En el valle de las preocupaciones
في وادي الهموم
Géneros
ولما جلسنا سألنا الدكتور عن حاجتنا، فحكى له مختار كل شيء، فقام إليه الطبيب، ووضع نظارته على عينيه، وفحصه، وجس نبضه، ووضع سماعة على قلبه، وفتح عينيه، وجس حلقه، ثم أخذه في غرفة مستترة ليرى ما خفي من جسمه، ثم عاد وهز رأسه، وجلس صامتا، وكان مختار أصفر يرتجف من الخوف، فسألت الطبيب بالفرنسوية عن المرض، وكان مختار لا يعرفها، فابتسم ابتسامة برد لها الدم في عروقي، وقال: إن الإصابة بسيطة، ولكن هل أنت قريبه؟ قلت: لا، قال: إنه يشفى سريعا، ولكن مرضه ينتهي بالجنون، فوجمت من هذه الكلمة، وقلت: راجع نفسك أيها الطبيب، قال: أنا متحقق مما أقول، وأول قاعدة عندنا في فن الطب هي أن لا نضر المريض وأن لا نكذب عليه، قلت: ومن أين عرفت أن مرضه ينتهي بالجنون؟ قال: لأنه ورث الداء من أبيه ثم أصيب وهو صغير السن، وهو مفرط في صحته، ويشرب الخمر كثيرا، ويتناول الحشيش وما يتبعه.
وعند ذلك رأيت مختارا مهتما بحديثنا، فقلت له قبل أن يسألني: إن الطبيب يقول إن الإصابة بسيطة، ويجب عليك أن تمتنع منعا باتا عن الخمر والدخان والعنبر والنساء والقمار؛ لأن الأولى تضعف الكبد، والثاني يضعف الرئتين، والثالث يضعف العقل، والرابع يضعف الجسم كله، والخامس يؤثر على الجهاز العصبي.
وعند ذلك تناول الطبيب قلما، وبقي يكتب طويلا في دفتره الخاص، ثم أخذ ورقة، وبقي يكتب تذكرة الدواء، ثم أعطانا إياها، ووصف لمختار طريقة استعمال الحبات وطريقة شرب ما في الزجاجة، ثم قال له: عد إلي بعد خمسة عشر يوما، ثم ودعنا وخرجنا من غرفته الخصوصية، فمررنا بغرفة العمليات، فرأينا منظرا استوقفني طويلا، وهو منظر ذلك الشاب الذي ظننته تلميذا وهو نائم على السرير الموجود في وسط القاعة، وهو مكشوف الجزء الأسفل من الجسم، ومساعد الطبيب يعالجه بالدواء الموضوع في أعلى الغرفة، فلما رآنا الشاب خجل خجلا شديدا، واحمر وجهه، وأغمض عينيه، فقلت في نفسي: ما كان أغناه عن تلك اللذة التي سببت هذه الرقدة ...!
ولما خرجت من عتبة دار الطبيب وشممت الهواء النقي أحسست بأني خرجت من الجحيم إلى النعيم، ولكن نظرت فإذا بمختار بجانبي، فقلت: لا تزال معي قطعة من النار يحملها ذلك المسكين، وذكرت كلام الطبيب فبكى قلبي وبكت عيناي على ذلك الغصن الرطيب الذي تقصفه المنون قبل الأوان.
ولما بلغنا ملتقى الطرق، افترقنا ونحن صامتان، فذهب هو إلى داره، وذهبت حاملا تلك الذكرى المؤلمة.
الفصل الخامس عشر
ولا يمكن لأي إنسان له عواطف ويحس بآلام الناس ويتصور حال مختار في مرضه، حتى يذرف الدمع السخين، فلقد أمسى هذا المسكين يستر فقره بقليل المال الذي يحصل عليه بعد أن كان يلعب بالذهب لعبا في أيام إقبال الدهر، وأمسى يعالج داء أعيا الأطباء طرا، لا يدخل جسما حتى يخرج منه بالحياة، وفقد مختار أمه فأي هم أكثر من همه، لا سيما وكان قبل ذلك بشهر واحد ناعم البال سعيدا، يحظى بوصل حبيبته، ويصرف المال بدون حساب، فهل كان يخطر بباله أنه بعد ذلك الشهر سيكون فقيرا مدقعا، ليس له في كل يوم إلا مبلغ زهيد لا يكاد يكفي ولدا من أولاد الأغنياء ثمن ألاعيب، هل كان يخطر ببال مختار أن أمه تموت وتتركه هو وأخته في بحر هذه الحياة، فتتقاذفهما أمواج الفقر، وتعبث بهما رياح الحاجة والشقاء؟!
نعم، كان لمختار وأخته بيت، وكان لهما خادم يخدمهما، وكان مختار يلبس ملابسه التي كان يلبسهما في ثروته، ولكن قلب مختار وقلب أخته كسرا وخيم الحزن على نفسيهما، فلم يكن مختار يبتسم، ولم تكن أخته تضحك ضحكة، على أنها منذ شهر أو شهرين كانت تملأ البيت بصوت ضحكها.
ماذا يصنع مختار إذن وهو في مرضه وفقره؟ أيلجأ إلى حبيبته منيرة وهو لا يدري كيف تقابله، أم يلجأ إلى أخته وهي أقرب إليه؟! إنه المسكين لجأ إلى أخته وبدأ يطلب السعادة المنزلية، ولكن الصيف ضيعت اللبن، وذهبت السعادة ولم تنتظر مختارا، فليته أتى منذ عام أو عامين ...
مسكين أيها الشاب الذي أضاعك الحظ وأصابك الدهر بكل أنواع المصائب، وكم شاب مثلك نراهم في الطريق، فنمر بهم ولا نعيرهم نظرة واحدة، وهم ينظرون إلى وجوه الناس الأغنياء، كأنهم يلتمسون الرحمة منهم، فيلقي الغني عليهم نظرة احتقار واستهزاء وكراهية!
Página desconocida