فظلت سلمى ساكتة مطرقة، ولكن قلبها اشتد خفقانه، فلما لم تجب مد عبيد الله يده إلى جبيه وأخرج الخنجر وقال لها: أتعرفين هذا الخنجر يا سلمى؟
فلما رأت الخنجر تحققت فشلها وأيقنت أنها ذاهبة ضحية جرأتها، فامتقع لونها وظلت مطرقة لأنها لم تجد جوابا.
فاستبشر عبيد الله بسكوتها خيرا وقال لها: يظهر أنك نادمة على تهجمك في مثل هذه الحال، والعاقل من رأى العبرة فاعتبر. أما كفاك ما رأيت من فشل عبد الرحمن وطيشه حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة، ولا ريب أنك إنما أقدمت على ذلك بإغراء من بعض الجهال، فإن من كان عنده ذرة من العقل لا يفعل فعلتك. أيطلبك الخليفة لتكوني عروسا له فتتعمدي قتله وأنت تعلمين أن حوله الجند والرجال؟! فإذا قلت أنك عالقة بذلك الشاب الجاهل فاعلمي أنه قتل وأصبح في عداد الأموات منذ ساعتين.
ولم يكن عبد الرحمن قتل بعد، ولكن عبيد الله ظن يأسها منه يقرب رضوخها، لكنه لم يكد يتم هذا القول حتى شهقت سلمى شهقة أجفل لها عبيد الله وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وملكها اليأس والأسى على حبيبها، ولذهاب آمالها أدراج الرياح.
فلما سمعها عبيد الله تبكي ظنها ندمت على ما فرط منها، فجلس بجانبها على وسادة وقال مترفقا: لا تبكي يا سيدتي ولا تخافي، وإذا كنت نادمة على ما فرط منك فأنا أتوسط في العفو عنك لدى أمير المؤمنين، وأظنه يعفو.
فتوقفت عن البكاء، ولبثت صامتة، ثم تزحزحت من مكانها لتبتعد عن عبيد الله وقد تحول خوفها إلى غضب، وأصبحت بعد سماعها خبر موت عبد الرحمن لا تبالي الحياة بل تتمنى الموت، فحمل سكوتها محمل القبول وقال لها: وأنا أضمن عفو الخليفة عنك إذا أقررت بذنبك ولعنت أبا تراب.
فلم تطق سلمى صبرا على ما سمعت، ورفعت رأسها وقالت: اغرب يا ابن زياد عن وجهي.
فقال وهو يمازحها: وهل ترين أن أبعث أمير المؤمنين لتأخذي العفو منه.
قالت: ألا تزال تذكر العفو، وممن أطلبه؟ أمن يزيد بن معاوية ضارب الطنابير ومعاقر الخمور؟! وعلام أطلب العفو؟ ألكي أبقى حية وأنت تقول إنكم قتلتم عبد الرحمن؟! آه من ظلمكم وعتوكم! قتلتم عبد الرحمن وجئتم تلتمسون بقائي؟! اقتلوني فليس لي مأرب في الحياة بعد الذين ماتوا قبلي. قالت ذلك وقد اختنق صوتها وهي تتجلد ولا تريد أن يبدو الضعف عليها، وعبيد الله يعجب بجرأتها، وكان يختلس النظر إلى وجهها من خلال النقاب وهي تتكلم فسحر بماء عينيها وملامح فمها، وهم بمخاطبتها فرآها عادت إلى الكلام فقالت: ثم أنتم تجعلون لعن علي شرطا للعفو، وأن عليا لأولى الناس بالفضل، دعوني من عفوكم وألحقوني بعبد الرحمن، ألحقوني به، اقتلوني، آه يا عبد الرحمن! قتلوك قتلة الصالحين! ولكن لك أسوة بأبي. ثم خنقتها العبرات.
فأجابها عبيد الله وهو يخفف عنها: يظهر أنك لم تفهمي حقيقة حالك، إنك متعمدة قتل الخليفة، وهو إنما بعث لأقتلك فأشفقت على شبابك وأرادت الإبقاء عليك، فهل هكذا يكون جوابك؟!
Página desconocida