الفصل الحادي والعشرون
في دير بحيراء
كانت سلمى قد استأنست بالناسك وذهب اضطرابها وخوفها، وقد آنست انعطافه إليها وبكاءه على أبيها، فزاد استئناسها به وتوسمت فيه شيئا ترجو أن يفرج كربها، ولكنها ما زالت في ريب من أمره، ولم تجسر على استفهامه عن حقيقة حاله بعد أن سمعت ما سمعته من تمنعه، على أنها عولت على استطلاع ذلك في فرصة أخرى.
فلما رأت عزمه على السفر إلى بصرى والإقامة بدير بحيراء، شق عليها الانزواء هناك وهي في ريعان الصبا، ولم تنل غير الفشل في مقاصدها وضياع حبيبها، ولبثت برهة تفكر في سفرها إلى بصرى وتردد في ذهنها أمر خطيبها وقد علمت من زينب أنه سار إلى الكوفة، فلما رآها الشيخ صامتة قال: ما الذي يجول في خاطرك يا سلمى؟ أظنك تترددين في سفرك إلى دير بحيراء؟ وكأني بك تقولين كيف أسير إلى بصرى وقد تركت عبد الرحمن في الكوفة، فاعلمي يا سلمى أني لو لم أيأس من وجوده هناك ما دعوتك إلى ذلك الدير. آه لو علمت أين هو ولو في الصين لقصدته كما قصدتك هنا. قال ذلك وصوته يتلجلج كأن البكاء يعيقه عن الكلام.
فلم تزدد سلمى من ذلك إلا أسفا؛ لأنها كانت لا تزال عالقة الذهن ببقاء عبد الرحمن في الكوفة، فإذا لم يكن هناك فأين يكون؟ فازداد قلقها، ولم تجد بدا من تسليم قيادها إلى ذلك الشيخ، وهي تعتقد حسن قصده وصدق غيرته، على أنها لولا بقية أمل بلقاء عبد الرحمن ما فضلت مكانا على الدير أو القبر، ثم قالت للشيخ: وهل أترك بقية بيت الرسول وقد فارقت زينب على أن أنتظرها هنا ريثما تخرج مع أهل بيتها إلى المدينة فأسير معها.
قال: لا أرى أن تسيري معهم، فقد كفاك ما لقيته من الأهوال في رفقتهم، تعالي إلى دير بحيراء فنقيم هناك حتى يأتي الله بالفرج. قالت: إني فاعلة ما تريد والاتكال على الله، ولكن أين نبيت الليلة؟
قال : نبيت هنا ولا خوف علينا والبلاد في أمان. نامي أنت وسأسهر أنا لأني قد نمت طول النهار.
وباتا تلك الليلة وسلمى في بحر من الهواجس لا تدري ما يصير إليه أمرها.
فلما أصبحا قال الشيخ: اعلمي يا بنية أن طريقنا من هنا إلى بصرى كثير الوعر، ولا بد لنا من قطعه على أقدامنا.
قالت: لا يهمني ذلك؛ فما أنا أولى بالراحة منك وأنت شيخ وأنا صبية.
Página desconocida