ولم يكد يقف بها الهودج هناك حتى ترجل ابن زياد ودنا من الهودج وقال لها من وراء الستار: إننا بباب الخليفة يا سيدتي، فنزلت حتى دخلت من الباب، وعلى جوانبه الحرس من جند الخليفة في أيديهم الحراب، فمشت وابن زياد دليلها في باحة كبيرة مرصفة بالفسيفساء تتخللها مغارس الرياحين، وأحواض الرخام تتدفق عن جوانبها المياه، فسارت في طرق الحديقة وابن زياد يتقدمها وهو يجر سيفه وراءه معجبا بما ملكوه من أبنية الروم وآثار مجدهم ولسان حاله يقول: أين أبنية الكوفة التي تعرفينها من هذه الأبنية المزخرفة!
وبعد قليل انتهت إلى باب آخر أصغر من الباب الأول يصعدون إليه بدرجات قليلة من الرخام المصقول، وتكتنفه عمد من الرخام فوقها قبة مغشاة بالذهب وعليها الرسوم بالألوان البديعة، ومن بينها رسوم تشبه ما في كنائس النصارى، فلم تستغرب ذلك لما علمته من أن هذا القصر بقي على ما كان عليه في عهد ولاة الروم، فدخل عبيد الله أمامها تحت القبة فتبعته ، فأشرفت على باحة واسعة مكشوفة مسورة بالعمدان المزخرفة بنقوش بعضها من الذهب، وعلى دوائرها مقاصير، وأرض الباحة مرصفة كلها بالفسيفساء الدقيقة على أشكال تشبه رسوم الشجر والحيوانات وغيرها. وفي وسطها حوض من الرخام المجزع، يتصاعد الماء من أنبوب في وسطه ما يشبه رأس الأسد، وفي صدر الباحة باب مرتفع عليه ستار وأمامه الحجاب، فعلمت أنه مدخل مجلس الخليفة، ورأت إلى يمين الباب جماهير الناس وفيهم الشعراء والرواة وأصحاب الحاجات ممن يقفون بباب الخليفة لقضاء حوائجهم، وكان الباحة مكشوفة من الوسط فقط، يكتنفها رواق قائم على أعمدة مزخرفة، وقد نقش بعضه بالحفر على أشكال الأزهار والثمار والآدميين، وزين بعضه برسوم ملونة ومذهبة، فبهرتها تلك المناظر لأنها لم تكن رأت مثلها من قبل.
ولما أطل ابن زياد على تلك الباحة هم بعض الذين كانوا هناك من الشعراء وذوي الحاجات بالقدوم إليه لمخاطبته في شئونهم، فلما رأوا سلمى معه تراجعوا وانزووا وراء الأعمدة.
وعطف هو نحو اليسار بين الأعمدة تتبعه سلمى حتى وصلا إلى باب بديع النقش عليه ستر من الحرير المزركش بالذهب برسوم جميلة وفي جملتها كتابة باليونانية، فازداد استغرابها لإبقاء المسلمين على تلك الآثار إلى ذلك الحين مع ما وصل إليه سلطانهم من السعة والنفوذ، ولو علمت معنى تلك الكتابة لكان استغرابها أعظم؛ لأنها كلمات تتألف منها عبارة الاستهلال بالصلاة عند النصارى وترجمتها: «باسم الآب والابن والروح القدس»، والسبب في ذلك أن الستور وأمثالها من طراز الملك كانت قبل الإسلام تصنع في مصر، وسكانها من النصارى، وفيهم القبط والروم، فكانوا يطرزونها بالرومية، وأكثر ما يرسمونه عليها تلك الآية، وكان الروم في الشام وغيرها يبتاعون تلك الستور ونحوها من مصر فيعلقونها على الأبواب والنوافذ للزينة والتبرك، فلما ظهر الإسلام وفتح المسلمون الشام استعاروا تلك الزينة من الروم ولم يلتفتوا إلى فحوى ما عليها من الكتابة، وفي جملتهم الأمويون في دمشق، وما زال ذلك دأبهم إلى أيام عبد الملك بن مروان (من سنة 65ه إلى 86ه) فكان أول من انتبه إليه، وإلى ما كان يضرب على النقود وما كان يطرز على القراطيس، وهي البرد التي تحمل في الأواني والثياب، وذلك أنه بينما كانت ذات يوم في مجلسه إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم إلى العربية، فترجموه له، فأنكره وقال: ما أغلظ هذا! وكيف أن هذه الأواني تصنع في مصر وتحمل إلى الآفاق، ثم أمر بالكتابة إلى عبد العزيز بن مروان أخيه وعامله على مصر بإبطال هذا الطراز، وأن يأمر صناع القراطيس أن يطرزوها بكلمة أشهد أنه لا إله إلا هو، ففعلوا، وما زال ذلك شأن الطراز من ذلك الحين، وكتب إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منه بالضرب الموجع والحبس الطويل، وفعل مثل ذلك أيضا بالدنانير.
دخلت سلمى من ذلك الباب بعد أن أزاحوا الستار عنه، فانتهت إلى دهليز مفروش ببسط من الديباج وعلى جدرانه نقوش كثيرة، حتى أقبلت على «دار النساء» وهي غرف تكتنف باحة فيها بركة من الرخام المجزع، فقال لها ابن زياد: إنك في دار النساء يا سيدتى. قال ذلك وتحول، فاستقبلتها امرأة عجوز ومعها رجل عليه لباس الحجاب فاستغربت سلمى وجوده، فقالت لها العجوز: إنه «فتح» خصي مولانا أمير المؤمنين وحاجبه، (ويزيد أول من اتخذ الخصيان في الإسلام)، ومشت بها العجوز حتى دخلت غرفة زينوها وفرشوها بالأبسطة والأطالس، وفيها سرير مذهب لم تر مثله قبل ذلك، وهناك تهيبت وشعرت بعظم الأمر الذي عرضت نفسها له، وأحست أنها في قفص من حديد، فتظاهرت بالتعب والعجوز ترحب بها، وتطلب إليها أن تنزع خمارها وترتاح إلى أن قالت: وقد أمرني أمير المؤمنين أن أدخلك إلى الحمام.
فرفعت سلمى الخمار عن رأسها فبان وجهها وتجلت محاسنها، فانبهرت العجوز من جمالها وهيبتها وجعلت تمدحها وتطري حسنها التماسا لاستئناسها، فأجابت سلمى بما جعلها تزداد إعجابا بها وتهنئها بما نالته من التفات الخليفة، وألحت عليها في دخول الحمام، فقالت: سأدخله بعد أن أستريح.
قالت: لقد أعددنا لك الثياب الفاخرة، ولا ريب عندي في أنك إذا لبستها سيزداد جمالك وتعلو منزلتك عند مولانا.
فشكرتها ولكنها استمهلتها ريثما تستريح، وهي إنما أرادت التخلص من الحمام لتخفي خنجرها في مكان أمين؛ لعلمها أنها إذا دخلت الحمام فسترافقها العجوز إليه فتطلع على الخنجر فيفتضح أمرها، فاعتذرت بانحراف صحتها وأنها تخاف أن يضرها الحمام.
فسايرتها العجوز ولكنها رجعت فقالت: وإذا طلب الخليفة أن يراك فهل تقابلينه بهذه الثياب؟
قالت: إذا شئت أن أبدل ثيابي فعلت واتركي الحمام إلى الغد.
Página desconocida