أما هو فقال ما قاله وسار، فسارت هي في أثره حتى أشرفا على الدير فإذا هو بناءان: أحدهما كبير وفيه قبة فوقها صليب علمت سلمى أنه كنيسة، والآخر صومعة على رابية، فمشيا نحو الكنيسة، فلما أقبلا عليها تفرست سلمى في بنائها فرأتها مبنية على النمط الروماني، فدخلا صحنها حتى جاءا البيعة فرأيا المكان ديرا وفيه كنيسة، وشاهدا الرهبان والقسوس وكلهم من الروم يتكلمون اللاتينية وبعضهم اليونانية والسريانية الممزوجة بالعبرانية، وهي لغة تلك البلاد بعد الفتح.
فقالت سلمى: ما لي أرى الناس هنا أخلاطا من لغات شتى؟
فقال: لأن بصرى يا ابنتي عند النصارى مركز أسقفية بلاد العرب الكبرى، وفيها يقيم رئيس الأساقفة، ومنها يرسلهم إلى الآفاق.
قالت: أين دير بحيراء؟
قال: هذا هو الدير الآن، وأما المكان الذي كان يقيم فيه الراهب بحيرا، فهو صومعة بجانب الدير.
قالت: هلم بنا إليه.
فخرج بها، والرهبان لم يلتفتوا إليهما ولا استغربوا حالهما؛ لأن الدير ملتقى الغرباء، وفيهم النساء والمهاجرون والمسافرون والمرضى وأهل النذور وغيرهم.
فلما خرجا من الدير التفتت سلمى إلى الصومعة فإذا هي لا تشبه الأبنية، بل هي مؤلفة من خمسة أحجار ضخمة، أربعة منها للجدران وواحد للسقف، والباب حجر واحد مرتكز على مصراع يفتح ويغلق بسهولة، فاستغربت تلك الصومعة فقالت: ما هذه يا سيدي؟
قال: ألم أقل لك إن هذه البلاد لا أخشاب بها، وأهلها يصنعون أبواب بيوتهم وأجنحة نوافذهم ومقاعدهم وسائر آنية القعود والرقاد من الحجر، وقد يفعلون ذلك ولو كان المنزل مؤلفا من عشر غرف أو عشرين، فإنك لا تجدين فيه أثرا للخشب. قال ذلك ومشى أمامها وعكازه بيده وهو على ما وصفناه به من إرسال الشعر وعليه رداؤه القديم، وسارت هي في أثره، حتى دخلا الصومعة فلم يجدا فيها من الآنية إلا مصباحين معلقين أمام صورتين إحداهما تمثل مريم العذراء، والأخرى تمثل السيد المسيح، وهناك صورة أخرى لم يعرفاها، ولم يجدا في الصومعة أحدا.
فلما دخلت سلمى تخشعت وتذكرت حالها، فقالت للناسك: ها أنا ذا الآن في دير بحيراء، فكيف ترى أن تكون إقامتنا به؟
Página desconocida