La Gran Fitna (Parte 1): Uthman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Géneros
فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم، وعلى أمنهم وحريتهم، ليست من سيرة النبي ولا من سيرة الشيخين في شيء. وقد اجترأ بعض الناس على نقد النبي نفسه، حتى قال له: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. مرة ومرة. فلما قالها الثالثة لم يزد النبي على أن قال: «ويحك! فمن ذا يعدل إذا لم أعدل؟!» وهم المسلمون أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفهم عن ذلك. وقد يقال إن المسلمين أحدثوا في أيام عثمان أحداثا لم تكن، فسار فيهم سيرة تلائم هذه الأحداث. وهذا بالضبط شبه ما قال زياد لأهل العراق: «وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة.» وغريب أن تذكرنا سياسة عثمان وولاته سياسة زياد مرتين.
والآن وقد استعرضنا هذه الأحداث وآراء المتكلمين فيها، فقد نستطيع أن نستقبل الفتنة منذ حدثت، ونعرضها كما كانت إلى أن انتهت إلى المرحلة الأولى من مراحلها، وهو هذا الحدث العظيم الذي قتل فيه الإمام عنوة لا اغتيالا.
الفصل السابع والعشرون
والمؤرخون مجمعون على أن المسلمين استقبلوا خلافة عثمان راضين عنها مطمئنين إليها؛ لأنه وسع عليهم ما كان عمر يضيق، ويسر من أمرهم ما كان عمر يعسر. وهو كما رأيت قد زاد العطاء لمجرد نهوضه بالأمر، ثم هو قد ألان للناس من جانبه، وبسط لهم يده بالعطاء، وأحس الناس رخاء وسعة لم يكونوا يجدونهما أيام عمر، وأحست قريش بنوع خاص حرية لم تكن تجدها أيام عمر؛ فلم يقم لها عثمان عند شعب الحرة، ولم يأخذ بحلاقيمها مخافة أن تتهافت في النار، وإنما خلى بينها وبين الشعب تنفذ منه إلى حيث شاءت من الأقاليم والأمصار. ويكاد المؤرخون يجمعون على أن الأعوام الستة الأولى من خلافة عثمان مرت بسلام، فلما استقبل عثمان الشطر الثاني من خلافته ظهرت المصاعب وقامت المشكلات.
ويخيل إلي أن المسلمين رضوا بخلافة عثمان ست سنين، ثم احتملوها أربع سنين. فلما جاوز عثمان بخلافته الأعوام العشرة جعل المسلمون يضيقون به ويستطيلون خلافته؛ يظهرون ذلك في شيء من الرفق أول الأمر، ثم في شيء من الحدة بعد ذلك، ثم في عنف جعل يتزايد شيئا فشيئا حتى انتهى إلى غايته المنكرة وهي قتل الإمام.
وليس معنى ذلك أن عثمان لم يلق معارضة أثناء هذه الأعوام العشرة؛ فقد ظهرت المعارضة منذ اليوم الأول لخلافته بالقياس إلى قضية عبيد الله بن عمر، وإنما معناه أن المعارضة لم تبلغ طور الخطورة إلا في العامين الأخيرين من حياة عثمان. وأكاد أعتقد أن شيئا من التشاؤم قد شاع في نفوس الناس قليلا قليلا منذ أضاع عثمان خاتم النبي في بئر أريس؛ فقد توارث الشيخان هذا الخاتم عن النبي، وأمضيا به أمور الدولة كلها، وكانا يجدان في ذلك خيرا وبركة وتراثا له خطره، وكانا يمضيان بهذا الخاتم ما يمضيان على أنهما خليفتان لرسول الله ينفذان سنته وينهجان نهجه، ويمضيان بخاتمه الذي كان يمضي به الأمور قبل أن يفارق الدنيا. وتلقى عثمان هذا الخاتم عن عمر، كما تلقاه عمر عن أبي بكر، وكما تلقاه أبو بكر عن أهل بيت النبي حين استخلف. فلما سقط هذا الخاتم من يد عثمان في البئر وجعل المسلمون يلتمسونه ويجتهدون في التماسه دون أن يظفروا به على قلة ما كان في البئر من ماء، كرهوا ذلك وتطيروا به، واستاء لذلك عثمان استياء شديدا، وقد اتخذ خاتما جديدا على صورة الخاتم الأول ونقش عليه ما كان منقوشا على الخاتم الأول: «محمد رسول الله.» ولكن هذا الخاتم الجديد لم يمس أصبع النبي، ولم يمس أصبع الشيخين، وإنما هو خاتم مصنوع لم يورث ولم تمض به الأمور من قبل؛ فكأن عثمان قد استأنف منذ اتخذ هذا الخاتم عهدا جديدا. ويقول الرواة: إن عبد الرحمن بن عوف كان أول من اجترأ على عثمان، فألغى بعض أمره وأطمع الناس فيه. وذلك أن بعض السعاة أقبلوا بإبل للصدقة، فوهبها عثمان لبعض أهل الحكم. فلما بلغ ذلك عبد الرحمن دعا بعض أصحاب النبي وأرسلهم فاستردوا له هذه الإبل وقسمها في الناس، وعثمان في الدار لم ينكر ذلك ولم يغيره، بل لم يكلم فيه عبد الرحمن وأصحابه. فكان اجتراء عبد الرحمن وأصحابه خطرا في نفسه؛ لأنه تغيير لأمر السلطان، وكان سكوت عثمان على هذا الاجتراء أشد منه خطرا؛ لأنه اعتراف بالخطأ ونقص من هيبة السلطان.
وقد جعل الناس بعد ذلك يظهرون إنكارهم لما يكرهون من سياسة عثمان؛ يخطئون في ذلك ويصيبون، ولكنهم يعارضون على كل حال. ثم لم يتحرج بعضهم من أن يواجه عثمان بالمعارضة على ملأ من الناس، ولم يتحرج بعضهم الآخر من أن يعصي أمر عثمان إذا صدر إليه، كالذي كان من أبي ذر حين أرسل إليه عثمان ينهاه عما كان يلهج به من ذم الأغنياء وتلاوة الآية الكريمة:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ، فلم يسمع له ولم يطع، وإنما قال: «لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضا عثمان.»
ولم تكن قصة الوليد بن عقبة خليقة أن تشعر قلوب الناس بهيبة لسلطان الخليفة. فليس مما يرفع من شأن السلطان في النفوس أن تقوم البينة على أن بعض عماله قد شرب الخمر، وأن يضطر الخليفة إلى عزل هذا العامل وإقامة الحد عليه، وأن يتحدث الناس بأنه أخطأ حين ولاه مكان سعد، وبأنه إنما ولاه لقرابته مع تظاهر الأدلة على أنه لم يكن أهلا للولاية.
ثم جعلت المعارضة تشتد في الأمصار وتصل أصداؤها إلى المدينة، حتى اضطر عثمان إلى اصطناع النفي الإداري. وجعلت المعارضة تشتد في المدينة نفسها، وتصل أصداؤها إلى الأمصار، فتزيد المعارضين في الأقاليم شدة واجتراء، حتى اضطر عثمان إلى أن يصطنع الشدة مع معارضيه أنفسهم، فيوعد وينذر، ولا يملك نفسه أحيانا من البطش ببعض المعارضين.
Página desconocida