La Gran Fitna Parte II: Ali y sus Hijos
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Géneros
وما كان الثائرون بعثمان ليكرهوا خيار أصحاب النبي الذين كانوا في المدينة من المهاجرين والأنصار على غير ما يحبون، وهم الذين شهدوا المشاهد مع النبي وصبر كثير منهم على الفتنة وامتحنوا في مواطن الشدة على اختلافها؛ فآثروا دينهم على دنياهم، وآثروا الموت في سبيل الله على الحياة في سبيل أنفسهم.
وقوم مثل هؤلاء لا يستكرهون على شيء يرونه مخالفا لدينهم؛ فهم قد بايعوا عليا إذن راضين به مؤثرين له، لا راهبين ولا راغبين؛ وآية ذلك أن فريقا منهم لم يطمئنوا إلى بيعة علي فلم يكرههم علي على بيعته، وإنما خلى بينهم وبين ما أرادوا من الاعتزال، وقبل منهم ما قدموا إليه من عذر، وقام دونهم يمنع الثائرين من أن يصلوا إليهم، وجعل نفسه كفيلا لعبد الله بن عمر حين أبى عبد الله أن يأتي بكفيل. ولأمر ما سكت علي عن استكراه طلحة والزبير على البيعة؛ فقد شاركا في الإنكار على عثمان والجد في أمره، وكان كل واحد منهما ينظر إلى نفسه، فخشي منهما وخشي عليهما الفتنة.
لم يكن علي إذن مترددا ولا شاكا ولا قلق الضمير حين هم بقتال أهل الشام حين رفضوا البيعة، وحين تحول عنهم إلى أمر طلحة والزبير حين أظهرا النكث والخلاف، ولكنه في بعض مواطنه قال كالنادم المحزون: لو علمت أن الأمر يبلغ هذا المبلغ ما دخلت فيه. يريد أنه لم يكن يظن بهذين الشيخين وبأم المؤمنين عائشة أن يبلغ الأمر بهم ما بلغ من تفريق كلمة المسلمين وحمل بعضهم على أن يسلوا سيوفهم على بعض ، ولو قد علم أن خلافته ستكون مصدر فتنة وفرقة لأعرض عنها إيثارا لعافية المسلمين واجتماع كلمتهم، ولصبر نفسه على ما تكره كما فعل حين بويع للخلفاء الثلاثة من قبله، فأما وقد بايعه من بايعه من عامة المسلمين وخاصتهم، فقد مضى في أمره على بصيرة، وكره أن يرجع بعد أن مضى ويحجم بعد أن أقدم، وكان كثيرا ما يقول: والله، إني لعلى بينة من ربي، ما كذبت ولا كذبت، ولا ضللت ولا ضل بي.
ولم يكن أصحاب علي في طريقه إلى البصرة شاكين ولا مترددين، إلا ما كان من أمر أبي موسى، وقد ظهر أن أهل البصرة لا يشاركونه في رأيه، وإنما أراد أفراد أن يستوثقوا لأنفسهم في أمر دينهم وفي أمر آخرتهم خاصة؛ فسألوا عليا عما كان يريد من شخوصه وإشخاصه إياهم إلى البصرة، فكان يجيبهم بأنه يريد أن يلقى بهم إخوانهم من أهل البصرة، فيدعوهم إلى الصلح، ويبين لهم الحق ويناظرهم فيه، لعلهم أن يثوبوا فتجتمع الكلمة وتلتئم وحدة الجماعة، وكان هؤلاء النفر يسألونه: فإن لم يثوبوا إلى الحق ولم يقبلوا الصلح؟ فكان يجيب: إذن لا أبدؤهم بقتال حتى يبدءونا، فكانوا يسألونه: فإن بدءونا؟ وهنالك كان يجيبهم: إذن نقاتلهم على الحق حتى يرجعوا إليه. وقد أراد بعض هؤلاء أن يستوثقوا لأمر آخرتهم؛ فسألوه: ما يكون أمر الذين يقتلون منهم إن كانت حرب؟ فأجابهم بأن من قاتل صادق النية في نصر الحق مبتغيا وجه الله ورضاه فمصيره مصير الشهداء. وقد سأله رجل منهم ذات يوم: أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ فقال: إنك لملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله. وما أعرف جوابا أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحدا مهما تكن منزلته، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته بعد أن سكت الوحي وانقطع خبر السماء.
كان علي إذن على بصيرة من أمره، وكان أصحابه يمضون معه على بصائرهم يشفقون من أن يسلوا سيوفهم على قوم من المسلمين أمثالهم، ولكنهم لا يرون أن يعرضوا عن ذلك إذا لم يكن منه بد.
وكان علي يريد أن يعارض القوم في الصلح ويناظرهم على الحق ولا يبدأهم بقتال إلا أن يبدءوه به؛ فقد كان الأمر مختلفا إذن بين هذين الفريقين: أهل البصرة مختلفون كما قدمنا آنفا وأصحاب علي مؤتلفون، وأهل البصرة مترددون بحيث يحبون. فطلحة والزبير يختلفان أيهما يصلي بالناس، ثم يتفقان بعد خطوب على أن يصليا بالناس هذا يوما وهذا يوما، وفي ضمير عائشة قلق لا يكاد يبين؛ مرت في طريقها بماء فنبحتها كلابه، وسألت عن هذا الماء، فقيل لها إنه الحوأب؛ فجزعت جزعا شديدا، وقالت: ردوني ردوني؛ قد سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول وعنده نساؤه: «أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟» وجاء عبد الله بن الزبير، فتكلف تهدئتها وجاءها بخمسين رجلا من بني عامر يحلفون لها أن هذا الماء ليس بماء الحوأب.
فرقة ظاهرة واختلاف بين وقلق خفي في الضمائر وأطماع تظهر على استحياء ثم تستخفي على كره من أصحابها، كذلك كانت حال القوم حين أظلهم علي بمن معه من جند كثيف.
الفصل الحادي عشر
Página desconocida