لا أعلم في تاريخنا الحديث والمعاصر كتابا ظهر، له أهمية هذه المذكرات. وليس الغرض منها تمجيد شخص من واجبنا القومي تقديره إن لم يكن لأي سبب آخر إلا لأن احترامه والتفاخر به هو واجب علينا اكتسبه بدمه، ولا تكون الغاية الرئيسية من سرد حوادث حياة هذا الجندي أن نستعيد الثقة بأمة لا يقوى أن يحجب الثقة عنها أي من فهم تاريخها، وتعرف معرفة صحيحة حميمة حتى إلى حاضرها. بل قد يكون أهم ما في هذه المذكرات أنها بما ترجعنا إلى ماض، وبما تقصينا عن غابة مشاكل حاضرة عابرة، وبما تسمو بنا إلى فترات صراع بهية؛ أنها فيما هي تفعل كل هذا توفر أمام أعيننا النظرة الشاملة التي فقدناها، فتبسط أمامنا بلادنا بقضيتها الموحدة؛ إذ إن أكثرنا - وأخصنا من هم دون الأربعين - ما استفاقوا إلا على حطام من وطن سموها دولا، فأصبحوا في كثرتهم الغالبة إما منشغلين بما يهمهم في هذا الأفق الذي ضاق، وراح الآخرون - في خيبة الحاضر - يحلمون بمستقبل غير عاملين له، بالوطن الذي ما كان ولن يكون.
وهذا الحاضر الكدر الذي نحن نتخبط فيه سوف ننفذ من ظلمته إلى ضياء المستقبل الذي تبصره النخبة منا، أولئك الذين لم تألف عيونهم العتمة، فما خضعت ولا غشيت عن الرؤية، غير أننا لن نقوى على إحراق هذه الظلمة إلا بعد أن نرى الخيط - خيط النور - ونتأثره من يوم أن شع فظهر غير واضح، فكان هزة نفس غريزية، وتجاوبا مبهما؛ إذ ظهر في زمن الأتراك بشخص «قحطان»، واستمر تمردا هنا وثورة هناك، وبطولات مبعثرة حتى وقف - ولا أقول انتهى - عند حرب فلسطين، وبولادة «إسرائيل». إن سيرة القاوقجي تجسد كل هذا وهذه الثورات انتهت كلها بانكسارات، يعلل ذلك أنها لم تكن شاملة، وهي لم تكن شاملة؛ لأن الوعي اقتصر على النخبة، والتربية القومية كانت كذلك منحصرة بالقلة بفعل عصور الضعف، فأهمية ثوراتنا كلها منذ 1910 إلى اليوم لا تتعدى أنها كشفت عن روح البطولة ونفسية الصراع الأصيلة في بني قومنا. وإن وجود «إسرائيل» سيصبح السبب الرئيسي في شمول الوعي، وإرهاف الحس القومي؛ لذلك ستأتي وثبتنا المقبلة كاسحة ظافرة؛ لأنها ستكون شاملة موحدة.
كل من يقرأ هذه المذكرات بعينين صافيتين ما لوثتهما العتمة يتحتم عليه أن يرى هذه الحقيقة.
يقولون إن أخلاق الرجل تتكشف في أصدقها على طاولة القمار، قد يصح هذا القول بأزخم حقيقة على الرجل في الميدان. وفوزي القاوقجي عرف رجال بلادنا من كل العناصر التي تستل منها أمتنا قوتها؛ فلقد رافقه الفلاح والبدوي والمثقف والمتحضر والقروي وابن المدينة، في العراق والأردن وفلسطين وأنحاء الشام، وفهم - أو «افتهم» كما هو يلفظها - السياسيين، وخرج إلى حقيقة أن السياسيين كمجموع غير جديرين بالاحترام؛ فهم برغم إخلاصهم على وجه عام ليسوا برجال عمل وتنظيم وإعداد، وفهم هذا الرجل ما يستهوي أفراد الشعب ويستفزهم للقتال، ومتى ولماذا يصبح الجبان بطلا، ومتى ولماذا يجبن البطل، وهو لا يحترم العدد، وقد تكون هذه نقيصة فيه، وقد لا تكون، بل ربما إن الأحداث وأوضاع القتال فرضت عليه هذه الفلسفة، فهو ما خاض معركة بجيش أو عصابة إلا وكان عدوه متفوقا عليه عددا وعدة.
ويا طالما حاسبت نفسي هل وقعت تحت سحر هذا الرجل، أو أن خيباتنا القومية جسدت لي في هذا الشخص أحلاما لم تتحقق؟ فإذا أنا صريع خداع عقلي، واصفا من وجب أن يكون لا من هو كائن. وقسوت على نفسي بالنقد، وأنا لا أسمع من أكثر الذين أتحدث إليهم عن القاوقجي إلا الشتائم والطعن والتجريح؛ فهو جبان كان خلال حملة فلسطين يقضي وقته بين مرابع عالية وصوفر، وهو سكير يستحم في الوسكي، وهو نهاب أطلق جيش الإنقاذ في فلسطين ليبطش بالأهلين، ويعري بيوتهم من رياشها، وهو المطواع لزوجته الألمانية لا يحجم عن شيء في سبيل تزيينها بالجواهر، وهو جاسوس الإنكليز، وحليف الفرنسيين، وهو الضابط الصغير قد يصلح لرئاسة عصابة لا لقيادة جيش.
كل هذا سمعته من الكثيرين، وذات مساء خرجت معه تصحبه زوجته إلى ناد، وقبل أن ننصرف من النادي تقدم مني أحدهم، وهمس مستغربا: «كيف تمشي مع هذا ال ...؟» من الفاجعة أن يقف بطل أمة ليدافع عن نفسه كي يرد تهما كل رأسمالها أنها اتهامات، ولا أعرف أن شخصا في بلاد ما خرج إلى المسرح العام ونجا من تهجمات، ولكن القاوقجي أمسى ضحية لأسباب إضافية، هي غير الأسباب التي يتعرض لها كل رجل شهير في كل البلاد.
فنحن اليوم في فترة انحناءة الضعف، تهرأت أخلاقنا حتى ليشوقنا أن نقدح أو نهدم، وفوزي القاوقجي كانت آخر معاركه معركة فلسطين التي استحالت كارثة؛ لذلك ما عاد من الصعب أن تقرن اسمه بكل ما رافقنا من فشل. ستكشف الأجزاء القادمة أي «جيش» هذا الجيش «جيش الإنقاذ»، هذه المجموعة من الشبان، وأكثرهم لا يعرف القتال، ولا النظام، ولا الدربة، وبعضهم انطلق ليجاهد ولينهب، هذا الجيش الذي عبئ بطرفة عين، وسلح بالوعود، وجهز بالدعاء والإطراء، وقيل له انطلق وأنقذ فلسطين، وقائدك القاوقجي. هذا الجيش قهر اليهود في كل معركة إلا حين دخل مستعمرات اليهود.
هذا الجيش الذي حبس عنه العتاد يسخون اليوم على قائده بالبذاءة والتحقير والنكران؛ لأننا اليوم في خسفة خلقية، ولأننا ناقمون على كل شيء وكل شخص.
وإن معارك جيش الإنقاذ ستأتي مفصلة في الجزء الأخير من هذه المذكرات، وكنت أوثر أن لا أشير إلى جيش الإنقاذ بكلمة لولا أن هذا الرجل قد لبسته تهم هو منها براء؛ إذ إنه قد حظر عليه - وهو قائد الجيش - أن يزور المعسكرات حيث كانت تدرب وحدات هذا الجيش حتى يمشي بها إلى فلسطين. وقد ثارت الخصومات، ونشأ القتال بين أفراده، فوقع القتلى، وجرح الكثيرون قبل أن يزحف الجيش إلى فلسطين. وخلال الجهاد ارتكب بعض الضباط والمجاهدين جرائم من نهب وعدوان حيال الأهلين، وكان القائد أعجز من أن يؤدب، وفي بعض المواقف حيث استطاع أن يعاقب أحجم عن فعل ذلك مخافة أن يأتي عقاب المجرم من ضابط أو جندي سببا في إثارة فوضى تمسي أشأم على الأهلين من الجريمة التي منها يشكون.
وبعد، فمن الذي ينتقد القاوقجي وجيش الإنقاذ؟ أكثرهم من الناقمين يجرفون في حسرتهم كل من «اشتغل» في فلسطين، ومنهم القاوقجي وجيش الإنقاذ، وهم بهذا التجني يطمسون ذكرى شهدائنا الأموات وشهدائنا الأحياء.
Página desconocida