وسألت الأم في رقة: ماذا كنت أقول لك يا فؤادة؟ وقالت فؤادة في شرود: كنت تقولين إنك واثقة من أنني سأنجح وأسبق كل زملائي.
وانفرجت شفتا الأم الذابلتان عن ابتسامة واهنة وقالت: أرأيت؟ كنت واثقة دائما منك. وقالت فؤادة: كنت تتصورين أنني أحسن من كل البنات.
وقالت الأم في شيء من الحماس: لم أكن أتصور فقط. كنت متأكدة.
ونظرت فؤادة في عيني أمها وقالت: ولماذا كنت متأكدة؟ وقالت الأم بسرعة: هكذا! بغير سبب! وحاولت فؤادة أن تثبت عينيها في عيني أمها لترى نظرتها وتفهمها، وتعرف سر ذلك التأكد الذي كان يلازمها لكنها لم تر شيئا، وشعرت بشيء من الضيق تحول بعد لحظة قصيرة إلى غضب خفيف، وقالت لأمها فجأة: هذا التأكد أفسد حياتي.
وارتفع الجفنان الخاليان من الرموش عن مساحة أكبر من بياض العينين الأصفر ذي الشعيرات الدموية الحمراء وقالت الأم في دهشة شديدة: ماذا؟
وقالت فؤادة بغير إرادة وكأنما يلقنها شخص من الماضي البعيد: هذا التأكد كان يطاردني كالشبح، كان يثقل قلبي، ولم أكن أنجح في الامتحانات إلا ... وسكتت لحظة وابتلعت ريقها بصوت مسموع ثم واصلت كلامها: نعم؛ لم أكن أنجح إلا من أجلك أنت، وكان هذا يعذبني، نعم كان يعذبني لأنني كنت أحب العلوم وكان يمكن أن أنجح وحدي، وأمسكت رأسها بين يديها وضغطت عليه بقوة.
وسكنت الأم لحظة واجمة ثم قالت في أسى: أنت مرهقة يا فؤادة الليلة، ماذا حدث في الأيام الأخيرة؟ أنت لست في حالتك الطبيعية.
ظلت فؤادة، مطرقة صامتة، تضغط بكلتا يديها على رأسها وكأنما تخشى عليه أن ينكسر، كان هناك ألم حاد يشق رأسها نصفين، وفي مكان ما من مؤخرة رأسها كانت هناك نقطة تكشف عن نفسها، لم تكن تعرف تماما ما هي، ولكن خيل إليها أنها بدأت تكتشف السبب الحقيقي للحزن الغامض الذي كان ينتابها أحيانا حين تمر بها لحظة سعيدة. لم يكن هذا السبب سوى أمها، كانت تحب أمها أكثر من أي شيء آخر؛ أكثر من فريد، وأكثر من الكيمياء، وأكثر من الاكتشاف، وأكثر من نفسها، ولم تكن لتتحرر من هذا الحب رغم أنها كانت تريد أن تتحرر، كأنما وقعت في شرك أبدي، التفت أسلاكه وخيوطه حول قدميها ويديها ولم تستطع منه فكاكا طوال حياتها.
وتحرك أصبعها الصغير بغير إرادة وزحف فوق شفتها العليا ثم دخل في فمها، وأخذت تعض طرف أصبعها كطفل ظهرت أسنانه ولا يزال يمص ثدي أمه، وانقضت فترة طويلة وهي جالسة على الكنبة في الصالة، رأسها بين يديها وطرف أصبعها الصغير بين أسنانها، وخيل إليها أن أمها تركت الصالة، ولم تعرف أين ذهبت لكنها عادت بعد قليل وفي يدها زجاجة صغيرة مليئة بسائل أصفر ومدت يدها النحيلة المعروقة إلى ابنتها، ممسكة بالزجاجة، ورفعت فؤادة عينيها إليها فسقطت الدمعة الحبيسة من بينهما في حجرها. •••
أحست فؤادة بلذة كبيرة وهي تغسل الأنابيب وتعد زجاجات القلويات والأحماض، وتضبط أجهزة التحليل الكيميائي وقراءة الألوان، وأشعلت الموقد وسكبت قليلا من بول أمها في أنبوبة الاختبار وأمسكت الأنبوبة بماسكها المعدني وقربتها من طرف اللهب. وبينما هي في هذا الوضع أدركت لماذا ألحت على أمها لتأخذ منها عينة؛ كانت تريد أن تستخدم أدوات المعمل الجديدة.
Página desconocida