أعماركم سفر من الأسفار
وهذه الاستعارة التي يرثي بها والد ولده:
وهلال أيام مضى لم يستدر
بدرا ولم يمهل لوقت سرار
عجل الكسوف عليه قبل أوانه
فمحاه قبل مظنة الإبدار
واستل من أترابه ولداته
كالمقلة استلت من الأشفار
فلو قال لك إن ولدي مات صغيرا، لما وفى ما أراد أن يقوله، إنما أراد هذا الأمل الذي يتعلق به ويرقبه يوما بعد يوم لعله أن يكتمل، وإذا به يقضى قبل أوانه بقدر مباغت لم يكن يتوقعه، كهذا الكسوف الذي ينقض على الهلال فيقضي عليه قبل أن يكتمل إبداره، ولا تقل إن في هذا التصوير خطأ يبعد به عن الواقع، إذ الكسوف لا يصيب القمر إلا وهو بدر مكتمل؛ لأن الشاعر يريد التأثير بألفاظه وصوره، فلو أثرت ألفاظه وصوره الأثر الذي يريد لم يعد له بعد ذلك مطلب.
والفرق بين التشبيه والاستعارة هو أن الأول يحتفظ للمشبه والمشبه به بذاتيهما، وكل ما يفعله أن يربط الصلة بينهما. وأما الاستعارة فتدمج الواحد في الآخر وتجعلهما شيئا واحدا؛ ففرق بين أن يقول الشاعر: «فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت وردا وعضت على العناب بالبرد» وبين أن يقول: «فأمطرت دمعا كاللؤلؤ من عين كالنرجس وسقت خدا كالورد وعضت على أنامل كالعناب بأسنان كالبرد» فالتشبيه - كما ترى - أقرب إلى تصوير الواقع. أما الاستعارة فأمعن في الخيال؛ لأنها تطمس الأشياء طمسا وتستبدل بها أشباهها؛ فالفتاة الباكية في هذا البيت لم تسفح من عينها دمعا كاللؤلؤ، إنما سفحته لؤلؤا؛ لهذا كان التشبيه أكثر شيوعا من الاستعارة في العصور «الاتباعية» التي يكون فيها الشعراء أقل حدة في الخيال، وأكثر انصياعا لأحكام العقل والمنطق، وكانت الاستعارة أكثر شيوعا من التشبيه في العصور «الابتداعية» التي يشطح فيها الخيال ويجمح، فلا يكون للعقل عليه ضابط.
Página desconocida