فلا شك أن هذه كلها صور جميلة؛ فالسحاب الذي لبس رداء من حرير، والرداء الذي طرزه لمع البرق، والدمع الذي ينسكب من غير المحاجر، ثم الضحك الذي تتحدر قهقهته من غير الأفواه، كل هذه صور جميلة ولكنها تفسد المعنى؛ لأنها لا تترك في القارئ أثر السماء العاصفة ببرقها ورعدها.
وخذ مثالا آخر من الشعر الإنجليزي، يقول «لونجفلو» في قصيدة «أنشودة الحياة»
5
ما يأتي:
حيوات العظماء حافزة لنا
أن نعلو بالحياة إلى أعلى القنن؛
حتى إن رحلنا تركنا في إثرنا
آثار أقدام على رمال الزمن.
وظاهر أن تصوير الجزاء الذي يلقاه ذو الحياة العظيمة - والذي يراد به أن يكون إغراء للناس أن يحيوا حياة عظيمة - بخلود لا يزيد على آثار أقدام فوق الرمال لن تلبث أن تسفيها الرياح، لا يؤدي المعنى المراد إلا أضعف الأداء؛ فالصور الكلامية التي يستخدمها الشاعر إن أجيد استخدامها كانت أداة مفيدة في أيديهم، فبفضلها تشخص المعاني المجردة، وتصب في صور مرئية محسوسة، وبذلك تكتسب قوة ونصوعا. ويجمل بنا في هذا الصدد أن نشير إلى حيلة شائعة في الآداب الأوروبية، وكانت أكثر شيوعا في العصور الوسطى منها في العصر الحديث، وهي أن يكتب الشاعر اسم المعنى المجرد الذي يريد تشخيصه وتجسيده مبدوءا بحرف التاج، وإنها لحيلة قمينة أن تبلغ غايتها في الشاعر المجيد، لكنها أقرب إلى الإخفاق؛ لأنها في أكثر حالاتها لا تحمل إلى الذهن صورة مجسدة كما أريد لها أن تفعل. ومن خير الأمثلة التي تساق لنجاح الشاعر في تشخيص المعاني المجردة مع جعلها حية في الذهن، ما صنعه «ملتن» في «الفردوس المفقود» إذ شخص «الخطيئة» و«الموت» فأبرزهما في أبشع صورة لهما، وما صنعه هو نفسه كذلك في إحدى قصائده الأخرى، إذ شخص «الضحك» فجعله كأنما هو شخص ينبض بالحياة ممسكا جانبيه بكلتا يديه من فرط القهقهة.
وما هذا التشخيص إلا واحد من مئات من طرائق التعبير وأساليبه عند الشعراء، يريدون بها ألا يقتصروا في أداء المعنى على مجرد سرده وبسطه بطريقة مستقيمة مباشرة؛ لأنهم إن فعلوا كانوا يخاطبون العقل، ومهمتهم أن يثيروا بألفاظهم وصورهم الجيدة كل ما يمكنهم أن يثيروه في أنفس القراء من مشاعر وذكريات. ومن أهم هذه الطرائق التي يصطنعها الشعراء في أداء المعاني التشبيه والاستعارة. وللاستعارة في الشعر قيمة بالغة، بحيث يكاد يستحيل أن يكون الشعر شعرا بغيرها؛ وذلك لأن الشاعر يرى بين الأشياء التي تبدو منفصلة لا علاقة لإحداها بالأخرى روابط وصلات، فإذا ما ربط بعضها ببعض كانت له استعارة أو تشبيه، وأمثلة الاستعارة والتشبيه في الأدب كثيرة لا تقع تحت الحصر، يقول الشاعر:
Página desconocida