وإذا كان طلعت حرب قد أفاد في سبيله بنهضة سنة 1919 واستغل اشتغال النفوس بالوطنية، وتنادي الناس بالعمل على أسباب القومية، فقد أضاف إلى العزم حزما، وجمع إلى الثقة والإقدام بصيرة وعلما، ذلك أنه عرف كيف يتخير أسعد الساعات وأكفأها لنجاح مشروعه العظيم.
ولم يكن نجاح بنك مصر مقصورا على ذلك المدى الذي تدور فيه منافع البنوك، ولكن كان له نجاح أوفى وأبلغ، هو أنه بث فينا الثقة وردنا في جليلات الأعمال إلى أنفسنا، وأقنعنا بالحس الصادق أننا في مجال العمل، غير أهل للخذلان، ولا للفشل، فهذه شركات جليلة يقوم بها طلعت حرب كذلك، ويرفدها بنك مصر أيضا، وقد قامت كلها قياما كريما، ونجحت كلها نجاحا عظيما.
هذه شركة للحليج، وهذه شركة للملاحة، وهذه شركة للطبع، ولعله ستتبعها شركة للغزل والنسيج، وأخرى لصنع الزجاج، حتى إني لأخشى إذا تمادى طلعت في هذه الشركات الناجحة، أن يظن جمهرة الناس، أن لا نجاح لسعي الجماعة إلا إذا قام عليه طلعت حرب، وإلا إذا سانده بنك مصر، وفي هذا مساءة قد تستغرق ذلك الإحسان، فليتدبر طلعت وليتدبر رجال الأعمال. •••
وبعد، فطلعت بك حرب وإن لحقته السن، ما برح له عزم الشباب؛ حضور ذهن، وقوة تصور، ومتانة ذاكرة، وجودة رأي، وصبر وجلد على معاناة كل ما يليه من أعمال جسام!
وهو ربعة بين الطول والقصر، غير متسق الجوارح، مستطيل الوجه، لا بالقسيم
1
ولا الوسيم. لا يرضيك ظاهره، فإذا لابسته تكشف لك عن حسن محاضرة، ولطف روح، وسلاسة نفس، على خلاف الظن به والرأي بادئ الرأي فيه!
وإذا استحال هذا الرجل شعرا ما عدا أن يكون قصيدة في ديوان أبي تمام، لا تعجبك مطالعه، على أنك تقع بعدها على أروع المعاني وأشرف الكلام.
ولقد تلقاه يوما فيطالعك بكل ما تملك نفسه من أنس وبشر حتى لتحسب أنه أضحى قطعة من نفسك إذا كنت أنت لم تصبح قطعة من نفسه، ولقد تلقاه يوم آخر فيتولاك بوجه عبوس تكاد تتمثل فيه غيما ورعدا ومطرا، حتى لتشعر أنك في حضرة «زلزلة» لا في حضرة رجل، تعينه على ذاك الأذى عين خيفاء، فإن ترفقت بها قلت عين حواء، حتى لتطرق وأنت تبتهل إلى ربك وتسأله أن يلغى المال من الدنيا لكيلا تحتاج إلى رؤية طلعت حرب! ولقد تتبحث الأمر وتتبينه فإذا هذا «الحرب» سلم كله، وإذا هذا التجهم في هذا الوجه لا يدل على أية غضاضة في تلك النفس! إنما الأمر جميع الأمر أن الرجل تنوء به جلائل من الأمر فيها ما يسر وما يسوء، وفيها ما يبسط أسارير الوجه وفيها ما يربد ضواحيه، ويعكر نواحيه، وذلك الحظ الذي يدفعك إليه وهو في إحدى الحالين. فلو ابتغيت قبل أن تطالعه عرافا أو ضارب تخت رمل أو «فاتحة كوتشينة» لكان أرفق بك وأبين لحظك معه! •••
وإذا كان في بعض طلعت حرب ما لا يعجب بعض الناس فلأنهم لم يفهموه، وإذا كان فيه ما لا يجمل بالرجل العظيم، فذلك أيضا من خلال الرجل العظيم!
Página desconocida