قال: إنه خرج في هذا الصباح من الدير ملثما بعد خروج يزيد ، وأظنه رأى عبد الرحمن خارجا فاقتفى أثره ليوقع به.
فالتفتت سلمى إلى عامر والشيخ لا يزال ساترا رأسه بثوبه وقالت: تبا له من خائن، أظنه اقتفى أثرنا من الكوفة وقد علم بالغرض الذي جئنا من أجله إلى الشام. تبا لك يا شمر! ثم التفتت إلى الشيخ وقالت: وماذا نعمل الآن يا سيدي؟ وما الذي تخشاه على عبد الرحمن؟ قل لنا ماذا نعمل، فإنا نراك من المحسنين.
قالت ذلك وخفق قلبها وقد اصطكت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف وكأنها في حلم، وعامر ينظر إلى الناسك مستغربا لا يدري كيف يفسر فراسته، ولكنه شغل بأمر الخطر المحدق بعبد الرحمن عن التفكير في الفراسة وكرامات الأولياء، وأحب أن يغالط الشيخ فقال له: إنك تخاطبنا يا سيدي بالرموز والألغاز، فما هو خبر عبد الرحمن؟ وما الشأن الذي ذهب فيه؟
ولم يتم عامر كلامه حتى قهقه الشيخ، ثم توقف بغتة وقال: أتجربني يا عامر وتتجاهل؟ لعل لك عذرا، ولكن الأمر الذي جئتم له لا يخفى على هذه الأحجار ولا على هذه الأشجار، وإذا لم تصدقاني فاسألا الهاتف الذي كلمكم من الجوزة ألم يقل لكم: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فلا تسل عن حال عامر وسلمى عند سماعهما ذلك الكلام، فهم عامر بيد الشيخ ليقبلها لا يبالي برائحة قذارتها وقذارة ذلك الثوب، فلما أحس الشيخ بيد عامر ابتعد عنه وانزوى في الكهف والغطاء لا يزال على رأسه، فقال له عامر: بالله أيها الشيخ الجليل ألا كشفت عن وجهك وأظهرت نفسك؟
فزجره الشيخ وقال: الزم الأدب يا عامر، ولا تتطاول إلى ما لا يعنيك، واعلم أنني لن أخاطبك بعد الآن إلا مستترا، ويكفيك ما علمته من أمر ابن ذي الجوشن الأبرص، وما يبغيه من اللحاق بعبد الرحمن.
فخافت سلمى أن يغضب الناسك إذا هما أكثرا من السؤال فقالت: لا تغضب يا سيدي ولا يسؤك سؤالنا وأنت تعلم حالنا بعد ما ظهر من اطلاعك على أمرنا، إنا سائلوك سؤالا واحدا لا نزيد عليه شيئا، فهل تجيبنا؟
فلم يزد على قوله: هم هم.
ولكنها فهمت أنه موافق فقالت: هل ترى من بأس على عبد الرحمن في مهمته هذه؟ وماذا نصنع لإنقاذه مما عساه أن يحيق به من الأخطار؟
فأطرق الشيخ برهة ثم قال: أرجو ألا يكون عليه بأس، فإنه عرض نفسه في سبيل خدمة المسلمين. وهذا كل ما أقوله لكما فلا تزيدا. قال ذلك وهرول مسرعا نحو الغوطة والكلب يجري في أثره مخلفا سلمى وعامرا على أحر من الجمر، وقد جمد الدم في عروقهما وهما لا يكادان يمسكان النفس مما اعتراهما.
فلما توارى الشيخ وكلبه عنهما ظلا برهة صامتين ثم قالت سلمى: ما قولك يا عماه في هذا الشيخ وما سمعناه من كلامه؟
Página desconocida