وانقطع الجرس، وجاءها صوت فريد يهمس في أذنها، وأحست بذراعه حول خصرها، وأنفاسه الساخنة على عنقها، ولم تكن نسيت أنه غاب عنها كل تلك الأيام لكنها بدت وكأنما نسيت كل شيء، ولم تعد تذكر شيئا، لم تعد تذكر أن لها رأسا أو ذراعين أو ساقين، وفقدت كل حواسها ولم يبق منها إلا شفتان متضخمتان ملتهبتان.
وفتحت عينيها لتنظر في عينيه، لكنه لم يكن فريد، كان رجلا آخر، له عينان ضيقتان زرقاوان وحاجبان كثيفان، أول رجل أحبته. كانت طفلة صغيرة لا تذكر كم كان عمرها في ذلك الوقت، لكنها تذكر أنها كانت قد كبرت وأصبحت تفتح عينيها كل صباح فتجد فراشها جافا، وكانت تكره البلولة وحمدت الله لأنها تخلصت منها؛ لكن الله لم يخدع بحمدها فسرعان ما أصابها ببلولة من نوع آخر، أشد خطرا، فهي ليست بلا لون كالبلولة السابقة، ما إن تجف حتى تعود الملاءة بيضاء من جديد، ولكنها ذات لون أحمر قان، لا تضيع إلا بالغسل الشديد الذي يلهب أصابعها الصغيرة، وهي لا تضيع تماما بعد الغسل، وإنما تترك أثرا باهتا أصفر.
ولم تكن تعرف سببها الحقيقي، فهي بلولة عشواء تظهر وتختفي كما يحلو لها، وظنت أن شبحا ما اغتال جسمها الصغير وهي نائمة، أو أن مرضا خبيثا ألم بها وحدها من دون البنات. وأخفت كارثة جسدها عن عيني أمها، وفكرت أن تذهب وحدها إلى طبيب ليشفيها سرا، لكن أمها ضبطتها مرة وهي تغسل ملاءة السرير أمام الحوض، ودارت بها الأرض من شدة الخزي وكورت الملاءة بيديها ورأت عيني أمها تنظران إليها من تحت عتامة لم ترها من قبل، وامتدت يدها إلى الملاءة ففردتها، ورأت البقعة الحمراء المتعرجة فوق النسيج الأبيض راقدة ممدودة كصرصار ميت. وحاولت أن تنكر جريمتها الشائنة، لكن أمها بدت وكأنها مشتركة معها في الجريمة، إنها لم تفزع، ولم تغضب؛ بل إنها لم تفاجأ على الإطلاق، كانت وكأنها تتوقع حدوث هذه المصيبة لها، وتستسلم لها استسلاما هادئا.
ولم تطمئن فؤادة إلى هذا الهدوء؛ بل إنه أفزعها حتى إن جسمها ارتعد، إنها ليست كارثة إذن، إنها ليست مرضا شاذا مؤقتا، إنها شيء عادي، عادي جدا. وكان فزعها يزداد كلما زاد إحساسها بعاديته. كانت تتمنى أن يكون شيئا شاذا، فالأشياء الشاذة محتملة لأنها شاذة وغير دائمة.
وأصبح جسمها الصغير يتغير، كانت تحس التغيير يسري في جسدها كحية ناعمة لها ذيل طويل رفيع تلعب به في صدرها وبطنها، وتلدغها في أماكن مختلفة من جسمها، كانت اللدغات مؤلمة ولذيذة، وعجبت كيف يمكن لأحاسيس جسمها أن تبدو لها مؤلمة ولذيذة في الوقت نفسه، لكن جسمها كان وكأنه أكثر ذكاء منها، كان يبدو مقتنعا بالألم واللذة، راضيا بهما جنبا إلى جنب، يحتضنهما معا بغير تعجب أو دهشة.
كان جسمها يتغير فجأة وبالتدريج، وكانت تحس التغيير ولا تحسه كهواء دافئ يدخل أنفها، أو كماء فاتر ينسكب عليها بهدوء فهي تحمل كثافته فوق جسمها، لكنها لا تحس حرارته لأنه من نفس حرارتها.
ودهشت حين رأت صدرها يوما في المرآة، لم يكن ذلك الصدر الأملس الذي ألفته عيناها، ولكنه تقعر إلى الأمام على شكل قمعين ينتهيان بزبيبتين سوداوين يصعدان ويهبطان مع كل شهيق وزفير، ويهتزان إذا ما اهتزت وكأنما سيسقطان من فوق صدرها كما يسقط البرتقال من فوق الشجرة لولا تلك الطبقة الشفافة من الجلد.
وبينما هي تهتز، أحست بشيء آخر يهتز خلفها، واستدارت أمام المرآة فاكتشفت نهدين آخرين متكورين مشدودين بجلد سميك إلى أسفل ظهرها، ووقفت لحظة تتأمل جسمها، وخيل إليها أنه جسم فتاة أخرى غيرها، أو جسم امرأة كبيرة، وشعرت بشيء من الخزي وهي ترى تلك التعاريج والبروزات تعلن عن نفسها كالفضائح مع كل شهيق وزفير، لكن كان هناك شيء آخر غير الخزي، شيء عميق ودفين، يسربل نفسه بضباب كثيف، شيء كالسرور الخفي أو الزهو الخبيث.
ولماذا تبقى كل هذه الصور القديمة في ذاكرتها بجوار صورة الرجل الأول؟ لماذا تبقى على حين زالت صور أخرى كبيرة وحديثة؟ لكنها تعتقد أن هناك تفاعلا كيميائيا لا شك يحدث في خلايا الذاكرة، يذيب بعض الصور، ويركز بعض الصور، ويشوه بعض الصور، يبقى منها أجزاء ويبتر أجزاء. نعم، يبتر أجزاء، فقد بتر النصف السفلي لجسم أول رجل في حياتها. لماذا بتره؟ إنها لا تعرف، فهي لا تذكر أنه كان يمتلك نصفا سفليا؛ كان له رأس كبير، وعينان زرقاوان ضيقتان، وكتفان وذراعان طويلتان. كيف كان يمشي بغير ساقين، إنها لا تذكر، فهي لم تره أبدا وهو يمشي، كان يطل من نافذة غرفته دائما، وكان يمكن للكبار ذوي القامات الطويلة أن يروا داخل الغرفة وهم سائرون على الأرض في الشارع لكنها كانت قصيرة، ولم تكن ترى شيئا إلا إذا قفزت.
كانت تتعمد أن تقفز الحبل تحت نافذته، وفي كل قفزة تصوب نظرة إلى داخل الحجرة؛ لم تكن ترى كل شيء بوضوح؛ لأن رأسها كان يهبط بسرعة، لكنها استطاعت أن تلمح صورا ملونة معلقة على الحائط، وحقيبة كبيرة فوق الدولاب، ومكتبة فيها كتب، كانت تحب الصور الملونة أكثر من أي شيء آخر، وقالت له يوما وهي تقفز تحت النافذة: أريد صورة ملونة. وقال لها: تعالي وأنا أعطيك صورة. ولم يكن في استطاعتها أن تذهب بغير إذن من أمها، لكن أمها رفضت وقالت لها في شدة: لقد كبرت على القفز في الشارع، ودست نفسها في سريرها وهي تنتفض غضبا، وكرهت أمها في تلك اللحظة كراهية شديدة وحسدت صديقتها سعدية لأن أمها ماتت وهي تلدها. ولم تبق في السرير كثيرا، فقد نهضت، وسارت حافية على أطراف أصابعها تمسك حذاءها في يدها وأسرعت تجري إلى الشارع.
Página desconocida