فلما رأت داخلا قرأت الشر في وجهه فاستعاذت بالله، وكأنه أدرك خوفها فتلطف في سؤالها عن حالها فلم تجب، فقال لها: قومي يا سلمى واتركي الخيمة، وادخلي هذا القصر وتأملي في صنعه.
فأدركت أنها إذا امتنعت ساقها بالعنف فسايرته ومشت حتى دخلت الهيكل، فأعجبت بما رأته من سعته وارتفاع جدرانه وكثرة أساطينه، فإن مساحته كانت نحو مائتي متر مربع، وجدرانه من حجارة هائلة علوها سبعون قدما لا يزال معظمها قائما، وفي صحن الهيكل أساطين ضخمة متشامخة متراصة في صفوف متداخلة يزيد عددها على مائة وخمسين، عدا المتساقط والمتهدم.
فلما رأت نفسها في تلك الخربة الهائلة مع ابن زياد وليس معهما ثالث ارتعدت فرائصها وتحققت وقوع المحظورة، وكان الضعف قد تمكن منها ولم تعد تقوى على الدفاع، فاصطكت ركبتاها وعجزت عن المشي، فأسندت ظهرها إلى أسطوانة بجانبها حجر كبير جلست عليه وهي ترتجف، فأدرك عبيد الله حالها، فعمد إلى الرفق بها، فجلس إلى جانبها وهو يحاذر أن يلمسها لئلا تجفل وقال لها: أتعلمين يا سلمى أنك وحيدة في هذا المكان وأن حياتك بيدي، وأني نائل ما أريد ولو بلغ صراخك عنان السماء؛ إذ ليس من يسمع صوتك غير هذه الأحجار؟ فقد طالما نصحتك وأنت تدافعينني، ولقد عاملتك باللين واللطف حتى طفح الكأس وآن لك أن ترعوي، فما ضرك لو أقلعت عن جهالتك وأصغيت لنصيحتي وأطعتني فتكونين زوجتي؟ وأنت تعلمين أني يد أمير المؤمنين وسيفه الذي يناضل به، وقد ولاني الكوفة والبصرة، فإذا عقلت وأطعتني كنت سيدة نساء الكوفة، وإذا شق عليك لعن أبي تراب فلا أكلفك لعنه، وإنما أطلب إليك أن تقبلي اقتراننا فأعطيك ما تريدين وتعيشين معي في نعيم يتمناه الكثيرات.
وظلت سلمى ساكتة، فقال لها: أراك ساكتة، فهل سكوتك هذه المرة مثل سكوتك بالأمس في دار الخليفة؟ أم هو دليل على رجوعك إلى الصواب؟ ويكفيني برهانا على ذلك أن تعطيني يدك فأقبلها. قال ذلك ومد يده إليها.
فلما سمعت كلامه ورأته يمد يده وقفت وتباعدت، ولكنها شعرت بالضعف وتحققت أنها إذا جافته فعل بها ما يشاء ولا تقوى على دفعه، على أن نفسها لم تضعف مثلما ضعف جسمها، فلما دنت يده منها دفعته وصاحت بأعلى صوتها: أتغتنم ضعفي يا عبيد الله وتستبد بي، وتزعم أننا في خلوة لا يرانا فيها أحد؟ ألا تعلم أن الله يراك وهو قادر على إذلالك كما أذل بناة هذه القصور وكانوا ملوكا فأصبحوا ترابا؟ خف من الله يا ابن زياد وأشفق على ضعفي.
فقال لها: لقد صبرت عليك كثيرا، وأكثرت من الرفق بك حتى لم يبق مكان للصبر عندي، فاعلمي أنك واقفة بين الحياة والموت، فإذا أنت أطعتني حييت سعيدة مكرمة معززة، وإلا فإني أصلبك إلى هذه الأسطوانة ثم أطعنك بهذا الخنجر وأتركك طعاما لطيور السماء. قال ذلك وأشار إلى خنجره.
فعظم الأمر على سلمى وغلب عليها اليأس وأيقنت بدنو أجلها فبسطت كفيها إلى السماء وصاحب بأعلى صوتها : إني أستجير بك يا رب العالمين، يا نصير المظلومين، أستجير لك من هذا الباغي الأثيم، فابعث إلي من لدنك من يأخذ بناصري وينقذني. أشفق اللهم على فتاة لا ذنب لها إلا الانتصار لنبيك والغيرة على أهل بيتك الطاهرين. •••
وكانت سلمى تتكلم والصدى يدوي في تلك الخرائب، وهم ابن زياد بأن ينتهرها فإذا بكلب ينبح بين الأساطين ونباحه يقرب نحوهما، ولم تمض برهة حتى دنا الكلب وإذا هو أسود كبير، فلما رأته سلمى علمت أنه شيبوب كلب الناسك فاستغربت وجوده في تلك الخرائب، ولم يكن عبيد الله أقل استغرابا منها. أما الكلب فوثب على عبيد الله وهو ينبح نباحا شديدا يدوي له المكان دويا عظيما، فاستأنست به وخيل إليها أنه جاءه الفرج القريب.
أما عبيد الله فلما رأى الكلب واثبا عليه استل خنجره وطعنه في ظهره طعنة غاص بها النصل إلى نصفه، فعوى الكلب عواء شديدا من شدة الألم وانثنى مسرعا حتى خرج من الهيكل.
والتفت عبيد الله إلى سلمى وقال: كأني بك قد استأنست بهذا الكلب وحسبته فرجا جاءك من ربك، فها قد قتلته، وإذا بقيت على غيك ألحقتك به ومزجت دمه بدمك. قال ذلك والخنجر بيده والدم يقطر منه.
Página desconocida