فكانت الرحلة إلى إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وهولندة وغيرها من الأقطار الأوروبية، وبعض الأقطار الشرقية فرضا على كل فتى مستطيع من أبناء العلية وذوي اليسار؛ وشجعتها الحكومة لأنها كانت في أوائل عصر التوسع والاتصال بالأقطار الأجنبية، فكانت تعول أكبر التعويل على أخبار أولئك السائحين، وهم عائدون إلى بلادهم من تلك الأقطار، وكثيرا ما رشحتهم للسفارة ومناصب السلك السياسي بما تتوسم فيهم من سداد الملاحظة وسرعة الخاطر وصدق الغيرة الوطنية في مشاهداتهم الخارجية.
وكان أبناء الأمة الإنجليزية يكبرون أولئك السائحين، ويتهمونهم بالترفع والحذلقة في نقد عادات البلاد، وتكلف المعيشة على غير السنن التي ألفوها من قديم. وهو اتهام لا يخلو من الإكبار، أو من الاعتراف بما للسياحة من قدرة على تحسين العادات، وإقناع السائحين بارتفاعهم عن البيئة، التي درجوا عليها قبل التنقل في مختلف الأقطار.
هذه وأمثالها هي أساليب العصر في التعليم ومباشرة الحياة؛ لأنه كما أسلفنا عصر طموح واستطلاع، ولكنها في الواقع لم تكن لتروج في عصر من العصور ما لم تكن فيها موافقة لخلائق السكان، ومجاراة لنزعاتهم الحية التي فرضتها عليهم طبيعة المكان، فلم يعرف عن سكان الجزر البريطانية قط في عصر من العصور، أنهم جنحوا إلى المعيشة الراكدة، وتعلقوا بالمعارف النظرية والدراسات الكلامية التي تنعزل بصاحبها عن معترك الحياة، ولكنهم نشئوا على الملاحة والصيد واللعب في المروج الفيح، والمرانة على الفروسية وفنون الرياضة، والتأهب لبرد الشتاء بحرارة العمل وحركة الأعضاء، وهيأتهم هذه النشأة لتلبية مطالب العصر، الذي وسم قبل سائر العصور بسمة الطموح والاستطلاع. •••
وكل أولئك لم يكن ليغني شيئا لو لم يكن طموح الفكر منطلقا إلى مراميه بغير عائق من حجر ذوي السلطان، سواء كانوا من رجال الحكم أو من رجال الكنيسة.
وقد انطلق طموح الفكر إلى مراميه في ذلك العصر بغير عائق من هذا السلطان أو ذاك؛ لأن الكنيسة كانت مشغولة بالدفاع عن وجودها فترة طويلة، ولم تزل في هذا الشاغل حتى تغلب عليها سلطان التاج، والحكومة النيابية، فاستكانت في حدودها إلى حين، وشاء عصر الطموح أن تتجرد الكنيسة من الرجال الأشداء، الذين يبسطون مشيئتهم بقوة العارضة ومضاء العزيمة وسعة الحيلة، ولو لم يكن لهم سلطان من الوظيفة أو الصفة الدينية؛ لأن معيشة الكنيسة الوادعة وأجورها القانعة لم تكن في ذلك العصر مما يغري أمثال أولئك الرجال الأقوياء بالركون إليها والبقاء فيها، فمن بقي في الكنيسة يومئذ فهو غير ذي طموح وغير ذي عزيمة، ومن كان كذلك لم يخش منه الحجر على حرية الفكر، ولا الوقوف في وجه التيار وهو في أوائله جارف عنيف.
أما سلطان الحكومة فقد كانت له رقابة على الكتب والمطبوعات، ولكنها لم تكن من الصرامة والضيق بحيث تحول بين الكتاب وإظهار ما يكتبون، وقلما كانت الحكومة تلتفت إلى حملات الكتاب حتى تكون قد صدرت من المطبعة، وتداولتها الأيدي ولغط بها الناس، وكان لها الأثر المحذور الذي يستوجب الالتفات. فإذا صدر الكتاب من المطبعة مشحونا بما شاء صاحبه من التنديد والتشهير، ولم يلغط به أحد ولا ثارت حوله الضجة المحذورة، فكثيرا ما تغفل عنه الحكومة أو تتغافل عنه، ثم تهمل التأليف والمؤلف كما أهملتهما جمهرة القراء. •••
على أنه كان عصرا من عصور التاريخ يسري عليه ما يسري على جميع العصور، فما من عصر من العصور في تاريخ الإنسان خلا كل الخلو من بعض عوامل الضعف والنكسة، أو بعض عوامل التهيؤ للانتقال والتبديل.
ولم يكتب لعصر باكون شذوذ عن هذه القاعدة التي لا شذوذ فيها، فقد كمنت فيه عوامل شتى للتبدل والانتقال، وجاء بعضها من القوة والطموح، كما جاء بعضها من النكسة والجمود.
فازداد سلطان التاج بعد الغلبة على الكنيسة، والغلبة على نظراء الدولة من الأمم الأجنبية، وخيل إلى أنصار الحكم المطلق أنهم قادرون على إطلاق ما تقيد منه، وتوسيع ما ضاق من حدوده، فجمعوا إليهم الأنصار وأكثروا لهم الرشى والهبات، وكلفهم ذلك طلب المال وإرهاق الرعية بالضرائب والإتاوات، وليس إلى كسب الأنصار في عصر كذلك العصر من سبيل بغير العطاء الجزيل، وليس لهذا الإرهاق من مغبة غير النقمة فالثورة والانتقاض.
وكان قمع الكنيسة على كره من الأتقياء المتنطسين، وهم غير قليلين في البلاد الإنجليزية، ولعلهم كانوا يطيقون هذا القمع لو حسنت الأخلاق الدينية، وروعيت الآداب المسيحية، ولكنهم نظروا فيما حولهم فأنكروا الترف والبذخ، والتهافت على المتعة والمغالاة بالحطام والإباحة في مغامسة اللذات، فقرنوا بين ذلك وبين قمع الكنيسة، وحسبوا أن الأمر محتاج في تقويمه إلى حماسة دينية، وتنطس شديد في التحريم والتحليل، فجاءت ثورة المتطهرين مشفوعة بثورة المتمردين على المستبدين.
Página desconocida