القلب (هذا العضو الذي لا يشتمل إلا على الدم) مقرّ العواطف ومكان الحب، وأقامت على ذلك ألسنتها ولغاتها، ونطق به شعراؤها فقالوا للمحبوب: أنت في قلبي، وقلبي عندك، وجرحت قلبي، وأحرقت قلبي، ومزقت قلبي، وأنت قلبي، يستوي في ذلك الأولون والآخرون، والعرب والعجم، ولقد فكرت في ذلك طويلًا، فتراءى لي أن منشأه، أن الإنسان الأول لما بدأ يضع لغته، ويحرك بالكلمات لسانه، نظر فرأى أنه إذا طلع عليه الحبيب أو أبصر الجميل، أو خاف أو ارتقب شيئًا، خفق قلبه واضطرب في صدره، وإذا فكر فأطال التفكير أحسَّ بألم من رأسه، فاستقر في وهمه أن الرأس مكان الفكر، وأن الصدر محل العاطفة والحبّ، والله أعلم!
ولما سَمَتِ البشرية ووضع عِلْمُ النفس، أقاموه على التفريق بين الحياة الانفعالية القائمة على اللذة والألم، والحياة العقلية المبنيَّة على المحاكمة، والحياة الفاعلة المعتمدة على الإرادة، وليس معنى هذا أن لكل من هذه الحيَوات حدودًا تحدها، ومنطقة هي لها لا تتخطاها، لا وليس هنالك عاطفة خالية من العقل، أو عقل لا عاطفة معه إنما نسمي كلَّا بالغالب عليه والظاهر فيه، فالقضية المنطقية (المحاكمة) من العقل، الإنسان حيوان، وسقراط إنسان، فسقراط حيوان، هذه مسألة عقلية، لكنك قد تصل بها إلى نتيجة موافقة، تأتي بعد طول بحث عنها فتقترن بها لذة، واللذة مسألة عاطفية. واللذة بالشعور بالجمال مسألة عاطفية ولكنها لا تخلو من محاكمة خفية هي أن كل جميل يلتذ به وهذا جميل فهذا يلتذ به، أو أن المنظر الفلاني لذَّني لأنه جميل، وهذا قد لذني، فهذا جميل.
وإذا نحن فرقنا بين العاطفة والعقل بهذا الاعتبار، وجعلنا كل حادثة نفسية تقوم على اللذة والألم من العاطفة، وكل حادثة تعتمد على المحاكمة من العقل، وجدنا أعمال الإنسان كلها تقوم على عواطف، ووجدنا العقل، أعني المحاكمة المنطقية الواضحة لا الخفية أضعف الملكات الإنسانية وأحقرها وأقلها خطرًا في نفسها، وأثرًا في حياة صاحبها، وليعرض كل قارئ أعمال حياته يجدها كلها عواطف تسيِّره، ووجد أنه قلَّ أن يعمل عملًا، أو يسير خطوة بهذا العقل المنطقي الجاف.
1 / 27