قال: لما بلغت رسالتك ابن زياد قبلها، ولكن رجل السوء كان حاضرا، وهو شمر بن ذي الجوشن، فقام إليه وقال له: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك، والله إن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة؛ فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبته فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.»
فاستحسن ابن زياد الرأي، وبعث معه بكتاب إلى عمر بن سعد رئيس هذا الجند يأمره فيه أن يعرض عليكم النزول على أمره، فإن فعلتم بعث بكم إليه وإن أبيتم قاتلكم، وقال ابن زياد لشمر: «فإن فعل عمر بن سعد فاسمع له وأطع، وإن أبى قتالهم فأنت أمير الجيش، فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه.» وهاك فحوى كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد:
إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه، ولا لتطاوله، ولا تمنيه السلامة والبقاء، ولا لتكون له عندي شافعا. انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا، فابعث بهم إلي، وأما إن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم؛ فإنهم لذلك مستحقون، وإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن والعسكر؛ فإنا قد أمرناه بأمرنا، والسلام.
وقد جاء مولاي شمر اللعين بذلك الكتاب إلى عمر، فعنفه عمر وقال له: «ما أظنك إلا نهيته أن يقبل ما كتب إليه، وأفسدت علينا أمرا كنا قد رجونا أن يصلح، والله إن للحسين لنفسا أبية بين جنبيه.» فلم يصغ شمر لقوله، وخاف عمر أن يخالفه فيقتل، فاتفقا على أن يعملا معا، وتولى شمر إمارة الرجالة، وأظنه قادما إليك في الغد. •••
لم يتم الشيخ كلامه حتى كانت سلمى قد غرق وجهها في الدموع، وزاد في شجونها ذكر شمر بن ذي الجوشن، وكانت تحسبه قد قتل في دمشق على ما قصه عليها الناسك من حديث عامر عند إنقاذه عبد الرحمن من السجن. أما الحسين فسمع كلام الناسك وكأنه ليس بالأمر الجديد عنده، وتجلد وقال: «إننا صابرون لحكم الله، والله مع الصابرين.»
ثم انصرف الناسك فتبعته سلمى وهي ترجو أن تستفهم منه عن عبد الرحمن، فإذا هو قد توغل في الصحراء ولم يلتفت إليها، فوقفت حائرة مستغربة أطواره، ثم حدثتها نفسها أن تلحق به فتنجو من خطر القتل، ولكنها قالت في نفسها: لست خيرا من هؤلاء، فإذا قتلوهم فما الفائدة من بقائي؟ وإذا كان عبد الرحمن ما زال حيا وقتل الحسين فإنهم يقتلونه معه. ثم رأت أن تذهب لعلها تراه ثم تعود، ولكنها لم تدر من أين تعود وكيف؟ فعادت تقول لنفسها: ويلاه! ماذا أعمل؟ أأترك عبد الرحمن لا أعرف مقره ولا أبحث عنه؟ ولكن كيف أخرج من هنا؟ ومن ينبئني بمكانه؟ لا بل أبقى هنا أناضل مع الحسين وأحارب معه ، فإذا انتصرنا كان الحظ حليفنا، ونلنا السعادة في الدارين، وإذا قتلنا فلا أسف على الحياة، ولا أشرف من موتة أموتها مع الحسين وأهل بيته، وما أنا خير من زينب أو سكينة بنت الحسين. ولكني إن استطعت الخروج فقد يحسبني الحسين خرجت هاربة. وبعد التردد استقر رأيها على أن تبقى مع الحسين فإما أن تموت معه أو تحيا معه. فعادت وقد أيقنت بالهلاك إلا أن يأتيهم الله بفرج من عنده.
واتجهت إلى خباء زينب وتحول خاطرها إلى الطفل، فقالت في نفسها: إذا قدر الله فشل الحسين أو قتله فماذا يكون من أمر هذا الطفل؟ وشعرت بانعطاف إليه، ودخلت الخباء فإذا بالطفل يبكي، فأسرعت إليه وضمته وقبلته وسألته عما يريد، فإذا هو يشكو الظمأ، وما في المعسكر قطرة ماء، فبحثت عن زينب حتى رأتها بجانب فراش ابن أخيها المريض وقد تعاظمت الحمى عليه وهو يهذي، فلما سمعت زينب صراخ الطفل نهضت إليه وتناولته وجعلت تقبله ودموعها تتساقط على خديه وهي تقول: اشرب من هذا الدمع لعله يرويك، اشرب إنهم منعوا الماء عنا والكلاب تشربه.
فقالت سلمى: أليس عندنا شربة ماء؟ إني أرى الفرات أمامي؟
فصاحت زينب: إنهم منعونا الماء. ألم تسمعي هؤلاء الظالمين يقولون لأخي: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوقون منه قطرة واحدة حتى تموتوا عطشا.
فقالت سلمى: قبحهم الله ما أقسى قلوبهم وما أغلظ طباعهم! أيمنعون الماء عن المرضى والأطفال؟ وأخذت تعلل الطفل بخرقة وضعتها في فمه وما زال يمضغها ويمصها، وهو إنما يمص ريقه حتى غلب عليه النعاس فنام.
Página desconocida