وتعددت المقابلات بيننا والخروج إلى الحدائق العامة، وكنت أعود بها إلى بيتها فى الليل، فتدعونى إلى مقام قليل، فألبى ونذهب نتحدث كأننا رجلان لا رجل وامرأة. فرأيت منها - شيئا فشيئا وعلى مر الأيام - ما أقنعنى أنها ليست الفتاة التى أحببتها فى صغرى، وأنها لا أكثر ولا أقل من امرأة كغيرها من النساء. ولا أدرى الآن وأنا أكتب هذه السطور أى شىء كنت أحسبها قبل أن أتبين أنها ليست سوى امرأة، ولكن الذى أدريه أنى ظللت أحبها على الرغم من ذلك وأنى جعلت أحاول أن أقنع نفسى بأنها كما كنت أتصورها - على الأقل فى حقيقتها الكامنة، ولكن حبى القديم لها تغير.. فلم يعد فيه تعلق بخيال، بل صار حبا لامرأة معينة. وليس فى هذا ما يدعو إلى العجب، فإن الرجل يحب المرأة لأنها امرأة ولأن فيها من بواعث الإغراء ما يكفى لإثارة الرغبة فيها والتعلق بها، ولكن هذا شىء لم أكن قد تعلمته فى تلك الأيام، فرزقنى الله فى شخص «تفيدة» معلما لا يفتر ولا يتردد ولا يترفق بالمثل العليا وصور الكمال وغير ذلك من الأفلاطونيات السخيفة. وكان أول ما تعلمته - أو من أول ذاك - أن من الممكن أن يحب الرجل حبا عميقا طاغيا امرأة لا يحترمها ولا يرى لها مزية ولا ينطوى لها على إكبار أو مودة أو صداقة، ولا يستطيع أن يتفاهم معها ويشركها فى نفسه وخواطره وآماله ومخاوفه وعواطفه.. امرأة لا يرى فيها إلا أنثى منحطة.. بل امرأة يشعر بالشقاء وهو إلى جانبها وبالملل والضجر من قربها وحديثها. نعم تعلمت ذلك.. وكان هذا لما تعلمته شيئا فشيئا يبدو لى مدهشا، ويخيل إلى أن الحال فيه مقلوب والآية معكوسة، ولكنى الآن أضحك من نفسى وأسائلها: ولم لا يعشق الرجل بالله امرأة كهذه؟ وأين ترانى كنت أعيش يومئذ؟ فلم أر أن كثيرين من الرجال يعشقون نساء ليست لهن أية مزية.. نساء هن فى الحقيقة كوم عظيم من صنوف الانحطاط.. ونساء يحببن رجالا ساقطين منحطين لا يساوى الواحد منهم ملء أذنه نخالة ولكنى كنت فى ذلك الوقت أعتقد أن الحب شىء سام جدا، وأنه سماوى لا ينبغى أن يخالطه إلا الإعجاب والعبادة.
وكانت كل لحظة أقضيها مع تفيدة، تزيدنى إيقانا بأنها عاجزة عن السمو بنفسها إلى المرتبة التى وضعتها فيها فى حداثتى. وكان يزعجنى وينغص عيشى ويسود الدنيا فى عينى هذا التباين بين الواقع والصورة القديمة التى احتفظت لها بها فى نفسى.. وتغير حبى لها كما قلت واشتهيتها وصبوت إليها، ولكن هذا التحول لم يعفنى من التنغيص والعذاب. وقد كنت أخجل مما صرت أحسه لها، وأعنف نفسى على ذلك وأزجرها عنه. وكانت هى ترى ضبطى لنفسى ورياضتها على العفة، وتعلقى بخيالاتى وسخافاتى وأوهامى، فتمتعض وتظهر لى التأفف والتبرم ولا تكتمنى الضجر الذى يثيره حديثى، ولها العذر. وقد كنت أرتفع بالكلام عن طبقتها.. وأتركها على الأرض، وأذهب أحلق فى أجواء لا تستطيع أن تذهب ورائى فيها. وكنت أنشدها ما أقوله فيها من الشعر، فيسرها أنها وجدت شاعرا يحبها كل هذا الحب ويتغنى باسمها، وأن يقرأ الناس ما يقوله فيها وما يصف به وجده لها. ولعلها كانت ترى فى هذا إعلانا.. ولكنها لم تكن تفهم ما أنظم أو تقدره، وكثيرا ما كانت تمط شفتيها ساخرة. وربما قالت لى: «ألا تستطيع أن تقول كلاما حسنا»؟ فأهز رأسى وأقول لنفسى إنى وقعت وقعة سوداء، وإنى يجب أن أصد عنها فإنها لا تصلح لى ولا أصلح لها لأنها لا تفهمنى.. ولا أنا أيضا مع الأسف، أستطيع أفهم هذه الطبيعة المادية التى يكون فيها الجمال ستارا لكل ما هو منحط.. وكانت تدعونى كل ليلة إلى دخول بيتها حين نعود إليه، وكنت ألبى فى بعض الأحيان.. فأقعد معها كالصنم من شدة الكبح، فلا تلبث أن تتثاءب فأقوم وأنصرف فلا تعنى بأن ترافقنى إلى الباب.. فيسوءنى ذلك، ولكنى أراجع نفسى وأقول: إنه ليس بيننا كلفة فإننا صديقان قديمان. وقالت لى ذات ليلة، وقد دنونا من البيت: «لا تغضب إذا لم أدعك إلى الدخول» فسألتها بوقاحة: «هل هناك غيرى»؟ فلم يسؤها ذلك ولم يظهر عليها الامتعاض منه، وقالت بابتسامتها الهادئة: «يخيل إلى أنك لا تحب الوجود معى فى البيت.. إنك شاعر، تحب الرياض والبساتين والماء والسماء والنجوم.. أليس كذلك»؟ فضحكت وإن كنت لم يفتنى ما فى كلامها من التهكم والزراية، وحدثت نفسى أن هذه دعوة صريحة لا يليق أن أغضى عنها مخافة أن يؤدى الإغضاء إلى القطيعة والجفوة.. وكانت هذه مغالطة منى لنفسى، فقد كنت أنا أريد ذلك ولكنى كنت أصرف عنه نفسى وأفطمها بجهد، فقلت لها: «بل سأدخل الليلة - إذا سمحت بالطبع - وسترين أنى أحب بيتك كما أحبك».
قالت: «صحيح»؟
وأحسست من نبرة صوتها إنها ارتاحت إلى كلامى، وإنها استغربته فى الوقت نفسه.. ودخلنا، وأغلقت الباب وراءها كعادتها.. فلم أمهلها بل طوقتها بذراعى فى الدهليز وقبلتها على خدها، فأدارت وجهها ومنحتنى فمها..
وكنت أسخط على نفسى بعد كل ليلة وأرميها - نفسى - بالانحطاط، ولكنى ألفت ذلك - فصار الأمر عادة كالتدخين وغيره مما يعتاده المرء ويتأفف منه ويود لو كف عنه، ويمضى فيه مع ذلك ولا يكلف نفسه جهد المقاومة وعناءها. وبقينا هكذا زمنا غير قصير، وعرفت أن لها أصدقاء غير قليلين.. فقد كنا نلقاهم فى الطريق، فيومئون إليها بالسلام فتبتسم لهم، ولكنهم كانوا لا يدنون منها ولا يكلمونها كما فعل الضابط السودانى فى حديقة الحيوان. ولم أكن أعبأ بذلك، فقد كنت أرى أنى منفرد بها وإن كنت لا أعلم ماذا تصنع فى غيابى؟ فما كان يسعنى أن أظل معها كل ساعة. وكنت أروض نفسى على الاطمئنان والثقة لحاجتى إليهما، لا لأنى واجد ما يدعو إلى الثقة والاطمئنان..
ولم يكن هذا المنطق يقنعنى أو يريحنى، ولكنه كان المنطق الذى اضطررت إليه.. على أن الأمر لم يطل، فقد جاء يوم اعتذرت لى فيه بأنها مسافرة.. فاستغربت، فما أعرف لها من تسافر إليه، ولكنى سكت ولم أقل شيئا. ورأيتها بعد أيام، فسألتها عن رحلتها ورجوت أن تكون كما أشتهى لها.. فقالت بضجر متكلف لم يخف على: «أوه أبدا.. كانت رحلة مملة.. إنك تعرف هؤلاء الفلاحين وكيف يعيشون.. ليس فى حياتهم أى تسلية».
ومضت أيام، فعادت تعتذر من التخلف عن لقائى لأنها مدعوة فى بيت صاحبة لها. فلم أجادل، وتركتها، وتكرر بعد ذلك الاعتذار، وتوالى انقطاعها عنى. وكنت أحيانا أقسم أن أهملها وأبقى أياما لا أسأل عنها، لأعرف أعادت أم هى لا تزال مع هؤلاء الذين ظهروا فجأة فى حياتها، ولم أسمع بهم مرة واحدة قبل ذلك كل هذه الشهور. وأحيانا كنت أضعف فأذهب إلى بيتها، فتفتح لى وتلقانى كأنها كانت معى قبل ساعة، ولا تسألنى لماذا غبت ولا ماذا كنت أصنع وكيف كنت أقضى الوقت.. لا.. لا شىء من هذا على الإطلاق، فأشعر بالغصة ولكنى أكتم الألم..
وكنا قد دخلنا فى الشتاء، وكنت أعرف أنها لا تحب أن تكون فى غير بيتها بعد العشاء على الأكثر.. فذهبت إلى قهوة قريبة من مدخل الحارة، كى أرى ما يكون. وانحدرت الشمس وأنا لا أرى شيئا.. نعم رأيت ناسا كثيرين راكبين أو ماشين وباعة متجولين ومركبات الخ الخ، ولكنى لم أرها تدخل أو تخرج. وكانت نفسى لا تفتأ تنازعنى أن أنهض منصرفا، وكنت أحدثها بأن من السخافة والحماقة أن أتعب نفسى بهذه الجلسة المضنية لأعرف ما أعرف. وهل فى الأمر سر؟ أليست قد ملتنى ونبت بى وجفتنى واعتاضت منى سواى كائنا من كان هذا السوى؟ وما حاجتى إلى علم ما أعلم؟ ولماذا أحقر نفسى وأمرغ وجهى فى التراب وأضعه عند قدمى امرأة سوء كهذه؟ وأهم بالنهوض ولكنى أحس أنى قد سمرت إلى الكرسى أو لصقت به.. ويتجسد وهمى ويضحكنى أمرى أحيانا ثم تغلبنى الكآبة والحزن - على نفسى وعليها - ثم أرانى غضبت وثرت وهاجت نقمتى على هذه المستهترة التى لا تبالى ولا تدرك. ثم أراجع نفسى فأسألها: «ماذا تريدين منها أن تبالى.. أمن العدل أن أطالبها - أو أتوقع منها - أن تحفل ما لا تدرك»؟ وأستسخف من نفسى أن أروح أنتظر من هذه العامية - على الرغم من أنها تعلمت شيئا - أن ترتفع بنفسها إلى حيث ارتفعت أنا. ثم أرجع فأقول: إن المسألة ليست مسألة تعليم أو ثقافة، وإن كان التعليم يهذب.
وانقضى النهار فى هذه الهواجس أو الخواطر، وأقبل الليل ومعه البرد.. فاحتجت أن أقوم وأن أتمشى لأشعر بالدفء، فرحت أتمشى فى الحارة وعينى على بيتها وأنا فى حماية الظلام. فسمعت بعد قليل صوت باب يفتح ويغلق فدنوت على أطراف أصابعى فاذا هو بابها، وإذا الخارج منه هو الضابط السودانى. وكاد يختفى فى الظلام، ولكن الباب فتح مرة أخرى وخرج منه صوت كهذا: «هسسس» فوقف الرجل وتلفت ثم كر راجعا ووقف أمام الباب. وكنت على مسافة مترين منه، فأدرت ظهرى إليه ولويت عنقى لأكون أقدر على السماع، فسمعتها تقول له: «الساعة الثالثة تماما.. فإنى أخشى أن يجىء ذلك الثقيل للسؤال عنى».
فمشيت.. ولم أقف لأسمع رده.
Página desconocida