La Gran Fitna (Parte 1): Uthman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Géneros
وما أستبعد أن يكون الوليد قد أتى بهذا الساحر فنظر إلى لعبه، وغضب لذلك المتزمتون من أهل الكوفة، فعدوا على ذلك المشعوذ المسكين فقتلوه. وغضب لذلك الوليد وغضب لذلك عثمان؛ فما ينبغي للناس أن يريقوا الدماء عن غير أمر السلطان ولا أن يريقوها بالظنة.
وجملة القول أن الوليد إنما كان رجلا من قريش أسلم إسلاما ظاهرا واحتفظ بجاهليته كلها. فليس هو أول من شرب الخمر في هذا العصر من أمثاله الذين أسلمت ألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم إيمانا خالصا، وإنما ترددت بين الكفر والإيمان. وليس هو بدعا من حب الدعابة والعبث والمجون يستتر به ولا يظهره. وما أستبعد أن يكون قد لها بلعب هذا الساحر، وأن تكون القصة التي زعمت تدخل ابن مسعود في أمره قد اخترعت تكلفا للدفاع عن الوليد. على أني أعتقد أن شرب الخمر إن كان هو السبب المباشر لعزل الوليد؛ فإن لعزله أسبابا أخرى لعلها أن تكون أعمق أثرا وأبعد مدى من شرب الخمر ومن اللهو بلعب الساحر، وهي تتصل بسياسته العامة لأهل الكوفة وسيرته فيهم. فقد كان معظم أهل الكوفة من اليمانية ولم تكن المضرية فيهم إلا قلة. وكان الوليد رجلا قرشيا معتدا بقرشيته وبمكانه من عثمان، وقد كان أخاه لأمه. فما أستبعد أن هذه الكثرة اليمانية قد ضاقت بهذا الأمير القرشي المضري الذي لم يكن يخفي اعتداده بنفسه واستعلاءه على غيره، فتنكروا له قليلا قليلا. وأحس هو منهم هذا التنكر فلم يحتمله إلا كارها، ولعل الوليد قد نافس هذه الأرستقراطية فيما كانت ترى أنه مصدر عز وفخر لهم. فقد روي أن جماعة من أشرافهم كانوا ينادون: ألا إن من نزل الكوفة وليس له بها منزل فمنزله عند بني فلان. كانوا يتنافسون في ذلك فيما يظهر، يحيون به سنة عربية متوارثة؛ هي التنافس في استقبال الضيف والاستباق إلى إيوائهم وقراهم. فأنشأ الوليد عن أمر عثمان أو من تلقاء نفسه دار الضيافة، وأغلق على هؤلاء الأشراف بابا من أبواب التنافس والتفاخر والعصبية.
1
وكان أبو زبيد يقبل فينزل دار الأضياف هذه، ثم يتصل بالوليد ويكثر الاختلاف إليه. ومن يدري؟! لعل هذا الشاعر عاد مرة أو غير مرة إلى مثواه وقد أخذت منه الخمر، فلم يحسن أن يمسك لسانه، فنبههم ذلك إلى التجسس على الوليد.
ثم كان الوليد - وقد أحس تنكر الناس له وتنمرهم عليه - يستأنف سياسة ظاهرها الرفق وإشاعة الخير والمعروف، وباطنها التحبب إلى العامة والتقوي بالدهماء؛ ففرض للرقيق أعطيات يتوسعون بها: ثلاثة دراهم لكل واحد منهم كل شهر، دون أن ينقص ذلك من أعطيات سادتهم ومواليهم، إنما كان يؤدى إليهم ذلك من فضول الأموال. فقد كان للأموال إذن فضول يمكن أن ترد على أصحاب الأعطيات من الذين قاتلوا على هذا المال وأفاء الله على أيديهم هذا الفيء، ولم يكن الوليد يرد هذه الفضول على هؤلاء الناس، وإنما كان يوسع بها على العبيد والإماء؛ فكان إذن يرد بعض الفيء على بعضه، فلم يكن العبيد والإماء إلا شيئا من هذا الفيء، فهم أسارى قد قسموا بين الفاتحين كما قسم بينهم الذهب والفضة وغير الذهب والفضة من الغنائم. والذي يعرف النفس العربية التي احتملت الكثير من جاهليتها ولم يخالطها الإسلام إلا مخالطة ظاهرة، لا يرى من العجب أن يضيق هؤلاء اليمانية بهذا القرشي الذي يأخذ من فيئهم ليرده على فيئهم، ويأخذ فضول الأموال ليوسع بها على العبيد والإماء فيتقرب إليهم بذلك ويستأثر بحبهم له وانحيازهم إليه، ويوشك أن ينشئ منهم لنفسه قوة تعينه على سادتهم، أو تعين السلطان على هؤلاء السادة، إن احتاج السلطان إلى بعض المعونة. ويتحدث الرواة بأن الإماء والعبيد قد اتخذوا الحداد حين عزل الوليد، وكانت الولائد تنشج فيما روى الطبري بهذا الرجز:
يا ويلتا قد عزل الوليد
وجاءنا مجوعا سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد
فجوع الإماء والعبيد
وما أظن إلا أن هذا الرجز منحول متكلف، اخترعه القصاص من أنصار الوليد، فلم يكن الإماء والعبيد من أسرى الفرس في الكوفة قد بلغوا من حذق العربية وإتقانها أن يرجزوا بالوليد وسعيد، كما كان العرب أنفسهم خليقين أن يفعلوا. ولكن هذا الرجز يدل على أن الرقيق والأحرار من الفرس كانوا يؤثرون الوليد ويحبونه؛ لأنه يؤثرهم ويستهويهم. ولذلك قال الرواة إن أهل الكوفة كانوا فريقين في الوليد: كانت العامة معه، وكانت الخاصة عليه.
Página desconocida