ضدان ما استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضد
لقد قلت لي إن الإنسان ترقى كثيرا، وأنا أجاريك وأقول: رقي، ولكن في الحقيقة ليس هذا سوى تحول أو تغيير مظاهر دون أقل إفادة حقيقية، أعني دون أن يزيد له شيء عن شيء، تأنق في مأكله وملبسه وسكنه، فعلى قدر ملذته هذه دفع لها ثمنا من قصر حياته ومضايقته لحريته ومن أمراضه وتعبه وشقائه. ترقى في نفسه وفي تصوره، فعلى قدر الزيادة زاد في ضعف جسمه وفي آلامه الروحانية.
يضربك زيد فيوجعك فتتألم في جسمك وفي نفسك؛ لأن ما يتألم منه الجسم تشعر به النفس، وما تتألم منه النفس يؤثر على الجسم وبعد ذلك يسكن الألم فتشعر بلذة، ثم يجازى زيد فترتاح نفسك، وقد تكون مجازاة زيد - إن رأسا أو بواسطة - لأنه على كل يجب أن يدفع ثمن عمله، إما بعذابه الجسمي مضاعفا أو بعذابه الروحي مضاعفا، إذا لم يشترك الجسم والروح في الثمن لسبب ما لأنه إذا تألم الجسم فقط يجب أن يكون على قدر التألم الجسمي والروحي، وإذا تألمت الروح فقط يجب أيضا أن تكون آلامها كآلام المعتدى عليه جسما وروحا.
يتفنن الإنسان بتحضير المأكولات اللذيذة فيتلذذ بها، فتقوى به حاسة اللذة ويصير على قدر اللذة من اللذيذ يشعر بالكره من الكريه،. لقد أصبح الإنسان الآن يطير في الهواء وينتقل بسرعة من مكان إلى مكان؛ فعلى قدر فرحه بالسرعة صار يتأفف من البطء، ولربما ما يعده الآن بطئا كان يعده من قبل سرعة يفرح بها. والأمثلة على هذا هي في كل شيء؛ لذا ترى أن النسبة مهما تغيرت المظاهر هي دائما بين التبادل محفوظة وتراها أيضا واضحة فيما سن له من اللوائح والشرائع وما استنبطه من القواعد، قصد ذلك أو لم يقصد، عرف هذه الحقيقة أو لم يعرف؛ لأنه لا يمكنه أن يخرج عن الطبيعة، فهو منها، لا، بل هو مجتمع الممالك الثلاث وهيأة للعالمين المادي والروحي.
لقد قال الكتاب: أحبب قريبك كنفسك، وافعل بغيرك ما تريد أن يفعله غيرك بك؛ لأن الأنانية الإنسانية تلزم الإنسان أن لا يرضى لنفسه إلا كل خير وراحة، فمن أحب قريبه كنفسه أراد له طبعا ما يريده لنفسه، وعامله كما يعامل نفسه. ولما كان التبادل بين الناس عظيما بالنسبة لجمعيتهم الإنسانية ولحالتهم المعيشية ولاشتباك مصالحهم بعضهم مع بعض، كتبت هذه الحكمة استنادا على هذه القاعدة تخفيفا لآلامهم بعضهم من بعض وتقوية لجمعيتهم ضد الكائنات الأخرى؛ لأنهم بما يدخرون من القوى الإيجابية في ذواتهم بعدم إضاعتها في تكافحهم مع بعض؛ يقاومون سلبية تلك الكائنات الأخرى. هذا ما قيل فيما مضى وكان دينا، وهو لا يختلف كثيرا معنى عما يقال اليوم قانونا: إن حرية المرء يجب أن تنتهي حيث يبتدئ واجبه نحو الغير، فمن هنا يتضح أيضا أنه لم يخرج عن هذه القاعدة لا في دينه ولا معاملته الاجتماعية إلا تراه في صلاته لخالقه يعطي ليأخذ، يقرب القرابين لينال الجزاء، ينذر النذور ليحصل على ما يرجو، يسبح ويمجد لينال المغفرة، وهلم جرا مما هو ظاهر جلي في كل أعماله وأحواله وأفكاره إن روحيا أو جسديا، فعلى هذا التوازن السلبي والإيجابي انبنت سنة التبادل والأخذ والعطاء، وهي أيضا الأس الذي منه ظهر العدل، وما العدل سوى التوازن، فعلى قدر الأخذ يجب العطاء، وعلى قدر الأذية يجب التعويض، وعلى قدر التعب تجب الراحة. واعلم أن ما قيل بهذا المبحث عن الإنسان يقال أيضا عن الحيوان، وينطبق على كل شيء آخر بمظاهر وأشكال وطرق شتى؛ لأن قانون التوازن يسري على كل ما في الأكوان والعوالم.
فقال نجيب: ولكن إذا صح هذا - ولا أراه إلا صحيحا - فبماذا تعلل أسباب الانحلال والانقلاب والتغير؛ إذا كانت دائما نواميس التوازن محفوظة، والتبادل بالقسط العادل حقيقيا ؟ فتبسم الشيخ، وقال: بورك فيك يا نجيب! إن سؤالك هذا لم يفاجئني على غرة، بل كنت متوقعا إياه منك وسأجيبك عليه في الغد إن كان في العمر بقية.
وكان الاثنان - نجيب وفريد - ينصتان بكل انتباه إلى كل كلمة كان الشيخ يلقيها، غير أن فريد - وكان لم يعتد على ترويض فكره على مثل هذه المباحث - قد استفزه الفرح وأخذ يقبل نجيبا شاكرا له استصحابه معه وتقديمه إلى الشيخ، ثم قام إلى الشيخ يصافحه مظهرا له اغتباطه بما سمع منه راجيا أن يسمح له بالعودة إليه ثانيا، فأجابه الشيخ إذا كانت هذه المسائل مما ترتاح إليها وتعرف من نفسك القدرة على فهمها فعلى الرحب والسعة. والآن فإلى الملتقى بالغد.
الفصل الخامس
العوامل المساعدة على التكوين هي نفسها المساعدة على التحويل في ظروف أخرى. ***
Página desconocida