيحة دون أن أستقصي الحقائق بنفسي.
وفي الوقت ذاته، وصلني خطاب من السيدة أناسوياباي بشأن حالة العمال في أحمد آباد. كانت الأجور منخفضة، ولطالما ثار العمال من أجل زيادة أجورهم. وكنت أرغب في قيادتهم، إن استطعت. لكنني لم أكن أملك الثقة التي تمكنني من إدارة تلك القضية السهلة نسبيا من تلك المسافة البعيدة. وعليه، انتهزت أول فرصة واتتني للذهاب إلى أحمد آباد. كنت آمل في الانتهاء من تلك القضية بسرعة، والعودة إلى شامباران للإشراف على العمل البناء الذي بدأته هناك.
لكن الأمور لم تسر بالسرعة التي توقعتها، ولم أتمكن من العودة إلى شامباران مما أدى إلى إغلاق المدارس واحدة تلو الأخرى. وهكذا تلاشت في الوقت الحاضر كل الآمال العريضة التي كنت قد بنيتها أنا ورفقائي.
وكان من ضمن تلك الأعمال، عمل خاص بحماية البقر في شامباران. بالإضافة إلى تحسين الصحة العامة ونشر التعليم في القرى. رأيت أثناء أسفاري أن حماية الأبقار والدعاية للغة الهندية أصبحتا الشغل الشاغل لأهل ماروار. فقد استضافني أحد الأصدقاء من ماروار عندما كنت في بيتياه . واستطاع بعض أهل ماروار جذب انتباهي إلى مزرعة لصناعة منتجات الألبان الخاصة بهم. وقد تشكلت أفكاري عن حماية البقر بوضوح حينها، وكان مفهومي عن العمل كما هو الآن. تشمل حماية الأبقار في رأيي تربية الماشية وتحسين السلالة ومعاملة العجول معاملة رحيمة وتشييد مزارع نموذجية لصناعة منتجات الألبان، وغيرها. وكان صديقي من ماروار قد وعدني بأن يتعاون معي تماما في ذلك العمل. لكننا لم نستطع تنفيذ خطة العمل تلك لعدم تمكني من الاستقرار بشامباران.
لا تزال مزرعة صناعة منتجات الألبان قائمة في بيتياه، لكنها لم تصبح مزرعة نموذجية. ولا تزال العجول في شامباران تعاني العمل فوق طاقتها ولا يزال من يدعون انتماءهم للهندوسية يضربون الحيوان المسكين ويسيئون لدينهم.
ولطالما شعرت بالأسف لعدم تحقيق خطة العمل تلك. وكلما ذهبت إلى شامباران واستمعت إلى اللوم الرقيق من أصدقائي من ماروار وبيهار، أتذكر متنهدا كل الخطط التي اضطررت للتخلي عنها فجأة.
لا يزال العمل التعليمي مستمرا بطريقة أو بأخرى في العديد من الأماكن. لكن العمل الخاص بحماية البقر لم يترسخ بصورة كبيرة، ومن ثم لم يتقدم في الاتجاه المنشود.
وفي أثناء مناقشة قضية فلاحي خيدا، كنت قد توليت بالفعل أمر قضية عمال مصانع النسيج في أحمد آباد.
وقد واجهت هناك موقفا عصيبا، لأن قضية العمال كانت قوية. وقد وجدت السيدة أناسوياباي نفسها مضطرة للتنازع مع أخيها، السيد أمبالال ساراباي، الذي قاد المعركة نيابة عن أصحاب المصانع. كانت تربطني علاقة طيبة بأصحاب المصانع، الأمر الذي زاد من صعوبة النزاع معهم. فأجريت مداولات معهم، وطلبت منهم إحالة النزاع إلى التحكيم، لكنهم رفضوا الاعتراف بمبدأ التحكيم.
فاضطررت لنصح العمال بالإضراب عن العمل. وقبل ذلك، عززت اتصالاتي بهم وبزعمائهم وشرحت لهم شروط القيام بإضراب ناجح، وهي: (1)
عدم اللجوء إلى العنف مطلقا. (2)
عدم مضايقة المنشقين عن الإضراب مطلقا. (3)
عدم الاعتماد على التبرعات مطلقا. (4)
الثبات على المبدأ مهما طالت مدة الإضراب، وكسب العيش بواسطة أي عمل شريف آخر أثناء الإضراب.
استوعب زعماء العمال الشروط وقبلوا بها، وتعهد العمال أثناء اجتماع عام ألا يواصلوا العمل حتى يقبل أصحاب المصانع بشروطهم أو يوافقوا على إحالة النزاع إلى التحكيم.
وقد تعرفت إلى السيد فالابهباي باتل والسيد شانكارلال بانكر بصورة كبيرة أثناء ذلك الإضراب. أما السيدة أناسوياباي فكنت أعرفها جيدا من قبل.
كنا نعقد اجتماعات يومية للعمال المضربين عن العمل تحت ظلال إحدى الأشجار الواقعة على ضفة نهر سابارماتي. وكان يحضر الاجتماع آلاف العمال، وكنت أذكرهم في خطبتي بالعهد الذي أخذوه على أنفسهم وواجبهم المتمثل في الحفاظ على الأمن واحترام الذات. كان العمال يجوبون شوارع المدينة بصورة يومية في مسيرة سلمية حاملين اللافتات التي كتب عليها «حافظوا على العهد».
استمر الإضراب مدة واحد وعشرين يوما. وقد كنت أتشاور مع أصحاب المصانع من وقت إلى آخر في أثناء استمرار الإضراب، وطلبت منهم إنصاف العمال. لكنهم كانوا يقولون: «لدينا عهد نلتزم به نحن أيضا. إن العلاقة التي تربطنا بالعمال تشبه علاقة الآباء بأبنائهم. فكيف يمكننا تحمل تدخل طرف ثالث بيننا؟ وكيف يمكن أن نلجأ إلى التحكيم؟»
الفصل الحادي والعشرون
نظرة خاطفة على الجماعة
دعونا نلق نظرة خاطفة على جماعة الساتياجراها قبل أن أكمل وصف تطور قضية العمال. لم تغب الجماعة عن ذهني طوال إقامتي في شامباران، وكنت أحيانا ما أزورهم لفترات وجيزة.
وفي ذلك الوقت، كانت الجماعة في كوشراب، وهي قرية صغيرة بالقرب من أحمد آباد، وقد تفشى الطاعون في تلك القرية، وشعرت بخطر أكيد على سلامة أطفال الجماعة . كان يستحيل أن نحمي أنفسنا من آثار الجو غير الصحي المحيط بنا مهما دققنا في الالتزام بقواعد النظافة داخل جدران مقر الجماعة. ولم نكن وقتها قادرين على إلزام أهل كوشراب باتباع قواعد النظافة تلك أو خدمة القرية بأية صورة أخرى.
كنا نريد نقل الجماعة إلى مكان آمن بعيدا عن المدينة والقرية، شريطة ألا يكون ذلك المكان على مسافة تجعل الوصول إلى القرية أو المدينة صعبا. وتطلعنا للاستقرار في أرض نملكها.
وقد كان تفشي الطاعون إنذارا كافيا لنرحل عن كوشراب. كان السيد بونجاباي هيراشاند، أحد التجار بأحمد آباد ، قد أصبح على علاقة وثيقة بالجماعة وقدم لنا عددا من الخدمات بروح نقية وخالية من الأنانية. كان السيد بونجاباي خبيرا بالكثير من الأمور في أحمد آباد، فتطوع للحصول على قطعة الأرض المناسبة. طوفت معه في شمال كوشراب وجنوبها بحثا عن قطعة الأرض، واقترحت عليه أن يستكشف أرضا تقع على مسافة ثلاثة أو أربعة أميال شمالا، فوجد بالصدفة الموقع الحالي للجماعة. وقد جذبني موقع المكان بصورة خاصة حيث يقع بالقرب من سجن سابارماتي المركزي؛ فالسجن هو المصير المحتوم الذي ينتظر أنصار الساتياجراها. علاوة على ذلك، كنت أعلم أن المناطق المحيطة بالسجون تكون نظيفة بصورة عامة.
وقد تمت إجراءات البيع فيما يقرب من ثمانية أيام. كانت الأرض خالية من أي أبنية أو شجر. لكن موقعها على ضفة النهر وعزلتها مثلت مميزات عظيمة.
قررنا العيش في خيام بصورة مبدئية وتخصيص سقيفة من الصفيح للمطبخ حتى ننتهي من بناء المنازل الدائمة.
كان عدد أفراد الجماعة يتزايد ببطء. وقد أصبح عددنا الآن يزيد على الأربعين شخصا، من رجال ونساء وأطفال يتناولون طعامهم جميعا في مطبخ مشترك. كانت فكرة الانتقال بأكملها فكرتي، أما التنفيذ فتركته كالعادة لماجنلال.
لقد واجهنا صعابا مهولة قبل بناء المنازل الدائمة. فقد كان هطول الأمطار وشيكا، وكان علينا شراء المؤن من المدينة، التي تقع على بعد أربعة أميال. وكانت الأرض القاحلة مرتعا للثعابين، وكان وجود الأطفال الصغار في ظل تلك الظروف يمثل خطرا ليس بقليل . كانت القاعدة العامة لدينا عدم قتل الثعابين، لكنني مع ذلك أقر بأننا جميعا كنا وما زلنا نخاف من تلك الزواحف.
كانت قاعدة عدم قتل الزواحف السامة عادة تطبق في فونيكس ومزرعة تولستوي وسابارماتي، فقد كنا مضطرين للعيش في أراض قاحلة في تلك الأماكن، ومع ذلك، لم نتعرض لأية خسائر في الأرواح إثر الإصابة بعضة ثعبان. وأرى بعين المؤمن أن رحمة الإله هي التي كانت تحفظنا. ولا يطرحن أحد اعتراضات تافهة قائلا: إن الإله لا يمكن أن يكون متحيزا، وأنه لا يملك الوقت كي يتدخل في شئون البشر المضجرة. لا أملك أسلوبا آخر أعبر به عن حقيقة الأمر وعن تلك التجربة المتكررة. فلغة البشر تعجز عن وصف تصريفات الإله باستيفاء. أنا على دراية بأن تلك التصريفات غامضة ولا يمكن وصفها. لكن إذا ما تجرأ الإنسان الفاني على وصف تلك التصريفات فلن يجد إلا لغته القاصرة. وحتى إن كان اعتقادي - أن المناعة الحصينة من كل سوء التي تمتعنا بها على مدار خمسة وعشرين عاما مع التزامنا بقاعدة عدم قتل الزواحف السامة لم تكن محض صدفة وإنما نعمة من الإله - ليس إلا خرافة، لا أملك إلا أن أظل متمسكا بتلك الخرافة.
وفي أثناء إضراب عمال مصانع النسيج في أحمد آباد، وضع الأساس للبناء الخاص بالنسج في مقر الجماعة حيث كان النسج النشاط الرئيسي للجماعة وقتها. ولم يكن العمل بالغزل ممكنا لنا حتى ذلك الحين.
الفصل الثاني والعشرون
الصوم
أظهر عمال المصانع الكثير من الشجاعة وضبط النفس في الأسبوعين الأولين من الإضراب، وعقدوا اجتماعات يومية ضخمة. وقد اعتدت أن أذكرهم في تلك الاجتماعات بعهدهم، وكانوا يصيحون مؤكدين على أنهم يفضلون الموت دون وعدهم.
لكن في النهاية بدأت علامات التخاذل تظهر عليهم. وبينما تجلى الضعف البدني لدى الرجال في سرعة الغضب، أصبح موقفهم تجاه المنشقين عن الإضراب أكثر خطورة عندما بدأ الإضراب في الانهيار. وبدأت أخشى من أن تصدر عنهم أعمال فوضوية. وبدأ عدد الحضور في اجتماعاتهم اليومية بالتضاؤل تدريجيا، أما الذين كانوا يحضرون منهم فقد بدت على وجوههم علامات الكآبة واليأس جلية. وأخيرا تلقيت الأخبار بأن المضربين بدءوا في التداعي. شعرت حينها بضيق شديد، وأخذت أفكر بشدة بشأن واجبي في تلك الظروف. كنت قد شهدت عملية إضراب ضخمة في جنوب أفريقيا، لكن الموقف الذي واجهته هنا كان مختلفا. لقد أخذ عمال المصانع العهد بناء على اقتراحي وأخذوا يكرروه أمامي يوميا، فكيف يمكن أن أتصور أن ينكثوه؟ هل كان الكبر وراء ذلك الشعور أم حبي للعمال واهتمامي الشديد بالحقيقة؟ لا يستطيع أحد أن يجيب عن هذا السؤال.
وذات صباح تبددت الغشاوة التي كانت تحجب تفكيري في أحد اجتماعات العمال في حين كنت لا أزال أتلمس طريقي ولا أستطيع أن أراه بوضوح. جرت الكلمات على شفتي تلقائيا، فأعلنت على الحضور: «سأصوم عن الطعام إذا لم يتجمع المضربون ويستمروا في الإضراب حتى التوصل إلى تسوية أو حتى يغادروا المصانع جميعا.»
كان وقع تلك الكلمات على العمال كالصاعقة. أخذت الدموع تنهال على وجنتي أناسويابين. فصاح العمال: «ليس عليك أن تصوم بل علينا نحن أن نصوم. سيكون من الخطأ أن تصوم أنت. نرجو أن تغفر لنا زلتنا، سوف نظل على عهدنا حتى النهاية.»
فأجبت: «ليس عليكم أن تصوموا، يكفي أن تلتزموا بعهدكم. وكما تعرفون لا نملك أي موارد مالية ولا نريد الاستمرار في الإضراب معتمدين على المساعدات الخيرية. لذلك عليكم أن تكسبوا المال اللازم للمعيشة عن طريق ممارسة أي نوع من العمل، حتى لا تشعروا بالقلق مهما طالت فترة الإضراب. أما صيامي، فلسوف أصوم حتى ينتهي الإضراب.»
كان السيد فالابهباي يحاول في غضون ذلك الحصول على عمل في البلدية من أجل المضربين، لكن لم يكن هناك أمل كبير في نجاحه. اقترح ماجنلال غاندي أنه نظرا لحاجتنا للرمل لاستخدامه في وضع أساس مدرسة النسج الخاصة بالجماعة، يمكن استئجار عدد من المضربين لتأدية تلك المهمة. وقد لقي ذلك العرض قبولا لدى العمال. بادرت السيدة أناسويابين ووضعت سلة على رأسها، وسرعان ما تبعها فيض متصل من العمال - الذين يحملون سلال الرمل على رءوسهم - ينبع من قاع النهر، لقد كان المشهد فاتنا. وشعر العمال بالقوة تسري في عروقهم من جديد، وأصبح من الصعب سداد أجورهم.
لم يخل صومي من علة خطيرة، فكما ذكرت في فصل سابق، كانت تربطني بأصحاب المصانع علاقة قوية، مما جعل صومي يؤثر على قرارهم. ولكوني من أنصار الساتياجراها، كنت أعلم أنه يتعين علي ألا أؤثر عليهم بالصوم وأن أتركهم يتأثرون بإضراب العمال وحده. لم يكن صومي بسبب زلة أصحاب المصانع، وإنما بسبب زلة العمال الذين شعرت بأن لي حقا عليهم نظرا لكوني ممثلهم. ولم أكن أتعامل مع أصحاب المصانع إلا عن طريق مناشدتهم، أما الصوم فكان سيعد إكراها. ومع علمي بأن الصوم سيمثل ضغطا على أصحاب المصانع، وهو ما حدث بالفعل، لم أستطع أن أمنع نفسي عن الصوم. فقد بدا واجبي المتمثل في المضي قدما في الصوم جليا.
حاولت التخفيف عن أصحاب المصانع. فقلت لهم: «ليس عليكم أن تتراجعوا عن موقفكم.» لكنهم تلقوا كلماتي ببرود، ورموني بكلمات صريحة من السخرية، وإن لم تتجاوز حدود الأدب، وأرى أن لهم كل الحق في ذلك.
كان السيد أمبالال هو الرجل الذي يقف وراء موقف أصحاب المصانع الصارم تجاه الإضراب. كانت إرادته الثابتة وإخلاصه الواضح مذهلين، واستطاع أن يأسر قلبي بهما. لقد أسعدني حقا أن أستقر بالقرب منه. ومن ثم جرح مشاعري بعمق الضغط الذي فرضه صومي على المعارضة التي كان يترأسها السيد أمبالال. وكانت زوجته، السيدة سارلاديفي، بمنزلة شقيقة لي، ولم أكن أحتمل رؤيتها تعاني بسببي.
شاركني كل من أناسويابين وغيرها من الأصدقاء والعمال الصوم في أول يوم. لكنني استطعت بصعوبة إقناعهم بالعدول عن الاستمرار في الصوم.
كانت المحصلة النهائية لذلك كله انتشار جو من الود في كل مكان. تحركت مشاعر أصحاب المصانع، وبدءوا في البحث عن سبل للتسوية. وأصبح منزل أناسويابين مقر اجتماعاتهم ومناقشاتهم. تدخل السيد أناندشانكر دروفا وجرى تعيينه في النهاية كمحكم، وتوقف الإضراب بعد أن صمت ثلاثة أيام فقط. احتفل أصحاب المصانع بتلك المناسبة ووزعوا الحلوى على العمال. وهكذا جرى التوصل إلى تسوية بعد إضراب دام 21 يوما.
حضر كل من أصحاب المصانع والمفوض الحفل الذي عقد للاحتفال بالتسوية. وقد قدم المفوض نصيحة إلى مالكي المصانع نصها: «يجب أن تسيروا دائما وفقا لنصيحة السيد غاندي.» وبعد تلك الأحداث مباشرة وجدت نفسي مشاركا في صراع ضد ذلك الرجل النبيل. فقد تغيرت الظروف، وتغير هو بدوره. فقد بدأ في تحذير المزارعين في خيدا من الاستماع إلى نصيحتي!
يجب ألا أنهي هذا الفصل دون أن آتي على ذكر واقعة محزنة لكنها في نفس الوقت مضحكة. وقد حدثت تلك الواقعة أثناء توزيع الحلوى. أمر أصحاب المصانع بتوزيع كميات هائلة من الحلوى، وقد كان توزيع الحلوى بين الآلاف من العمال ليس بمسألة سهلة. تقرر أن من الأفضل توزيعها في العراء، أسفل نفس الشجرة التي أخذ تحتها العهد، ولا سيما أنه كان من الصعب جمعهم جميعا في مكان آخر.
كنت أعتقد أن الرجال الذين تمكنوا من الالتزام بنظام صارم لمدة 21 يوما كاملة لن يجدوا صعوبة في الوقوف بطريقة منظمة أثناء توزيع الحلوى ولن يتدافعوا للحصول عليها. لكن في الواقع فشلت جميع المحاولات الرامية لتوزيع الحلوى. فما هي إلا دقائق قليلة من بدء توزيع الحلوى، حتى كانت الصفوف تعج بالفوضى. بذل زعماء العمال قصارى جهدهم كي يعيدوا النظام، لكن دون جدوى. تزايدت الفوضى والتدافع والتزاحم حتى تلفت كمية كبيرة من الحلوى تحت وطأة الأقدام. وفي نهاية المطاف، كان يجب التخلي عن فكرة توزيع الحلوى في الخلاء. وتمكنا بصعوبة من نقل الحلوى المتبقية إلى منزل السيد أمبالال في ميرزابور. وقد جرى توزيع الحلوى بسهولة في اليوم التالي داخل ساحة المنزل.
إن الجانب الهزلي في تلك الواقعة جلي، لكن الجانب المأساوي يحتاج إلى توضيح. فعندما استعلمنا عن الواقعة بعد ذلك، وجدنا أن فقراء أحمد آباد حين سمعوا عن توزيع الحلوى تحت «شجرة العهد» ذهبوا إلى المكان بأعداد هائلة، وقد كان تزاحمهم على الحلوى المدفوع بالجوع هو الذي خلق الفوضى والاضطراب.
إن الفقر المدقع والجوع اللذين تعانيهما بلدنا يؤديان إلى تدني المزيد من الناس في كل عام إلى مرتبة المتسولين الذين يدفعهم صراعهم المستميت على الطعام إلى عدم الاكتراث باللياقة واحترام الذات. ويستمر المحسنون في تزويدهم بالتبرعات بدلا من أن يوفروا لهم عملا وبدلا من أن يصروا على أن يعملوا كي يحصلوا على الطعام.
الفصل الثالث والعشرون
الساتياجراها في خيدا
لم يتوافر لدي وقت لأنال قسطا من الراحة. فما أن انتهى إضراب عمال المصانع في أحمد آباد، حتى انغمست في صراع الساتياجراها في خيدا.
نشأت حالة تقترب من المجاعة في منطقة خيدا نتيجة لعجز عام في المحاصيل ، وكان المزارعون هناك يدرسون مسألة تعليق الضريبة المستحقة لذلك العام.
كان السيد أمريتلال ثاكار قد تقصى بالفعل عن الوضع وأبلغ عنه، وناقش المسألة مع المفوض شخصيا قبل أن أقدم نصيحة محددة للمزارعين. وألقى كل من السيد موهانلال بانديا والسيد شانكارلال باريخ بأنفسهما إلى دائرة الصراع، وخلقا حالة من الاهتياج داخل المجلس التشريعي ببومباي بواسطة السيد فيثالباي باتيل والراحل السير جوكولداس كاهانداس باريخ. وقد توجه أكثر من وفد لزيارة الحاكم بخصوص تلك المسألة.
كنت حينها رئيس المجلس الجوجراتي
Gujarat Sabha . فأرسل المجلس عرائض وبرقيات إلى الحكومة، حتى إنه تغاضى بحلم عن الإهانات والتهديدات التي أطلقها المفوض. وقد كان سلوك المسئولين في ذلك الموقف سخيفا للغاية ويفتقر إلى الاحترام لدرجة لا يمكن تصديقها الآن.
كان مطلب المزارعين واضحا وضوح الشمس، ومعتدلا بدرجة تجعل قبوله مستحقا. كانت قوانين الضرائب على الأراضي تقضي بتأجيل كلي للضريبة إذا بلغ عائد المحصول أربع آنات أو أقل. وقد جاء في التقارير الرسمية أن المحصول قد زاد على أربع آنات، في حين كان المزارعون من الناحية الأخرى يرون أن المحصول لم يبلغ الأربع آنات. لكن الحكومة لم ترغب في الاستماع إليهم، وارتأت أن الطلب الشعبي للجوء إلى التحكيم طعن في الذات الملكية. وفي النهاية، فشلت جميع الالتماسات والطلبات، فنصحت المزارعين باللجوء إلى الساتياجراها.
وقد كان رفقائي الرئيسيون في ذلك النضال، بالإضافة إلى المتطوعين، السيد فالابهباي باتل والسيد شانكارلال بانكر والسيدة أناسويابين والسيد إندولال ياجنيك والسيد ماهديف ديساي وغيرهم. وقد اضطر السيد فالابهباي نتيجة لذلك إلى تأجيل أعمال كثيرة ومتزايدة تتعلق بعمله في المحاماة، ولم يستطع استئناف ذلك العمل أبدا.
استقررنا في «أناث أشرام» بمدينة نادياد نظرا لعدم توافر مكان آخر ليسعنا جميعا.
وقد وقع أنصار الساتياجراها على التعهد الآتي:
نظرا لعلمنا بأن محاصيل قريتنا تقل عن أربع آنات، طلبنا من الحكومة إرجاء تحصيل الضريبة المستحقة إلى السنة التالية لكن الحكومة لم توافق على طلبنا. وبناء عليه، نعلن، نحن الموقعين أدناه، أننا لن نسدد كامل الضريبة أو المبلغ المتبقي منها لهذا العام إلى الحكومة من تلقاء أنفسنا. وعلى الحكومة أن تتخذ أي إجراءات قانونية تراها وأن تتحمل عواقب امتناعنا عن الدفع. فنحن نفضل مصادرة أراضينا على أن نسدد الضريبة طواعية، فنجعل بذلك من قضيتنا قضية زائفة أو أن نتنازل عن احترامنا لذاتنا. أما في حالة موافقة الحكومة على تأجيل تحصيل القسط الثاني من الضريبة في جميع أرجاء الإقليم، سيسدد من يستطيع السداد منا قيمة الضريبة المستحقة بالكامل أو المبلغ المتبقي منها. ويرجع السبب وراء امتناع المزارعين القادرين على سداد الضريبة عن الدفع إلى أنه في حالة سدادهم للضريبة، سيفزع المزارعون الفقراء إلى بيع ماشيتهم أو الاستدانة لدفع الضرائب المستحقة عليهم، وبذلك سيلقون بأنفسهم إلى التهلكة. ففي ظل تلك الظروف ومن أجل الفقراء، نشعر بأن الواجب يحتم على من يستطيعون الدفع أيضا أن يمتنعوا عن الدفع.
سأضطر إلى التغاضي عن عدد من الذكريات اللطيفة المتعلقة بذلك الصراع لأنني لا أستطيع أن أفرد العديد من الفصول للحديث عنها. وعلى من يرغب في الاطلاع على دراسة مستوفية استيفاء أكبر وأعمق لذلك الصراع المهم أن يرجع إلى التاريخ الكامل والحقيقي في كتاب «الساتياجراها في خيدا» لمؤلفه شانكارلال باريخ الذي ينتمي لمدينة كاثلال بخيدا.
الفصل الرابع والعشرون
سارق البصل
كانت شامباران تقع في ركن منعزل من الهند وكانت الصحافة بعيدة عن حملتنا هناك، ولذلك لم تجتذب المدينة الزوار. لكن الوضع في حملة خيدا كان مختلفا، فقد كانت الصحافة تنقل أحداث الحملة يوميا.
كان الجوجراتيون مهتمين جدا بالصراع الذي كان بمثابة تجربة جديدة عليهم. وكانوا مستعدين لإنفاق أموالهم من أجل إنجاح الحملة، فلم يكن من السهل عليهم أن يروا تعطل الساتياجراها نتيجة لنقص في الأموال. فالمال هو أقل عنصر تحتاجه الساتياجراها، وقد أرسل إلينا التجار ببومباي، مع احتجاجي، أموالا تزيد عن حاجتنا حتى يتوافر لدينا أموال بعد انتهاء الحملة.
وفي الوقت نفسه، كان على المتطوعين لحملة الساتياجراها أن يتعلموا درسا في البساطة. ولا أدعي أنهم استوعبوا الدرس كليا، لكنهم غيروا من أسلوب معيشتهم.
وقد كان الصراع تجربة جديدة على المزارعين أيضا. فكان علينا أن نجوب القرى لشرح مبادئ الساتياجراها.
كان الهدف الأساسي للحملة تخليص المزارعين من خوفهم عن طريق مساعدتهم على إدراك أن المسئولين ليسوا أسيادهم بل هم في خدمة الشعب لأنهم يتلقون رواتبهم من أموال دافعي الضرائب. وحينها بدا لي أن من المستحيل أن نجعلهم يستوعبون أهمية الجمع بين الكياسة والشجاعة. فكيف يمكن أن نمنعهم من رد إهانات المسئولين إذا ما تخلصوا من خوفهم منهم؟ وفي الوقت نفسه ستدمر الساتياجراها إذا ما لجئوا إلى أقوال أو أعمال فظة، وسيكونون كمن يلقي قطرة من الزرنيخ في كوب من الحليب. وأدركت فيما بعد أنهم لم يتعلموا درس الكياسة على النحو الذي توقعته. وقد علمتني تجاربي أن الكياسة هي أصعب أجزاء الساتياجراها. ولا أعني بالكياسة هنا مجرد التلطف الظاهري في الحديث من أجل الموقف، ولكن أعني التلطف الفطري والرغبة في التعامل مع الخصم بصورة حسنة. ويجب أن توجد كل تلك العناصر في كل عمل من أعمال أنصار الساتياجراها.
لم يبد في المراحل الأولية أن الحكومة تميل إلى اتخاذ إجراءات عنيفة مع أن الناس أظهروا شجاعة كبيرة. لكن الحكومة بدأت في اللجوء إلى أسلوب الإكراه عندما رأت ثبات الناس وعدم تزعزعهم. فباع ضباط المصادرة ماشية المزارعين وصادروا جميع المنقولات التي وقعت أيديهم عليها. تسلم المزارعون إخطارات بالغرامة، وفي بعض الأحيان كان الضباط يصادرون المحاصيل التي لم تحصد بعد. ثبط ذلك من عزيمة الفلاحين ، فدفع بعضهم المستحقات الضريبية، في حين قام البعض الآخر بوضع المنقولات أمام الضباط حتى يتمكنوا من مصادرتها وسداد المستحقات بها. ومن ناحية أخرى، كان هناك مزارعون مستعدون لخوض المعركة حتى النهاية.
وفي تلك الأثناء، سدد أحد المستأجرين لدى السيد شانكارلال باريخ الضريبة المفروضة على أرضه، الأمر الذي خلق حالة من الاهتياج. وبادر السيد شانكارلال باريخ على الفور بالتعويض عن خطأ المستأجر بأن تبرع بالأرض التي دفعت عنها الضريبة من أجل الأعمال الخيرية. وهكذا استطاع أن يحافظ على سمعته وأن يضرب للآخرين مثلا يحتذى به.
ومن أجل إزالة الخوف من قلوب المذعورين، أشرت على الناس الذين يعملون تحت إمرة السيد موهانلال بانديا أن يجنوا محصول البصل من أحد الحقول الذي أرى أنه تمت مصادرته ظلما. لم أعتبر مثل ذلك العمل عصيانا مدنيا. وحتى إن كان كذلك، رأيت أنه وإن كانت مصادرة الثمار غير المحصودة صحيحة من الناحية القانونية، فهي خطأ من الناحية الأخلاقية ولا تتعدى كونها نهبا. وعليه، فمن حق المزارعين حصاد البصل بغض النظر عن أمر المصادرة. وقد كانت فرصة جيدة كي يتعلم الناس درسا في كيفية المخاطرة وتكبد الغرامات أو دخول السجن، وهما العاقبة الحتمية لمثل تلك المخالفة. أما السيد موهانلال بانديا، فقد كان ذلك محببا إلى قلبه. فلم يرق له أن تنتهي الحملة دون أن يتعرض أحد إلى المعاناة المتمثلة في السجن نتيجة لقيامه بعمل يتماشى ومبادئ الساتياجراها. وهكذا، تطوع لحصد محصول البصل، وانضم إليه سبعة أو ثمانية من الأصدقاء.
كان يستحيل أن تتركهم الحكومة دون أن تزج بهم في السجن. وقد زاد حبس السيد موهانلال ورفقائه من حماسة الناس. فعندما يتلاشى الخوف من السجن، يلقي القمع الشجاعة في قلوب الناس. حاصرت حشود ضخمة من الناس مبنى المحكمة في يوم انعقاد الجلسة، وأدانت المحكمة السيد موهانلال ورفقاءه، وحكمت عليهم بقضاء فترة قصيرة في السجن. رأيت أن الحكم كان ظالما؛ لأن حصد البصل لا يمكن أن يندرج تحت تعريف «السرقة» كما جاء في نص قانون العقوبات، لكننا لم نقدم أي التماس لأن سياستنا كانت تقضي بتجنب المحاكم القضائية.
رافق «المدانين» موكب من الناس إلى السجن. وأطلق الناس في ذلك اليوم على السيد موهانلال بانديا اللقب المشرف «سارق البصل» الذي لا يزال يحمله حتى يومنا هذا.
وسوف أؤجل الحديث عن نهاية الساتياجراها في خيدا إلى الفصل التالي.
الفصل الخامس والعشرون
نهاية الساتياجراها في خيدا
انتهت الحملة نهاية غير متوقعة. كان يبدو على الناس الإرهاق الشديد، وكنت مترددا في ترك العنيدين منهم حتى يقضوا على أنفسهم كليا. كنت أبحث عن طريقة لطيفة يقبلها أنصار الساتياجراها لإنهاء الصراع، وقد أتاني الحل من حيث لم أحتسب. أرسل لي رئيس مجموعة قرى مدينة نادياد يخبرني بأنه إذا ما دفع المزارعون المقتدرون ضرائبهم، سوف تعلق الضريبة المستحقة على المزارعين الفقراء. طلبت منه تعهدا خطيا بذلك، فمنحني إياه. لكن كان علي أن أسأل عن رأي مسئول الهيئة الإدارية لأنه وحده يمكنه أن يمنح ذلك التعهد للإقليم بأكمله، أما رئيس مجموعة القرى بمدينة نادياد فهو مسئول عن مجموعة القرى التي تقع تحت إمرته فحسب حتى وإن كان تعهده يخص الإقليم بأسره. فأجاب مسئول الهيئة الإدارية بأن الأوامر الخاصة بإعلان تعليق الضريبة الذي ذكره رئيس مجموعة القرى بمدينة نادياد في خطابه قد صدرت بالفعل. لم أكن على علم بصدور تلك الأوامر، لكن في حالة صحة ذلك الخبر، سيكون المزارعون قد وفوا بعهدهم. فسيذكر دائما أن العهد قد حقق الغاية منه، الأمر الذي جعلنا نشعر بالرضا حيال الأوامر الصادرة.
لكن النهاية لم تكن سعيدة لي لأنها افتقرت للبهجة التي يجب أن تصحب نهاية جميع حملات الساتياجراها. فقد واصل مسئول الهيئة الإدارية العمل وكأنما لم يعقد تسوية مع المزارعين. منحت الحكومة الفقراء حق تعليق الضريبة، لكن لم يستفد منه أي منهم. فقد كان من حق الناس تحديد الفقير من بينهم، لكنهم لم يستطيعوا ممارسة ذلك الحق. وقد أحزنني أن أراهم أضعف من أن يمارسوا حقهم. ومع أن الناس احتفلوا بانتهاء الحملة كنصر للساتياجراها، إلا أنني لم أستطع أن أتحمس لذلك النصر لأنه افتقر للعناصر الأساسية للنصر الكامل.
فلا يمكن اعتبار حملة الساتياجراها حملة ناجحة، إلا إذا ما جعلت أنصار الساتياجراها أكثر قوة ونشاطا من ذي قبل.
ومع ذلك، أسفرت الحملة عن نتائج غير مباشرة يمكن أن نرى أثرها الآن. وقد طرحت تلك النتائج ثمارا ما زلنا نجنيها. إن «الساتياجراها في خيدا» تمثل بداية صحوة بين مزارعي جوجرات، وبداية لتزويدهم بثقافة سياسية حقيقية.
لقد أثرت ثورة الدكتورة بيسانت الداعية للحكم الذاتي بلا شك على الفلاحين، لكن الفضل يعود إلى الحملة التي قمنا بها في خيدا في إطلاع المثقفين من العاملين بالخدمة العامة على حياة المزارعين على حقيقتها. حتى إنهم تعلموا التوحد مع المزارعين. ومن ثم وجدوا أن مجال عملهم وقدرتهم على التضحية قد تعاظما. وقد كان اكتشاف فالابهباي لحقيقة شخصيته - في حد ذاته - إنجازا كبيرا. ويمكن أن نستشعر حجم ذلك الإنجاز إذا ما نظرنا إلى عمليات الإغاثة من الفيضان في العام الماضي أو إلى الساتياجراها في باردولي في العام الحالي. فالحياة العامة في جوجرات أصبحت مفعمة بقوة ونشاط جديدين. وأصبح المزارعون على وعي تام بقوتهم. لقد ترسخ الدرس المستفاد في عقل العامة، ألا وهو أن خلاص الشعوب لا ينبع إلا من أنفسهم وقدرتهم على المعاناة والتضحية. وقد تأصلت الساتياجراها بشدة في جوجرات عن طريق الحملة التي قمنا بها في خيدا.
ومع أنني لم أشعر بالسعادة عند انتهاء حملة الساتياجراها، شعر مزارعو خيدا بالابتهاج لعلمهم بأن ما حققوه من إنجازات يتناسب وما بذلوا من جهود، ولأنهم وجدوا الطريقة الحقيقية والناجحة للتعامل مع مظالمهم. وقد كان ذلك سببا كافيا لابتهاجهم.
ومع ذلك لم يستوعب مزارعو خيدا المعنى الجوهري للساتياجراها بصورة كاملة، وقد رأوا أنها عادت عليهم بالخسارة كما سنرى في فصول لاحقة.
الفصل السادس والعشرون
الرغبة في الاتحاد
كانت حملة خيدا قد انطلقت أثناء اشتعال الحرب في أوروبا. وقد وقعت أزمة جعلت الحاكم البريطاني يدعو الكثير من الزعماء لعقد مؤتمر حرب في دلهي. واضطررت أنا أيضا لحضور ذلك المؤتمر. فقد سبق أن أشرت إلى العلاقة الوطيدة التي تربطني باللورد شيلمسفورد والحاكم البريطاني.
توجهت إلى دلهي بناء على دعوة الحاكم البريطاني مع وجود أسباب جعلتني أعترض على المشاركة في المؤتمر، وعلى رأسها استبعاد زعماء من أمثال الأخوان مولانا محمد علي ومولانا شوكت علي. وكان الأخوان وقتها محتجزين في السجن. ولم تتسن لي مقابلتهما إلا مرة أو مرتين على الأكثر، لكنني سمعت عنهما الكثير. كان الجميع يتحدثون عن خدماتهما وشجاعتهما. لم أكن وقتها قد تعرفت إلى السيد حكيم جيدا إلا أن السيد سوسيل كومار رودرا والسيد ديناباندو أندروز أثنوا عليه كثيرا. وكنت قد قابلت السيد شعيب قرشي والسيد خواجة في الرابطة الإسلامية بكلكتا. وتعرفت إلى الطبيبين أنصاري وعبد الرحمن. فقد كنت أسعى لتكوين صداقات مع المسلمين الصالحين، وكنت أتوق إلى فهم العقلية الإسلامية عن طريق الاتصال بأكثر المسلمين إخلاصا ووطنية. ولذلك لم أحتج قط إلى أن يلحوا علي كي أذهب معهم إلى أي مكان بغية توثيق علاقتي بهم.
أدركت مبكرا في جنوب أفريقيا عدم وجود صداقة حقيقية بين المسلمين والهندوس. ولم أترك سبيلا واحدا لتذليل العقبات التي تعترض الوحدة بينهم إلا طرقته. لم يكن من طبعي استرضاء الآخرين بواسطة التملق أو على حساب احترامي لذاتي. لكنني اقتنعت من تجاربي في جنوب أفريقيا بأن مسألة الوحدة بين الهندوس والمسلمين ستكون أصعب اختبار يمر به مبدأ الأهيمسا، وأن تلك القضية مثلت أوسع مجال لتجاربي مع الأهيمسا. ولا أزال مؤمنا بتلك القناعة حتى الآن. أدرك في كل لحظة من حياتي أن الإله يختبرني.
ونتيجة لإيماني بتلك الاعتقادات القوية حول قضية الوحدة بين المسلمين والهندوس عند عودتي من جنوب أفريقيا، اعتززت بعلاقتي بالأخوان مولانا محمد علي ومولانا شوكت علي. وقد كانا يركنان إلى العزلة قبل أن أصبح على علاقة وثيقة بهما. اعتاد مولانا محمد علي أن يكتب لي خطابات طويلة من بيتول وتشيندوارا متى سمح له السجان بذلك. وطلبت تصريحا بزيارة الأخوين، لكن طلبي لم يلق استجابة.
وقد دعاني بعض الأصدقاء المسلمين لحضور جلسة من جلسات الرابطة الإسلامية في كلكتا في المدة التي تلت إلقاء الأخوين في السجن. وعندما طلبوا مني إلقاء كلمة، حدثتهم عن واجب المسلمين تجاه تحرير الأخوين من السجن. ولم تمر مدة طويلة حتى اصطحبني أولئك الأصدقاء إلى الكلية الإسلامية في عليكرة، حيث دعوت الشباب إلى الزهد من أجل العمل على خدمة الوطن.
وعقب ذلك، بدأت مراسلة الحكومة من أجل إطلاق سراح الأخوين. ودرست فيما يتعلق بهذا الشأن آراء وأنشطة الأخوين المتعلقة بحركة الخلافة.
1
تناقشت مع عدد من الأصدقاء المسلمين، وشعرت بأنه علي أن أقدم كل ما أستطيع من مساعدة للإفراج عن الأخوين إذا كنت أرغب في أن أكون صديقا حقيقيا للمسلمين، وذلك بالإضافة إلى تقديم تسوية عادلة لمسألة «الخلافة». لم يكن يحق لي التدخل في الموضوع الأساسي لقضية الخلافة، على أن تكون طلباتهم لا تشمل على بنود تنافي المبادئ الأخلاقية. فالمعتقدات تختلف من شخص إلى آخر عندما يتعلق الأمر بالمسائل الدينية، ويرى كل إنسان أن معتقداته هي الأسمى. فلو كان جميع البشر يؤمنون بنفس المعتقدات لسادت ديانة واحدة في العالم. واكتشفت بمرور الزمن أن مطالبة المسلمين بالخلافة لم تكن متفقة مع المبادئ الأخلاقية فحسب، بل أقر رئيس الوزراء البريطاني بعدالة طلب المسلمين. وعليه، شعرت بالتزامي بتقديم المساعدة الممكنة لضمان تحقيق العهد الذي قطعه رئيس الوزراء بصورة صحيحة. وقد قطع رئيس الوزراء العهد بألفاظ جلية حتى إنني لم أدرس الوقائع المتعلقة بطلب المسلمين إلا من قبيل إرضاء ضميري.
انتقد الأصدقاء والناقدون موقفي تجاه قضية الخلافة. ومع ذلك النقد، شعرت بأنه لا يوجد سبب يدفعني إلى تغيير موقفي أو أن أندم على تعاوني مع المسلمين. ولسوف أتبنى الموقف ذاته إذا ما نشأ موقف مماثل.
وبناء على ذلك، عزمت على أن أعرض قضية المسلمين على الحاكم البريطاني عند عودتي إلى دلهي. ولم تكن قضية الخلافة حينها قد اتخذت الشكل الذي اتخذته فيما بعد.
لكن عند وصولي إلى دلهي، واجهت عقبة أخرى في طريق حضوري للمؤتمر. فقد طرح ديناباندو أندروز سؤالا بشأن اشتراكي في مؤتمر الحرب ومدى تماشيه مع المبادئ الأخلاقية. وحدثني أيضا عن الجدل السائد في الصحافة البريطانية حول إبرام معاهدات سرية بين إنجلترا وإيطاليا. فسألني ديناباندو أندروز: «كيف تشارك في المؤتمر في حين أبرمت إنجلترا معاهدات سرية مع قوة أوروبية أخرى؟» لم أكن أعلم شيئا عن تلك المعاهدات، لكن حديث ديناباندو أندروز كان كافيا لي. وهكذا، كتبت خطابا إلى اللورد شيلمسفورد عبرت فيه عن ترددي بشأن المشاركة في المؤتمر، فدعاني لمناقشة المسألة معه، فجرت بيني وبينه مناقشة طويلة في حضور السكرتير الخاص به السيد مافي، وأسفرت تلك المناقشة عن موافقتي على المشاركة في المؤتمر . وقد كانت حجة الحاكم البريطاني كما يلي: «بالطبع تعتقد أن الحاكم البريطاني ليس على دراية بكل ما يقوم به مجلس الوزراء البريطاني. لا أحد يدعي، ولا حتى أنا، أن الحكومة البريطانية معصومة من الخطأ. لكن إن اتفقت معي أن الحكومة البريطانية أفادت الهند بصورة عامة، وأن الهند انتفعت من علاقتها ببريطانيا بصورة عامة، ألن تقر بأن على كل مواطن هندي مساعدة الإمبراطورية في وقت الشدة؟ لقد قرأت أنا أيضا ما تتناقله الصحف حول إبرام بريطانيا لمعاهدات سرية. وأؤكد لك أن معلوماتي لا تزيد عما هو منشور في الصحف، وأنت تعلم الإشاعات الكاذبة التي تطلقها مثل هذه الصحف عادة. هل ترفض مساعدة الإمبراطورية في ذلك الوقت الحرج استنادا إلى مجرد تقرير صحفي؟ يمكنك أن تطرح أية قضايا أخلاقية وتعارضنا كيفما شئت بعد انتهاء الحرب، لكن يجب أن تضع كل ذلك جانبا في الوقت الحالي.»
لم تكن تلك الحجة جديدة، لكنها بدت جديدة على مسامعي نتيجة للأسلوب الذي طرحت به والوقت الذي طرحت فيه؛ فوافقت على حضور المؤتمر. وقررت أن أرسل خطابا إلى الحاكم البريطاني بشأن مطالب المسلمين.
هوامش
الفصل السابع والعشرون
حملة تجنيد المتطوعين
وهكذا حضرت المؤتمر. كان الحاكم البريطاني شديد الحرص على تأييدي لقرار تجنيد المتطوعين. فطلبت الإذن بالتحدث باللغة الهندوستانية - الهندية، فوافق الحاكم البريطاني على طلبي، لكنه اقترح أن أتحدث بالإنجليزية أيضا. فقلت جملة واحدة: «أطلب منكم وأنا بكامل إحساسي بالمسئولية أن تؤيدوا قرار تجنيد المتطوعين.»
هنأني الكثيرون لأنني تحدثت باللغة الهندوستانية. وأخبروني أنها المرة الأولى التي يتحدث فيها أي شخص باللغة الهندوستانية في مثل هذه الاجتماعات. جرحت كبريائي الوطني تلك التهاني واكتشافي أنني أول من يتحدث باللغة الهندوستانية في اجتماع خاص بالحاكم البريطاني. شعرت وكأنني أتضاءل من الخزي. يا لها من مأساة حين يحظر استعمال اللغة الوطنية في اجتماعات تعقد داخل الوطن حول عمل يتعلق بالوطن، وأن يكون تحدث شخص شريد مثلي باللغة الهندوستانية في تلك الاجتماعات أمرا يستحق التهنئة! كانت مثل تلك الوقائع تذكرني بالحالة المتدنية التي وصلنا إليها.
كان للجملة الوحيدة التي تلفظت بها في المؤتمر أهمية كبيرة لي. كان من المستحيل أن أنسى المؤتمر أو القرار الذي أيدته. وكان علي الوفاء بعهد آخر وأنا في دلهي، ألا وهو كتابة خطاب إلى الحاكم البريطاني، ولم يكن ذلك بالأمر الهين علي. فقد شعرت أن من واجبي لمصلحة الحكومة والشعب أن أوضح كيفية حضوري للمؤتمر والأسباب التي دفعتني للحضور، وأن أعلن بوضوح ما ينتظره الشعب من الحكومة.
وقد عبرت في خطابي عن أسفي لإقصاء عدد من الزعماء عن المؤتمر، من أمثال لوكامانيا تيلاك والأخوان مولانا محمد علي ومولانا شوكت علي. وذكرت أقل المطالب السياسية التي يطالب بها الشعب بالإضافة إلى مطالب المسلمين المترتبة على الموقف الناتج عن الحرب، وطلبت إذنا لنشر الخطاب، فمنحني الحاكم البريطاني إياه بكل سرور.
كان يجب إرسال الخطاب إلى سيملا إلى حيث توجه الحاكم البريطاني مباشرة عقب المؤتمر. كان الخطاب يمثل لي أهمية كبيرة، وخشيت من تأخره في البريد، فكنت أرغب في توفير الوقت، وكنت مع ذلك لا أميل إلى إرساله مع أي مبعوث صادفته. كنت أود أن أرسل الخطاب مع رجل أمين ليحمل الخطاب ويسلمه شخصيا إلى مقر الحاكم البريطاني. أشار علي كل من السيد رودرا والسيد ديناباندو أندروز بإرساله مع الكاهن الصالح إيرلند من إرسالية كمبريدج. ووافق بالفعل على حمل الرسالة إذا قرأها ورأى أنها نافعة. لم أعترض على طلبه فلم يكن الخطاب خاصا بأي وجه من الوجوه، فاطلع على الخطاب وأعجب بما ورد فيه، وأبدى استعداده للقيام بالمهمة. قدمت إليه تذكرة في الدرجة الثانية، لكنه رفضها وقال: إنه اعتاد السفر بالعربة. وذلك مع أن السفر كان ليلا. وقد أسرني ببساطته وأسلوبه المستقيم والصريح. وهكذا تحققت النتيجة المنشودة، كما تراءى لي، عن طريق تسليم الخطاب بواسطة رجل أمين.
كان الشق الآخر من التزامي يشتمل على تجنيد المتطوعين. ومن أين كان لي أن أبدأ إلا من خيدا؟ ومن كنت سأدعو لكي يكونوا الرعيل الأول من المجندين غير رفاقي؟ وعليه عقدت اجتماعا مع فالابهباي وغيره من الأصدقاء فور وصولي إلى نادياد. لم يتقبل بعضهم الاقتراح بسهولة. أما من وافقوا على الاقتراح منهم، فقد كانت تساورهم الشكوك بشأن إمكانية نجاحه. لم تكن هناك علاقة طيبة بين الطبقات التي كنت أريد أن أطلب منها المجندين وبين الحكومة؛ فقد كانت التجربة المريرة التي خاضوها على أيدي مسئولي الحكومة لا تزال حية في ذاكرتهم.
مع ذلك، كانوا يفضلون البدء في العمل. وما إن بدأت في تنفيذ مهمتي حتى أدركت حقيقة الموقف. فقد تلقى تفاؤلي صدمة عنيفة. ففي حين قدم الناس عرباتهم مجانا بسرور أثناء حملة الضرائب، وفي حين تقدم إلي اثنان من المتطوعين عندما كنت في حاجة لشخص واحد فقط؛ كان من الصعب الآن الحصول على عربة ولو بالإيجار، ناهيك عن المتطوعين. لكننا لم نفزع، وقررنا الاستغناء عن استعمال العربات وأن نسافر سيرا على الأقدام. فكان علينا أن نقطع نحو 20 ميلا يوميا. وبالطبع لم يكن من المنطقي أن نتوقع أن يزودنا الناس بالطعام بعد أن رفضوا توفير العربات. ولم يكن من اللائق أن نطلب الطعام، فتقرر أن يحمل كل متطوع طعامه في حقيبته. ولم تكن هناك حاجة للفراش أو الملاءات حيث كنا في فصل الصيف.
كنا نعقد الاجتماعات حيثما ذهبنا. وكان الناس يقبلون على حضور تلك الاجتماعات، لكن كان واحد أو اثنان منهم على الأكثر يتطوعون للتجنيد. وكانوا يوجهون لنا أسئلة مثل: «كيف تطالبنا وأنت من أنصار الأهيمسا بأن نحمل السلاح ؟ وماذا فعلت الحكومة من أجل الهند لنتعاون معها؟»
لكن عملنا الدءوب بدأ يؤتي ثماره، فسجل عدد لا بأس به أسماءهم، وفور إرسال المجموعة الأولى راودنا الأمل في أن نتمكن من توفير إمدادات منتظمة. وكنت قد بدأت بالفعل التشاور مع المفوض حول مكان إقامة المتطوعين.
وكان المفوضون في جميع القطاعات يعقدون المؤتمرات على غرار مؤتمر دلهي. وقد تمت دعوتي ورفقائي إلى أحد تلك المؤتمرات، الذي عقد باللغة الجوجراتية. وبالفعل حضرنا المؤتمر، لكنني شعرت بأنني لا أنتمي لذلك المكان بدرجة زادت حتى على الشعور الذي ساورني في دلهي. فقد جعلني مناخ الخضوع الاستعبادي أشعر بالضيق. تحدثت بإسهاب بقدر كبير. ولم أستطع أن ألقي كلمات ترضي المسئولين، وبالطبع ألقيت مرة أو مرتين بكلمات شديدة اللهجة.
اعتدت إصدار نشرات تدعو الناس للتطوع كمجندين. ولم ترق إحدى الحجج التي أوردتها في تلك النشرات للمفوض، وهي: «من بين آثام الحكم البريطاني في الهند، سوف يتذكر التاريخ القانون الذي يقضي بحرمان أمة بأكملها من حيازة الأسلحة كأكثر تلك الآثام ظلما. فإذا كنا نرغب في إلغاء قانون حظر حيازة الأسلحة، وتعلم كيفية استخدام تلك الأسلحة، فها هي الفرصة الذهبية لتحقيق ذلك. يجب أن تمد الطبقة المتوسطة يد العون إلى الحكومة وقت الشدة حتى تنقشع سحابة عدم الثقة ومن ثم ينتهي حظر حيازة الأسلحة.» أشار المفوض إلى تلك الفقرة، ثم عبر لي عن تقديره لحضوري المؤتمر بغض النظر عن الاختلافات القائمة بيننا. وكان علي أن أبرر وجهة نظري بكل ما أوتيت من كياسة.
وها هو الخطاب الذي أرسلته إلى الحاكم البريطاني، والمشار إليه آنفا:
كما تعلم، شعرت بعد دراسة متأنية للموقف أنه يتعين علي إخبار سيادتكم بأنني لن أتمكن من حضور المؤتمر نتيجة للأسباب التي أشرت إليها في الخطاب الذي أرسلته في السادس والعشرين من الشهر الحالي (أبريل/نيسان). لكن بعد المقابلة التي تكرمت ووافقت على إجرائها، أقنعت نفسي بالانضمام إلى المؤتمر، حتى وإن كان السبب الوحيد لذلك هو احترامي لشخصك الموقر. وقد كان من ضمن أسباب امتناعي عن حضور المؤتمر - وربما أكثرها قوة - هو عدم دعوة لوكامانيا تيلاك والسيدة بيسانت والأخوان مولانا محمد علي ومولانا شوكت علي إلى المؤتمر، وهم من أعتبر من أكثر الزعماء تأثيرا على الرأي العام. ولا أزال أشعر بأن عدم دعوتهم يعد خطأ فادحا، وأقترح مع كامل احترامي أنه لا تزال الفرصة قائمة لتصحيح ذلك الخطأ عن طريق دعوة أولئك الزعماء لمساعدة الحكومة بتقديم مشورتهم أثناء المؤتمرات المحلية المزمع انعقادها. أستطيع أن أؤكد أنه لا يمكن لأية حكومة تجاهل مثل أولئك الزعماء الذين يمثلون أغلبية الشعب، حتى وإن كانوا يتبنون وجهات نظر مختلفة بصورة جوهرية. ويسعدني في الوقت ذاته القول إن المجال كان مفتوحا ليعبر جميع الأطراف عن آرائهم بحرية عن طريق لجان المؤتمر. أما أنا، فقد تعمدت الامتناع عن التصريح بآرائي في اللجنة التي تشرفت بالعمل من خلالها أو في المؤتمر ذاته. فقد بدا لي أنه من الأفضل لخدمة أهداف المؤتمر أن أكتفي بتقديم دعمي للقرارات المقدمة للمؤتمر، وهذا ما فعلته دون أي تحفظ. وأرجو أن أضع كلماتي هذه حيز التنفيذ فور قبول الحكومة لعرضي المرفق طيه في خطاب مستقل.
أقر بأن علينا أن نقدم - كما سبق أن قررنا - دعما مطلقا وخالصا في وقت الخطر إلى الإمبراطورية، التي نأمل في المستقبل القريب في أن نصبح شريكا لها، على غرار الدول المستقلة الخارجية التابعة للإمبراطورية البريطانية. لكن الحقيقة المجردة هي أن استجابتنا جاءت نتيجة لأملنا في تحقيق هدفنا بسرعة أكبر. نتيجة لذلك، وبنفس الطريقة التي يمنح بها أداء الواجب بصورة تلقائية حقا مماثلا، يحق للناس الاعتقاد بأن الإصلاحات الوشيكة التي أشرت إليها في خطابك ستجسد المبادئ العامة الرئيسية للمشروع المشترك بين حزب المؤتمر والرابطة الإسلامية. وأنا على يقين بأن ذلك الاعتقاد هو الذي مكن العديد من أعضاء المؤتمر من تعاونهم الصادق مع الحكومة.
لو كان في استطاعتي أن أجعل أبناء وطني يرجعون عن الإجراءات التي سبق أن اتخذوها، لجعلتهم يسحبون جميع قرارات حزب المؤتمر ولا يهمسون بعبارات مثل «الحكم الذاتي» أو «الحكومة المسئولة» في أثناء مدة الحرب. وكنت سأطلب من الهند تقديم كل أبنائها الأشداء تضحية من أجل الإمبراطورية في وقت عسرها. وأعلم أن الهند بذلك العمل ستصبح أكثر الشركاء تميزا في الإمبراطورية، وسوف يولي بذلك عهد التمييز العنصري. لكن ما حدث في الواقع أن جميع المثقفين في الهند قرروا انتهاج مسار أقل فاعلية، ولا يمكن القول إن المثقفين بالهند ليس لهم أي تأثير على العامة. لقد اختلطت بالمزارعين عن قرب منذ عودتي من جنوب أفريقيا إلى الهند، وأريد أن أؤكد لك أن الرغبة في الحكم الذاتي قد تغلغلت في حواسهم ومشاعرهم. لقد حضرت جلسات حزب المؤتمر الأخيرة، حيث كنت طرفا في القرار الذي يقضي بمنح الهند البريطانية حق تشكيل حكومة مسئولة كليا في مدة يحددها تشريع برلماني بوضوح. أعترف بجرأة تلك الخطوة، لكنني موقن أنه لن يرضي الشعب الهندي إلا تحديد رؤية واضحة للحكم الذاتي في أقصر مدة ممكنة. أعلم أن العديد من أبناء الهند مستعدون للتضحية بكل عزيز وغال في سبيل تحقيق غايتهم المنشودة، وهم يقظون بما يكفي لإدراك ضرورة استعدادهم بنفس الدرجة للتضحية بأنفسهم من أجل الإمبراطورية التي يرغبون في الوصول إلى وضعهم المنشود في ظلها. وعليه، لا يسعنا إلا تعجيل التقدم نحو هدفنا عن طريق تكريس أنفسنا قلبا وروحا في صمت وبإخلاص للعمل على تخليص الإمبراطورية من الخطر المحدق بها. وإن عدم الإقرار بتلك الحقيقة الجوهرية، سيعد انتحارا قوميا. ويجب أن ندرك أننا نضمن لأنفسنا الحكم الذاتي من مساعدتنا للإمبراطورية.
وفي حين أرى أن علينا أن نقدم إلى الإمبراطورية كل ما لدينا من رجال للدفاع عنها، أخشى أن الوضع يختلف للمساعدة المالية. فأرى من تعاملي عن قرب مع الفلاحين أن الهند قد زودت خزانة الإمبراطورية بما يزيد على طاقتها. وأنا أعبر بقولي هذا عن رأي أغلبية أبناء وطني.
إن المؤتمر يمثل لي، وللكثيرين منا، خطوة حقيقية نحو التضحية بأرواحنا في سبيل القضية المشتركة، لكن وضعنا مختلف؛ فنحن اليوم لسنا بشركاء. ومشاركتنا مبنية على أمل في مستقبل أفضل. وسوف أعتبر نفسي خائنا لك ولوطني إذا لم أخبرك بوضوح وبوجه قاطع عن ماهية ذلك الأمل، وأنا لا أساوم على تحقيق ذلك الأمل، لكن يجب أن تعلم أن خيبة أملنا ستعني تحررنا من الوهم.
هناك أمر واحد لا يمكنني تجاهله، وهو أنك طلبت منا تنحية الخلافات الداخلية جانبا. وأريد أن أوضح أنني لن أستطيع أن أستجيب إلى ذلك الطلب إذا كان يشمل على التسامح مع الظلم والعدوان، فلسوف أقاوم الظلم بكل ما أوتيت من قوة. ويجب أن يطلب من المسئولين عدم إساءة معاملة الشعب، وأن يقوموا بمراعاة الرأي العام ويحترموه ، وهو ما يختلف عن الوضع فيما مضى. وقد أظهرت السيادة المطلقة للعدالة البريطانية عن طريق مقاومتي لاستبداد راسخ في شامباران. ونرى الآن كيف يشعر قطاع من السكان الذين كانوا حانقين على الحكومة في خيدا بأن السلطة في أيديهم، وليست في أيدي الحكومة، وذلك عندما أصبحوا مستعدين لتحمل المعاناة من أجل الحقيقة التي يمثلونها. ومن ثم تخلص ذلك القطاع من السكان من المرارة التي كانوا يشعرون بها. ويحدث الناس أنفسهم بأن الحكومة يجب أن تدعم الشعب بحيث تتسامح مع العصيان المنظم والمحترم إذا ما شعرت بتعرضهم للظلم. وهكذا يعتبر عملي في شامباران وخيدا الإسهام المباشر والواضح والخاص في الحرب. فإذا ما طلبت مني أن أوقف نشاطاتي تلك، ستكون بذلك كمن يطلب مني أن أنهي حياتي. أتمنى لو أستطيع نشر قوة الروح المرادفة لقوة الحب لتحل محل القوة الغاشمة، فوقتها ستكون الهند قادرة على تحدي العالم أجمع بكل مساوئه. فيجب علي أن أفرض على نفسي - سواء كان الوقت مناسبا أو غير مناسب - توضيح قانون المعاناة الأبدي هذا في حياتي وأن أعرضه على المهتمين بالأمر. ولن يكون اشتراكي في أي نشاط آخر إلا بدافع إظهار التفوق منقطع النظير لذلك القانون.
وأخيرا، أرجو من سيادتكم طلب تأكيد واضح من وزراء جلالة الملك فيما يتعلق بالولايات الإسلامية؛ فأنت على علم بمدى اهتمام كل مسلم بتلك المسألة. وكوني هندوسيا لا يعني تجاهل قضيتهم، فإننا نحزن لحزنهم. إن أمان الإمبراطورية يتوقف على احترام حقوق تلك الولايات ومشاعر المسلمين فيما يتعلق بأماكن العبادة، والمعالجة العادلة والفورية لمطالبة الهند بالحكم الذاتي. وأنا عندما أكتب هذه الكلمات، أكتبها بدافع حبي للشعب الإنجليزي، وأتمنى أن أتمكن من استثارة ولاء الشعب الإنجليزي داخل كل مواطن هندي.
الفصل الثامن والعشرون
على أعتاب الموت
لقد أهلكت نفسي في أثناء حملة تجنيد المتطوعين. كان طعامي في تلك الفترة يتكون بصورة رئيسية من زبدة الفول السوداني والليمون، وكنت أعلم أن تناول كميات كبيرة من الزبدة قد يضر بصحة الإنسان، لكن ذلك لم يثنيني عن تناولها. وقد أدى ذلك إلى إصابتي بمرض «الدوسنتاريا»، لكن الإصابة لم تكن خطيرة، فلم ألق بالا لتلك الإصابة، وذهبت في المساء إلى مقر الجماعة كعادتي من حين إلى آخر. وكنت نادرا ما أتناول أي دواء في تلك الأيام. اعتقدت أن صحتي ستتحسن إذا ما تخليت عن تناول إحدى الوجبات الغذائية، وبالفعل شعرت بتحسن واضح إثر الامتناع عن تناول وجبة الإفطار في صباح اليوم التالي. لكنني كنت على دراية بأن علي أن أطيل فترة الصوم ولا أتناول إلا عصائر الفاكهة كي أشفى تماما.
وافق ذلك اليوم تاريخ أحد الأعياد، وقد أغرتني كاستوربا بالطعام مع أنني أخبرتها بأنني لن أتناول وجبة الغداء حتى استسلمت لإغرائها. وقد أعدت لي خاصة عصيدة قمح لذيذة وأضافت لها الزيت بدلا من السمن نظرا لالتزامي بعهد الامتناع عن تناول الألبان أو منتجاتها. واحتفظت لي بسلطانية من المنج. كنت مغرما بتلك الأطعمة، فتناولتها بكل سرور آملا أن أتناول ما يكفي فقط لإرضاء كاستوربا ولإرضاء شهيتي. لكن الشيطان كان لي بالمرصاد منتظرا الفرصة المناسبة، فبدلا من أن أتناول مقدارا ضئيلا من الطعام، أكلت حتى امتلأت. وكان تصرفي هذا بمنزلة دعوة لقدوم ملك الموت، فما هي إلا ساعة أو أقل حتى ظهرت علي أعراض الدوسنتاريا بصورة حادة.
كان يجب أن أعود إلى نادياد في ذات اليوم، فسرت أجر خطاي إلى محطة سابارماتي التي لا تبعد أكثر من 10 فرلنج.
1
لاحظ توعكي السيد فالابهباي، الذي انضم إلي في أحمد آباد، لكنني لم أجعله يشعر بمدى الألم الذي كنت أعانيه.
وصلنا إلى نادياد قرابة العاشرة. كان الملجأ الهندوسي حيث يقع مقرنا يبعد مسافة نصف ميل من المحطة، لكنها كانت في نظري كعشرة أميال. استطعت بطريقة ما الوصول إلى المقر، لكن الألم المبرح كان يتزايد باستمرار. وطلبت وضع مرحاض بالغرفة المجاورة لي بدلا من استخدام المرحاض العام الذي كان يقع على مسافة بعيدة. شعرت بالخجل لاضطراري للتقدم بذلك الطلب، لكنني لم أجد بدا منه. وعلى الفور اشترى السيد فولشاند المرحاض، وقد أحاط بي الأصدقاء ليطمئنوا علي صحتي. لقد غمروني جميعا بمشاعر الحب والاهتمام، لكن لم يكن بمقدورهم التخفيف من حدة آلامي. ذلك إلى جانب عنادي الذي زاد من عجزهم عن مساعدتي. فقد رفضت تلقي أي مساعدة طبية وقررت ألا أتناول أي نوع من الأدوية، وفضلت أن أتحمل عاقبة حماقتي. فأخذوا يتطلعون إلي بنظرة يملؤها الأسى والعجز. أظن أنني تبرزت ما يقرب من ثلاثين أو أربعين مرة على مدار الأربع والعشرين ساعة. لزمت الصوم، حتى أنني امتنعت عن تناول عصائر الفاكهة في بداية الأمر. فقد تلاشت شهيتي تماما. لطالما ظننت أنني أمتلك جسدا حديديا، لكنني اكتشفت الآن أن جسدي قد أصبح هشا وغير قادر على المقاومة. جاءني الطبيب كانوجا وطلب مني تناول الدواء، لكنني رفضت. ورفضت عرضه أن يعطيني حقنة حيث إنني كنت جاهلا تماما بالحقن في تلك الأيام بدرجة تدعو للسخرية. كنت أعتقد أن الحقنة يجب أن تكون عبارة عن نوع من المصل، لكنني اكتشفت بعد ذلك أن الحقنة التي كان الطبيب يزمع إعطاءها لي كانت مكونة من مادة نباتية، وعرفت ذلك بعد فوات الأوان. استمررت في التبرز، حتى خارت قوتي بالكلية، وأدى تعبي الشديد إلى إصابتي بالحمى. زاد قلق الأصدقاء بشأني، واستدعوا المزيد من الأطباء. لكن ماذا كان يمكن أن يفعل الأطباء مع مريض لا ينصت إلى نصائحهم؟
حضر السيد أمبالال بصحبة زوجته الصالحة إلى نادياد وتشاور مع أصدقائي، ثم نقلني إلى منزله في ميرزابور بأحمد آباد. لقد حظيت بحب ورعاية أثناء مرضي هذا منقطعي النظير. إلا أن حمى خفيفة لازمتني وأخذت تنخر في جسدي يوما بعد يوم. شعرت بأن المرض سيطول وربما يكون قاتلا. بدأت أشعر بالضيق مع تنعمي بالحب والرعاية في بيت السيد أمبالال، وطلبت منه نقلي إلى مقر الجماعة. فاضطر إلى الاستجابة لإلحاحي.
وبينما كنت أتقلب في فراش المرض في مقر الجماعة، إذ بالسيد فالابهباي يحضر لي أخبار هزيمة ألمانيا هزيمة نكراء وإرسال المفوض إليهم ليخبرهم بعدم وجود حاجة لتجنيد المزيد من المتطوعين. وقد أزالت تلك الأخبار عبء تجنيد المتطوعين الذي كان يثقل كاهلي.
بدأت في الخضوع للمعالجة المائية، الأمر الذي خفف عني بقدر ما. لكن واجهتني صعوبة في إعادة بناء جسدي. غمرني ذلك الحشد من الأطباء بالنصائح الطبية لكنني لم أستطع الاقتناع بتناول أي من الأدوية. فقد اقترح اثنان أو ثلاثة من الأطباء أن أتناول مرق اللحم تهربا من عهد الامتناع عن تناول الحليب، واستشهدوا بأجزاء من طب الآيورفيدا لدعم حجتهم. وقد شدد أحدهم على تناول البيض. لكنني أعطيتهم جميعا نفس الإجابة: لا.
كنت لا أتقيد بالنصوص المقدسة فيما يتعلق بمسألة الغذاء. فقد كانت متشابكة مع أسلوب حياتي الذي توجهه مبادئ لم تعد تعتمد على مراجع خارجية. ولم يكن لدي أدنى رغبة في التضحية بتلك المبادئ. فكيف أتخلى عن مبدأ فرضته بقسوة على زوجتي وأطفالي وأصدقائي؟
أتاحت لي مدة المرض الطويلة، الذي كان الأول من نوعه في حياتي، فرصة فريدة من نوعها كي أدرس مبادئي بإمعان وأخضعها للاختبار. وقعت ذات يوم فريسة لليأس، وشعرت بأنني على أعتاب الموت. فبعثت برسالة إلى السيدة أناسويابين، التي هرعت إلى مقر الجماعة. حضر السيد فالابهباي بصحبة الطبيب كانوجا، الذي تحسس نبضي وقال: «إن نبضك منتظم تماما، ولا أرى أي خطورة على حياتك. إنك تعاني انهيارا عصبيا جراء الضعف الشديد الذي تعانيه.» لكن كلام الطبيب لم يطمئني. مرت ساعات الليل وجنبي يتجافى عن المضجع.
أشرق الصباح دون أن يأتيني داعي الموت. لكنني لم أستطع التخلص من الشعور بقرب النهاية ، فكرست ساعات يقظتي للاستماع إلى الجيتا التي كان يتلوها أعضاء الجماعة على مسامعي. فقد كنت غير قادر على القراءة وكنت أتحدث بصعوبة. كان أقل حديث يمثل ضغطا على العقل. تلاشت أي رغبة لدي في الحياة لأنني لم أرغب قط في العيش لمجرد العيش. فقد كان من غير المحتمل العيش في تلك الحالة العاجزة حيث يقوم على خدمتي الأصدقاء والزملاء، ومشاهدة جسدي يفنى أمامي ببطء.
وفي حين كنت على تلك الحالة أرتقب الموت، أتاني الطبيب تالفالكار ذات يوم وبصحبته شخص غريب من ولاية ماهاراشترا. لم يكن ذلك الشخص مشهورا، لكن ما إن رأيته حتى أدركت أنه مهووس بآرائه مثلي. وقد حضر ليجرب طريقته العلاجية معي. وكان قد أوشك على إنهاء دراسته في «كلية جرانت للطب» لكنه لم يكن قد حصل على الشهادة بعد. وقد علمت فيما بعد أنه كان عضوا في «جمعية براهمو». كان السيد كيلكار، وهو الاسم الذي كان يحمله ذلك الشخص، ذا طبيعة استقلالية وعنيدة. وكان لديه ثقة كبيرة بالمعالجة بالثلج التي كان يرغب في تجربتها معي. فأطلقنا عليه لقب «طبيب المعالجة بالثلج». إنه على يقين بأنه اكتشف أمورا غابت عن الأطباء الأكفاء. إن من المؤسف له ولي أنه لم يستطع إقناعي بطريقة العلاج تلك. أنا أؤمن بطريقته بقدر ما، لكنني أخشى أنه تسرع في التوصل إلى بعض الاستنتاجات.
لكنني سمحت له بتجربة طريقته على جسدي بغض النظر عن مدى صحة اكتشافاته. فلم يكن لدي مانع من تجربة المعالجة الخارجية. وكان العلاج بوضع الثلج على جميع أجزاء الجسم. ومع أنني لم أستطع الجزم بما قال بشأن تأثير طريقته العلاجية على مرضي، فلا شك لدي أنها منحتني أملا جديدا وزودتني بطاقة جديدة. وكان من الطبيعي أن ينقل العقل ذلك الشعور إلى الجسد. بدأت أسترد شهوتي إلى الطعام، وأقوم بالمشي لمدة تتراوح بين خمس وعشر دقائق. ثم اقترح إجراء تعديل على نظامي الغذائي. فقال لي: «أؤكد لك أن طاقتك ستزداد وستستعيد قوتك في وقت أسرع إذا ما تناولت البيض النيئ. إن البيض غير مؤذ مثله كمثل الحليب، ولا يمكن أن يندرجا تحت قائمة اللحوم. هل تعلم أن جميع البيض غير ملقح؟ وهناك بيض معقم متوافر في السوق.» لكنني لم أكن مستعدا لتناول حتى البيض المعقم. ومع ذلك، كان تحسني كافيا لأعود لممارسة الأنشطة العامة.
هوامش
الفصل التاسع والعشرون
قانون رولات والمأزق
أكد لي الأصدقاء والأطباء أنني سأتعافى بصورة أسرع إذا ما انتقلت إلى ماثيران، فتوجهت إلى هناك. لكن نسبة الأملاح المعدنية في مياه ماثيران كانت مرتفعة مما جعل من إقامتي هناك أمرا شاقا. ونتيجة لإصابتي بالدوسنتاريا، أصبحت فتحة الشرج لدي شديدة الحساسية، وشعرت بألم حاد في أثناء عملية الإخراج نتيجة للشروخ الشرجية. أدى ذلك إلى شعوري بالفزع من مجرد فكرة تناول الطعام. فاضطررت إلى الفرار من ماثيران قبل مرور أسبوع على إقامتي بها. جعل شانكارلال بانكر نفسه قائما على صحتي، وألح علي كي أستشير الطبيب دالال الذي استدعي لهذا الغرض. وقد أثار انتباهي قدرته على اتخاذ قرارات فورية.
فقال لي: «لا يمكنني أن أعيد جسدك لبنيته الطبيعية إلا إذا تناولت الحليب. وأضمن لك أن تستعيد بنيانك الجسدي كليا إذا ما وافقت أيضا على إعطائك حقن حديد وزرنيخ.»
فأجبته: «يمكنك أن تعطيني الحقن، أما مسألة تناول الحليب فذلك أمر آخر. فلقد أخذت على نفسي عهدا بعدم تناوله.»
سألني الطبيب: «ما هي طبيعة عهدك بالضبط؟»
فرويت للطبيب القصة بأكملها وأخبرته عن الأسباب التي دفعتني لأخذ العهد، وكيف تكون لدي كره شديد للحليب منذ أن علمت بأن البقر والجاموس يتعرض لعملية «البوكا».
1
ولطالما رأيت أن الحليب ليس بالغذاء الطبيعي للإنسان. ومن ثم امتنعت عن تناوله بالكلية. كانت كاستوربا تقف قرب الفراش تستمع إلى حديثنا.
فتدخلت قائلة: «إذن لا مانع لديك من تناول حليب الماعز؟»
فدعم الطبيب قولها قائلا: «يكفيني أن تتناول حليب الماعز.»
انصعت لطلبهما إذ تولدت لدي رغبة في الحياة نبعت من حرصي الشديد على قيادة نضال الساتياجراها. وهكذا أقنعت نفسي بالالتزام بالمعنى الحرفي لعهدي وأن أتنازل عن روح العهد. فمع أنني كنت أتصور البقر والجاموس فقط في ذهني وقت أخذي للعهد، كان العهد يتضمن بطبيعته الحليب المستخلص من جميع الحيوانات. ولم يكن من الممكن أن أتناول الحليب بأي حال من الأحوال ما دمت أرى أن الحليب ليس الغذاء الطبيعي للإنسان. ومع علمي بذلك كله، وافقت على تناول حليب الماعز. لقد كانت رغبتي في الحياة أقوى من تمسكي بالحقيقة، ولأول مرة تنازل نصير الحقيقة عن مبادئه المقدسة مقابل شغفه بقيادة نضال الساتياجراها. ما زالت ذكرى تلك الواقعة تعتمل في صدري وتملؤني بالندم. وأفكر باستمرار في طريقة لأتخلص بها من تناول حليب الماعز. لكن حتى الآن لا يمكنني أن أتخلص من أشد المغريات علي التي لا تزال تستحوذ علي، ألا وهي الرغبة في الخدمة العامة.
إن تجاربي الغذائية عزيزة علي كجزء من أبحاثي في الأهيمسا. فهي تجعلني أشعر بالراحة والسعادة. أما تناولي لحليب الماعز اليوم فيشعرني بالضيق ليس من وجهة نظر الأهيمسا الغذائية بقدر ما هو من وجهة نظر الالتزام بالحقيقة؛ فتناوله كان خرقا للعهد. يبدو لي أنني أدرك مبادئ الحقيقة بصورة أفضل من إدراكي لمبادئ الأهيمسا، وأرى من خبرتي أنني إن أرخيت زمام تمسكي بالحقيقة، فلن أكون قادرا أبدا على حل لغز الأهيمسا. إن مبادئ الحقيقة تقضي بالالتزام بروح العهد بالإضافة إلى صيغته اللفظية. أما في هذه الحالة فإن الأمر الذي يزعجني هو أنني دمرت الروح - روح العهد - والتزمت بصيغته اللفظية فقط. لكن إدراكي هذا لم يمكني من اختيار الطريق السليم. بعبارة أخرى، ربما لم يكن لدي الشجاعة اللازمة لسلك الطريق القويم. في الواقع، لا أجد فرقا بين الأمرين فالشك دائما ما يكون نتيجة نقص الإيمان أو ضعفه. فكان دعائي ليل نهار: «ربي ارزقني الإيمان!»
أجرى لي الطبيب دالال عملية ناجحة للشروخ الشرجية بعد مدة وجيزة من بدء تناولي لحليب الماعز. وما إن تعافيت حتى عادت لي الرغبة في الحياة، خاصة وقد ادخر لي الإله نصيبي من العمل.
كنت بالكاد أشق طريقي نحو الشفاء عندما اطلعت بالصدفة في الصحف على تقرير لجنة رولات الذي كان قد نشر للتو. ولقد شعرت بالفزع عند قراءتي لتوصيات اللجنة. اقترح شانكارلال بانكر وعمر صوباني أن أتخذ إجراء فوريا بهذا الشأن. فتوجهت إلى أحمد آباد فيما يقرب من الشهر. أطلعت فالابهباي، الذي اعتاد زيارتي تقريبا بصورة يومية، على الهواجس التي تدور في خاطري. فقلت له: «يجب أن نتخذ أي إجراء بهذا الصدد.» فسألني: «لكن ماذا عسانا أن نفعل في ظل الظروف الراهنة؟» فأجبته: «لو أن هناك ولو حفنة من الرجال المستعدين للتوقيع على عهد المقاومة، وجرى تمرير مشروع القانون كقانون مع تلك المقاومة، فحينها يجب أن نقدم على الساتياجراها فورا. كنت أتمنى لو لم أكن طريح الفراش كي أناضل وحدي وأنتظر انضمام الآخرين. لكنني أشعر وأنا بحالتي هذه أنني غير كفء للمهمة.»
وقد ترتب على تلك المحادثة أن تقرر الدعوة لانعقاد اجتماع يضم الأشخاص المقربين لي. بدت لي الشواهد التي أوردتها لجنة رولات في تقريرها لدعم توصياتها غير كافية، وشعرت بأنه لا يوجد شعب يحترم ذاته يمكن أن يخضع لمثل تلك التوصيات.
وأخيرا انعقد المؤتمر المزمع في مقر الجماعة. دعي إلى المؤتمر بالكاد عشرون شخصا. بقدر ما تسعفني ذاكرتي أعتقد أن من ضمن الحضور كانت السيدة ساروجيني نايدو والسيد هورنيمان والراحل عمر صوباني وشانكارلال بانكر والسيدة أناسويابين، بالإضافة إلى فالابهباي. وتمت صياغة عهد الساتياجراها في ذلك الاجتماع. ووقع عليه، على ما أذكر، جميع الحضور. لم أكن أكتب أي مقالات في ذلك الوقت، لكنني اعتدت أن أعبر عن آرائي من حين إلى آخر في الصحف اليومية. وهذا ما فعلته في ذلك الموقف. تولى شانكارلال بانكر النضال على نحو جاد، ولأول مرة اكتشف قدرته الرائعة على تنظيم العمل والعمل المستمر.
ونظرا لعدم وجود أي أمل في تبني أي مؤسسة من المؤسسات القائمة لسلاح جديد مثل الساتياجراها، تأسست مؤسسة مستقلة تحمل اسم «جمعية الساتياجراها»
Satyagraha Sabha
بناء على طلبي. وقد كان أعضاء الجمعية الرئيسيون ينتمون إلى بومباي حيث كان مقر الجمعية الرئيسي. شرع المتعهدون في التوقيع على عهد الساتياجراها بأعداد ضخمة، وصدرت النشرات ، وبدأ عقد اجتماعات شعبية في كل مكان لتحيي في الأذهان جميع مظاهر حملة خيدا.
أصبحت رئيسا لجمعية الساتياجراها. وسرعان ما اكتشفت عدم وجود فرصة كبيرة لحدوث اتفاق بيني وبين رجال الفكر من أعضاء الجمعية. فقد كان إصراري على استخدام اللغة الجوجراتية في الجمعية، وبعض من أساليب العمل الأخرى التي قد تبدو غريبة؛ مصدرا لانزعاجهم وإحراجهم. لكن إحقاقا للحق، يجب أن أذكر أن أغلبهم تحمل غرابة أطواري بصدر رحب.
لكنني أدركت منذ البداية أن الجمعية لن تستمر طويلا. فقد رأيت بالفعل أن بعض أعضاء الجمعية بدءوا يستاءون من تأكيدي على الحقيقة والأهيمسا. ومع ذلك، كان نشاطنا الجديد يسير بكامل طاقته في مراحله الأولى. وأخذت الجمعية في النمو بسرعة.
هوامش
الفصل الثلاثون
ذلك المشهد الرائع!
تزايدت حدة الثورة ضد تقرير لجنة رولات وحجمها من جهة، وزاد اتجاه الحكومة إلى تنفيذ توصيات اللجنة من جهة أخرى، ونشر مشروع قانون رولات. لقد حضرت فعاليات جلسات الهيئة التشريعية بالهند مرة واحدة فقط في حياتي لمناقشة مشروع القانون هذا. وقد ألقى لال بهادور شاستريجي خطابا مثيرا للعواطف، وجه فيه إنذارا جادا إلى الحكومة. كان الحاكم البريطاني يستمع إلى الخطبة وكأنه مسحور. فقد كانت عيناه ثابتتين في اتجاه شاستريجي في حين كان شاستريجي يقدم فيضا متقدا من الخطابة. بدا لي في ذلك الوقت أنه لا بد للحاكم البريطاني من التأثر بتلك الخطبة لما اتسمت به من صدق وعاطفة جياشة.
لكن يمكنك أن توقظ شخصا ما إذا كان نائما حقا، لكن لا جدوى من محاولة إيقاظ شخص يتظاهر بالنوم فحسب. كان ذلك بالضبط موقف الحكومة. فقد كانت الحكومة مهتمة فقط بالخوض في مسرحية الإجراءات القانونية الهزلية؛ فالقرار كان قد صدر بالفعل. ومن ثم ضاع أثر إنذار شاستريجي الجاد للحكومة كليا.
وفي ظل تلك الظروف، لم يكن خطابي إلا صرخة في فلاة. تحاورت بجدية مع الحاكم البريطاني، ووجهت له خطابات شخصية وعامة أخبرته فيها صراحة أن ما قامت به الحكومة لم يترك لي خيارا إلا اللجوء إلى الساتياجراها. لكن ذلك كله كان دون جدوى.
لم يكن مشروع القانون قد نشر في الجريدة الرسمية بعد. وكانت صحتي متدهورة، لكنني قررت أن أخاطر بالقيام برحلة طويلة عندما تلقيت دعوة من مدينة مدراس. كان الوهن قد أصاب صوتي في تلك الفترة، حتى إنني لم أكن قادرا على رفعه بدرجة كافية في أثناء الاجتماعات. ولم أتخلص من عجزي عن إلقاء الخطب واقفا في الاجتماعات. كان جسدي بأكمله ينتفض وكانت نبضات قلبي تتسارع إذا ما شرعت في الحديث واقفا لأية مدة من الزمن.
لطالما شعرت وأنا في الجنوب بأنني في موطني . وبفضل عملي الذي أنجزته في جنوب أفريقيا شعرت بأن لي حقا خاصا على التاميليين والتيلوجيين، ولم يخيب أهل الجنوب ظني فيهم قط. كانت الدعوة موقعة من السيد كاستوري رانجا إينجار، لكنني علمت فيما بعد وأنا في طريقي إلى مدراس أن راجاجوبالاشاري هو الشخص المحرك لتلك الدعوة. ويمكن القول بأنني تعرفت إليه للمرة الأولى في تلك المناسبة. وعلى كل حال، كانت تلك هي المرة الأولى التي نتعارف فيها شخصيا.
كان راجاجوبالاشاري قد رحل حديثا عن مدينة سالم ليستقر في مدراس لممارسة المحاماة بناء على الدعوة الملحة من أصدقائه من أمثال الراحل السيد كاستوري رانجا إينجار بغرض الاضطلاع بطريقة أكثر فعالية في الحياة العامة. وقد استضافنا راجاجوبالاشاري عند نزولنا بمدراس. ولم أدرك تلك الحقيقة إلا بعد أن مكثنا لديه لبضعة أيام. فنظرا لأن المنزل كان ملكا للسيد كاستوري رانجا إينجار، تولد لدي انطباع بأنه هو مضيفنا. لكن ماهديف ديساي صحح لي تلك المعلومة. وما لبث أن كون ماهديف علاقة قوية بالسيد راجاجوبالاشاري، الذي اختار أن يكون بعيدا عن الأضواء باستمرار نتيجة لحيائه الفطري. لكن ماهديف نصحني ذات يوم، قائلا: «عليك أن تكسب صداقة ذلك الرجل.»
وبالفعل كسبت صداقة راجاجوبالاشاري. فكنا نناقش يوميا خطط النضال، لكنني لم أكن أستطيع التفكير في أي خطة عمل أخرى غير عقد الاجتماعات العامة. كنت في حيرة من أمري بشأن اكتشاف طريقة أقدم بها العصيان المدني ضد قانون رولات إذا ما مرر كقانون. فلا يمكن للمرء أن يخالف القانون إلا إذا أعطته الحكومة الفرصة للقيام بذلك. وإذا لم تمنحنا الحكومة تلك الفرصة، هل يمكننا مخالفة القوانين الأخرى؟ وإذا خالفنا القوانين الأخرى، فإلى أي مدى يجب أن نستمر؟ وقد كانت مثل هذه الأسئلة وغيرها هي المحور الرئيسي لمناقشاتنا.
دعا السيد كاستوري رانجا إينجار إلى عقد اجتماع مصغر للزعماء بهدف مناقشة المسألة بعناية. وكان من ضمن الزعماء البارزين الذين شاركوا في ذلك الاجتماع السيد فيجاياراغافاشاري، الذي اقترح أن أصيغ كتيبا شاملا عن علم الساتياجراها أجمع فيه حتى أدق التفاصيل. لكنني شعرت بأن تلك المهمة تفوق قدرتي، وأسررت له بذلك.
وبينما كانت تلك الأفكار تجول بخاطرنا إذ تلقينا أخبارا تفيد بتمرير مشروع القانون الذي طرحته لجنة رولات كقانون. وقد غلبتني عيني في تلك الليلة وأنا أفكر في تلك المسألة. استيقظت في الصباح الباكر في وقت مبكر عن موعدي المعتاد. كنت لا أزال في تلك الحالة من الخمول بين النوم واليقظة عندما قفزت الفكرة إلى ذهني، لقد بدا الأمر وكأنه حلم. وفي الصباح رويت القصة بأكملها لراجاجوبالاشاري:
لقد جاءتني الفكرة ليلة أمس في صورة حلم، وتتمثل الفكرة في أن نناشد الشعب كي يقوم بإضراب عام. إن الساتياجراها هي عملية تطهير للنفس، ونضالنا نضال مقدس، ويبدو لي أنه يجب أن نبدأها بعمل يطهر الأنفس. فدع جميع أبناء الشعب الهندي يتوقفون عن العمل في ذلك اليوم ويعتبرونه يوم صيام وصلاة. لا يمكن للمسلمين أن يصوموا لما يزيد على اليوم، لذلك تقرر أن يكون الصوم لمدة أربع وعشرين ساعة. كان من الصعب أن نجزم بأن جميع الأقاليم ستستجيب لذلك الطلب، لكنني كنت واثقا أن بومباي ومدراس وبيهار والسند. وأعتقد أنه يكفي التزام تلك المناطق بالإضراب العام على نحو سليم.
وعلى الفور وافق راجاجوبالاشاري على اقتراحي. ورحب غيره من الأصدقاء بالفكرة عندما أخبرتهم بها لاحقا. فكتبت طلبا موجزا يحمل ذلك المعنى. كان من المفترض أن يكون الإضراب في يوم 30 مارس/آذار 1919م، لكننا عدلنا التاريخ فيما بعد ليصبح 6 أبريل /نيسان. ومن ثم، لم يكن لدى الشعب فترة طويلة للاستعداد قبل القيام بالإضراب. فلقد كان من الصعب مد مدة الإخطار لضرورة البدء في العمل على الفور.
لكن لا أحد يدري كيف حدث الأمر. فلقد التزم جميع شعب الهند في مشارقها وحتى مغاربها من مدن وقرى بإضراب تام في ذلك اليوم. كان ذلك المشهد الأروع بحق!
الفصل الحادي والثلاثون
يا له من أسبوع لا ينسى! (1)
وصلت إلى بومباي بعد جولة قصيرة في جنوب الهند - أعتقد في الرابع من أبريل/نيسان - بعد أن تلقيت برقية من شانكارلال بانكر يطلب مني فيها القدوم إلى بومباي لحضور احتفالات السادس من أبريل/نيسان.
لكن في غضون ذلك كان الناس في دلهي قد قاموا بالإضراب بالفعل في 30 مارس/آذار. كانت أوامر الراحل السيد شراداناند جي وحكيم أجمل خان نافذة في دلهي. وكانت البرقية التي تحمل تأجيل موعد الإضراب إلى 6 أبريل/نيسان قد وصلتهم متأخرة. ولم تكن دلهي قد شهدت مثل ذلك الإضراب من قبل. فقد اتحد الهندوس والمسلمون كرجل واحد. وتمت دعوة السيد شراداناند جي لإلقاء كلمة في «مسجد الجمعة». لم تستطع السلطات أن تتحمل كل ذلك. فتعرض رجال الشرطة لمسيرة المضربين في أثناء تقدمها نحو محطة السكة الحديدية وأطلقوا النار مما تسبب في سقوط ضحايا، وبدأ عهد القمع في دلهي. وفي الحال استدعاني شراداناند جي إلى دلهي. فأرسلت له برقية أخبره فيها بأنني سأنطلق إلى دلهي على الفور عقب انتهاء احتفالات السادس من أبريل/نيسان في بومباي.
تكرر ما حدث في دلهي، مع بعض الاختلاف، في لاهور وأمريتسار. وقد أرسل لي كل من الطبيب ساتيابال وكيتشلو دعوة ملحة كي أتوجه إلى أمريتسار. ولم تكن تربطني بهم وقتها أي علاقة، لكنني عبرت لهم عن عزمي على زيارة أمريتسار بعد انتهاء زيارتي لدلهي.
وفي صباح السادس من أبريل/نيسان، اندفع الآلاف من مواطني بومباي أفواجا إلى شاطئ شاوباتي للاستحمام في مياه البحر، وعقب ذلك توجهوا في مسيرة نحو معبد ثاكوردفار. وقد اشتملت المسيرة على عدد من النساء والأطفال، في حين اشترك المسلمون بأعداد هائلة. ثم أخذنا الأصدقاء المسلمون بعد ذلك إلى مسجد يقع بالجوار حيث حثنا الأصدقاء أنا والسيدة نايدو على إلقاء كلمة. اقترح السيد فيثالداس جيراجاني أن نحضر تقديم الناس لعهود الاكتفاء الذاتي
Swadeshi
والوحدة بين الهندوس والمسلمين حينها، لكنني اعترضت على الاقتراح لأن العهود يجب ألا تقدم أو تؤخذ في عجالة وكان يكفي ما يقوم به الناس بالفعل. فأنا أرى أنه ما أن يؤخذ العهد لا يمكن أن ينقض. وبناء على ذلك، كان من الضروري توضيح المعاني المتضمنة في عهد الاكتفاء الذاتي، وأن يدرك جميع الأطراف المعنية جيدا المسئولية الخطيرة المترتبة على عهد وحدة الهندوس والمسلمين. وفي النهاية، اقترحت أن يجتمع من يرغبون في اتخاذ العهود في صباح اليوم التالي لذلك الغرض.
ولا حاجة هنا لذكر أن الإضراب في بومباي حقق نجاحا باهرا. جرى الاستعداد الكامل للقيام بعصيان مدني. وقد ناقشنا مسألتين أو ثلاثا فيما يتعلق بهذا الشأن. رأينا أنه لا يمكننا اللجوء للعصيان المدني فيما يتعلق بتلك القوانين إلا إذا كانت القوانين تستدعي عصيان الشعب بلا جدال. كان هناك شجب شديد لضريبة الملح، وكان هناك تحرك قوي من أجل إلغائها. فاقترحت أن يعد الناس الملح من مياه البحر في منازلهم مخالفين بذلك قوانين الملح. وقدمت اقتراحا آخر يدعو إلى بيع المطبوعات التي يحظر القانون نشرها. وقد وجدت إمكانية استخدام كل من كتاب «الحكم الذاتي للهند» وكتاب «الخير للجميع» (نسخة مترجمة إلى اللغة الجوجراتية لكتاب راسكين «حتى الرجل الأخير») اللذين حظرت الحكومة نشرهما بالفعل. كانت طباعة تلك الكتب وبيعها صراحة أسهل الطرق لإعلان العصيان المدني. قمنا بطباعة عدد كاف من الكتب، وأعددنا لبيعها في نهاية الاجتماع الضخم الذي كان من المزمع عقده بعد انتهاء الصوم.
وفي مساء السادس من أبريل/نيسان، انطلق حشد من المتطوعين حاملين تلك الكتب المحظورة لتوزيعها بين الناس. وخرجت أنا والسيدة ساروجيني ديفي في عربات. سرعان ما نفدت نسخ الكتب. وكنا ننوي استغلال عائدات بيع الكتب في توسيع حملة العصيان المدني. كان السعر المحدد لكلا الكتابين هو أربع آنات للنسخة، لكن أغلب الناس لم يشتروا الكتاب بذلك الثمن، بل كان الكثير من الناس يفرغون كل ما في جيوبهم من أموال مقابل شراء نسخة من الكتب. بيعت النسخة الواحدة بخمس روبيات حينا وبعشر روبيات حينا آخر، وأذكر أيضا أنني قد بعت نسخة في إحدى المرات بسعر خمسين روبية. وقد شرحنا للناس بصورة وافية إمكانية تعرضهم للاعتقال والسجن جراء شرائهم مثل هذه الكتب المحظورة. لكنهم في ذلك الوقت تخلصوا من كل شعور بالخوف من الذهاب للسجن.
علمنا فيما بعد أن الحكومة تدبرت الأمر بالقول إنه لم يحدث بيع أي كتب محظورة، وإن الكتب التي بعناها لا تندرج تحت تعريف المطبوعات المحظور نشرها. فقد اعتبرت الحكومة أن الكتب التي نشرناها هي طبعة جديدة من الكتب التي كان نشرها محظورا، ومن ثم لم يشكل بيعها جريمة بمقتضى القانون. وقد أدت تلك الأخبار إلى انتشار جو عام من خيبة الأمل.
وفي صباح اليوم التالي، عقد اجتماع لأخذ العهود المتعلقة بالاكتفاء الذاتي والوحدة بين الهندوس والمسلمين. أدرك فيثالداس جيراجاني لأول مرة أنه ليس كل ما يلمع ذهبا. فلقد حضر ذلك الاجتماع عدد ضئيل من الناس. وأتذكر بوضوح بعض الرفيقات اللائي حضرن الاجتماع، مع حضور عدد قليل جدا من الرجال. شرحت معنى العهد بالكامل للحضور قبل أن آخذه عليهم. لم تزعجني قلة الحضور أو تفاجئني، فلقد لاحظت هذا التناقض البين في موقف الناس - فالناس تولع بالعمل المثير وتبغض الجهود البناءة التي تبذل في صمت. ولا يزال ذلك التناقض مستمرا حتى يومنا هذا.
لكنني سأخصص فصلا بأكمله للحديث عن هذا الموضوع. أعود لسرد القصة، فأقول إنه في مساء السابع من أبريل/نيسان، توجهت إلى دلهي وأمريتسار. وقد سمعت فور وصولي إلى ماثورا في الثامن من أبريل/نيسان إشاعات حول احتمال إلقاء القبض علي. جاء أشاريا جيدفاني في المحطة التالية لماثورا، وأعطاني معلومات مؤكدة عن نية اعتقالي. وعرض خدماته إذا احتجت منه أي شيء. فشكرته على عرضه وأكدت له أنني سأخبره إذا ما احتجت إلى أي مساعدة.
وقبل أن يصل القطار إلى محطة قطار بالوال، تلقيت أمرا خطيا يقضي بمنعي من دخول حدود ولاية البنجاب، خوفا من أن يتسبب وجودي بها في زعزعة الأمن. طلب مني رجال الشرطة النزول من القطار، فرفضت الانصياع قائلا: «أريد الذهاب إلى البنجاب بناء على دعوة ملحة من أهلها للقضاء على البلبلة وليس لإثارتها. لذلك يؤسفني أن أخبركم بأنه لا يمكنني الرضوخ لمثل ذلك الأمر.»
وصل القطار أخيرا إلى بالوال، وكان ماهديف بصحبتي. فطلبت منه أن يكمل الرحلة إلى دلهي، وأن يبلغ السيد شراداناند جي بما حدث ويطلب من الناس التزام الهدوء. وكنت أريده أن يشرح للناس لماذا قررت أن أخالف الأمر الصادر في حقي وأن أعرض نفسي لعقوبة العصيان، وكيف سيمثل التزامنا بالحفاظ على الأمن - مع أي عقاب يمكن أن يفرض علينا - انتصارا لصالحنا.
أخرجني رجال الشرطة من القطار في محطة بالوال واحتجزوني. وبعد مدة قصيرة وصل قطار قادم من دلهي. وأجبرني رجال الشرطة على ركوب عربة الدرجة الثالثة بصحبتهم. وما إن وصلنا إلى ماثورا، حتى اصطحبني رجال الشرطة إلى قسم الشرطة. لكن لم يستطع أي من مسئولي الشرطة أن يطلعني على ما ينوون فعله معي أو إلى أين سيرسلونني بعد ذلك. أيقظوني في صباح اليوم التالي، قرابة الرابعة، وألقي بي في قطار للبضائع كان متجها إلى بومباي. ومرة أخرى أنزلني رجال الشرطة في الظهيرة في مدينة ساواي مادهوبور. وحينها أصبحت في عهدة مفتش الشرطة، السيد بورينج، الذي حضر من لاهور بواسطة قطار البريد. استقللنا، أنا والسيد بورينج، عربة من عربات الدرجة الأولى. وقد تحولت من مسجون عادي إلى مسجون «ذي شأن». وأخذ يمدح لي في السير مايكل أودوير.
1
فقال لي: إن السير مايكل لا يكن لي أي ضغينة شخصية، كل ما في الأمر أنه خشي أن يتسبب دخولي إلى البنجاب في زعزعة الأمن، وما إلى ذلك. وطلب مني في النهاية أن أعود إلى بومباي طواعية، وأن أوافق على ألا أعبر حدود البنجاب. فأجبته بأنني لا يمكنني أن أذعن لمثل ذلك الأمر، وأنني غير مستعد للعودة طواعية إلى بومباي. وهكذا لم يجد الضابط بدا من أن يطبق علي القانون. فسألته: «لكن ماذا تنوي أن تفعل بي؟» فأجابني بأنه لا يعرف، وسينتظر المزيد من التعليمات. ثم قال: «أما في الوقت الراهن فسأصطحبك إلى بومباي.»
وصلنا إلى مدينة سورات. فعهد بي إلى شرطي آخر. قال لي الشرطي عند وصولنا إلى بومباي: «أنت حر الآن، لكن من الأفضل أن تتوجه إلى محطة مارين لاينز حيث أستطيع أن أدبر لك قطارا. فمن المحتمل أن يكون هناك حشد كبير من الجماهير في كولابا.» أخبرته أنه يسرني أن أتبع نصيحته، فسره ذلك وشكرني على تفهمي. صادف في ذلك الوقت مرور عربة أحد الأصدقاء، فأوصلني إلى منزل رفاشانكار جافيري. أخبرني ذلك الصديق أن أخبار اعتقالي قد أثارت سخط الناس وأدت إلى حالة اهتياج. ثم أضاف قائلا: «إن الثورة يمكن أن تندلع في أي لحظة بالقرب من بيدوني
، حيث ذهب الحاكم والشرطة بالفعل.»
وما إن وصلت إلى وجهتي، حتى حضر عمر صوباني وأناسويابين وطلبوا مني التوجه إلى بيدوني على الفور. وقد قالا لي: «لقد ضاق الناس ذرعا وتسودهم حالة من الاهتياج حتى إننا لا نستطيع تهدئتهم، ووجودك وحده يمكن أن يطفئ وقدة غضبهم.»
ركبت العربة متوجها إلى بيدوني، فرأيت بالقرب منها حشدا من الناس. طار الحشد من الفرحة لرؤيتي. وعلى الفور تكونت مسيرة، ودوى في السماء صوت الأغنية الوطنية الهندية فاند ماترام
Vande Mataram ، وكذلك هتاف المسلمين «الله أكبر!» شاهدنا في بيدوني مجموعة من رجال الشرطة الخيالة، وكانت قطع الحجارة تنهال كالقذائف من أعلى. طلبت من الحشود أن تهدأ لكن بدا لي أننا لن نستطيع الفرار من وابل الطوب المنهمر. وبمجرد أن انطلقت المسيرة من شارع عبد الرحمن، وشرعت في التوجه إلى سوق كراوفورد، فوجئنا بتمركز حشد من الخيالة لمنع توغل المسيرة أكثر باتجاه منطقة فورت. تكدست الحشود بكثافة، وتقريبا اجتازت حصار رجال الشرطة. وكان من الصعب أن يصل صوتي إلى تلك الحشود الغفيرة. وحينها أصدر ضابط الخيالة المسئول أوامر بتفريق الجماهير المحتشدة، وعلى الفور هاجم رجال الشرطة الحشود ملوحين برماحهم تجاههم. وشعرت للحظة أنني سأتعرض للأذى. لكن خوفي لم يكن في محله، فكل ما حدث هو أن الرماح قد حكت العربة عند مرور حاملي الرماح بسرعة بجانب العربة. سرعان ما تفرقت جموع الجماهير، وعمت فوضى عارمة ما لبثت أن تحولت إلى أعمال شغب. وقد سحقت الأقدام البعض، في حين تعرض البعض الآخر للاعتداء الشديد والمعاملة القاسية. وكان هناك بالكاد مساحة تسمح بمرور الخيول في ظل تدافع تلك الحشود الساخطة، علاوة على عدم وجود مخرج لتفرق الجماهير. فكانت الفاجعة! بدأت الرماح في اختراق صفوف الحشود على غير هدى. لا أعتقد أنهم كانوا يرون ما يفعلون. لقد شكل الأمر برمته مشهدا مروعا تماما. واختلط رجال الشرطة على ظهور خيولهم بالحشود في فوضى عارمة.
هكذا تفرقت الجموع، وتوقف تقدم المسيرة. سمح رجال الشرطة لعربتنا بالتقدم، فتوقفت أمام مكتب المفوض لأشكو إليه تصرف رجال الشرطة.
هوامش
الفصل الثاني والثلاثون
يا له من أسبوع لا ينسى! (2)
توجهت إلى مكتب المفوض السيد جريفيث. رأيت الجنود خلال السلم المؤدي إلى المكتب مدججين بالأسلحة كأنهم متأهبون للقيام بمهمة عسكرية. كان الرواق يعج بالحركة. وعند دخولي إلى الغرفة، رأيت السيد بورينج يجلس بصحبة السيد جريفيث.
وصفت للمفوض الأحداث والمشاهد التي مررت بها. فأجابني بإيجاز: «كنت أريد ألا تصل المسيرة إلى منطقة فورت حيث لا محيص من وقوع شغب. ولم أستطع إلا أن أصدر أوامري للخيالة بأن يهاجموا الحشود المتجمهرة عندما وجدت أن الناس لن يستجيبوا إلى أسلوب الحوار.»
قلت له: «لكنك كنت تعلم عواقب مثل ذلك الإجراء. لقد كانت الخيول تطأ رءوس الناس. أعتقد أنه لم يكن هناك داع لإرسال فرقة الخيالة تلك.»
أجاب السيد جريفيث: «أنت لا تستطيع الحكم على مثل هذه المسائل، فنحن على دراية أكبر منك بتأثير مبادئك على الناس. فإذا لم نبدأ باتخاذ إجراءات عنيفة، سيتفاقم الوضع ويخرج عن سيطرتنا. أؤكد لك أن الجماهير كانوا بالتأكيد سيخرجون عن سيطرتك . وكانوا سرعان ما يروق لهم مخالفة القانون، فهم لا يدركون معنى واجب الحفاظ على الأمن. لا تساورني أي شكوك حول نواياك، لكن الناس لن يفهموا تلك النوايا بل سيتبعون فطرتهم.»
فأجبته: «هنا يجب أن أختلف معك في الرأي. إن الناس ليسوا بطبيعتهم عنيفين بل مسالمين.»
وأخذنا نتجادل هكذا لمدة طويلة. أخيرا، قال السيد جريفيث: «ماذا ستفعل إذا ما اكتشفت أن الناس لا يدركون معنى مبادئك؟» - «سأوقف حركة العصيان المدني.» - «ماذا تقصد بذلك؟ ألم تخبر السيد بورينج بأنك ستذهب إلى البنجاب عند إطلاق سراحك؟» - «نعم، كنت أنوي الذهاب باستقلال أول قطار، لكن ذلك لن يكون ممكنا اليوم.» - «إذا ما تحليت بمزيد من الصبر، ستتأكد مما أخبرتك به. هل تعلم ما يحدث الآن في أحمد آباد؟ وما حدث في أمريتسار؟ لقد جن جنون الناس تقريبا في كل مكان. لكنني لم أحصل على جميع الوقائع بعد فقد قطعت أسلاك التلغراف في بعض المناطق. أظن أن مسئولية كل أعمال الشغب هذه تقع على عاتقك.» - «أؤكد لك أنني سأتحمل مسئولية تلك الاضطرابات عن طيب نفس أينما وقعت. لكنني سأشعر بألم عميق ودهشة شديدة إذا ما اكتشفت وقوع اضطرابات في أحمد آباد. أما ما حدث في أمريتسار، فلا يمكنني الدفاع عنه. فلم أذهب إلى هناك قط، ولا أحد يعرفني بها. لكن حتى ما حدث بالبنجاب، أنا على يقين من أنه لولا منع حكومة البنجاب لي من دخول حدودها لكنت ساعدت بصورة كبيرة في حفظ الأمن هناك. فقد أثاروا الناس دون داع بمنعي من الدخول إلى حدودها.»
وأخذنا نتناقش ونتناقش فقد كان من المستحيل أن نتفق. فانصرفت بعد أن أخبرته أنني أعتزم الدعوة لعقد اجتماع على شاطئ شاوباتي، ومناشدة الجماهير أن يحفظوا الأمن. عقد الاجتماع على رمال شاطئ شاوباتي. وتحدثت بإسهاب عن واجبنا نحو اللاعنف وعن حدود الساتياجراها، وقلت: «إن الساتياجراها في جوهرها هي سلاح الصادقين. ونصير الساتياجراها يجب أن يلتزم باللاعنف، وإذا لم يلتزم الناس باللاعنف فكرا وقولا وفعلا، فلن أستطيع أن أقوم بساتياجراها جماعية.»
تلقت السيدة أناسويابين هي الأخرى أنباء اندلاع أحداث شغب في أحمد آباد. وقد نشر أحدهم إشاعة تفيد اعتقالها أيضا، فثار عمال مصانع النسيج إثر سماع أنباء اعتقالها، فأضربوا عن العمل وقاموا بأعمال عنف أدت إلى مقتل أحد الضباط.
توجهت إلى أحمد آباد. فعلمت أن هناك من حاول اقتلاع قضبان السكك الحديدية بالقرب من محطة نادياد، وأن أحد الضباط قد لقي حتفه في فيرامجام، وأن أحمد آباد أصبحت خاضعة للأحكام العرفية. فزع الناس لسماع الخبر. فقد اشتركوا في أعمال عنف وعليهم أن يدفعوا ثمن ذلك وزيادة.
كان في انتظاري ضابط شرطة بمحطة القطار ليصطحبني إلى المفوض، السيد برات، الذي وجدته محتدما غيظا. تحدثت إلى المفوض برفق، وعبرت له عن أسفي لما وقع من أعمال عنف. وأخبرته بأنني لا أجد حاجة لتطبيق الأحكام العرفية، وصرحت له باستعدادي للتعاون بكل ما أملك من قدرة لإعادة الأمن. طلبت تصريحا لعقد اجتماع عام في سابارماتي أشرام. راق الاقتراح للمفوض، وعقد الاجتماع على ما أعتقد يوم الأحد الثالث عشر من أبريل/نيسان. وقد ألغيت الأحكام العرفية في اليوم ذاته أو في اليوم الذي تلاه. خاطبت الحضور محاولا توضيح الخطأ الذي اقترفه الناس، وأعلنت عن صومي لمدة ثلاثة أيام تكفيرا عما حدث، وناشدت الناس أن يلتزموا بصوم مماثل لمدة يوم. واقترحت على من اقترفوا أعمال العنف أن يعترفوا بذنبهم.
كانت مسئوليتي واضحة وضوح النهار. فلم أكن أحتمل رؤية العمال - الذين قضيت بينهم مدة كبيرة من حياتي وخدمتهم والذين توقعت منهم التصرف بصورة أفضل - يشاركون في أعمال الشغب وشعرت بأنني مشترك معهم في الذنب.
طلبت من الناس أن يعترفوا بذنبهم، وناشدت الحكومة أن تتغاضى عن الجرائم التي ارتكبت. لكن لم يرضخ أي منهما لطلبي.
جاءني الراحل السير رامانباي وغيره من مواطني أحمد آباد وطلبوا مني تعليق أعمال الساتياجراها. لم أر حاجة لمثل ذلك الطلب لأنني كنت قد قررت تعليقها بالفعل حتى يتعلم الناس درس الحفاظ على الأمن. فرحل الأصدقاء وهم مسرورون.
ومع ذلك، لم يرق ذلك القرار لآخرين. فقد شعروا أنه من المستحيل تحقيق الساتياجراها الجماعية إذا ما توقعت الحفاظ على الأمن في كل مكان واعتبرته شرطا لانطلاق الساتياجراها. شعرت بالأسف لاختلافي معهم في الرأي. كان من المستحيل إطلاق الساتياجراها إذا لم يلتزم باللاعنف من عملت بينهم والذين تصورت استعدادهم لانتهاج سياسة اللاعنف والمعاناة الذاتية. كانت لدي قناعة تامة بأن على زعماء حركة الساتياجراها أن يكونوا قادرين على السيطرة على الجماهير فيما يتعلق بحدود اللاعنف. ولا أزال أحتفظ بتلك القناعة حتى يومنا هذا.
الفصل الثالث والثلاثون
خطأ فادح
توجهت إلى نادياد فور انتهاء اجتماع أحمد آباد. وهناك كانت المرة الأولى التي أستخدم فيها التعبير «خطأ فادح»
Himalayan miscalculation
الذي انتشر على نطاق واسع فيما بعد. وحتى في أحمد آباد، بدأت أستشعر خطئي بصورة ضئيلة. لكن عند وصولي إلى نادياد ومشاهدتي لما يحدث على أرض الواقع هناك وسماعي لأخبار اعتقال أعداد كبيرة من أهالي خيدا، أدركت حينها أنني قد أخطأت بطلبي من الناس في خيدا وغيرها القيام بالعصيان المدني قبل الأوان. عقدت اجتماعا عاما واعترفت بخطئي، الأمر الذي جعلني محلا للسخرية. لكنني لم أندم قط على إدلائي بذلك الاعتراف؛ فلطالما آمنت بأن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى تقييم نسبي وعادل لنفسه وللآخرين إلا إذا فتش عن عيوبه بعين ثاقبة ولم يركز على عيوب الآخرين. وأؤمن بأن الالتزام بهذه القاعدة بدقة وبضمير ضرورة لكل من يرغب في أن يكون نصيرا للساتياجراها.
دعونا الآن نتعرف على ذلك «الخطأ الفادح». قبل أن يستطيع المرء ممارسة العصيان المدني عليه أن يكون ملتزما بقوانين الدولة طواعية وبصورة تتسم بالاحترام. فغالبا ما نلتزم بتلك القوانين بدافع الخوف من عاقبة مخالفتها، وهو أمر فعال خاصة عند التعامل مع القوانين التي لا تتعلق بمبادئ أخلاقية. فالشخص الأمين، على سبيل المثال، لن يسرق سواء كان هناك قانون يجرم السرقة أم لا، لكن الشخص نفسه لن يشعر بالذنب إذا لم يلتزم بقاعدة تشغيل المصباح الأمامي للدراجات بعد حلول الظلام. وسيكون هناك شك حتى في تقبله للنصيحة بصدر رحب. لكنه سيلتزم بأي قانون إلزامي فيما يتعلق بتلك المسألة، ولو بدافع تجنب الإزعاج المترتب على مقاضاته لمخالفة القانون. إلا أن مثل ذلك الالتزام ليس هو الالتزام الطوعي والتلقائي المطلوب من نصير الساتياجراها. إن نصير الساتياجراها يلتزم بقوانين المجتمع بعقلانية وبإرادته الحرة لأنه يؤمن بأن ذلك الالتزام واجب مقدس. وعندما يلتزم المرء بقوانين المجتمع بتلك الدقة، حينها يمكنه أن يقرر أي القوانين عادل وأيها ظالم. وفي ذلك الوقت فقط يكتسب الحق في القيام بالعصيان المدني لقوانين بعينها في ظل ظروف محددة. ويكمن خطئي في عدم مراعاتي لذلك التقييد الضروري. فقد طلبت من الناس إعلان العصيان المدني قبل أن يكونوا مؤهلين لذلك، وقد بدا لي ذلك الخطأ بضخامة جبال الهيمالايا. وما إن وطئت قدماي أرض خيدا، حتى مرت أمامي جميع ذكريات نضال الساتياجراها فيها، واندهشت لغياب مثل ذلك الأمر الجلي عن ذهني. فقد أدركت أن على الناس استيعاب المعاني المتضمنة في العصيان المدني قبل أن يصبحوا مؤهلين للقيام به. وبناء على ذلك، من الضروري قبل الشروع في العصيان المدني بصورة جماعية تكوين مجموعة من المتطوعين الأكفاء والمخلصين الذين استوعبوا تماما الشروط الصارمة للساتياجراها. ويمكن لهؤلاء شرح تلك الشروط للعامة وإبقاؤهم على الطريق السديد عن طريق تمتعهم بالحذر.
وصلت إلى بومباي وتلك الأفكار تجول في خاطري، واستنفرت مجموعة من متطوعي الساتياجراها عن طريق جمعية الساتياجراها. وبمساعدتهم بدأت توعية الناس بمعنى الساتياجراها وكنهها. وقد قمنا بذلك بصورة رئيسية بإصدار نشرات ذات طابع تثقيفي حول الموضوع.
لكنني لاحظت في أثناء ذلك العمل أن من الصعب توجيه انتباه الناس إلى الجانب السلمي من الساتياجراها. ولم يكن عدد المتطوعين بالكبير. وحتى الذين أدرجوا أسماءهم بالفعل، لم يلتزموا بالتدريب على نحو منتظم. وبمرور الأيام، أخذت أعداد المتطوعين الجدد في التضاؤل تدريجيا بدلا من أن تزداد. وأدركت أن تقدم التدريب على العصيان المدني سيستغرق وقتا أطول مما توقعت في بادئ الأمر.
الفصل الرابع والثلاثون
جريدة «نافاجيفان» وجريدة «يانج إنديا»
في الوقت الذي كانت تلك الحركة المعنية بالحفاظ على مبدأ اللاعنف تتقدم بخطى ثابتة وإن كانت بطيئة؛ كانت سياسة الحكومة غير القانونية في القمع تتطور بمنتهى السرعة حيث تجلت بوضوح في البنجاب. فقد ألقي القبض على الزعماء بها وأعلنت الأحكام العرفية التي تعني بعبارة أخرى انعدام القانون، وجرى إنشاء المحاكم الخاصة التي لم تكن محاكم قضائية بل أداة لفرض الرغبات الظالمة للحاكم المستبد. كانت العقوبات تفرض دون أن يدعمها أدلة في انتهاك صارخ للعدالة. وكان الجنود يجبرون الرجال والنساء الأبرياء في أمريتسار على الزحف على بطونهم كالديدان. وقد بدت لي تلك المأساة أعظم من مذبحة أمريتسار التي جذبت انتباه شعب الهند والعالم بأسره.
اضطررت للذهاب إلى البنجاب على الفور مهما كانت العواقب. كتبت إلى الحاكم البريطاني وبعثت له ببرقية لطلب تصريح بالذهاب إلى هناك، لكنه لم يستجب لطلبي. وإذا استكملت رحلتي دون حصولي على التصريح اللازم، لن يسمح لي بتجاوز حدود البنجاب ولن يكون باستطاعتي إلا اللجوء إلى العصيان المدني. وهكذا، واجهت مأزقا خطيرا. وقد بدا لي أنه نظرا للوضع القائم لا يمكن اعتبار مخالفة أمر منعي من دخول البنجاب عصيانا مدنيا لأنني لم أر حولي المناخ السلمي الذي كنت أتوقعه، وأدت عمليات القمع الغاشمة إلى زيادة مشاعر الاستياء وترسيخها. لكنني رأيت أنني لو لجأت للعصيان المدني في ذلك الوقت، وإن كان في استطاعتي، فسأكون كمن يزيد النار اشتعالا. فقررت ألا استكمل رحلتي إلى البنجاب رغم طلب الأصدقاء. لقد كان عدولي عن الذهاب للبنجاب أمرا مريرا. كانت أنباء أعمال الظلم والاضطهاد المطلقة ترد يوميا من البنجاب، لكنني لم أملك إلا أن أجلس عاجزا أصر بأسناني غيظا.
وفي ذلك الوقت وعلى حين غرة، قامت السلطات سرا بترحيل السيد هورنيمان الذي جعل من جريدة «بومباي كرونيكل» قوة جبارة. بدا لي تصرف الحكومة ذلك محاطا بالشبهات التي لا تزال تحيك في صدري حتى الآن. أنا على يقين من أن السيد هورنيمان لم يرغب في مخالفة القانون قط. فلم يرق له مخالفتي لأمر حكومة البنجاب الذي يقضي بمنعي من دخول أراضيها دون تصريح من لجنة الساتياجراها، وكان قد أيد بقوة قرار وقف العصيان المدني. وتسلمت منه خطابا ينصحني فيه بوقف العصيان حتى قبل أن أعلن القرار. ولولا بعد المسافة بين بومباي وأحمد آباد لتسلم خطابه قبل إعلان قراري. ولهذا آلمني غيابه المفاجئ بنفس الدرجة التي فاجأني بها.
ونتيجة لتلك التطورات طلب مني مجلس إدارة جريدة «بومباي كرونيكل» أن أتولى مسئولية إدارة الجريدة. كان السيد بريلفي بالفعل ضمن طاقم العمل، لذلك لم يكن هناك الكثير من المهام لأقوم بها. لكن كما جرت العادة، أصبحت المسئولية ضريبة إضافية.
على كل حال، رفعت الحكومة ذلك العبء عن كاهلي بصدور أوامر تقضي بوقف الجريدة.
كان القائمون على إدارة جريدة «بومباي كرونيكل»، وهم السادة عمر صوباني وشانكارلال بانكر، يتحكمون في ذلك الوقت في جريدة «يانج إنديا» أيضا. فاقترحوا أن أتولى رئاسة تحرير «يانج إنديا» نظرا لوقف «بومباي كرونيكل». واقترحوا تحويل جريدة «يانج إنديا» من جريدة أسبوعية إلى جريدة نصف أسبوعية لسد الفراغ الذي خلفته «بومباي كرونيكل». وقد لاقت تلك الاقتراحات استحساني نظرا لكوني متلهفا لأن أشرح للعامة المعني الجوهري للساتياجراها، ولأملي في أن أتمكن على الأقل من توضيح الوضع في البنجاب على حقيقته عن طريق ذلك المجهود. وقد كان احتمال وقوع حملة الساتياجراها قائما بغض النظر عن كتاباتي، وذلك لم يكن ليدهش الحكومة. لذلك قبلت اقتراح الأصدقاء بكل سرور.
لكن كيف يتدرب العامة على الساتياجراها باللغة الإنجليزية؟ كان نطاق عملي الرئيسي يقع في جوجرات. وكان السيد إندولال ياجنيك شريكا للسادة صوباني وبانكر. وكان يدير جريدة «نافاجيفان» الشهرية الصادرة باللغة الجوجراتية التي كان يدعمها السيد صوباني والسيد بانكر ماديا. فوضعوا الجريدة الشهرية تحت تصرفي، وعرض السيد إندولال العمل بها. ثم حولت تلك الجريدة الشهرية إلى جريدة أسبوعية.
وفي غضون ذلك، أعيد تشغيل «بومباي كرونيكل»، ومن ثم عادت جريدة «يانج إنديا» جريدة أسبوعية كما كانت في الأصل. كان من الصعب علي نشر الجريدتين الأسبوعيتين من مكانين مختلفين، وكان ذلك سيزيد من حجم النفقات. فاقترحت نقل جريدة «يانج إنديا» إلى أحمد آباد حيث تنشر جريدة «نافاجيفان».
وقد كان هناك أسباب أخرى دفعتني إلى إجراء ذلك التغيير. فقد تعلمت من خبرتي السابقة في جريدة «الرأي الهندي» أن تلك الصحف تحتاج لمطبعة خاصة بها. بالإضافة إلى ذلك، كانت قوانين الصحافة المطبقة في الهند في ذلك الوقت من الصرامة بمكان بحيث كانت المطابع ذات الطابع التجاري ستتردد في طباعة مقالاتي إذا ما أردت التعبير عن آرائي بحرية. وهكذا أصبحت الحاجة إلى امتلاك مطبعة خاصة بنا ضرورة ملحة. ونظرا لسهولة تحقيق ذلك في أحمد آباد عن غيرها، كان علينا نقل جريدة «يانج إنديا» إلى أحمد آباد هي الأخرى.
بدأت عن طريق هاتين الصحيفتين العمل بكل ما أوتيت من قوة على توعية جمهور القراء بالساتياجراها. اتسع معدل توزيع الجريدتين حتى وصل في إحدى الفترات إلى ما يقرب من أربعين ألف نسخة لكل منها. لكن في حين أخذ توزيع جريدة «نافاجيفان» في الازدياد بسرعة، أخذ توزيع جريدة «يانج إنديا» في الارتفاع على نحو بطيء. وقد انخفض معدل تداول الجريدتين عقب زجي بالسجن، ويصل معدل التداول في وقتنا الحالي إلى ما دون الثمانين ألف نسخة.
كنت قد أعرضت منذ بداية الجريدتين عن قبول أي إعلانات. ولا أعتقد أن ذلك قد انتقص من الجريدتين شيئا. على العكس، أرى أن ذلك قد ساعد الجريدتين على الحفاظ على استقلالهما بقدر كبير.
وقد ساعدتني هاتان الصحيفتان بصورة عرضية في الحفاظ على السلام الداخلي مع نفسي، فنظرا لاستحالة اللجوء إلى العصيان المدني المباشر، مكنتني هاتان الصحيفتان من التعبير عن آرائي بحرية وتحفيز الناس. وهذا ما يجعلني أشعر بأن كلتا الصحيفتين قد أدت خدمة جليلة للشعب في ذلك الوقت العصيب، وأسهمت بدور متواضع في التخفيف من وطأة استبداد الأحكام العرفية.
الفصل الخامس والثلاثون
في البنجاب
حملني السير مايكل أودوير مسئولية ما حدث في البنجاب، ومن ناحية أخرى حملني بعض الشباب البنجابي الغاضب مسئولية فرض الأحكام العرفية. وقد أكدوا أنه لولا وقفي لحركة الساتياجراها لما وقعت مذبحة أمريتسار. وذهب البعض منهم إلى تهديدي بالاغتيال إذا ما ذهبت إلى البنجاب .
لكنني رأيت صواب موقفي، وأنه لا يمكن لأي شخص عاقل أن يسيء فهم موقفي هذا.
كنت أتوق للذهاب إلى البنجاب. ولم أكن قد ذهبت إلى هناك من قبل، الأمر الذي زاد من لهفتي لرؤية الوضع بنفسي. كان كل من الطبيب ساتيابال والطبيب كيتشلو والسيد رامباج دوت شوداري، الذين دعوني إلى البنجاب، في السجن. لكنني كنت على يقين من أن الحكومة لن تجرؤ على احتجازهم وغيرهم من المسجونين لمدة طويلة. اعتاد عدد كبير من البنجابيين زيارتي كلما كنت في بومباي. وكنت أتلو على مسامعهم في تلك المقابلات كلمات التشجيع التي كانت تسري عنهم. كانت ثقتي بذاتي في ذلك الوقت تنتقل إلى الآخرين كالعدوى.
اضطررت لتأخير ذهابي إلى البنجاب مرارا وتكرارا. فكلما طلبت من الحاكم البريطاني تصريحا بالذهاب إلى البنجاب، قال: «ليس بعد.» واستمر الوضع على هذا المنوال.
أعلن في غضون ذلك عن قيام لجنة هانتر بتحقيق بشأن ممارسات الحكومة في ظل الأحكام العرفية. وصل القسيس تشارلز فرير أندروز في ذلك الوقت إلى البنجاب. وقد مزق فؤادي خطابه عن الأحداث هناك، وتكون لدي انطباع بأن بشاعة الأحكام العرفية أكثر سوءا مما تذكره التقارير الصحفية. ألح القسيس أندروز علي في خطابه كي أذهب إلى البنجاب وأنضم إليه. وأرسل لي مالفيا في الوقت ذاته برقيات يطلب مني فيها التوجه إلى البنجاب على الفور. فأرسلت مرة أخرى ببرقية إلى الحاكم البريطاني لأسأله عن إمكانية ذهابي إلى البنجاب الآن. فذكر في رده أنه لا يمكنني الذهاب إلا بعد تاريخ محدد لا أتذكره الآن على وجه التحديد، لكنني أعتقد أنه السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول.
وعند وصولي إلى لاهور، رأيت مشهدا لا يفارق خيالي مطلقا. كانت محطة القطار مليئة عن بكرة أبيها بالحشود الثائرة. لقد تجمعت الحشود في لهفة تملؤهم البهجة، كأنما يستقبلون قريبا عزيزا عليهم بعد فراق طويل. نزلت بمنزل الراحل السيد رامبهاج دوت، وقد تحملت السيدة سارالا ديفي عبء استضافتي الذي كان ثقيلا حقا. فقد تحول المكان، كما هو الحال الآن، إلى نزل.
ونظرا لوجود زعماء البنجاب في السجن، حل محلهم بكفاءة السادة مالفيا وموتيلال والراحل السيد شراداناند جي. كنت على علاقة وثيقة بكل من السيد مالفيا والسيد شراداناند جي، لكنها كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها شخصيا بالسيد موتيلال. وسرعان ما شعرت بين جميع أولئك الزعماء، وغيرهم من الزعماء المحليين الذين نجوا من دخول السجن؛ بأنني وسط الأهل والأصدقاء، ولم أشعر بالغربة بينهم على الإطلاق.
إن كيفية إجماعنا على قرار الامتناع عن دعم لجنة هانتر أمر فات وانقضى. وقد نشرت أسباب اتخاذنا ذلك القرار في وقتها، ولا حاجة لذكرها في هذا السياق. يكفي القول بأنني أشعر بعد مرور كل ذلك الوقت على تلك الأحداث أن قرار مقاطعة لجنة هانتر كان قرارا صائبا وقويما.
وكنتيجة منطقية لمقاطعة لجنة هانتر، تقرر تشكيل لجنة تحقيق غير رسمية لإجراء تحقيق شبه مماثل لتحقيق لجنة هانتر نيابة عن حزب المؤتمر. وقد وضعني السيد مالفيا تقريبا من ضمن أعضاء تلك اللجنة بصحبة السيد موتيلال نهرو والراحل ديشباندو والسيد عباس طيابجي وجاياكار. وقد وزعنا أنفسنا على أماكن شتى لإجراء التحقيق. وكانت مسئولية تنظيم عمل اللجنة تقع على كاهلي. ونادرا ما كانت الفرصة تواتيني لدراسة شعب البنجاب وقرى البنجاب عن كثب نظرا لأن إجراء التحقيق في أكبر عدد من الأماكن كان من نصيبي.
وتعرفت في أثناء إجراء التحقيق على أوضاع النساء في البنجاب. وكنا نتعامل كما لو أننا يعرف بعضنا الآخر منذ أمد بعيد. وكن يتدافعن علي أفواجا أينما ذهبت ويضعن أمامي أكواما من غزلهن. جعلني عملي في التحقيق أدرك أن البنجاب يمكن أن تصبح تربة خصبة لصنع قماش الخادي.
وفي أثناء تقدمي في التحقيق عن الأعمال الوحشية التي تعرض لها الأهالي، أخبرني الناس بحكايات عن استبداد الحكومة وتحكم الضباط الظالم، مما جعلني أشعر بألم عميق. لكن ما أدهشني حقا وقتها وحتى في وقتنا هذا هو تعرض الإقليم الذي زود الحكومة البريطانية بأكبر عدد من الجنود في أثناء الحرب لمثل هذه التجاوزات الوحشية.
وقد عهد لي أيضا بكتابة تقرير اللجنة. وأوصي من يرغب في التعرف على نوع الأعمال الوحشية التي كان يتعرض لها أهالي البنجاب بقراءة ذلك التقرير بإمعان. وكل ما أريد قوله في هذا السياق عن ذلك التقرير هو أنه لا يشتمل على أي مبالغة متعمدة وأن جميع الإفادات مدعمة بأدلة. أضف إلى ذلك، أن الأدلة التي نشرت مجرد جزء من الأدلة التي كانت بحوزة اللجنة. ولم يرد في التقرير أي إفادة يشوبها أدنى شك. هذا التقرير، الذي تمت صياغته من أجل إبراز الحقيقة، والحقيقة وحدها؛ سيوضح للقارئ إلى أي مدى يمكن أن تصل الحكومة البريطانية، وكذلك الأعمال غير الإنسانية والوحشية التي يمكن أن تلجأ إليها للحفاظ على سلطانها. ووفق معلوماتي، لم يدحض أحد أي إفادة وردت في التقرير.
الفصل السادس والثلاثون
قضية الخلافة مقابل قضية حماية البقر
علينا في الوقت الحالي تنحية تلك الأحداث المؤلمة التي وقعت في البنجاب جانبا.
كان تحقيق حزب المؤتمر حول الأعمال الوحشية التي قام بها الجنرال دايار
1
في البنجاب قد بدأ عندما تلقيت دعوة لحضور مؤتمر مشترك بين الهندوس والمسلمين كان مزمعا عقده في دلهي لمناقشة قضية الخلافة. وكان من بين الموقعين على الدعوة الراحل السيد حكيم أجمل خان والسيد أساف علي. وقد ورد في الدعوة أن الراحل السيد شراداناند جي سيحضر المؤتمر، وأذكر أنه كان نائب رئيس المؤتمر الذي كان سيعقد تقريبا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام. كان من المقرر أن يتناول المؤتمر الوضع الناجم عن خيانة الخلافة وإذا ما كان على الهندوس والمسلمين الاشتراك في احتفالات السلام. وجاء في خطاب الدعوة أن المؤتمر سيتناول أيضا - ضمن موضوعات أخرى - قضية حماية البقر مما سيتيح فرصة ذهبية لتسوية قضية البقر. فاقترحت في خطاب الرد على الدعوة، بعد أن وعدت ببذل كل ما في وسعي للحضور، أنه لا يجب الخلط بين القضيتين أو اعتبارهما صفقة بل يجب أن تناقش كل قضية على حدة ووفقا للوقائع المرتبطة بكل منها.
توجهت إلى المؤتمر وتلك الأفكار تملأ رأسي. حضر المؤتمر عدد كبير من الجمهور، لكنه لم يرق في عدده إلى المؤتمرات التي تلته والتي كان يحضرها عشرات الآلاف. ناقشت المسألة التي سبق أن أشرت إليها آنفا مع الراحل السيد شراداناند جي الذي كان حاضرا في المؤتمر. وقد استحسن وجهة نظري وتركني أعرضها على المؤتمر. وناقشت الأمر مع الراحل السيد حكيم. أكدت أمام المؤتمر أنه إذا كانت قضية الخلافة تستند إلى أساس عادل ومشروع، وهي الحقيقة التي أؤمن بها، وإذا كانت الحكومة قد اقترفت بالفعل أعمال ظلم فادحة؛ حينها سيكون الهندوس ملزمين بدعم المسلمين في مطالبهم المتمثلة في استعادة الخلافة الإسلامية. ومن غير اللائق إقحام قضية حماية البقر في هذا السياق أو استغلال الموقف للتوصل إلى تسوية مع المسلمين. وبالمثل، لن يكون من اللائق أن يعرض المسلمون وقف ذبح البقر مقابل دعم الهندوس لقضية الخلافة. لكن إذا ما توقف المسلمون من تلقاء أنفسهم عن ذبح البقر بدافع مراعاة مشاعر الهندوس الدينية وبدافع الإحساس بالواجب تجاههم كجيران وأبناء لنفس الوطن، فسيكون الوضع حينها مختلفا وستعد لفتة طيبة منهم وسيكون موقفا لن ينساه الهندوس. ورأيت أن اتخاذهم لذلك الموقف المستقل هو واجب عليهم، وسيزيد من نبل تصرفهم. لكن إذا رأى المسلمون أن حق الجوار يملي عليهم التوقف عن ذبح البقر، فيجب أن يفعلوا ذلك سواء دعمهم الهندوس في قضية الخلافة أم لا. فقلت: «لذلك يجب أن تناقش القضيتان كل على حدة. وأيضا مشاورات المؤتمر يجب أن تقتصر على قضية الخلافة وحدها.» لاقت حجتي استحسان الحضور، ومن ثم لم تناقش قضية حماية البقر في ذلك المؤتمر.
ومع ذلك، قام مولانا عبد الباري، وقال: «يجب علينا نحن المسلمين أن نتوقف عن ذبح البقر بدافع مراعاة شعور الهندوس سواء ساعدونا في قضية الخلافة أم لا لأننا أبناء وطن واحد.» وبدا لي للحظة أنهم سيضعون حلا للقضية حقا.
اقترح البعض إضافة قضية البنجاب إلى قضية الخلافة، لكنني أعرضت عن الاقتراح. وقلت إن قضية البنجاب مسألة محلية ولذا لن تؤثر على قرارنا فيما يتعلق بالمشاركة في احتفالات السلام أو عدم المشاركة. فإذا خلطنا بين القضية المحلية وقضية الخلافة التي نتجت بصورة مباشرة عن شروط السلام، سوف نكون قد ارتكبنا خطأ فادحا. وقد اقتنع الجميع بحجتي بلا جدال.
كان مولانا حسرت موهاني حاضرا في ذلك الاجتماع. وكانت تجمعني به معرفة سابقة، لكن في تلك المرة أدركت كم هو مناضل عظيم. اختلفنا معا منذ البداية تقريبا، وقد دامت الاختلافات في العديد من الموضوعات.
وكان من ضمن القرارات التي مررها ذلك المؤتمر قرار يناشد الهندوس والمسلمين أن يلتزموا بعهد الاكتفاء الذاتي، ومن ثم مقاطعة السلع الأجنبية. لم يكن قماش الخادي قد وجد طريقه إلى الصدارة بعد. لكن السيد حسرت لم يكن ليقبل بمثل ذلك القرار، فقد كان يريد أن ننتقم من الإمبراطورية إذا لم تعالج مسألة الخلافة. فتقدم باقتراح مضاد يقضي بمقاطعة السلع البريطانية وحدها قدر المستطاع. اعترضت على اقتراحه لاعتراضي على المبدأ ولاعتراضي على إمكانية تطبيق مثل ذلك الاقتراح، وقدمت براهين أصبحت الآن معروفة للجميع. وعرضت على المؤتمر وجهة نظري فيما يتعلق باللاعنف. ولاحظت أن البراهين التي أوردتها قد لاقت صدى قويا لدى الحضور، وكانت الجماهير قد تلقت كلمة السيد حسرت موهاني بهتافات مدوية، حتى إنني خشيت أن تذهب كلمتي مهب الريح. ولقد ألقيت كلمتي لمجرد شعوري بأن عدم عرضي لوجهة نظري أمام المؤتمر يعد تقصيرا في واجبي. لكنني فوجئت بأن الحضور قد تابعوا كلمتي بانتباه شديد وأن الكلمة حازت دعما كبيرا من أعضاء المنصة، وأخذ المتحدثون الواحد تلو الآخر يلقون بكلمات تؤيد وجهة نظري. لقد رأى الزعماء أن مقاطعة السلع البريطانية لن تفشل في تحقيق الغاية منها فحسب، بل ستجعلهم محل سخرية؛ فلم يكن هناك أحد في المؤتمر إلا وبحوزته إحدى السلع البريطانية. بناء على ذلك، أدرك العديد من الحضور أن تبني مثل ذلك القرار الذي يعجز عن تنفيذه حتى من صوتوا لتمريره لن يعود عليهم إلا بالخسارة.
قال مولانا حسرت موهاني في كلمته: «إن مقاطعة الأقمشة الأجنبية وحدها لا تكفي، فلا أحد يعرف كم من الوقت سنحتاج حتى نستطيع صناعة قماش «بالاكتفاء الذاتي » بكميات تغطي احتياجاتنا، وكم من الوقت سنحتاج قبل أن نستطيع القيام بمقاطعة فعالة للقماش الأجنبي. نريد القيام بعمل يؤثر على بريطانيا الآن. لا مانع لدينا من القيام بالمقاطعة، لكن يجب أن نتوصل إلى إجراء أكثر شدة ويؤدي إلى نتائج أسرع.» شعرت وأنا أستمع إليه أن هناك ضرورة لاتخاذ إجراء جديد بالإضافة إلى المقاطعة. بدا لي أنه من المستحيل اللجوء إلى مقاطعة فورية للأقمشة الأجنبية في ذلك الوقت. ولم أكن أدري حينها أنه يمكننا، إذا أردنا، إنتاج كمية كافية من قماش الخادي لتغطية احتياجاتنا من الملابس، وقد اكتشفت إمكانية ذلك فيما بعد. وكنت أعرف، حتى في ذلك الوقت، أننا سنتعرض للغدر إذا اعتمدنا على المصانع وحدها لتفعيل المقاطعة. وكنت لا أزال حائرا في ذلك المأزق عندما ختم مولانا حسرت كلمته.
كنت عاجزا عن إيجاد الكلمات الهندية أو الأردية المناسبة. فقد كانت تلك المرة الأولى التي ألقي فيها خطبة جدلية أمام جمهور، ولا سيما جمهور مكون من مسلمي الشمال. سبق أن تحدثت أمام الرابطة الإسلامية في كلكتا، لكن ذلك لم يستغرق إلا دقائق معدودة وكان الغرض من تلك الخطبة استثارة عواطف الجماهير. أما هنا، فعلى العكس، كان علي أن أشرح وجهة نظري وأوضحها لجماهير ناقدة، إن لم تكن عدائية. لكنني حينها استجمعت كل ما أوتيت من شجاعة. لم أكن أستطيع إلقاء كلمتي باللغة الأردية السليمة والدقيقة التي يستخدمها المسلمون في دلهي، لكنني كنت أنوي عرض آرائي على الحضور بما أملك من لغة هندية ركيكة. وقد نجحت بالفعل في ذلك. وقد أثبت لي ذلك الاجتماع أن اللغة الهندوستانية هي اللغة الوحيدة التي تصلح لتكون اللغة المشتركة للهند. لم أكن لأحدث ذلك التأثير على الحضور لو أنني تحدثت باللغة الإنجليزية وعلى الأرجح لم يكن مولانا حسرت ليرى حاجة لاعتراضه حينذاك. ولم أكن لأتمكن من الرد على اعتراضه بفعالية إذا ما تقدم به.
وقد أزعجني عدم قدرتي على إيجاد كلمة هندية أو أردية مناسبة للفكرة الجديدة. وفي النهاية، أطلقت على تلك الفكرة «عدم التعاون» التي استخدمتها لأول مرة في ذلك الاجتماع. بدا لي في أثناء إلقاء مولانا حسرت لكلمته أنه من غير المجدي له - إذا كان اللجوء لاستخدام السلاح مستحيلا أو غير مرغوب فيه - التحدث عن مقاومة فعالة ضد الحكومة التي يتعاون معها في أكثر من مجال. فلاح لي أن المقاومة الحقيقية الوحيدة تكمن في عدم التعاون مع الحكومة. وهكذا توصلت للتعبير «عدم التعاون». ولم تكن لدي وقتها فكرة واضحة عن جميع جوانبه المتضمنة، لذلك لم أتطرق إلى التفاصيل. فقلت بسهولة:
لقد تبنى المسلمون قرارا شديد الأهمية. وسوف يوقفون جميع أشكال التعاون مع الحكومة إذا كانت شروط السلام سلبية، وهو ما ندعو الإله ألا يحدث. ومن ثم يكون وقف التعاون حقا مطلقا للشعب. ليس علينا الاحتفاظ بالألقاب والمراتب الشرفية التي منحتنا إياها الحكومة، أو أن نستمر في خدمة الحكومة. فإذا غدرت بنا الحكومة ولم تدعمنا في قضية كبيرة مثل قضية الخلافة، لن يسعنا إلا اللجوء إلى عدم التعاون. فيحق لنا عدم التعاون مع الحكومة إذا ما غدرت بنا.
مع ذلك، مرت الأشهر قبل أن تنتشر كلمة «عدم التعاون». فقد استهلكنا الوقت الحاضر في جلسات المؤتمر. وفي حقيقة الأمر، كان أملي في عدم تعرضنا للغدر هو ما دفعني لتأييد قرار عدم التعاون في حزب المؤتمر الذي اجتمع في أمريتسار في الشهر التالي.
هوامش
الفصل السابع والثلاثون
حزب المؤتمر في أمريتسار
لم تتمكن حكومة البنجاب من الاستمرار في سجن مئات البنجابيين الذين زجت بهم في السجن استنادا إلى الأدلة الواهية التي اعتمدت عليها المحاكم العسكرية التي لم تكن عادلة بالمرة. ساد احتجاج عنيف في جميع أرجاء البلاد ضد ذلك الظلم البين، الأمر الذي جعل من المستحيل الإبقاء عليهم في السجن. وقد أفرج عن أغلب السجناء قبل افتتاح جلسات الحزب. وأفرج عن لالا هاركيشانلال وغيره من الزعماء في أثناء انعقاد جلسات الحزب. وتوجه الأخوان مولانا محمد علي ومولانا شوكت علي إلى الجلسات مباشرة بعد إطلاق سراحهم من السجن، فأضفى ذلك شعورا بالبهجة والسرور على الجماهير. كان رئيس حزب المؤتمر هو السيد موتيلال نهرو، الذي اتخذ من البنجاب مركزا رئيسيا له وقدم خدمات جليلة مضحيا بمستقبله المشرق في المحاماة. وكان الراحل السيد شراداناند جي رئيس لجنة الاستقبال.
كان إسهامي في جلسات الحزب السنوية حتى ذلك الوقت يقتصر على دعم اللغة الهندية عن طريق التحدث باللغة القومية بالإضافة إلى طرح قضية الهنود بالخارج. ولم أتوقع أن يطلب مني الإسهام بأكثر من ذلك في تلك السنة. لكن كما سبق أن حدث من قبل في العديد من المواقف، فوجئت بأعمال عظيمة تلقى على عاتقي.
كان إعلان الملك للإصلاحات الجديدة قد صدر للتو، ورأى الجميع أن الإعلان غير مرض بالمرة، بينما رأيت أنه كان مرضيا بغض النظر عن نقائصه. لكنني شعرت في ذلك الوقت أنه يمكن تقبل الإصلاحات مع ما فيها من نقائص. أبصرت في إعلان الملك وصياغته أثر اللورد سينها، وقد مدني ذلك ببريق من الأمل. لكن الرجال راسخو العزم وذوو الخبرة من أمثال الراحل لوكامانيا وديشاباندو تشيتارانجان داس لم يستحسنوا تلك الإصلاحات. أما للسيد موتيلال نهرو، فقد وقف من القضية موقف الحياد.
استضافني السيد مالفيا في غرفته. وكنت قد اطلعت على لمحة عن حياته البسيطة في حفل تأسيس الجامعة الهندية
Hindu University ، لكن عندما أقمت معه في نفس الغرفة تمكنت من مراقبة نظام حياته اليومية بالتفصيل. وقد أدهشني وأسعدني كثيرا ما رأيت منه. كانت غرفته كأنها فندق مجاني للفقراء، حيث تجد صعوبة في التحرك عبر الغرفة نتيجة للزحام الشديد. كان باب غرفته مفتوحا على مصراعيه للزائرين طوال الليل والنهار، أولئك الزائرين الذين يستمتعون بصحبته آخذين من وقته ما يروق لهم. وكان سريري الهندي الخفيف يقف بكل عزة في ركن من أركان تلك الغرفة الصغيرة.
لكن يجب ألا أستغرق في وصف أسلوب حياة السيد مالفيا في هذا الفصل، وأن أعود إلى الموضوع الأصلي. وهكذا تمكنت من إجراء مناقشات يومية مع السيد مالفيا الذي اعتاد أن يشرح لي بود وكأخ أكبر وجهات النظر المختلفة التي تتبناها الأطراف المختلفة. وجدت أن اشتراكي في المشاورات الخاصة باتخاذ قرار بشأن الإصلاحات لا مفر منه. فقد جعلني إسهامي في صياغة تقرير مؤتمر الحزب عن أحداث القمع التي وقعت في البنجاب أشعر بأن علي الاهتمام بكل الإجراءات التي ستتخذ فيما يتعلق بتلك الأحداث. وكان لا بد من التعامل مع الحكومة لمعالجة تلك المسألة. وأيضا كان هناك قضية الخلافة. كنت أؤمن حينها بأن السيد مونتاجو لن يتخلى عنا أو يتخلى عن قضية الهند. وبدا لي أن إطلاق سراح الأخوان مولانا محمد علي ومولانا شوكت علي وغيرهما من السجناء بمثابة لفتة مبشرة. وشعرت في ظل تلك الظروف أن من الصواب تبني قرار يقبل بالإصلاحات، ولا يرفضها. من ناحية أخرى، رأى ديشباندو تشيتارانجان داس أنه ينبغي رفض الإصلاحات نظرا لعدم كفايتها. أما الراحل لوكامانيا فقد كان موقفه من الإصلاحات حياديا، لكنه قرر أن يؤيد أي قرار يمرره السيد ديشباندو.
لم أكن أحتمل فكرة اختلافي في الرأي مع مثل أولئك الزعماء المحنكين والموقرين من الجميع والموثوق بكفاءتهم. لكن من ناحية أخرى كان صوت الضمير يصرخ بداخلي بصوت واضح. حاولت الابتعاد عن جلسات الحزب، واقترحت على السيد مالفيا والسيد موتيلال أن أتغيب عن جلسات الحزب المتبقية حفاظا على المصلحة العامة. وكنت أرى أن ذلك سيجنبني الوقوف أمام المؤتمر معلنا اختلافي مع أولئك الزعماء ذوي الشأن.
لكن اقتراحي لم يلق استحسانا لدى السادة مالفيا وموتيلال. وصل اقتراحي بطريقة أو بأخرى إلى السيد لالا هاركيشانلال. فقال لي: «لا يمكنك التغيب عن جلسات المؤتمر، فذلك سيجرح مشاعر أهالي البنجاب.» ناقشت المسألة مع لوكامانيا وديشباندو والسيد جناح، لكننا لم نستطع التوصل إلى حل. وأخيرا، أفضيت بمحنتي إلى ملافيا. قلت له: «لا أجد إمكانية في التوصل إلى حل وسط. يجب طلب تقسيم هيئة الحزب إلى قسمين لحصر الأصوات إذا ما قدمت اقتراحي. لكنني لا أرى أي ترتيبات ها هنا لإجراء الاقتراع. جرت العادة في الجلسات العامة للحزب حتى الآن أن تؤخذ الأصوات عن طريق رفع الأيدي تأييدا أو اعتراضا، ومن ثم لا يمكن التمييز بين الأعضاء والزائرين، في حين لا نملك وسيلة لأخذ الأصوات في مثل هذه الاجتماعات الضخمة. ومن ثم، حتى إذا طلبت تقسيم هيئة الحزب لحصر الأصوات، لن يكون هناك إمكانية لتنفيذ ذلك ولن يكون ذا معنى.» لكن السيد لالا هاركيشانلال أنقذ الموقف وتعهد باتخاذ التدابير اللازمة. فقال لي: «لن نسمح للزوار بالدخول إلى جلسة الحزب في يوم الاقتراع. أما حساب عدد الأصوات، فسوف أتولى ذلك الأمر. لكن يجب ألا تتغيب عن جلسات المؤتمر.» فاقتنعت بكلامه، ووضعت صيغة اقتراحي وقدمته وأنا أرتجف. كان السيد مالفيا والسيد جناح يدعمان اقتراحي. وقد لاحظت أن الجماهير لم تتحمل فكرة اختلافنا، مع أنه كان خاليا من أي ضغائن ومع أن خطبنا لم تحتو إلا على براهين لا حماسة فيها. لقد تألم الناس حقا نتيجة لذلك الاختلاف لأنهم كانوا يرغبون في الوصول إلى قرار يجتمع عليه الجميع.
وكانت هناك جهود تبذل بين أعضاء المنصة، حتى في أثناء إلقاء الخطب، لفض الخلاف. وكانت المذكرات تتداول بين الزعماء بطلاقة لتحقيق تلك الغاية. لم يترك السيد مالفيا دربا إلا وسلكه حتى يزيل الخلاف بيننا. وحينها قدم لي باتانجالي تعديله وناشدني أن أجنب الأعضاء شر الانقسام، وقد راقني القرار المعدل الذي تقدم به. وكان مالفيا يبحث في كل مكان عن أي بارقة أمل. فأخبرته أن التعديل الذي تقدم به باتانجالي يمكن أن يحظى بموافقة الطرفين. بعد ذلك عرض التعديل على لوكامانيا الذي قال: «لن أعترض على القرار إذا وافق ديشاباندو تشيتارانجان داس عليه.» أخيرا تخلى السيد ديشاباندو عن تحفظه وأشار للسيد بيبين تشاندرا بال بالموافقة، الأمر الذي ملأ مالفيا بالأمل. فجذب الورقة التي تحتوي على التعديل، وحتى قبل أن يعطي ديشاباندو موافقة نهائية، هتف قائلا: «الإخوة الأعضاء، يسعدني أن أخبركم بالتوصل إلى حل وسط.» وكان ما حدث بعد ذلك يفوق الوصف. دوى التصفيق في أرجاء المكان، وأشرقت أوجه الحضور العابسة بالبهجة.
لا أرى ضرورة لتناول نص القرار المعدل، فكل ما أرمي إليه هنا هو أن أصف كيف جرى التوصل إلى ذلك القرار كجزء من خبراتي التي تتناولها هذه الفصول.
وقد زاد التوصل لذلك الحل الوسط من مسئوليتي.
الفصل الثامن والثلاثون
بدء العمل في حزب المؤتمر
أعتبر مشاركتي في جلسات الحزب في أمريتسار هي بداية مشاركتي الحقيقية في سياسة الحزب. فقد كان حضوري لاجتماعات الحزب السابقة ربما لا يتعدى كونه تجديدا سنويا لولائي للحزب. وكنت أشعر في تلك الجلسات بأن عملي لا يزيد على عمل أي شخص عادي، ولم أرغب في أي عمل يزيد على ذلك.
لقد أثبتت خبرتي في أمريتسار أنني قادر على القيام بأمر أو أمرين يمكن أن يعودا بالنفع على الحزب. ولاحظت إعجاب الراحل لوكامانيا وديشاباندو وموتيلال وغيرهم من الزعماء بعملي في تحقيق البنجاب. وقد اعتادوا دعوتي لاجتماعاتهم غير الرسمية حيث تصاغ قرارات «لجنة الرعايا». كانت الدعوة إلى تلك الاجتماعات مقصورة على الأشخاص الذين يتمتعون بثقة خاصة لدى الزعماء والذين يرغب الزعماء في استغلال خدماتهم. وكان المتطفلون، في بعض الأحيان، يجدون طريقهم إلى تلك الاجتماعات.
كنت مهتما في العام التالي بأمرين وجدت في نفسي استعدادا للقيام بهما. كان أحد هذين الأمرين النصب التذكاري لمذبحة حديقة جاليانوالا. وقد مرر الحزب قرارا بذلك الشأن وسط حماسة شديدة. كان علينا جمع خمسمائة ألف روبية لتشييد النصب، فجرى تعييني ضمن أمناء الصندوق. اشتهر السيد مالفيا بقدرته الفائقة على جمع التبرعات لصالح القضايا العامة، لكن قدراتي في ذلك المجال، التي اكتشفتها عندما كنت في جنوب أفريقيا، كانت لا تقل كثيرا عن قدراته. لم أكن أمتلك القدرة الفائقة التي يمتلكها السيد مالفيا في الحصول على تبرعات ضخمة من رجال السلطة في الهند، لكنني كنت على يقين من أنه من المستحيل الحصول على تبرعات من أجل النصب التذكاري لمذبحة أمريتسار من الملوك والأمراء. وكما توقعت، ألقيت مسئولية جمع التبرعات على كاهلي، وقد تبرع مواطنو بومباي بسخاء، حتى إن الصندوق الخاص بالنصب التذكاري يمتلك رصيدا ضخما في وقتنا الحالي. لكن المشكلة التي تواجه البلاد اليوم تكمن في نوع النصب التذكاري الذي يمكن أن يشيد على أرض امتزجت بها دماء الهندوس والمسلمين والسيخ لتطهرها . فبدلا من أن يجمع بين المجتمعات الثلاثة رباط الحب والتفاهم، نجدهم يحاربون بعضهم بعضا، تاركين الأمة حائرة ولا تعرف كيف تستغل أموال صندوق النصب التذكاري.
وكانت القدرة الأخرى التي استفاد منها الحزب هي قدرتي كصائغ قوانين. رأى قادة الحزب أن لدي القدرة على التعبير بإيجاز، وهي قدرة اكتسبتها عن طريق الممارسة الطويلة. كان الدستور الذي يحكم الحزب وقتها هو ما وضع جوخلي من قواعد. فلقد وضع جوخلي بعض القواعد كأساس لإدارة آلية الحزب. وقد استمعت إلى القصة المثيرة لوضع تلك القواعد من جوخلي نفسه. لكن الجميع الآن يشعرون بأن تلك القواعد لا تتناسب مع العمل المتزايد للحزب. وكانت تلك المسألة تطرح عاما بعد عام. وكان الحزب في ذلك الوقت لا يمتلك تقريبا آلية تعمل في الفترات الفاصلة بين الجلسة والأخرى، أو تتعامل مع حالات الطوارئ التي يمكن أن تنشأ أثناء السنة. كانت القواعد القائمة تنص على وجود ثلاثة أمناء سر للحزب، لكن في واقع الأمر كان واحد منهم فقط عاملا، وحتى أمين السر ذلك لم يكن متفرغا. فكيف كان له وحده أن يدير مكتب الحزب وأن يفكر في المستقبل، أو أن يفي في العام الحالي بالالتزامات التي تعاهد عليها الحزب مسبقا؟ نتيجة لذلك، شعر الجميع في ذلك العام أن المسألة يجب أن تحظى بقدر أكبر من الاهتمام. كان المجلس غير فعال فيما يتعلق بمناقشة الشئون العامة. ولم يكن هناك حد لعدد النواب في الحزب أو لعدد النواب الممثلين لكل إقليم. وهكذا ساد شعور بضرورة إجراء بعض التعديلات على الحالة الفوضوية القائمة. فتوليت مسئولية صياغة دستور جديد بشرط واحد، ألا وهو انضمام السيد لوكامانيا والسيد ديشباندو لي في لجنة صياغة الدستور كممثلين عن الشعب؛ لما لاحظت من تأثيرهما العظيم على الجماهير. لكنني اقترحت أن ينوب عنهما اثنان ممن يثقان بهم في اللجنة نظرا لعلمي بأن الوقت لن يسمح لهما بالاشتراك شخصيا في عمل وضع الدستور. واقترحت أن يكون عدد أعضاء اللجنة قاصرا على ثلاثة أفراد. وقبل الاقتراح كل من السيد لوكامانيا والسيد ديشباندو، الذي اقترح أسماء السيد كيلكر والسيد سين على التوالي كوكلاء عنهما. لم يقدر لأعضاء اللجنة الالتقاء ولو لمرة واحدة، لكننا تمكنا من استشارة بعضنا بعضا عن طريق المراسلات، وفي النهاية قدمنا تقريرا متفقا عليه بالإجماع. وإنني لأفخر بذلك الدستور فخرا كبيرا، وأعتقد أنه لو استطعنا الالتزام بذلك الدستور كليا، لمكنا ذلك الالتزام وحده من الحصول على الحكم الذاتي. إن تولي لتلك المسئولية يمثل دخولي الحقيقي إلى سياسة الحزب.
الفصل التاسع والثلاثون
نشأة الخادي
لا أذكر رؤيتي لنول يدوي أو مغزل عندما وصفته في عام 1908م في كتاب «الحكم الذاتي للهند» كعلاج لحالة الفقر المدقع المتزايد التي تعانيها الهند. ورأيت في ذلك الكتاب أنه لا شك في أن أي شيء يساعد الهند على التخلص من الفقر الشديد الذي تعانيه الأغلبية العظمى من شعبها سوف يؤدي بدوره إلى ترسيخ الحكم الذاتي. ولم أر مغزلا حتى عند عودتي إلى الهند قادما من جنوب أفريقيا في عام 1915م. وقد قدمنا بعض الأنوال عند تأسيس مقر الجماعة في سابارماتي. لكن ما إن قمنا بذلك حتى واجهتنا مشكلة تتلخص في انتمائنا جميعا إما للأعمال الحرة أو التجارة، ولم يكن أي منا حرفيا. كنا في حاجة إلى خبير في النسج كي يعلمنا كيفية الغزل قبل أن نتمكن من استخدام الأنوال. استطعنا تدبير أحدهم بشق الأنفس من بالانبور، لكنه لم يطلعنا على كل ما عنده من علم، لكن لا شيء كان يصعب على ماجنلال. فما لبث أن برع في فن الغزل نظرا لما يملكه من موهبة فطرية في الأعمال الميكانيكية، وأخذنا ندرب العديد من الأفراد في مقر الجماعة على الغزل الواحد تلو الآخر.
كان الهدف الذي وضعناه نصب أعيننا هو توفير كسوتنا من قماش صنعته أيدينا. وعلى الفور توقفنا عن استعمال الأقمشة المنسوجة في المصانع وعزم جميع أفراد الجماعة على استعمال القماش المنسوج يدويا من خيط الغزل الهندي فقط. وقد أكسبتنا تلك الحرفة كثيرا من الخبرة. فمكنتنا من معرفة ظروف حياة النساجين عن طريق الاحتكاك المباشر بالمهنة، وحجم إنتاجهم، والعقبات التي تعترض حصولهم على مخزون خيط الغزل اللازم، وكيف يقعون ضحايا للاحتيال، وأخيرا تزايد ديونهم باستمرار. لم نكن في وضع يسمح لنا بصناعة كل ما نحتاج من أقمشة على الفور. ومن ثم كان الخيار الذي أمامنا أن نحصل على مخزون القماش الذي نحتاجه من نساجي الأنوال اليدوية. لكن لم يكن الحصول على أقمشة جاهزة مصنوعة من خيط الغزل الهندي بالأمر اليسير، سواء من تجار الأقمشة أو من النساجين أنفسهم. كانت جميع الأقمشة الجيدة التي يصنعها النساجون مصنوعة من خيط أجنبي نظرا لعدم غزل المصانع الهندية لخيوط غزل عالية الجودة. وحتى في وقتنا الحالي، نجد إنتاج المصانع الهندية من الخيوط عالية الجودة محدودا للغاية، أما فيما يتعلق بالخيوط الفائقة الجودة فلا يمكنها غزلها بالمرة. وأخيرا استطعنا بعد مشقة إيجاد بعض النساجين الذين تكرموا بنسج خيط الغزل لتحقيق الاكتفاء الذاتي، شريطة أن تشتري الجماعة كل الكمية التي ينتجونها من الأقمشة. وهكذا جعلنا من أنفسنا وكلاء متطوعين لمصانع الغزل الهندية عن طريق اتخاذ الأقمشة المنسوجة من خيوط الغزل الهندية ملابس لنا وترويجها بين أصدقائنا. وهذا ما أدى بدوره إلى احتكاكنا بالمصانع، ومكنا من معرفة بعض المعلومات عن إدارتها والعراقيل التي تواجهها. ورأينا أن المهمة الحقيقية للمصانع تكمن في نسجها للخيوط التي تغزلها، فلم يكن تعاونها مع نساجي الأنوال اليدوية اختياريا وإنما كان حتميا ومؤقتا. كنا نتوق لغزل خيطنا الخاص، وقد بدا أنه يجب علينا الاعتماد على المصانع إلى أن نتمكن من غزل خيطنا بأنفسنا. فلم نشعر أن استمرارنا وكلاء لمصانع الغزل الهندية سيعود بالنفع على البلاد.
ومجددا واجهتنا صعاب لا حصر لها. لم نستطع الحصول على مغزل أو غازل ليعلمنا كيفية الغزل. وكنا نستخدم عجلة ما لملأ أعمدة الدوران والبكر بغرض النسج في مقر الجماعة. لكن لم تكن لدينا فكرة عن إمكانية استخدامها كمغازل. وفي أحد الأيام، وجد كاليداس جهافيري امرأة قال: إنها ستشرح لنا كيفية القيام بالغزل. أرسلنا إليها أحد أعضاء الجماعة وكان مشهورا بقدرته الفائقة على تعلم المهارات الجديدة. لكن حتى ذلك الرجل لم يستطع أن يكتسب سر الصنعة.
وهكذا مرت الأيام، وزاد شغفي بالمسألة مع مرور الزمان. كنت أمطر أي زائر إلى مقر الجماعة بالأسئلة إذا ما علمت بامتلاكه لبعض المعلومات حول الغزل اليدوي. لكن نظرا لاقتصار تلك الحرفة على النساء ونظرا لأن العاملات بها قد انقرضن جميعا، فإن كان هناك غازلة لا تزال على قيد الحياة في مكان غامض فلن يستطيع العثور عليها إلا واحدة من بنات جنسها.
في عام 1917م، اصطحبني أصدقائي الجوجراتيون كي أترأس مؤتمر بروتش التعليمي
Broach Educational Conference . وهنا تعرفت إلى السيدة الرائعة جانجابين ماجموندار . وقد كانت جانجابين أرملة، لكن قدرتها على العمل لم يكن لها حدود. ولم تكن قد حصلت على قدر كبير من التعليم، لكنها كانت تتفوق على النساء المتعلمات بسهولة في الشجاعة ورجاحة العقل. وكانت قد تخلصت بالفعل من لعنة النبذ، وتنقلت بشجاعة بين الطبقات المقهورة وقامت على خدمتها. كانت جانجابين تتمتع بقدرات خاصة، وكانت احتياجاتها قليلة. وكانت ذات بنية قوية، وكانت تتجول في جميع الأماكن بلا حراسة. وكانت تشعر بالراحة وهي تعتلي ظهر الخيل. وقد تعرفت إليها بصورة أكبر في مؤتمر جودرا. أسررت لها بحزني على «التشارخا»،
1
لكنها خففت عني ووعدتني بالقيام ببحث دءوب ومتواصل عن مغزل.
هوامش
الفصل الأربعون
وأخيرا وجدتها!
وأخيرا، وبعد بحث مضني في أرجاء جوجرات، وجدت جانجابين المغزل في فيجابور بولاية بارودا. كان عدد كبير من الأهالي هناك يملكون مغازل في منازلهم، لكنهم أودعوها المخازن ضمن الأثاث المتروك. وقد عبروا لجانجابين عن استعدادهم لمعاودة الغزل إذا ما أخذوا وعدا بتزويدهم بلفائف القطن المندوف بصورة منتظمة وشراء الخيوط التي يغزلونها. كان توفير لفائف القطن المندوف مهمة صعبة. لكن الراحل عمر صوباني حل المشكلة على الفور بمجرد أن ذكرتها أمامه، بأن وعد بإرسال ما يكفي من لفائف القطن من مصنعه. أرسلت لفائف القطن التي تسلمتها من عمر صوباني إلى جانجابين، وسرعان ما بدأ الخيط المغزول في التدفق بمعدل يفوق طاقتنا.
كان السيد عمر صوباني شديد الكرم، لكن كان علينا ألا نستغل ذلك الكرم إلى الأبد. وقد شعرت بالضيق لاستمرارنا في تلقي لفائف القطن منه. علاوة على ذلك، بدا لي أنه لا يجب علينا استخدام لفائف القطن المندوف في المصانع. فإن كان المرء يستطيع استخدام لفائف القطن المندوف في المصانع، فلماذا لا يستخدم الخيط المغزول في المصانع أيضا؟ وبالطبع لم يكن هناك مصانع تزود الشعوب القديمة بلفائف القطن المندوف. فكيف إذن كانوا يحصلون على لفائف القطن المندوف؟ جعلتني تلك الأفكار أقترح على جانجابين أن تجد من يعملون على ندف القطن لتزويدنا بلفائف القطن المندوف، فقامت بالمهمة بلا تردد. فاستأجرت عاملا ذا خبرة في ندف القطن، فطلب أجرا وصل إلى خمس وثلاثين روبية شهريا، إن لم يكن مبلغا أكبر. وكنت أرى حينها أنه لا يوجد سعر يضاهي قيمة تلك الخدمة. فقامت جانجابين بتدريب عدد من الشباب على صناعة لفائف القطن المندوف. أرسلت إلى بومباي طلبا لتزويدي بالقطن، وعلى الفور استجاب بارساد ديساي. وهكذا ازدهرت تجارة جانجابين بصورة خيالية. واستطاعت إيجاد نساجين لنسج الخيوط التي غزلت في فيجابور، وسرعان ما اشتهر الخادي المصنوع في فيجابور.
وفي حين كانت تلك التطورات تتوالى في فيجابور، كان المغزل ينتشر بسرعة في مقر الجماعة. قام ماجنلال غاندي بإضافة العديد من التعديلات على المغزل باستغلال كل ما لديه من موهبة في الميكانيكا. وبدأ تصنيع المغازل ومستلزماتها في مقر الجماعة. كانت تكلفة أول قطعة من قماش الخادي صنعت في مقر الجماعة 17 آنة للياردة. ولم أتردد في بيع قطعة الخادي الخشنة تلك بالسعر ذاته إلى الأصدقاء الذين دفعوا السعر عن طيب خاطر.
كنت أسير فراش المرض في بومباي، لكنني كنت قادرا على البحث عن المغزل هناك. وأخيرا، وجدت غازلين. وكانا يحصلان على روبية مقابل السير
1
من الخيط، أي ما يعادل 28 تولا أو ما يقرب من ثلاثة أرباع الرطل. كنت وقتها جاهلا بأسعار الخادي، وكنت أرى أن الحصول على خيط مغزول يدويا لا يقدر بمال. وعند مقارنتي للأسعار التي كنت أدفعها بالأسعار المدفوعة في فيجابور، اكتشفت أنني وقعت ضحية للاحتيال. رفض الغازلان خفض أسعارهما، فاضطررت إلى الاستغناء عن خدماتهما. لكن ذلك لا يمنع أنهما كانا قد أديا الغرض المطلوب منهما. لقد علم الغازلان السيدات أفانتيكاباي وراميباي كامدار ووالدة شانكارلال بانكر الأرملة والسيدة فاسوماتيبين الغزل. بدأ صوت المغازل المرح يدوي في غرفتي، ولا أكون مبالغا حين أقول: إن صوت تلك المغازل قد أسهم في شفائي، وأقر بأن أثر ذلك الصوت كان نفسيا أكثر منه جسديا. وقد اتضح لي وقتها كيف يتفاعل جسد الإنسان بقوة مع حالته النفسية. جربت أنا الآخر المغزل، لكنني لم أستطع استعماله بكفاءة عالية في ذلك الوقت.
ومرة أخرى في بومباي، واجهتنا نفس مشكلة الحصول على مخزون من لفائف القطن المندوف يدويا. كان هناك أحد العاملين بندف القطن يمر بالقرب من منزل السيد ريفاشانكار محدثا صوتا بقوسه. فأرسلت في طلبه، وعلمت منه أنه يعمل في ندف القطن المستخدم كحشو للأفرشة. وافق الرجل على ندف القطن لعمل اللفائف، لكنه طالب بأجر باهظ لم يكن مني إلا أن أعطيته إياه. وقد أعطيت ذلك الخيط المغزول إلى بعض الأصدقاء من أتباع الإله فيشنو كي يصنعوا منه أكاليل الزهور الخاصة باحتفالات «بافيترا إيكيداشي». أنشأ السيد شيفجي فصلا دراسيا لتعليم الغزل في بومباي. وقد كلفتنا تلك التجارب مبلغا طائلا من المال. لكن الأصدقاء الوطنيون، الذين يكنون كل الحب للوطن ويثقون بقماش الخادي، تكفلوا عن طيب خاطر بتلك النفقات. وهكذا أرى أن الأموال التي أنفقت لم تضع سدى؛ فقد أكسبتنا خبرة عظيمة وجعلتنا نكتشف إمكانيات المغزل.
تولد لدي شغف بقصر ملابسي على الملابس المصنوعة من قماش الخادي. كنت وقتها لا أزال أرتدي مئزرا مصنوعا من قماش المصانع الهندي. وكان عرض الخادي الخشن الذي يصنع في مقر الجماعة وفي فيجابور 30 بوصة لا غير. فأخبرت جانجابين بأنها إن لم توفر لي مئزرا من الخادي بعرض 45 بوصة خلال شهر، فسأرتدي مئزرا من الخادي الخشن القصير. كان وقع كلامي على مسامعها كالصدمة. لكنها أثبتت كفاءتها في إنجاز المهمة. وبالفعل أرسلت لي أثناء الشهر مئزرا من قماش الخادي بعرض 45 بوصة، الأمر الذي أنقذني من موقف حرج.
وتقريبا في الوقت ذاته، أحضر السيد لاكشميداس إلى مقر الجماعة السيد رامجي، الناسج، بصحبة زوجته جانجابين من مدينة لاثي
Lathi ، وأخذنا نصنع المآزر من الخادي في مقر الجماعة. وقد قام هذان الزوجان بدور كبير في نشر قماش الخادي. فقد علما مجموعة كبيرة من الأفراد في جوجرات وخارجها حرفة نسج الخيوط المغزولة يدويا. وكان مشهد جانجابين وهي جالسة على نولها محفزا على العمل. فعندما تعكف تلك الأخت غير المتعلمة الواثقة بذاتها على نولها، تستغرق في العمل حتى يصبح من الصعب أن يشتت أحد انتباهها، ناهيك عن أن يتمكن أحد من تحويل نظرها عن نولها المحبب.
هوامش
الفصل الحادي والأربعون
حوار توجيهي
أثارت حركة الخادي، التي كان يطلق عليها حينها حركة الاكتفاء الذاتي، حالة من النقد الحاد من أصحاب المصانع منذ انطلاقها. أما الراحل السيد عمر صوباني، وهو نفسه صاحب مصنع بارز، فقد منحني علمه وخبرته، ليس ذلك فحسب بل أبقاني مطلعا على وجهة نظر أصحاب المصانع الآخرين. وقد عرض المسألة أحد أصحاب المصانع المتأثرين بالوضع بشدة. فألح علي عمر صوباني كي أقابله، فوافقت. رتب السيد عمر صوباني للمقابلة. فبدأ الحديث صاحب المصنع، قائلا: - «تعلم أنه فيما مضى كان هناك ثورة تدعو إلى الاكتفاء الذاتي؟» - «نعم أعلم.» - «وهل تعلم أيضا أنه في أيام تقسيم الحدود استغل أصحاب المصانع حركة الاكتفاء الذاتي إلى أقصى مدى؟ فعندما وصلت حركة الاكتفاء الذاتي إلى ذروتها قمنا برفع أسعار الأقمشة وقمنا حتى بأعمال أسوأ من هذه.» - «نعم سمعت بعض المعلومات عن ذلك الأمر، وقد أحزنني ذلك كثيرا.» - «أقدر حزنك، لكنني لا أرى سببا يدفعك للحزن. نحن لا ندير أعمالنا بدافع الإنسانية، بل نقوم بالأعمال لنجني الأرباح ونرضي حاملي الأسهم. فسعر السلعة يتوقف على حجم الطلب عليها. ومن يستطيع أن يلغي قانون العرض والطلب؟ كان ينبغي للبنجاليين أن يعلموا أن ثورتهم كانت ستتسبب في ارتفاع أسعار أقمشة الاكتفاء الذاتي عن طريق تشجيعهم للطلب عليها.»
فقاطعته قائلا: «كان البنجاليون، مثلي، يتمتعون بطبيعة نزاعة إلى الثقة بالآخرين. لقد آمنوا، كل الإيمان، بأنه لا يمكن لأصحاب المصانع أن يكونوا بتلك الأنانية وعدم الوطنية المطلقة حتى يخونوا بلادهم في وقت حاجتها إليهم، وأن يصل بهم الحد إلى توزيع أقمشة أجنبية على أنها أقمشة خاصة بحركة الاكتفاء الذاتي.»
فأجاب قائلا: «أعلم بأمر طبيعتك النزاعة إلى الثقة بالآخرين، ولذلك طلبت إليك تكبد مشقة المجيء لمقابلتي كي أحذرك من أن تقترف نفس الأخطاء التي اقترفها أولئك البنجاليون المخلصون.»
ثم أشار صاحب المصنع إلى أحد موظفيه الذي كان يقف على مقربة منا لكي يعرض بعض النماذج من المواد التي ينتجها في مصنعه. فأشار إليها قائلا: «انظر إلى هذه المنتجات. إن هذه هي آخر مجموعة أنتجها مصنعنا، وتلقى رواجا واسعا. لقد صنعناها من نفاية القطن، ومن ثم تجد سعرها رخيصا. ونحن نوزعها في الشمال وصولا إلى أودية جبال الهيمالايا. ولدينا وكلاء في جميع أنحاء البلاد، حتى في أماكن لا يمكن لرسالتك أو لوكلائك الوصول إليها أبدا. وهكذا يمكنك أن ترى أننا لسنا في حاجة إلى المزيد من الوكلاء. علاوة على ذلك، يجب أن تعلم أن إنتاج الهند من الأقمشة يعجز عن تلبية احتياجاتها. وهكذا تتحول مسألة الاكتفاء الذاتي إلى حد بعيد إلى مسألة إنتاج. ولسوف يتوقف استيراد الأقمشة الأجنبية تلقائيا فور أن نتمكن من زيادة إنتاجنا بالقدر الكافي وتحسين جودته إلى المستوى المناسب. فأنصحك بألا تستمر في ثورتك بنفس الخطط الحالية، بل ركز انتباهك على إنشاء مصانع جديدة. فنحن لسنا في حاجة إلى دعاية لزيادة الطلب على سلعنا، بل في حاجة إلى إنتاج أكثر ضخامة.»
فسألته: «وبالطبع ستقدر جهودي إذا ما كنت مشتركا بالفعل في ذلك العمل؟»
فسأل متحيرا: «وكيف هذا؟ لكن ربما تفكر في الترويج لإنشاء المصانع الجديدة، وهو الأمر الذي يجب أن أهنئك عليه بلا شك.»
فأوضحت له: «ليس هذا بالضبط ما أقوم به، لكنني مشترك في عملية إحياء استخدام المغزل.»
فسألني وهو لا يزال في حيرة من أمره: «ماذا تقصد بذلك؟» فأخبرته بقصة المغزل بأكملها، وسعيي الطويل للحصول عليه. ثم أضفت: «أنا أوافقك الرأي تماما بشأن عدم جدوى أن أصبح وكيلا للمصانع. فذلك يمكن أن يضر بالبلاد أكثر من أن يعود عليها بالنفع. فلن تكون مصانعنا في حاجة إلى زبائن لمدة طويلة. ينبغي أن اضطلع بمهمة تنظيم إنتاج أقمشة مغزولة يدويا، وأن أجد طريقة لتصريف قماش الخادي المنتج بتلك الطريقة. وهكذا أركز انتباهي على إنتاج الخادي. أنا أثق كثيرا بهذا الشكل من أشكال الاكتفاء الذاتي، فيمكنني عن طريقه توفير فرص عمل لنساء الهند شبه الجوعى واللائي يعملن بصورة غير دائمة. كانت فكرتي تتلخص في جعل أولئك النساء يغزلن الخيط وأن يزودن شعب الهند بثياب مصنوعة من الخادي المصنوع من ذلك الخيط. لا أعلم مدى إمكانية نجاح تلك الحركة، فحاليا لا تزال الحركة في مرحلتها الأولى. ومع ذلك أثق بالحركة ثقة كبيرة. وبأي حال لا يمكن للحركة أن تتسبب في أي ضرر. بل على العكس، ستمثل الحركة ربحا ثابتا بالقدر الذي ستضيفه إلى إنتاج البلاد من الأقمشة، إذا كان الإنتاج منخفضا. وهكذا يمكنك أن تلاحظ أن تلك الحركة خالية من الآثام التي ذكرتها.»
فأجابني: «إذا كنت تهدف بتنظيم حركتك إلى تحقيق إنتاج إضافي، فلا يمكنني أن أعترض طريقك. أما مدى قدرة المغزل على النجاح في ظل عصر الآلات التي تعمل آليا الذي نعيشه، فتلك مسألة أخرى. لكنني أتمنى لك التوفيق.»
الفصل الثاني والأربعون
المد المتزايد
لا أجد حاجة إلى تخصيص المزيد من الفصول لوصف تطور الخادي بصورة أكبر. وليس محل هذه الفصول ذكر تاريخ أنشطتي المتعددة بعد أن أصبحت معلنة للعامة ويجب ألا أحاول ذلك، حتى لو لم يكن هناك سبب آخر غير أن الأمر يتطلب البحث. إن الهدف من كتابة هذه الفصول هو فقط وصف كيف تجلت لي بعض الأشياء، من تلقاء نفسها، في أثناء رحلة بحثي عن الحقيقة.
أعود للحديث عن قصة حركة عدم التعاون. في حين كانت الثورة القوية لحركة الخلافة التي تزعمها الأخوان مولانا محمد علي ومولانا شوكت علي في أوجها، كنت أجري مناقشات مطولة حول الحركة مع الراحل مولانا عبد الباري وغيره من علماء الدين الإسلامي، خاصة فيما يتعلق بمدى إمكانية التزام المسلمين بسياسة اللاعنف. وقد اتفقوا جميعا في النهاية على أن الإسلام لم يحرم اتباع سياسة اللاعنف. وأضافوا أنه ما داموا قد تعهدوا بانتهاج تلك السياسة فسيلتزمون بتنفيذها. وأخيرا جرى تمرير قرار عدم التعاون في مؤتمر حركة الخلافة وتمت الموافقة عليه بعد مداولات مطولة. أذكر جيدا كيف ظلت إحدى اللجان ذات مرة في أحمد آباد تدرس المسألة الليل بطوله. كان الشك يساور الراحل حكيم سهيب، في بداية الأمر حول مدى إمكانية تطبيق عدم التعاون السلمي، لكن ما إن زال عنه ذلك الشك، حتى دعم الحركة قلبا وروحا، وقدم مساعدة قيمة إلى الحركة.
ثم قدمت قرار عدم التعاون في المؤتمر السياسي بجوجرات الذي عقد بعد ذلك بمدة وجيزة. وكان الاحتجاج الأولي الذي طرحته المعارضة هو عدم أهلية المؤتمر المحلي لاتخاذ قرار قبل أن يقره حزب المؤتمر. وردا على هذا الاحتجاج، ذكرت أن ذلك القيد يمكن أن ينطبق فقط على حركة متأخرة، أما عندما تكون الحركة آخذة في التقدم، لا تصبح المنظمات الفرعية مؤهلة لاتخاذ القرارات فحسب بل يكون ذلك من واجبها إن كانت تمتلك العزم والثقة. فاقترحت عدم وجود حاجة إلى تصريح عند محاولة الرقي بمكانة المنظمة الأم، شريطة أن يقوم بها المرء على مسئوليته الشخصية. هكذا ناقشنا الاقتراح وقتها، وبقدر ما اتسم النقاش بالحماسة اتسم أيضا بمناخ من «العقلانية اللطيفة». وقد تمت الموافقة على القرار بأغلبية ساحقة. وقد أسهم كل من السيد فالابهباي والسيد عباس طيابجي إلى حد بعيد في الإقرار الناجح للقرار. وقد كان رئيس المؤتمر، السيد عباس، يميل تماما إلى قرار عدم التعاون.
قررت لجنة حزب المؤتمر الوطني الهندي عقد جلسة خاصة للحزب في سبتمبر/أيلول من عام 1920م في كلكتا لمناقشة المسألة. وقد جرى الإعداد لتلك الجلسة على نطاق واسع. وقد انتخب السيد لالا لاجبات راي رئيسا للجلسة. وتدفقت القطارات الخاصة بالحزب وبحركة الخلافة من بومباي إلى كلكتا التي عجت بحشود ضخمة من النواب والزائرين.
صغت مشروع قرار لحركة عدم التعاون في أثناء رحلتي بالقطار بناء على طلب مولانا شوكت علي. وكنت حتى ذلك الوقت أتجنب إلى حد ما استعمال كلمة اللاعنف في المسودات التي أحررها. لكنني كنت دائما أستخدم تلك الكلمة في الخطب التي ألقيها. كانت المفردات التي يتضمنها الموضوع لا تزال في طور التكوين. ووجدت أن من الصعب أن أوضح مقصدي للمسلمين المخلصين عن طريق الكلمة المرادفة لكلمة «اللاعنف» باللغة السنسكريتية. فطلبت من مولانا أبي الكلام آزاد أن يخبرني بمزيد من المرادفات للكلمة. فاقترح علي الكلمة
ba-aman ، واقترح أيضا العبارة
tark-i-mavalat .
فبينما كنت لا أزال أصوغ المفردات الهندية والجوجراتية والأردية المناسبة لكلمة عدم التعاون، طلب مني صياغة قرار عدم التعاون لتلك الجلسة المهمة. ولقد أغفلت كلمة «اللاعنف» في مشروع القرار الأصلي. فسلمت مشروع القرار إلى مولانا شوكت علي، الذي كان يسافر معي في المقصورة ذاتها، دون أن ألاحظ إغفالي للكلمة. ولم أكتشف الخطأ إلا في المساء. وفي الصباح، بعثت برسالة مع ماهديف تشير إلى ضرورة تصحيح الخطأ قبل إرسال مشروع القرار إلى المطبعة. لكن تولد لدي شعور أن مشروع القرار قد طبع قبل تصحيح ذلك الخطأ. كان من المقرر انعقاد لجنة الرعايا في مساء ذلك اليوم، فكان علي إجراء التصحيح اللازم للخطأ في نسخ مشروع القرار. ووجدت فيما بعد أنه لولا إعدادي لمشروع القرار لكنت واجهت مشكلة كبيرة.
ومع ذلك كنت في ورطة كبيرة حقا. كنت متحيرا تماما ولا أعرف من سيدعم القرار ومن سيعترض عليه. ولم تكن لدي أي فكرة عن موقف السيد لالا جي. ولم أر إلا كتيبة مهيبة من قدامى المحاربين مجتمعين للاشتباك في كلكتا، من بينهم الدكتورة بيسانت والسيد مالفيا والسيد فيجاياراجافاشاري والسيد موتيلال وديشباندو.
لقد تقدمت بقرار عدم التعاون من أجل الحصول على تعويض لما حدث في البنجاب ولحل مشكلة الخلافة لا غير. لكن ذلك لم يرق للسيد فيجاياراجافاشاري، الذي حاول أن يبرهن على وجهة نظره قائلا: «إذا ما كنا سنعلن حركة عدم التعاون ، فلن نقصرها على مظالم بعينها فقط؟ إن عدم تمتع البلاد بالاستقلال هو أكبر ظلم نعانيه، فيجب علينا إعلان عدم التعاون من أجل رفع ذلك الظلم وتحقيق الاستقلال.» وطالب السيد موتيلال هو الآخر بإدراج مطلب الاستقلال في القرار. تقبلت الاقتراح بسرور، وأضفت مطلب الاستقلال إلى القرار الذي تمت الموافقة عليه بعد مناقشة مرهقة وجادة، وبقدر ما، عاصفة.
كان موتيلال أول المشاركين في الحركة. ولا أزال أتذكر المحادثة اللطيفة التي جرت بيني وبينه حول القرار. اقترح موتيلال بعض التعديلات على المفردات التي اخترتها. وتولى أمر اجتذاب السيد ديشباندو إلى الحركة. وكان ديشباندو ميالا للحركة بالفعل، لكن ساوره الشك حول قدرة الشعب على تنفيذ خطة العمل. ولم يقبل ديشباندو والسيد لالا جي الحركة تماما إلا في اجتماع الحزب بمدينة ناجبور.
شعرت بتردد الراحل السيد لوكامانيا كثيرا في الجلسة الخاصة. أؤمن حتى يومنا هذا، بأنه إذا كان السيد لوكامانيا حيا في وقت قيام حركة التعاون، لأيدني في الحركة. وحتى إن لم يؤيدني واعترض على الحركة، لكنت احترمت معارضته واعتبرتها امتيازا خاصا وخبرة يمنحني إياهما. كنا في خلاف دائم في الرأي، لكن ذلك لم يزرع بيننا أي ضغائن قط. وقد جعلني دائما أؤمن بأن أواصر الصداقة بيننا متينة. وحتى في أثناء كتابتي لهذه الأسطر، تمر أحداث وفاته بذاكرتي بكل وضوح. كانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل عندما أبلغني باتواردهان، الذي كان يعمل معه في ذلك الوقت، خبر وفاته بالهاتف. كنت محاطا في تلك اللحظة برفقائي. فوجدت الكلمات تجري على لساني بصورة تلقائية: «لقد رحل حصني المنيع.» كانت حركة عدم التعاون حينها في ذروتها، وكنت في حاجة ماسة لتشجيعه وأفكاره الملهمة. إن الموقف الذي كان من الممكن أن يتخذه لوكامانيا بشأن المرحلة النهائية لحركة عدم التعاون سيظل دائما محض افتراض، وهو افتراض عديم الجدوى. وقد أثقل الفراغ الذي خلفه موت لوكامانيا كاهل الجميع في كلكتا في ذلك الوقت. وشعر كل منا بغياب نصائحه في أوقات الأزمات التي تتعرض لها الأمة.
الفصل الثالث والأربعون
في ناجبور
كان من المقرر التصديق على القرارات التي تبناها الحزب في الجلسة الخاصة بكلكتا في الجلسة السنوية بناجبور. وكما كان الحال في كلكتا، تهافت الزوار والنواب على الجلسة. لم يكن عدد النواب في الحزب قد حدد بعد. نتيجة لذلك، وبقدر ما تسعفني الذاكرة، وصل عدد الحضور في تلك الجلسة إلى ما يقرب من أربعة عشر ألفا. ألح السيد لالا جي في إجراء تعديل طفيف على المدة التي تتناول مقاطعة المدارس، فقبلت بالتعديل. وأدخلنا أيضا بعض التعديلات بناء على طلب ديشباندو. وهكذا جرى تمرير القرار بالإجماع.
وكان من المقرر مناقشة القرار بشأن تعديل دستور الحزب في تلك الجلسة. وقد قدمت اللجنة الفرعية تقريرها المبدئي في الجلسة الخاصة بكلكتا. وهكذا ناقشنا المسألة باستيفاء ومن جميع الجوانب. كان السيد فيجاياراجافاشاري رئيس الجلسة التي عقدت في ناجبور حيث كانت المناقشة النهائية للقرار. أقرت لجنة الرعايا مشروع القرار بعد أن قامت بتعديل واحد ذي أهمية، ألا وهو تغيير عدد النواب الذي حددته في القرار من قرابة 1500 إلى 6000 نائب. وأعتقد أن ذلك التعديل جاء نتيجة لقرار غير متأن. وقد أثبتت السنوات اللاحقة صحة رأيي. إننا لحالمون إن آمنا أن زيادة عدد النواب ستعود بأي نفع على عمل الحزب أو أنها ستمثل الدرع الواقي لمبدأ الديمقراطية. فلا شك أن ألفا وخمسمائة نائب يغارون على مصالح الشعب وواسعي الأفق وصادقين؛ سيحافظون على الديمقراطية أكثر من ستة آلاف نائب غير أهل للمسئولية وجرى اختيارهم على أساس عشوائي. يجب أن يشعر الشعب بالاستقلال واحترام الذات والوحدة إذا ما كنا نرغب في الحفاظ على الديمقراطية، وينبغي أن يصر الشعب على اختيار ممثليه الذين يرى صدقهم وصلاحهم. لكن نظرا لقلق لجنة الرعايا بشأن مسألة عدد النواب، كانت اللجنة تتمنى لو أن العدد تجاوز حد الستة آلاف. وهكذا كان عدد الستة آلاف حلا وسطا لتلك المسألة.
وأحد الموضوعات التي كانت محل نقاش واسع هو هدف الحزب. كان الدستور الذي طرحته ينص على أن هدف الحزب تحقيق الحكم الذاتي في ظل الإمبراطورية البريطانية إن أمكن ، وبعيدا عن الإمبراطورية إذا دعت الحاجة. وأرادت مجموعة في الحزب قصر تلك الغاية على الحصول على الاستقلال تحت مظلة الإمبراطورية البريطانية. وقد طرح وجهة نظرهم السيد مالفيا والسيد جناح، لكنهما فشلا في الحصول على عدد كبير من الأصوات. ونص مشروع الدستور الذي قدمته على أن تكون وسائل الحصول على الاستقلال سلمية ومشروعة. وقد كان ذلك الدستور محل معارضة، حيث قال المعارضون: إنه لا ينبغي وضع قيود على الوسائل التي يمكن تبنيها من أجل الحصول على الاستقلال. لكن في نهاية الأمر، أقر الحزب الدستور كما جاء في المشروع الأصلي بعد نقاش نافع وصريح . أعتقد أنه لو استطاع الشعب الالتزام بذلك الدستور بصدق وحكمة وحماسة، لأصبح وسيلة لتثقيف الجمهور، ولكانت عملية الالتزام بالدستور في ذاتها مكنتنا من الحصول على الاستقلال. لكن لا أجد مجالا هنا لتناول الموضوع.
وجرى تمرير قرارات حول وحدة الهندوس والمسلمين والقضاء على مبدأ النبذ وقماش الخادي في تلك الجلسة. ومنذ ذلك الحين، حرص أعضاء الحزب من الهندوس على تخليص الهندوسية من لعنة النبذ، ورسخ الحزب علاقات فعالة مع «المنبوذين» بالهند عن طريق قماش الخادي. وقد كان تبني حركة عدم التعاون لمناصرة حركة الخلافة في ذاتها محاولة عملية من جانب الحزب لدعم الوحدة بين الهندوس والمسلمين.
الوداع
والآن حان وقت ختام هذه الفصول.
منذ ذلك الحين، أصبحت حياتي عامة جدا لدرجة أنني بالكاد أجد أي معلومة تخفى عن الجمهور. بالإضافة إلى ذلك، عملت منذ عام 1921م بجانب زعماء الحزب حتى إنني أجد من الصعب ذكر أي حدث في حياتي منذ ذلك الحين دون الإشارة إلى علاقتي بهم. ومع رحيل شراداناند جي وديباندو وحكيم سهيب ولالا جي، لكننا نعد محظوظين لوجود مجموعة من الزعماء المتمرسين الذين لا يزالون يعيشون ويعملون بيننا. ولا يزال تاريخ الحزب، منذ التعديلات العظيمة التي شهدها وذكرتها آنفا؛ قيد التطور. وقد خضت تجاربي الرئيسية في أثناء السبع سنوات الماضية جميعها عن طريق عملي في الحزب. لذلك أجد أنه في حالة استمررت في رواية تجاربي، فسأضطر إلى الإشارة إلى علاقتي مع أولئك الزعماء، الأمر الذي لا يمكنني أن أقدم عليه حاليا، ولو حتى بدافع اللياقة. وأخيرا، يمكن بالكاد اعتبار استنتاجاتي التي توصلت إليها من تجاربي الحالية كاستنتاجات قاطعة. وهكذا يبدو لي أن من واجبي أن أنهي قصة رحلة بحثي عن الحقيقة عند هذا الحد. وفي الواقع، يرفض قلمي أن يستمر في الكتابة من تلقاء نفسه.
وإنني لأشعر بالأسى لاضطراري لتوديع القراء. لقد أكدت على الأهمية الكبيرة لتجاربي، ولا أعلم إذا كنت قد أوفيتها حقها من العرض السليم أم لا. لا يسعني إلا القول: إنني بذلت كل ما في وسعي كي أروي أحداث قصة حياتي كما حدثت في الواقع. وقد كان شغلي الشاغل وصف الحقيقة كما تراءت لي والأسلوب الذي توصلت إليها به. ولقد منحني ذلك صفاء ذهنيا نظرا لأن جل ما أتمناه لي من رواية تجاربي هو أنها قد تهدي المذبذبين إلى الإيمان «بالحقيقة» و«الأهيمسا».
لقد أثبتت لي خبرتي الراسخة أن الحقيقة هي الإله الواحد. وإذا لم يستخلص القارئ من هذه الفصول أن الوسيلة الوحيدة لإدراك الحقيقة هي الأهيمسا، فسأعتبر كل ما بذلت من جهد في كتابة هذه الفصول قد ذهب سدى. وحتى إن أخفقت جهودي في تحقيق هذه الغاية، على القارئ العلم بأن الخطأ يعود إلى وسيلة التعبير عن المبدأ وليس المبدأ العظيم ذاته. مع كل ذلك، ومهما كانت جهودي لتحقيق الأهيمسا صادقة، إلا أنها ناقصة أو غير ملائمة. وهكذا أجد أن الومضات الصغيرة المؤقتة التي تمكنت من اختطافها من الحقيقية يمكنها بالكاد أن تعكس صورة بريق الحقيقة الذي يفوق كل وصف ويفوق حتى بريق الشمس التي نراها يوميا بمليون مرة. في واقع الأمر، لم أختطف من بريق الحقيقة العظيم إلا أشد وميضه شحوبا. لكن يمكنني القول بكل ثقة نتيجة لمجموع تجاربي: إنه لا يمكن الوصول إلى رؤية تامة للحقيقة إلا بعد إدراك كامل للأهيمسا.
ولرؤية روح الحقيقة السائدة في الكون والمتخللة لكل جنب من جنباته وجها لوجه، يجب أن يكون المرء قادرا على حب أدنى المخلوقات كما يحب نفسه. ولا يمكن لمن يطمح للوصول لتلك الحقيقة أن يعتزل أي مجال من مجالات الحياة. ولهذا دفعني إخلاصي للحقيقة لمجال السياسة. ويمكنني القول دون تردد، وبكل تواضع: إن من يزعمون أنه لا علاقة تربط بين الدين والسياسة لا يعرفون المعنى الحقيقي للدين.
ومن المستحيل التوحد مع جميع الكائنات الحية دون تطهير الذات، ودون تطهير الذات يظل الالتزام بقانون الأهيمسا حلما زائفا، فلا يمكن أن يدرك الإله صاحب قلب غير طاهر. فتطهير الذات يعني التطهر في جميع جوانب الحياة. ونظرا لأن الطهر ينتقل بسرعة إلى الآخرين، يؤدي تطهير الذات بالضرورة إلى تطهير الوسط المحيط بها.
لكن الطريق إلى تطهير الذات هو طريق شاق شديد الانحدار. ولتحقيق الطهر التام، على المرء أن يتخلص تماما من العواطف في فكره وكلامه وأفعاله، وأن يسمو عن التيارات المتعارضة من حب وكره، والوصل والبعد. أعلم أنني لا أملك حتى الآن ذلك النقاء الثلاثي - في الفكر والقول والفعل - مع سعيي المتواصل لتحقيقه؛ ولهذا لا أتأثر بمديح العالم أجمع لي، بل في الواقع كثيرا ما يؤلمني. يبدو لي أن قهر الشهوات الكامنة في النفس أشق بكثير من الغزو المادي للعالم بقوة السلاح. ومنذ عودتي إلى الهند، أواجه خبرات مع العواطف الساكنة التي تكمن بداخلي. وقد جعلني إدراكي لها أشعر بالذل إلا أنه لم يدفعني للانهزام. لقد قوتني الخبرات والتجارب وأضفت علي بهجة عظيمة. لكنني على علم بأنه لا يزال أمامي طريق وعر علي اجتيازه. يجب أن أقلل من شأن نفسي إلى لا شيء. فلا خلاص لمن لا يضع نفسه، طواعية، في أدنى منزلة بين غيره من المخلوقات. والأهيمسا هي تجسيد لأقصى حدود التواضع.
أودع القراء، على الأقل في الوقت الحاضر، وأطلب منهم أن يتوجهوا معي بالدعاء إلى إله الحقيقة كي يمن علي بنعمة الأهيمسا في الفكر والقول والفعل.
Página desconocida