أما هي فأدنت القدح من فمها ثانية ونظرت إلى ما فيه، ثم التفتت إلى الطبيب وقالت: أخشى أن يكون السم قليلا لا يكفي لقتلي فأتعذب فإذا كان قليلا فأضف إليه سما آخر.
فقال الحكيم بهدوء: اشربي يا بنية ولا تطيلي الكلام، فقد نفد الوقت وفات الأجل الذي ضربه الخليفة لي.
قالت وهي تهز رأسها وتحرق أسنانها: أتخاف هذا الظالم ولا تخاف الله؟! أتركب العقاقير القتالة لقتل الأبرياء ثم تخاف من لوم يزيد إذا تأخرت في قتلهم؟! ولكنكم تضافرتم على الظلم وتحالفتم على الخيانة، ويل لكم من مشهد يوم عظيم، في مكان لا ينفعكم فيه سلطانكم ولا جنودكم. يوم تأتي الساعة وينفخ الصور وتقفون بين يدي الديان العظيم.
فقطع الطبيب كلامها وقال: لا تكثري الكلام واشربي القدح عاجلا.
فقالت: إنى أشربه ولا أخاف منه؛ لأنه ترياق لمصابي، ولكني أريد أن أرى عبد الرحمن، فأين هو؟ آه! قتلتموه. نعم قتلتموه، ولكن ماذا فعلتم بذلك الجسد الطاهر: هل مثلتم به؟ وهل دفنتموه؟ آه إني أرى أعضاءه تختلج ودمه يجري، وكأني أسمع شخيره في أذني. ترى هل ذكرتني يا عبد الرحمن قبل موتك؟ هل ذكرت سلمى وتمنيت أن تراها قبل موتك؟ يا ليتهم قتلونا معا ودفنونا في قبر واحد فتمتزج دماؤنا وتختلط عظامنا، ويا ليتهم يدفنوننا بجانب قبر أبي، فنشكو له ما لقيناه وما يقاسيه المسلمون وما يتوقعه الإسلام من الفوضى، ولكننا سنلتقي به عما قليل في مكان لا وشاية فيه ولا ظلم ولا رياء، لقد أزفت الساعة وآن لي أن ألقاهما. أستودعك الله أيها العالم الفاني، أستودعك الله أيتها الحياة الزائلة، إنك مملوءة شرا، ولا عدل فيك ولا حق. ثم أدنت القدح من فمها وهي تقول: أشرب هذا الكأس باسم الله. وشربته جرعة واحدة ويدها ترتجف، ثم استلقت على الفراش وهي تتلو الفاتحة وتردد اسم عبد الرحمن. •••
لم تمض برهة حتى غابت سلمى عن الدنيا وشفاها ترتجفان كأنها تخاطب عالم الأرواح، وقد امتقع لونها وبردت أطرافها، فخرج الطبيب وأغلق الباب، ونزل، وكانت العجوز قد نزلت ساعة دخوله.
أما هو فظل سائرا إلى غرفة عبيد الله بن زياد وكان في انتظاره على مثل الجمر ، فدخل عليه وأغلق الباب وراءه، فقال له ابن زياد: ماذا فعلت أيها الطبيب؟
قال: لقد سقيتها العسل.
قال: وهل فعلت ما وعدتني؟
فضحك وقال: وماذا وعدتك به؟
Página desconocida