الفتن والقلاقل
رعاة الشعوب أحوج الناس أن يعرفوا علامات العواصف، التي تهب على الحكومات، وتشيع عندما تزول الفوارق وتتقارب الأقدار، كما تشيع عواصف الطبيعة عندما يتساوى الليل والنهار، وللدول علامات قبل هبوب العواصف عليها كتلك العلامات التي تشاهد في انطلاق الهواء وجيشان الماء قبل هبوب الأعاصير، وكثيرا ما تنذرنا الشمس - كما قال فرجيل - بما في الغيب من قلاقل هوجاء وحروب خفية.
ومن تلك العلامات شيوع الحملات والمثالب التي ترمى بها الحكومات، ووفرة الأخبار الكاذبة التي تحوم حول الحكومات وتتلقاها الأسماع بالقبول السريع، وقد نسب ڨرجيل الشهرة أو الإشاعة فقال: إنها أخت الجبابرة والعمالقة، وإن الأرض أوغرها الغضب على السماء، فأخرجت الشهرة أو الإشاعة من جوفها وكانت آخر الذرية.
وكأنما الإشاعات بقايا فتن مضت، وهي في الحقيقة طلائع فتن ستأتي من عالم الغيب، على أنه قد أحسن التشبيه حيث رأى أن الإشاعات والقلاقل لا تختلف فيما بينها، إلا كاختلاف الشقيقة من الشقيق والذكر من الأنثى، ولا سيما حين يصل الأمر إلى الحد الذي يساء فيه الظن بأجمل أعمال الحكومات وأدعاها إلى الرضى والثناء، وذاك كما قال «تاسيتس»: إن الشهرة السيئة إذا استعاض أمرها، واشتعل لهيبها كان سيئ الأعمال وحسنها على السواء من دواعي المقت والاستياء.
ولا يلزم من هذا أن الفتن تتقى بالصرامة المفرطة في قمع الإشاعات السيئة، إذ كانت هذه الإشاعات من علامات الفتنة، فإن احتقارها في كثير من الأحيان ربما كان أدعى إلى انقضائها، من حيث يطول أجلها بمحاولة القضاء عليها.
وينبغي الارتياب أيضا في ذلك الضرب من الطاعة، الذي تحدث عنه تاسيتس، حيث قال: «إنهم يؤدون واجباتهم، ولكنهم يؤدونها مع هذا وبودهم لو ينقدون رؤساءهم ولا ينقادون لهم.»
فإن اللجاجة والاتهام واللغط في حديث الأوامر والتدبيرات كلها نوع من نفض النير عن الأعناق ومحاولة العصيان، ولا سيما يوم يلاحظ أن الذين يدافعون عن الأوامر والتوجيهات يدافعون عنها هامسين هيابين، وأن الذين ينكرونها يعلنون إنكارها مجترئين غير حافلين.
وقد أحسن ماكيافيلي الملاحظة بانتباهه إلى سوء العاقبة، إذ يجنح الأمراء إلى جانب من جوانب الشعب، وهم أحجى أن يكونوا آباء لجميع أحزابه على السواء، فتلك أشبه الأحوال بحال الزورق الذي يوشك أن ينقلب لثقل الوسق فيه على جانب دون جانب، ومثل ذلك حدث في عهد هنري الثالث ملك فرنسا، إذ تحالف مع بعض رعاياه لاستئصال الطائفة البروتستانتية، ثم انقلب هذا الحلف عليه بعيد ذلك بقليل، وذاك أن سلطان الملوك إذا أصبح تابعا لقضية من القضايا، وأصبحت هناك قيود أوثق رباطا من رباط السيادة الملكية، فقد تزعزع مكانهم، ووهنت قبضتهم على زمام الأمور.
وعلامة من علامات فقدان الحكومة هيبتها أن تجري المنازعات والشحناء علانية وبغير تقية ومبالاة، فإن حركات عظماء الدولة ينبغي أن تجري على مثال حركات الكواكب والسيارات في المذهب القديم، إذ يرى أصحاب ذلك المذهب أن هذه الكواكب ينبغي أن تسرع الاستجابة لمصدر الحركة الأولى، وأن تتحرك هي حركتها الذاتية في رفق وسهولة.
فإذا شوهد أن عظماء الدولة في حركتهم الذاتية يعنفون بها ذلك العنف الذي ينزع منهم خشية ملوكهم كما قال تاسيتس، فتلك علامة الخروج من مدارها واضطراب أمرها، وما زال توقير الملوك هو الحزام الإلهي الذي يؤيدهم به الله ويحله متى شاء.
Página desconocida