فقال: «كلا.. أنا كما كنت.. واسمعى ولا تقاطعى وإلا بحثت عن دودة ووضعتها لك فى قفاك.. إذا حدث يوما أن صار الدكان للإيجار فاخبرينى».
فقالت: «لغة التاجر أيضا.. ولكنى سأستعيرها منك.. ثق أنك مفضل عندى على كل مستأجر لهذا الدكان إذا خلا يوما من الأيام.. لم يخطر لى أن هذا ماتنطوى عليه لى.. ومن التى تتصور أن وضع الديدان فى قفاها يكون علامة حب؟ ولكنك كنت دائما غريبا.. على كل حال، المسألة المهمة أن الدكان مزحوم. ليس خاليا.. رحت أستبضع فامتلأ.. صحيح أنه امتلأ بأشياء لا قيمة لها.. ولكنى لم أكن أعرف أن ما غص به عديم القيمة.. المهم أنه ممتلئ، وأظنك تدرك أنه ما دام مملوءا فلا مكان هناك لجديد.. يجب الصبر حتى أخليه مما فيه.. هذا يحتاج إلى وقت. ومن يدرى، ربما كان الإخلاء أصعب من الملء. ولكنك تفهم.. قل إنك تفهم وتعذر..».
فقال ببساطة وهدوء: «لا بأس. لا بأس.. إن دكانى أيضا مزحوم . ولكنه مزحوم بالنفيس الغالى.. ولست أريد أن أخليه - لا أستطيع أن أخليه حتى لو أردت. وهيهات أن أريد أو أستطيع.. أنه مكتظ منذ خمس عشرة سنة، وسيظل مكتظا طول العمر. وقد عرفت أن مفتاحه معك.. فى يدك.. فادخلى حينما تشائين. وعسى أن تشائى.. عدينى أن تحتلى مكانك من الدكان بعد أن تفرغى من أمر دكانك.. وفى أثناء ذلك نبقى كما كنا دائما.. صديقين حميمين».
ولم يسع جليلة الا أن تفكر فى أمر الرجلين - مراد الذى تعرفه منذ الطفولة، والذى كان يسود عيشها بعبثه - لأن هذا كان تعبيره الخاص عن حبه لها - وقد ظل بعد ذلك يحبها، ولكنه أحجم عن طلب يدها لرقة حاله بالقياس إليها. وقد صار تاجرا، ولكنه لم يثر لأنه لا يربح إلا الكفاية.. ومن هنا إحجامه إلى الآن عن خطوبتها كما حدثها. وقد زاد على ذلك أنه كان لا يتصور أن ترضى به فتاة مثلها، فكتم حبه وطواه فى صدره، وسأل الله المعونة على احتمال اليأس المخامر. وهو ظريف كيس لبق دائم البشر واسع الإدراك رحيب الأفق حلو الفكاهة ... وزكى الغنى الذى لا ينفك مهموما بمركزه المتخيل والذى لا يتقى فى سبيل الحرص عليه أن يجرح قلب فتاة ويتهمها بالخفة والطيش فى سلوكها، وبأن سيرتها توشك أن تسىء إلى مركزه الموهوم هذا. وقد أحبته.. هذا صحيح، ولكن عينها فتحت، فهى تراه الآن على حقيقته. وليس يسعها إلا أن تفكر فى حياتها معه كيف يكون، إذا كان كل ما يباليه فى الدنيا هو هذا المركز.. ولكنها خطيبته وقد قبلت أن تكون زوجته.. فما العمل الآن؟
وسألت نفسها: أى الرجلين أحب إليها؟ وحيرها الجواب.. فهل هذا الذى تشعر به لمراد حب؟ إن يكن هذا فهو هادئ جدا.. أما زكى فإن الدكان كما قالت لمراد مزحومة.. صحيح أنها مزحومة بما لا قيمة له - كما ظهر الآن - ولكنها مزحومة.. فهل تخلو يوما؟ هذه هى المسألة.. وإلى أن تخلو لا سبيل إلى شىء.
ولو أن زكى ذهب إليها فى ذلك الوقت ولاطفها وضاحكها ومازحها واعتذر إليها - ولو كانت هى فى رأيه المخطئة - لعادت المياه إلى مجاريها كما يقولون، ولارتفعت قيمة ما فى الدكان وارتدت إليه نفاسته. ولكنه أراد أن يلقنها درسا، فأعرض أياما وجفاها وانقطع عن زيارتها، ولم يكفه ذلك.. بل أرسل إليها خادمة من عنده تبلغها تحياته وتسألها باسمه عن صحتها، وأوصاها أن تخلق مناسبة لتقول لها أن سيدها يكثر - فى هذه الأيام - من زيارة بيت خالته - وكانت لها بنت فى مثل سن جليلة - ليثير غيرتها وإشفاقها من أن يطير العصفور من يدها، فأفلح ولكن فى استثارة نقمتها عليه.. فقالت لنفسها إن رجلا يهينها ويعرض بها ويرميها بأن سلوكها من شأنه أن يسىء إلى سمعته وأن يضر بمركزه، ثم لا يجعل هذا بينه وبينها بل يفضى به إلى أمها، ثم لا يكفيه هذا بل يجفوها ثم يغلو فى تعمد الإساءة إليها فيرسل إليها خادمة تبلغها أنه انصرف عنها إلى سواها.. مثل هذا الرجل خير له ولها أن ينقطع ما بينهما. •••
على أنها لم تتعجل - وإن كان عزمها قد صح على الفراق - فقد كانت شديدة الثقة بنفسها والاعتداد باستقلالها وإرادتها الحرة، فلم تر ما يدعو إلى العجلة بعد أن انتوت أن تفصم العروة. واستوى عندها أن يكون ذلك يوم انتهت إلى هذا العزم، وأن يكون بعده بأيام أو أسابيع. فقد كانت واثقة أنه ما من شىء يستطيع أن يحولها عنه. وصار عجبها أن الدكان خلا بسرعة مما كان يغص به. ولم تكن تلقى فى تلك الأيام مرادا، لأنها أرادت أن تختبر نفسها لتعرف ما تنطوى عليه له.. فأدهشها أنها تحس وحشة، وأنها تشتهى أن تكون معه، وأن تستعيد ما تشعر به فى مجلسه من سكينة النفس واطمئنان القلب والرضى الهادئ. وزاد شوقها إليه أنها كتمت الأمر كله عن أمها. ولو كان مراد إلى جانبها، لكان خليقا أن يفهم ويعذر ويعطف وأن يسرى عنها بفكاهته التى لا تخونه، وأن يغذيها بقوته التى تجعله لا ينسى أن يضحك وهو يفجع فى أمله الذى عاش به سنين وسنين..
وتعجبت لسرعة استيلاء مراد على هواها، فما لقيته إلا مرتين بعد طول الانقطاع والغيبة. فهل هذا هو الحب الذى يقال عنه أنه يكون من أول نظرة.. أم تراها كانت تحبه منذ عرفته وهى لا تدرى، وكان حبها له راقدا كامنا ينتظر فرصة للظهور؟ لاشك أنها كانت تحبه، كذلك قالت لنفسها وهى راقدة على سريرها بعد الغذاء. نعم كان يقسو عليها ويركبها بالمزاح المتعب، وكان يختبئ لها وراء الأشجار ثم يفاجئها بصرخة ترعبها فيضحك ويقهقه. وكان يجرى وراءها حتى تنقطع أنفاسها وتقع من الإعياء.. فيحملها، ولكنه لا يرحمها، ولا يترفق بها.. بل يقرصها ويعضها، فتصرخ وتصيح وهو يضحك ولا يبالى.. ولم تستطع أن تنتقم منه إلا مرة واحدة حين أرسلت عليه خرطوم الماء فأغرقته، فجعل ينتفض من البرد. ولكنه كان يضحك مع ذلك ولم يسخط عليها.. ولم ينطق بكلمة تشى بالألم أو النقمة أو الغضب، بل احتمل ذلك. ولما رق له قلبها وأقبلت عليه بالاعتذار إليه وطلبت الصفح منه، لم ينس دعابته وعبثه ونبحها كما يفعل الكلب «وو.. وو..» ففزعت. فما كانت تتوقع شيئا من ذلك، ومضت عنه مغيظة محنقة معتقدة أنه شر صبى فى الحارة، وكان هو يقهقه وينطوى من شدة الضحك غير عابئ بالماء والبرد.. فتالله ما أقواه. ومع ذلك كانت لا تلعب إلا معه.. وإذا أقبل عليها غيره من الصبية نفرت. نعم، لا شك أنها كانت تؤثره، ولماذا لا تقول إنها كانت تحبه؟ صحيح أنها لم تكن تعرف الحب.. ولكنها تعرفه الآن، فقد صارت خبيرة مجربة.. فلماذا لا تسمى الشىء باسمه الصريح؟
وارتدت من الماضى إلى الحاضر، وذكرت كيف غاصت عجلتها فى الرمل ووقفت حائرة.. وإذا به يظهر كأنما شق الأرض وخرج منها - كما كان يفعل وهو صبى - وينطرح على الأرض بلا كلام أو سؤال، ولا يبالى ما يصيب ثيابه، ويجرف الرمل بيديه الكبيرتين ويحمل الحجارة.. يفعل كل ذلك ولا يرفع عينه إلى.. ثم يعرفنى فيتلطف فى تذكيرى بنفسه. ويتظاهر بنسيان اسمى وهو منقوش ومحفور فى قلبه.. وتنازعه نفسه أن يفضى إلى بحبه، فيشير إليه من بعيد فى معرض الكلام على ذكريات الحداثة.. ويعرف أنى مخطوبة، فيفقد كل أمل. ولكنه يتجلد ويتكلف الابتسام ويمضى فى مؤانستى بحديثه، كأنما لم ينهد ولم يتقوض بنيانه.. وهل أنسى كيف ثار وانتفض حين رويت له ما أهاننى به زكى؟ فقد كانت وثبته تلك دليلا كافيا على عمق ما يجن لى من الحب.. ومع ذلك أبت له الكياسة والأدب إلا أن يكبح نفسه ويردها عن النيل من زكى مخافة أن أكره ذلك منه.
وظلت تناجى نفسها على هذا النحو، ولا تكتحل عينها بغمض حتى كان العصر.. فقامت ولبست ثياب الخروج، واستقلتها سيارتها الصغيرة إلى دكان مراد، فأقبل عليها يرحب بها، فقالت: «أنت أولى من الغريب».
Página desconocida