وفي كوتباتو عاش وتاجر عم لي؛ فؤاد تقي الدين، هو الآخر دفن هناك قرب أخيه الدكتور نجيب. وفي جزيرة «المندناو» حيث الزلزال، مدينة «داقاو» عشت فيها سنوات هناك، ولدت ابنتي ديانا، وفي تلك المدينة عائلة أبو رجيلي أصابوا ثروة، كبيرهم سليم هنا في زحلة، وأخواه رشيد ويوسف، لا يزالان هناك، يوسف شخصية فكهة فريدة، هو أحد قلائل المهاجرين الذين يعترفون أنهم ما كانوا في «البلاد» من الوجهاء. يوسف يحدثك بفخر أنه جاء من قرية «كفر زبد» من البقاع، وكان فيها أكارا، وهو حين يذكر البلاد لا يتشوق إلا إلى حماره، وفي تلك المدينة بعض أولاد المرحوم رشيد عواد. في الأسبوع الماضي زارني من الفلبين عضو مجلس الشيوخ وزوجته، اسمه «فلسبرتو قيرانو». مررنا بمقهى شتورا الكبير الذي يملكه ورثة المرحوم رشيد عواد، وتحدث السناتور إلى الفتى ابن رشيد عواد بإحدى اللهجات الفلبينية بطلاقة.
وكان فيما مضى حنا عواد كبير العائلة قد سكن «داقاو»، وهو الذي استورد العمال اليابانيين إليها، وكان ذا وجاهة وشأن، كبير الجسم، ضخم الشاربين، يشبه شبلي الملاط في شبابه. وقد أسس في المدينة شركة الكهرباء فيها، ولكن وجاهته وبرمكيته أنهكتا ماليته فأفلس. وقد أخبرنا الفتى عواد في شتورة أنهم اليوم حين يحضرون حفلات قتال الديكة في «داقاو»، ويخسر أحدهم الرهان يصيح «عواد»؛ أي إنه أفلس. وحفلات قتال الديوك تقام في الأعياد والآحاد، وبالطبع أنت تعرف كيف تتقاتل الديوك، وكيف يربطون في رجلي الديك شفرتين حادتين يضرب بهما خصمه، فالقتيل والمراهن عليه خاسران، ولكن المدهش في هذه اللعبة هو الشخص الذي يسمونه في الفلبين «هيسوس»؛ أي يسوع، يجلس هذا الرجل في زاوية الملعب في مكان مرتفع يراه الحضور ويراهم، وقبل كل معركة يبدأ الرهان، فيصيح كل مراهن في الملعب - وهم مئات - بالمبلغ الذي يراهن عليه، ويسمي الديك، فيسجل «هيسوس» كل هذا في دماغه من غير ورقة، وحين تنتهي المعركة يخبر كل مراهن المبلغ الذي ربحه بعد أن يحسب في عقله النسبة حسب معدل الرهان على الديك الرابح، يفعل كل هذا بسرعة ودقة، ومن غير ورقة ولا قلم، ولا يذكر أحد في الفلبين أن نشأ خلاف، أو ثارت شبهة أو وقع خطأ بسبب تقسيم الأرباح. و«هيسوس» هذا لا يمس النقد لا قبضا ولا دفعا.
ولقد فاتني أن أحدثك - على ذكر قتال الديوك - أنني في سنة 1931 كنت أول من استورد إلى الفلبين السينما الناطقة النقالة. وكنا نطوف بها في الضياع من بلد إلى بلد نعرض الأفلام في باحات المدارس، أو في ملاعب قتال الديوك. ولما وصلنا إلى «دانسالان» بدأنا العرض في الفلاة في ملعب الديوك على جمهور «الموروز»، وكانت الصورة فيلم رعاة البقر حيث يكثر العراك وإطلاق الرصاص والقتال الفروسي على ظهور الخيول. ولقد أصاب الموروز - وهم رجال قتال - هوس، فكنا كلما انتهى عرض الصورة أرغمونا على إعادتها صائحين: «دوغما! دوغما!» أي «حرب! حرب!» ولم نستطع أن نتوقف حتى طلع الصباح، واستحالت رؤية الفيلم على الشاشة.
وفي «داقاو» تلفن لي يوما المرحوم رشيد عواد يسألني: «هل تعرف عبد الرحيم قليلات؟» قلت: «نعم، هو مدير البوليس في بيروت، هذه كانت وظيفته سنة 1925حين هاجرت.» فهمس رشيد في التليفون: «ترى هل له علاقة بمقتل أسعد خورشيد؟ إنه هنا، وقد ارتبت به واليابانيون يشكون به.» فهرعت إلى عبد الرحيم، وكان في خسفة نفسية محزنة، وهو في طريقه إلى اليابان من إندونيسيا مسافر على باخرة يابانية، يصطحب نحوا من خمسماية كتاب، وكان اليابانيون - وهم يرتابون بجداتهم - قد شغل بالهم هذا المسافر يحمل كتبا كذا عدها. وكانت جرائد بيروت التي تأتينا تحفل بأنباء مقتل أسعد خورشيد؛ فربط صديقنا رشيد عواد كل هذا بمديرية البوليس واستفهمني.
وسافر عبد الرحيم قليلات إلى اليابان بعد أن قضى بيننا يومين في ذكريات بيروت ومجالسها.
لماذا نسيت أن أخبرك أن الموروز يلفون رءوسهم بحطاطات ملونة، إلا أن وجهاءهم وأغنياءهم يعتمرون الطربوش الصغير، وشرابته مرتكزة إلى الأمام فوق المرآة مدورة صغيرة.
وفي جزيرة «المندناو» رجل من الشويفات اسمه وديع صعب. كان له أخ اسمه فائز من أذكى من عرفت، مات فقيرا. وديع بعد أن تقلب في الأعمال التجارية انعزل في الجبال مع قطيع من البقر وقطعة أرض زرعها «أناناس»، وأطلق لحيته، ونسي اللغة العربية، ونسي الذين يتكلمونها، رأيته لآخر مرة سنة 1934.
ومن المدن التي تعربست في أخبار وكالات الأنباء عن زلزال الفلبين قرية اسمها «كولمبوغن»، عرفت هذه القرية، وكانت مرفأ ومدينة عمال، فيها منشرة للخشب تملكها الشركة البريطانية العالمية «فتلي ملر»، أعتقد أن عدد العمال الذين يشتغلون في المنشرة في الأحراش ألف عامل، وكانت السوق فيها عبارة عن ثلاثة حوانيت أحدها لجرجي التبشراني من الشويفات ابنه فؤاد هو اليوم في بيروت، كنت أتردد على هذه القرية «دوارا»، وكان زبائني ثلاثة فقط، وكان علي أن أقضي نحوا من يومين؛ لذلك كانت تطول ساعات الفراغ، وبالطبع كنت أقتل الوقت عند المرحوم جرجي وابنه فؤاد، وأذكر أن ليلة طال أرقها بسبب شدة الحر، وطال تقلبنا على الأسرة، وطالت أحاديثنا حتى سمعت من قصص أبي فؤاد أنه كان في البرازيل.
سألته عن توفيق قربان هناك، وقد كنت منذ أيام الدراسة معجبا بأبحاثه وكتاباته، وكانت سيرته المدرسية العلمية أسطورة، فقعد العم جرجي في سريره، وراح يقهقه، قلت: «ما الخبر؟» قال: «بتزعل؟» قلت: «لا.» قال: «توفيق قربان فتى مثقف، فيلسوف، كتلة نار، فصيح، كثير الحركة، مفقوع، طفران ؛ يعني نسخة طبق الأصل عنك!»
تترسخ في أذهاننا صور عما لا نرى هي ظل لما نرى؛ فحين نقول جزيرة نحسب أنها «أرواد»، أو منشرة تخيلنا مناشر الخشب في بور «بيروت»، ولكن جزيرة «المندناو» هي أكبر من فرنسا، سكانها أربع ملايين، وهي تتسع لخمسين مليونا. أما الأشجار فقد كنت أرى في «كولمبوغن» حين سافرت على قطار الحديد جذوعا قطرها يتراوح في ما بين المتر والثلاثة أمتار.
Página desconocida