عفوك! فقد نسيت أن أذكر أنني تركت في مكان حادثة القافلة رقعة كتبت عليها بخط كبير إن على كل شركة سفريات تريد أن تؤمن سلامة سياراتها عليها أن تأخذ إذنا من قائد الثورة فوزي القاوقجي، فإن فرنسا أعجز من أن تحمي سيارة أو مسافرا.
وفي اليوم الثاني جاء البدو يحرضونني على غزوة جديدة، ولكنني كنت أهدف إلى ثورة، فاقترحت أن نزحف إلى ضياع الغوطة، فعادوا يتلكئون ويعتذرون، وأخيرا صارحني خلف النعير بأنه يريد مؤنا وكساء قبل أن يتحرك، فعمدت - كالعادة - إلى حيلة، وكان معي رفيق من طرابلس اسمه عادل الحامدي (هو موظف في بلدية طرابلس اليوم)، فناديت عليه، فأقبل وبيده دفتر كبير عديد الصفحات، قلت: «ما تبغي يا خلف؟» أجاب: «والله عقال ... والله دراعية ... فروة ...» قلت: «انتهيت؟» أجاب: «والله أختك (يعني زوجته) أريد لها ...» وهنا كر بطلبية لأختي؛ زوجته «وغيره يا خلف؟» «والله هايش - هكذا - يريد البيت شاي، ثمن - رز - طحين ...» ولما فرغنا من قائمة الشيخ خلف، أقبل شيخ آخر ... شيخ وراء شيخ، وأختك وراء أختك، وبيت وراء بيت، حتى عبأنا الدفتر الكبير ... فقلت لعادل: «اكتب يا عادل على قفا الدفتر.» فكتب: «إلى أول وطني حر في حي الميدان، دمشق: إخوانكم المجاهدون في حاجة إلى هذه الأغراض المدونة في هذا الدفتر، وهم واثقون من أن مروءتكم ستحفز بكم إلى إرسال هذه الحاجيات. أخوكم فوزي القاوقجي قائد الثورة.»
وحمل الرسل الدفتر، وركبوا الأباعر قاصدين إلى دمشق، حاسبين أنهم يعودون بها محملة، ورحت أنا أضحك بسري من هذه الخديعة، ولكن البدو كانوا ألعن مني، فلما ندبتهم إلى التجند، ومهاجمة الغوطة ما تحركوا، بل قبعوا ينتظرون رجوع القافلة، وخلال هذا كان المقاتلون الذين جاءوا معي من الأردن قد بدءوا يعودون إلينا من قراهم، ومعهم رفقاء من فرسان ومشاة حتى صرنا أكثر من مائة مجاهد، فرحنا نباغت المخافر في الغوطة، ونصادم القوات الفرنسية فنبطش بالصغيرة منها، ونتجنب الاشتباك مع الكبيرة، وفي كل مرة بعد المعارك نعود إلى «الصفا» للتخفي والاستراحة، فيلقانا البدو بحماسة ودهشة، ولكنهم لا يتحركون للقتال.
حتى كان صباح فسمعت صياحا ومن يقول: «عادت الأباعر.» فهلعت من انكشاف الفضيحة، وصرخ خلف النعير بفارس أن يذهب ليتأكد إن كانت محملة أو غير محملة، وهممت أنا بالخروج مع رجالي للهرب متظاهرا بأننا مغيرون في غزوة، ولكن الفارس عاد يقول إن الجمال محملة، فسري عني إذ تأكدت أنها غير الأباعر التي أرسلناها. أما خلف النعير فحين سمع أن القافلة عادت محملة أصابته رجفة من نشوة ما سيأتيه من مختلف الكسوة والمآكل، ووصلت الجمال والرسل فإذا هي القافلة التي أرسلناها وفيها كل ما طلبنا إلا بعض أغراض ناقصة، قرر الشيخ خلف أن الرسل سرقوها فحمى سيخ البارودة، وراح يكوي فيه الرسل حتى اعترفوا أنهم مدوا بأيديهم إلى بعض الحمولة في الطريق.
وإني حتى هذا اليوم لا أدري من هو «الوطني الحر»، أو الوطنيون الأحرار في حي الميدان في دمشق الذين لبوا طلبنا، وحملوا الجمال بتلك الثروة، فاستحال ما خططته من خديعة إلى حادثة مروءة ستخلد في تاريخنا القومي.
روى لي محدثي هذه القصة بحضور نسيب له، وهو من مرافقي القاوقجي في بعض ثوراته، فعقب نسيبه على هذه القصة بقوله: «قد يهمك أن تعرف ماذا حل بهؤلاء الفتيان من عائلة النبواني. لقد استشهدوا كلهم في ثورة جبل الزاوية. وفي سنة 1936 كنا في معارك فلسطين، إذ أقبل علينا فتى هادئ، زري الثياب، خجول، يحمل عصا نزع من أسفلها رسالة مخبأة ناولها إلى القائد قاوقجي، فإذا هي كتاب يوجهه إلى القائد أحد المشايخ النبواني يقول به: «يا عتبي عليك يا فوزي، إن عائلة النبواني التي استشهد خمسة من فتيانها تحت قيادتكم، لم تكتسب بهذا حق المساهمة بالجهاد اليوم؟ فلماذا لم تعطونا خبرا حين بدأتم هذه الثورة الجديدة؟ إن حامل هذه الرسالة هو ولدنا سليم الريس من عالية، وإني أستحلفكم بدماء أولادنا الشهداء أن تفسحوا له مجال النضال المسلح.» أعطينا سليم الريس بارودة وعتادا، وراح يشترك في القتال بضراوة، ولكنه عاش بيننا في عزلة، فإن لم يدع للطعام لا يأكل، وإن لم يقدم له سكاير لا يدخن، وكان كثير التغيب عنا، حتى كان يوم جمعنا فيه مخاتير بعض القرى للتداول في أمر، فأدهشني أن هؤلاء المخاتير راحوا يسلمون على سليم الريس بحرارة وإعجاب، فسألتهم: «ما الخبر؟» أجابوا: «إن سليما هذا كان يشتغل حارسا في إحدى المستعمرات اليهودية، وإن سبب تغيبه عنا أنه كان يتسلل إلى بعض هذه المستعمرات وحيدا، فيقوم بأعمال النسف والقتل والتخريب.»
وجاءت معركة «بيت مرين» الكبرى؛ إذ طوقنا الجيش البريطاني في دائرة 17 كيلومترا، وكان الجنرال «دل» يراقب القتال من على طائرته المحلقة فوقنا، وفيما المعركة على أشدها ونحن نصد الإنكليز عن قلب جيش الثوار، جاءت امرأة من قرية مجاورة تزعق صيحة النجدة والنخوة «نشامة ... نشامة عسكر غرب البلدة بين الزيتون ... اذبحوها ... وين راحت النشامة؟» وسمع سليم الريس الصيحة فزغرد، ثم هجم نحو غابة الزيتون ، وعقاله في فمه، وكان في القرية مرضى وجرحى من المجاهدين - شاميين وعراقيين - فلما رأوا سليم الريس راكضا ثاروا، وتبعه من قدر منهم، وثار معه رجال القرية وبعض نسائها، وهاجموا القوة البريطانية فهرب العسكر، وركب أكثرهم المصفحات، وارتدوا إلى الطريق العامة منهزمين، والتجأت منهم شرذمة إلى قرية «سباسطيا»، ورجع سليم الريس - وكان الوقت مساء - مزهوا، وسيكارته في فمه، فرأى بصيص السيكارة جنود سباسطيا فأطلقوا عليه الرصاص وأصابوه في رأسه فاستشهد، ودفناه في دسكرة اسمها «ناقوري» قرب نابلس. وكانت هزيمة القوة من غابة الزيتون سبب فك طوق الحصار عنا في أكبر معارك سنة 1936 وأشدها خطورة.
ولقد عتب علي فوزي القاوقجي، غير الشيخ النبواني، دمشقي اسمه الشيخ محمد فوزي صوري، صاحب دكان صغير أقفله سنة 1925، والتحق بالثورة حتى نهايتها سنة 1927، وكانت السلطات الفرنسية تلاحقه، فالتجأ إلى «إربد» في الأردن، وفتح فيها حانوتا صغيرا. ولما نشبت ثورة 1936 جاء يعاتب فوزي، وانضم إلى قواته، فاستشهد في معركة بين الدبابات، وكان أن جمع الحاج أديب خير في دمشق مبلغا محترما من المال لتوزيعه على عائلات الشهداء، وتوجه رسول إلى «إربد» فإذا بأرملة محمد صوري تدير دكان زوجها، وكل ما فيه من بضائع لا يملأ كيس شحاذ، وإذا في جانب الدكان ولدها الكسيح، فناولها الرسول عشرين جنيها، فأجابت الأرملة: «نحن لا نبيع رجالنا بالمال، زوجي اشترى الجنة بدمه، أنا لا أشوه الجنة بدراهم، أنتم جمعتم المال لتشتروا خرطوشا تقتلون الإنكليز واليهود، لا صدقة توزعونها على أمثالي.» ورفضت الإعانة.
ذكرت هذه النوادر للتدليل على أن بعض عناصر الثقافة والفصاحة في القائد قاوقجي استلها من البدو والبداوة، وكذلك من عاديي المواطنين.
ولم أجد في كل من عرفت شخصا له موسيقية الإشارات كما هي في القاوقجي. لو لم يكن عسكريا لصح أن يكون «ماسترو» يقود سمفوني، فحركات يديه وذراعيه متواقعة مع الحديث لا يسرف منها ولا يحبسها، فهو حين يقول لك بلسانه وقبضة يده مندفعة إلى الأرض «جاءني رسول الفرنسويين «فيشي»، وهم حينئذ «أذلاء»، رأيت الفيشيين ركعا على الأرض يتوسلون ، أو بسط يمينه مبعدا ذراعه عن جسده: «وتمزقت الإمبراطورية العثمانية، تتطاير أجزاؤها أمام عينيك، فطرابلس الغرب تهوي إلى حضن إيطاليا، والبلقان تنشق شظايا من دول. ولكن أجمل إشاراته حين يرفع يديه محاذية رأسه، ويدفعها بعينيه، «ومشينا» في تلك اللمحة ترى في يد هذا القاعد بالشورت عصا مرشال يجب أن تكون هناك في قبضته.
Página desconocida