ودعت المرأة مواطنها إلى بيتها، فقبل الدعوة من غير تردد، وسارا معا يتقدمهما من حمل الشنتات.
أما البيت، فكان غرفا ثلاث من قصب، حيطانه من الحصير، وسقفه من أعشاب كثيفة مستطيلة. هو «فيلا» طابقها الأسفل زريبة لبضعة خنازير، ودجاجات يحميها كلب اختفت شجرة عائلته في غابة لم تكتشف بعد.
وأعدت المرأة ماء حارا، وضعته في إناء كبير في المطبخ، ودعت الضيف أن يستحم ويبدل ثيابه، ثم أعدت له عشاء من أرز مسلوق، وبعض السمك المجفف يسبح في سائل شيوعي اللون ديناميتي الطعم.
وجلس يوسف يحادث «أم حنا»، فعلم منها أن زوجها مات منذ سنوات، وأنه كان سكيرا، وأنها كانت معه على خصام مستمر، وكانت أبدا تدعوه «خنزير»، وهذه هي اللفظة العربية الوحيدة التي يعرفها ابنها لكثرة ما سمعها تنادي بها أباه. وعلم منها أنها شديدة الفقر تتجر بالخنازير وبالسمك المقدد، وأن زوجها اقتلعها من قريتها وأهلها، حين رجع من مغتربه، وكانت هي في السادسة عشرة من عمرها لا تعرف ما الزواج، وما الحب؛ فأوهم المغترب أهلها أنه رجل ثري، فلم تشعر إلا وهي زوجته ترافقه إلى المغترب. أما حياة زوجها فكانت عبارة عن سكرة مستمرة بعصير يستلونه من أوراق شجر جوز الهند الطرية، وكان يقضي نهاره مقرفصا مع تنابل أمثاله يلاعبون الديكة، ويراهنون عليها. وذات يوم راح للنهر ثملا ليملأ سطلا، فلما غمس السطل بالنهر شده التيار، وبقي الزوج متعلقا بالسطل إلى أن اختفى في مياه النهر. واعترفت الزوجة أن مصرع «أبي حنا» على كسله وسكره قد تركها في وحشة وكآبة وحزن عميق.
أما يوسف فأفرغ بين يديها كل نقمته على الدنيا، وبغضائه لها، وأخبرها كيف رماه القدر في هذه البلاد النائية، وكيف هو يتجر بالحلي المزيفة، وكيف أنه يبغض كل شيء وكل شخص، وكيف أن غايته أن يثري، وأفاض بنقمته على البلاد التي هو فيها. تلك البلاد التي تمطرها الطبيعة ثروات تتدلى من أشجار جوز الهند، وتنبت أرضها من غير عناء، سخاء من قصب السكر والقنب والبن والتبغ. وأكد يوسف أنه مستعجل في الحصول على الثروة، وأنه سيظفر بها، وأن الدنيا التي هو فيها لا يسكنها إلا اللصوص يتخاطفون الثروة من الطبيعة السخية، ثم هم يتخاطفون ما اختطفوا. وحين شاخت السهرة تطلع بالمرأة من جديد، فنعم صوته وارتجف، ولمعت عيناه، وبدأ حديثه يجنح نحو الرمزية والوجودية؛ فأجفلت «أم حنا»، وأشارت من جديد إلى البيت في الحي المجاور حيث يرحبون بالغريب ضيفا يدفع أجرة البيت، ولكنها أصرت عليه أن يجعل من بيتها مقرا له يتجر فيه، ويشاطرها فيه طعامه، وانصرف الضيف بشيء من الخجل، وبكثير من التوق والحسرة.
أما هي، فقد تمددت على فراشها أرقة يشرئب الصبا في صدرها ويمور، وذكرت زوجها فضحكت من نفسها، وأخرست هواجسها: «وهذا رجل آخر إنه رجل ... إنه خنزير.»
واستمرت إقامة يوسف في البلدة، وتطوافه في المزارع المجاورة نحوا من شهرين، فكان يغيب ثم يعود إلى «بطوان»، وألف الناس مرآه ومعاملته، وكانت النساء يقبلن على البيت فيتفرجن ويشترين، وكانت «أم حنا» تساعد الضيف التاجر في تصريف المجوهرات؛ إذ إنه لم يكن يتقن لغة البلاد.
أما الغلام «حنا»، فقد استهوته ساعة صفراء دقاقة، وكان كثيرا ما يحاول أن يختطفها من الشنتة، ولكن أمه كانت تردعه بعنف، فيما كان يوسف يطيب خاطره ويعده بساعة أكبر وأجمل يرسلها إليه من «مانيلا» عاصمة البلاد حين يرجع إليها.
وأخيرا كادت الحقائب أن تفرغ، ورجعت الباخرة من سفرتها، فاستعد يوسف للرحيل ، وشكر مضيفته، وعرض أن يدفع لها ثمن ما أكل وعمولة على ما باع، فرفضت المرأة وشكرته، وأكدت له أن إقامته لونت حياتها بزهو، وأنها لم تتكلم العربية ولا لقيت مواطنا من بلادها منذ أن مات زوجها، فكان مجيئه المفاجئ نفحة من بلادها أرجعها إلى قطعة من فردوسها المفقود. وكاد يوسف أن يترك البيت، ولكنه تذكر فجأة أمرا، فقال لأم حنا إنه بحاجة إلى شيء من المال لصفقة يعقدها في بلدة قريبة، وإن تلك البلدة مثل «بطوان» ليس فيها مصرف يقدر أن يستبدل فيه شيكا بنقود، فإن كان لدى أم حنا نقود فهو يعطيها شيكا بالمبلغ، فأجابت المرأة: «حبا وكرامة.»
ولكن كل المال الذي جمعته بلغ 264 ريالا، نقدته إياها فأعطاها شيكا بالقيمة، وافترقا.
Página desconocida