La Gran Fitna Parte II: Ali y sus Hijos
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Géneros
ثم أعطى على نفسه العهد المشدد المؤكد أن يؤمن الحسن من كل غائلة، ولم يكتف الحسن بهذه الشروط؛ لأن فيها شيئا لا يملكه معاوية في رأيه، وهو ولاية العهد، ولأن ما عدا هذا من الشروط المالية نوع من الإغراء وليس بذي خطر عند الحسن، فبيت مال العراق في يده، وكور فارس كلها في يده أيضا، وقد أهمل معاوية في كتابه شيئا هو أخطر من كل ما ذكر، وهو تأمين أصحاب الحسن الذين حاربوا مع علي وهموا بالحرب مع الحسن نفسه؛ ولذلك احتفظ الحسن بكتاب معاوية عنده وأرسل إليه رجلا من بني عبد المطلب من جهة، وبينه وبين معاوية قرابة قريبة من جهة أخرى، وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمه أخت معاوية، فقال له: ائت خالك، وقل له: إن أمنت الناس بايعتك.
وكأن الحسن أراد أن يصطنع شيئا من اللباقة، فاحتفظ بشروط معاوية وطلب إلى معاوية مزيدا هو تأمين الناس، ولكن معاوية كان أدهى من ذلك وأبرع كيدا، فقد أعطى ابن أخته طومارا ختم في أسفله، وقال له: اكتب ما شئت.
فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض المطلق إلى الحسن، فكتب فيه الحسن: «هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين، وعلى أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده، وأن يكون الأمر شورى، والناس آمنون حيث كانوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وعلى ألا يبغي الحسن بن علي غائلة سرا ولا علانية ولا يخيف أحدا من أصحابه، شهد عبد الله بن الحارث وعمرو بن سلمة.» ثم رد عبد الله بن الحارث إلى معاوية بكتابه هذا ليشهد عليه من شاء من أصحابه ففعل، وتم الصلح، ولكنه لم يتم دون أن يترك بين الرجلين شيئا من اختلاف الرأي وسوء التفاهم، كما يقال في هذه الأيام.
أكان الكتاب الأول الذي أرسله معاوية إلى الحسن قائما يكفل للحسن ما أعطاه معاوية من الشروط ما عدا ولاية العهد التي لم يرضها الحسن، أم سقط بهذا الكتاب الذي كتبه الحسن وأمضاه معاوية؟
أما الحسن فقد رأى أن كتاب معاوية الأول ظل قائما، وأن معاوية قد التزم فيه ما وعد به من مرتب في كل عام، ومن خراج هاتين الكورتين للحسن ما عاش، وأما معاوية فقد رأى أن الكتاب الثاني قد ألغى الكتاب الأول إلغاء فليس للحسن عنده إلا ما طلب من أن يكون الأمر شورى بعد موت معاوية، ومن تأمين الناس على أنفسهم وعلى أموالهم وذراريهم، ومن ألا يبغي الحسن غائلة سرا أو جهرا، ومن أن يعمل في أمر المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين.
ومن أجل اختلاف الرأي هذا طلب الحسن إلى معاوية - بعد أن استقام له الأمر - أن يفي له بشروطه المالية ، فأبى عليه معاوية وقال له: ليس لك عندي إلا ما شرطت لنفسك. وكأن الحسن أراد تحكيما، وكأنه أراد أن يحكم سعد بن أبي وقاص، فلم يقبل معاوية تحكيما ولكنه على ذلك أرضى الحسن بما أعطاه وما فرض له من المال.
وتكثر المؤرخون والرواة بعد ذلك، فزعم قوم أن معاوية وفى بالشروط للحسن ثم أغرى أهل البصرة سرا، فطردوا عمال الحسن من الكورتين، وأبوا أن يدفعوا إليه شيئا من خراجهما، وقالوا: هذا فيئنا وليس لأحد غيرنا فيه حق.
والأمر كما رأيت أيسر من ذلك، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن معاوية قد بر الحسن وأرضاه بالمال، فلم يجد في حياته عسرا ولا ضيقا، وإنما عاش في المدينة عيشة الغني السخي الذي ينفق عن سعة ولا يحسب للمال حسابا.
ومهما يكن من شيء، فقد سار معاوية إلى الكوفة مطمئنا راضي البال، ينشر من حوله الرضى والطمأنينة، واستقبله الحسن فبايعه وبايعه الناس، وكأن معاوية أراد أن يعلن الحسن رضاه عن هذا الصلح واطمئنانه إلى النظام الجديد.
وهذا طبيعي لا يحتاج فهمه وقبوله إلى تكلف من تكلف من الرواة والمؤرخين، الذين زعموا أن عمرو بن العاص هو الذي أغرى معاوية بدعوة الحسن إلى أن يتكلم؛ ليظهر للناس عجزه وضعفه أو ليسوءه أمام أنصاره وشيعته، فالحسن لم يختلس الصلح اختلاسا، ولم يستخف به من الناس، والحسن قد خطب الناس غير مرة في حياة أبيه وبعد وفاته، فلم يعرف منه عيا أو حصرا وهو بعد ذلك أو قبل ذلك من أهل بيت لم يعرفوا قط بعي أو حصر، وإنما كانوا معدن الفصاحة واللسن وفصل الخطاب، وقد خطب الحسن فقال خير ما كان يمكن أن يقال وأصدق ما كان يمكن أن يقال أيضا، قال: «أيها الناس، إن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، إن هذا الأمر الذي سلمته لمعاوية إما أن يكون حق رجل كان أحق به مني فأخذ حقه، وإما أن يكون حقي فتركته لصلاح أمة محمد وحقن دمائها، فالحمد لله الذي أكرم بنا أولكم وحقن دماء آخركم.»
Página desconocida