الإقرار والبينة، وأقوم السبل أن يقدم هذا الرجل إلى المسجل وثيقة شرعية بإسلامه. - إننا في فرنسا لا نتشدد هذا التشدد، فالناس أحرار في عقائدهم وتصرفاتهم. - إن الإسلام أيها الجنرال يدعو إلى الحرية، ولكنه يحيطها بسياج حتى لا يضر بعض الناس بعضا بتصرفاتهم، والله جل شأنه يقول في كتابه الكريم:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . - هذه حكمة يجب أن تكون أساسا لجميع القوانين، لقد أفدتنا كثيرا يا مولانا، وقد دعوتكم لأن جدلا قام بيني وبين شوفور فيما سألتك عنه، يا إينال مر بعض الجند أن يكون في خدمة الشيخ حتى يصل إلى داره.
مضى بعد ذلك يومان قضاهما مينو في التفكير وتقليب وجوه الرأي، وذهب في أثنائهما الشيخ الخضري إلى الشيخ إبراهيم الجارم ليقضي السهرة بداره على عادته، وجاء ذكر الفرنسيين وأعاجيب أفعالهم، كما كان يجيء في كل ليلة، فقال الشيخ الحضري: دعاني الجنرال ليلة أمس بعد أن ذهبت إلى فراشي، فلما كنت عنده سألني سؤالا عجيبا، فقال الشيخ الجارم: عن أي شيء سألك؟ - سألني عن صحة زواج المسيحي الذي أعلن إسلامه بمسلمة. - ما شأنه بهذا؟ - لا أدري يا شيخ إبراهيم.
فأحس الشيخ الجارم - وكان بعيد النظر نافذ البصيرة - أن وراء هذا السؤال داهية دهماء، توشك أن تسقط على المدينة، ودفعته غريزة الحذر أن يكتم عن الشيخ اهتمامه فقال: إن هذا الرجل أخطأته عمامة الفلاسفة، وقد خرف القدر فسماه جنرالا، ولعل اهتمامه بسؤالك عن الزواج وغيره خطرات من وساوسة التي لا يفيق منها.
وانقضت السهرة وودع الشيخ ضيفه، وجلس واجما وقد حمل رأسه براحتيه، وتواردت عليه الأفكار والهواجس، وأخذ يحدث نفسه: هذا المينو يريد أن يتزوج ما في ذلك من شك، ثم هو يريد أن يتزوج بمسلمة، وهذا بديهي أيضا، وما شأني أنا بهذا؟ فليتزوج فلن أستطيع دفعه! ولكنها مصيبة ستحل بأسرة في رشيد، وبأي الأسر تنزل؟ بأكبر الأسر وأرفعهن شأنا، لقد قرب الخطر مني، وأخذت النار تمتد إلى ثيابي، إن لي بنتين فيا للكارثة ! كيف أدفع هذا العار عني، إن كلمة «لا» أصبحت في عرف الفرنسيين لا تفيد النفي، وإذا استطاع شجاع أن يقولها فلن تكون نهايته إلا الذل والدمار، إن هذا الجنرال سيظن أن زواجه بأكرم بنت في المدينة تنزل منه وتواضع، وشرف عظيم وتفضل واسع على من يصاهره، فالويل كل الويل لمن يرد هذا الشرف المزعوم في وجهه، أو تبدو منه أية رغبة عن هذا الفضل العظيم! أليس من مفر؟ أليس من حيلة؟ ليتني زوجتهما منذ حين، وليتني لم أذد عنهما الخطاب كما يذود حارس البستان الطيور عن ثمره! إنني واثق أن إسلام الجنرال رياء، ولو كان مسلما حقا، وأخلاقه أخلاقه التي أعرفها، ما رضيته زوجا لأية فتاة تتصل بي من بعد أو من قرب، لا، لا، لا، إن هذا لن يكون، ثم رفع رأسه وبدا في عينه بريق الظفر، وهدأت نفسه هدوء من يهتدي إلى حل أمر عسير، فنادى بخادمه وقال: اذهب الآن مسرعا وادع إلي الشيخ عثمان شبايك، والشيخ حسنا أبا السعود، أتعرفهما؟ إنهما الطالبان اللذان يجيئان هنا في عصر كل يوم لتلقي الدروس، واذهب بعد أن تدعوهما إلى بيت الشيخ محمد غرا، واطلب منه أن يعجل إلي.
وأقبل الطالبان بعد قليل فحياهما الشيخ وقال: إنما دعوتكما في هذه الساعة لأعرض عليكما زواج بنتي، فقد أدركني الهرم وخشيت إن أنا مت أن يزوجهما أخوهما من غير العلماء، وقد تعجبان من هذا العرض المفاجئ، ولكن لو علمتما ما أحاط بي من الوساوس والهموم لزال عجبكما، فنظر الطالبان إليه في ذهول، وقال أولهما: هذا شرف كبير يا مولانا يطير اللب ويثير العجب، وإنما نحن خادماك اللذان يتنافسان في حمل نعليك، فإذا تفضلت علينا بهذه الكرامة، فليس لنا إلا أن نشعر بأن ما أصبناه من خير إنما هو بركة من بركاتك، ونفحة من نفحاتك، ثم انقضا على يديه لثما وتقبيلا، وهنا دخل الشيخ محمد غرا، فطلب منه الشيخ أن يدون عقدي زواج؛ لأنه زوج الشيخ شبايك برقية بنته، والشيخ أبا السعود بآمنة، فانزعج الشيخ غرا وشرع يتلعثم، ولكن الشيخ صوب إليه عينين غاضبتين، فاستل قلمه وكتب.
وفي بكرة النهار أقبل أعوان مينو يتواثبون إلى دار الشيخ الجارم حتى ملئوا رحبتها، وهم يتعجلونه إلى مقابلة الجنرال، فخلل الشيخ لحيته بأصابعه - وقد كانت تلك عادته إذا أحس بظفر أو كتم شماتة في عدو - ثم وجد نفسه وهو ينشد:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض
على الماء خانته فروج الأصابع!
وركب الشيخ بغلته وسار معهم وهو يردد في همس خافت استغاثته التي أغرم بترديدها:
Página desconocida