الإهداء
1 - التدريب الأول
2 - الدكان
3 - الكآبة
4 - العقد الضائع
5 - الجارة
6 - البحث عن الذهب
7 - تفيدة
8 - الهارب
9 - النسيان
10 - فتاة الحارة
11 - فى رأس السنة
12 - الذى يضحك أخيرا يضحك كثيرا
13 - عقاب اللص
14 - ثمن سيجارة
15 - الببغاء والقط
16 - السيارة المسروقة
17 - ميمى
18 - ليلى
19 - حواء والحية
20 - العقلة
الإهداء
1 - التدريب الأول
2 - الدكان
3 - الكآبة
4 - العقد الضائع
5 - الجارة
6 - البحث عن الذهب
7 - تفيدة
8 - الهارب
9 - النسيان
10 - فتاة الحارة
11 - فى رأس السنة
12 - الذى يضحك أخيرا يضحك كثيرا
13 - عقاب اللص
14 - ثمن سيجارة
15 - الببغاء والقط
16 - السيارة المسروقة
17 - ميمى
18 - ليلى
19 - حواء والحية
20 - العقلة
في الطريق
في الطريق
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازنى
الإهداء
بقلم إبراهيم عبد القادر المازنى
إلى «حياة»
في بعض الأحيان أكون جالسا إلى مكتبى قبل طلوع الشمس، وأمامى الآلة الكاتبة أدق عليها وأرمى بورقة إثر ورقة، وإلى جانبى فنجان القهوة أرشف منه وأذهل عنه، فأحس راحتيك الصغيرتين على كتفى فأدير وجهى إليك، وأرفع عينى لأصبح على بستان وجهك، وأستمد من ابتسامة عينيك النجلاوين، وافترار ثغرك النضيد ما أفتقر إليه من الجلد والشجاعة، وأدفع يدى فأطوقك بذراعى، وأضمك إلى صدرى، وألثم خدك الصابح، وأمسح على شعرك الأثيث المرسل على ظهرك وجانب محياك الوضىء، وأتملى بحسنك وأنشر فى كهف صدرى المظلم نور البشر والطلاقة، فتدفعين ذراعك الغضة وتتناولين ببنانك الدقيقة ورقة مما كتبت، وترفعينها أمام عينيك، وتزوين ما بينهما، وتتخذين هيئة الجد الصارم، وتفيضين على نفسك السمحة العطوف، وأنت مضطجعة على ذراعى، سمتا وأبهة يغريان بالابتسام، وأنا أنظر إليك وفى قلبى سكينة، وجوى من قربك معطر بمثل أنفاس الروضة الآنف فى البكرة الندية. وألمح شفتيك الرقيقتين تختلجان وعينيك تلمعان، فتطيب نفسى بسرورك الصامت، ثم أسمع ضحكتك الفضية، وأراك تغطين وجهك الحلو بالورقة فيستطيرنى الفرح ويستخفنى الجذل، ولكنى أتظاهر بالخوف على الورقة التى لا قيمة لها أن يمزقها أنفك الجميل فترمين رأسك على ذراعي وينسدل شعرك الذهبى المتموج كالستار، وتصافح سمعى من ضحكاتك العذبة موجات لينة. ثم تعتدلين على ساقى، وتدفعين ذراعيك فتطوقين بهما عنقى، وتجذبين وجهى إليك، ولكنك تشفقين على رقة شفتيك من خشونة خدى فتلثمين أذنى الطويلة - وتعضينها أيضا - فأصرخ، فتثبين إلى قدميك خفيفة مرحة، وتخرجين بعد أن خلفت فى صدرى انشراحا، وفى قلبى رضى، وفى روحى خفة، وفى نفسى شفوفا، وفى عقلى قوة، وفى أملى بسطة واتساعا، وفى خيالي نشاطا، فأضطجع مرتاحا وأغمض عينى القريرة بحبك ثم أفتحها على: «صيد حرمناه على إغراقنا
فى النزع - والحرمان فى الإغراق»
أى والله، لولا الإغراق ما كان الحرمان. وهل هو إلا الشعور به من الإسراف فى الرغبة واللجاجة فى الطلب؟
بل أفتح العين على جثة صغيرة حملتها بيدى هاتين إلى قبرها، وأنزلتها فيه، ووسدتها التراب بعد أن سويته لها بكفى، ورفعت من بينه الحصى الدقاق ثم انكفأت إلى بيتى جامد العين وعلى شفتى ابتسامة متكلفة وفى فمى يدور قول ابن الرومى: «لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله أدرى بلوعة الحزن»
وتدخل على زوجتى لتحيينى تحية الصباح، فأتلقاها بالبشر والبشاشة، وأهم بأن أحدثها بما كبر فى وهمى قبل لحظة، ولكنى أزجر نفسى وأردها عن التعزى باللغط. ولو أنى شرعت أحدثها بشىء من ذلك لما فرغت، فما أخلو بنفسى قط إلا رأيتنى أستطيب أن أتخيل فتاتى على كل صورة وكل هيئة وفى كل حالة من حالات الطيش والحكمة، والغضب والسرور، والسخط والرضى، والضحك والبكاء، والعشق والسلوان والنفور والإقبال، والحركة والسكون، واللعب، والنط، والقفز، والسباحة ... ويحلو لى أن أنشئ بينى وبينها أحاديث فى كل موضوع من جد وهزل، ويسرنى أن أسمع نكتها، وأرانى أستملح فكاهتها - وأنتحلها فيما أكتب - وأضحك أحيانا بصوت عال، بل أقهقه غير محتشم، فإذا تعجب لى داخل متطفل على فى هذه الخلوة المحببة إلى نفسى رفعت له وجها كالدرهم المسيح، وهربت بالتباله من الجواب الذى يطلبه بعينه أو لسانه، وتركته يظن بعقلى ما يشاء. وماذا أقول له؟ فى وسعى أن أكذب، فما لباب الكذب مفتاح، ولكن الكذب ينغص على المتعة التى استفدتها من الحوار الذى كان يدور بينى وبين «حياة». •••
وأنت يا «حياة» الجديدة بديل من «حياة» التى فقدتها، لا.. لست بديلا، ولا أنت عوض عنها، ولا أحسبك يرضيك أن تكونى عوضا عما لا يؤاتى. وتلك قد ربيتها صغيرة ودللتها وهى رضيعة بيدى هاتين اللتين أتناول بهما خديك، ولاعبتها وأركبتها ظهرى، وقطعت بها فراسخ طويلة فى الغرفة الضيقة، وسقيتها الماء ورأيتها تمص ثدى أمها وهى ذاهلة عن الدنيا وما فيها - وما هو كائن وما عسى أن يكون - ونحن ننظر إليها مسرورين مستغربين مفتونين بهيئتها، وهى مقبلة على الثدى، ويدها الدقيقة على الثندوة، وأصابعها تتحرك فى لطف وعلى مهل، مستظرفين شفتها المثنية على سواد الثدى حول الحلمة وهى مكبة على الرضاعة.
ولكن فيك مشابه منها. وأنا أغالط نفسى وأزعم أنها لو كتب لها البقاء لما عدتك. ولست تجلسين على ساقي فى الصباح الباكر - كما تفعل تلك فيما أتخيل - ولكنك تقرأين ما أكتب - بعد أن ينشر - وأراك يسرك أن تسكنى إلى، سكون الطائر إلى وكره.
وهل هذا كل شىء؟ لا آدرى.. وأظن - بل أنا واثق - أنك تفهمين ما أعنى حين أقول إنك فصل من كتاب حياة.
وهل أحتاج أن أقول أن اسمكما ليس «حياة».
الفصل الأول
التدريب الأول
«ألا تنوى أن تعلمنى قيادة السيارة»؟
قلت: «إنى أنوى أن أعلمك أشياء كثيرة.. فى أوانها».
قالت: «مثل..»؟ وأمالت رأسها الصغير وألقت إلى ابتسامة - أعوذ بالله من سحرها.
فبلعت ريقى، وقلت: «أوووه.. أشياء كثيرة كما قلت: مثل الرقة واللطف واللين وحسن المواتاة ... أشياء كثيرة».
قالت وعلى فمها - وفى عينيها - ابتسامة المتسامح: «ألا ترانى لطيفة؟..».
قلت: «عفوا.. إنما أعنى أن هذه المسائل نسبية، فقد تكونين فى الواقع ألطف فتاة تزين هذه الكرة الأرضية بوجودها.. وقد أكون أنا لا أحس ذلك ولا أعرفه، لبلادة في أو.. جهل.. أو..».
فأشارت بكفها وقالت: «يكفى.. سأحاول أن أكون لطيفة معك، فكن لطيفا وقل لى متى يكون الدرس الأول؟».
قلت: «الآن.. تعالى.. ضعى هذا المعطف على كتفيك».
فأولتنى ظهرها لأضع عليه المعطف، وكانت تنظر إلى وأنا أفعل ذلك ببطء.
وانحدرنا إلى الطريق وركبنا، فقالت وأنا أهم بالمسير: «ألا تلبس المعطف؟ إن الجو بارد».
فهززت رأسى وقلت: «كلا.. سأتصبب عرقا بعد دقائق - بل ثوان - من ابتداء الدرس الأول، ولكنك تعرفيننى.. لا أهرب من الواجبات مهما كلفتنى».
وقالت: «هل هذا واجب شاق»؟
قلت: «سترين»... ولم أزد.
ووقفنا فى مكان خلوى رحيب لا خوف فيه من أن ندوس طفلا أو نصطدم بشىء، فقلت لها بلهجة الجد: «اسمعى من فضلك.. الآن يبدأ الدرس، التدريب الأول.. فاذكرى دائما أن هذا درس وليس بلعب.. اسمعى الكلام وافهميه واعملى به ولا تحوجينى إلى شد شعرك أو قرص أذنك أو خدك».
وكانت تبتسم حينما شرعت أتكلم، فلما رأتنى جادا لا أضحك ولا يبدو على أنى أمزح، صارت الابتسامة كنور القمر المرتعش على صفحة الغدير الصافى، فرق لها قلبى، ولكنى تحاملت على نفسى وغالبتها وحدثتها - أعنى نفسى - بأن كل شىء خليق أن يفسد إذا لم أظهر الجد.
وقالت بضعف: «إنى مصغية».
قلت: «هذا حسن.. ابتداء طيب.. والآن، ادنى منى.. التصقى بى».
قالت: «لماذا»؟
قلت: «لتتناولى العجلة وتتدربى على إدارتها بالضبط والإحكام الواجبين».
فحاولت أن تتناولها من غير أن تلقى بجسمها على صدرى، وكان هذا متعذرا. وأدركت أنها مترددة، فقلت: «بالطبع ستزهق روحى وتتقصف أضلاعى وتحتبس أنفاسى.. ولكن هذا لا مفر من احتماله».
قالت: «صحيح»؟
فخفت أن تدفعها الرقة والإشفاق على، إلى إيثار العدول فقلت: «إن فى قولى هذا بعض المبالغة ولا شك، ولكنى أعنى أنه إذا كان لأحد منا أن يتردد أو يخشى شيئا.. فإنى أنا الخليق بذلك».
فظنت أنى غضبت أو أن ترددها جرح إحساسى وآلمنى، فقالت: «إنى آسفة».
فابتسمت لها صافحا عنها.. وقلت: «تفضلى..» وتناولت كفيها فوضعتهما على العجلة وأنا أسأل الله أن يلهمنى القوة ويرزقنى القدرة على مقاومة هذا الإغراء. وصار كتفها على صدرى، وشعرها على وجهى، وأرجه فى أنفى، وصفحة خدها الغض المشرق تحت عينى.. فلو مططت بوزى قليلا للمسته شفتاى. وسرنا خطوات ترنحت فيها السيارة كأنها سكرى، وأحسب أن لها - أعنى للسيارة - عذرها.. فما لمست عجلتها كف كهذه، رخصة بضة دقيقة.. وكنت أنظر إليها، فأشعر أنى أوشك أن أرتد إلى عصور الاستيحاش، وأحس أنى أريد أن آكلها لفرط حلاوتها، ولم أكن أحس - وهى على صدرى - أن فى بدنها عظاما من فرط الرقة والطراوة. وكان شعرها يدير رأسى ويسكرنى بعطره الطبيعى. وكانت يدى اليمنى على كتفها، فكنت بجهد أردها عن ضمها إلى.
وقلت لها - وقد وقفنا قليلا لنستريح، فقد كانت جلستها متعبة: «لن تستطيعى أن تختفى عنى بعد اليوم كما فعلت من قبل»
قالت: «كيف؟ ماذا تعنى»؟
قلت: «لا أظنك تعرفين ما أعنى، فمن حقك أن تسألى وتعجبى.. لقد انتقلت فجأة من بيتك فأصبحت يوما فإذا أنت غير موجودة حيث ألفت أن أراك.. لا أدرى كيف تسنى لك أن تنتقلى من بيت إلى بيت من غير أن أشعر بذلك ونحن جاران متقابلان.. ولكنك نجحت.. غافلتنى واختفيت».
فقالت: «على فكرة.. كيف اهتديت إلى البيت الجديد»؟
قلت: «أوه.. هذه حكاية طويلة.. رأيت أخاك فتبعته من حيث لا يشعر.. لو كنت شممت شعرك كما شممته اليوم.. لما احتجت إلى أخيك أو غيره».
فضحكت وقالت: «لم أكن أحسب أنك..» وأمسكت.
فقلت: «قوليها.. ولا تخشى أن تسيئى إلى. نعم، إن فى بعض خصائص الكلاب.. ومن يدرى، لعل الله كان يريد فى أول الأمر أن يخلق من طينتى كلبا ثم بدا له أن هذه الطينة لا تليق بكلب فصنع منها هذا الإنسان الذى يجلس إلى جانبك. ومن هنا بقيت لى حاسة الشم فى الكلاب، ولكن قوتها فى شىء واحد.. ما شممت شعرا إلا بقيت رائحته فى أنفى.. ولو أنك وقفت بين عشرين فتاة وعصبت لى عيناى لاستطعت أن أهتدى إليك وأخرجك من بينهن بأنفى.. بمجرد شم الشعور».
فدهشت وقالت: «هل تتكلم جادا؟»
قلت: «فى وسعك أن تجربى. هاتى عشرين فتاة.. وأرسلى لهن شعورهن وقفى بينهن وضعى على عينى ما شئت.. ودعينى أشمكن. نعم، فى من الكلب هذا.. وليت لى منه مزاياه الأخرى.. بل ليتنى كنت كلبك على الخصوص».
فضحكت وقالت: «ولماذا؟ لا تخف أن تتكلم فإن حديثك لذيذ».
قلت: «أشكرك.. لو كنت كلبك لكان من حقى المعترف به مثلا أن أقعد بين يديك فى حيث تكونين. لا أحرم ذلك ولا يستطيع أحد أن يقصينى عنك، ولو حاول أحد ذلك لعضضته ومزقت ثيابه ولحمه ولأدبته.. نعم.. ولكان من حقى أن أضع رجلى على.. على.. فى حجرك.. وألحس لك وجهك كلما شئت ذلك وأشتهيته.. معذرة فإن الكلب لا يحسن التقبيل.. وهذا هو البديل عنده من القبل.. ولو كنت كلبك يا فتاتى الجميلة لكنت حارسك الأمين، وفارسك الذى لا يقصر ولا يغفل ولا يسهو.. ولو كنت كلبك لكان من حقى على الأرجح - فإنك رقيقة القلب - أن أنام على سريرك..».
فصرخت ووضعت راحتها على فمى فضحكت، وقلت: «لا تخافى فإنى لم أصر كلبا مع الأسف.. أبى الحظ هذه النعمة على المسكين الذى هو أنا».
واستأنفنا الدرس وعدنا إلى التدريب، وأقبلنا على ذلك بعزم لا يفتر وإرادة لا تلين أو تضعف، ثم وقفنا وأراحت يديها وتنهدت وقالت: «تعبت».
قلت: «إنى آسف.. استريحى».
فسألتنى: «هل تعبت أنت أيضا»؟
قلت: «كلا.. إنما تعبت من التفكير».
قالت: «فى أى شىء كنت تفكر»؟
قلت: «هل تصدقيننى إذا أخبرتك»؟
قالت: «لم لا أصدق؟ هل هو شىء غريب جدا»؟
قلت: «نعم.. جدا.. لقد كنت - وأنت على صدرى - أشتهى أن أمرغ نفسى فى هذه الرمال وأن أعوى كالكلب».
فضحكت حتى ترقرق الدمع فى عينيها، وقالت بعد أن وجدت لسانها: «ولكن لماذا؟.. إن هذا شىء غريب».
قلت: «لا غرابة على الإطلاق.. ألم أقل لك: إن فى من الكلب خصائص.. اشتهيت أن أفعل ذلك عسى أن تصنعى معى ما كان يمكن أن تصنعى مع كلبك.. تحمليننى بين يديك.. عل ذراعيك.. وتدنين فمك الدقيق من وجهى وتقبليننى فألاعبك وأضع يدى على كتفك وأنظر فى عينيك وأمسح خدى بخدك.. على فكرة.. وقبل أن أنسى».
فتركت الضحك، وأقبلت على تسألنى: «نعم..».
قلت: «هل تستطيعين أن تخبرينى أو تبينى لى كيف يسعك أن تأكلى»؟
فاستغربت، وقالت: «لست أفهم.. لماذا تظن أنى لا أستطيع أن آكل»؟
قلت، وأنا أضحك: «هل تسمين هذا فما؟ أنه أدق من أن يتسع لأصغر لقمة .. يصلح أن يكون قرنفلة أو ما يشبه ذلك».
فقاطعتنى، وقالت: «والآن اسكت قليلا.. لقد دار رأسى.. لماذا تتكلم هكذا»؟
فهممت بأن أقول شيئا ولكنها أراحت كفها على شفتى فلثمتها، فابتسمت وقالت: «لقد كنت أفكر فى جزاء لما علمتنى وقلت لى لتملأنى غرورا.. ولكنك أفسدت كل شىء.. أخذت جزاءك بنفسك».
قلت: «لا.. لا.. لا.. نمسح القبلة».
قالت: «كيف يمكن»؟
قلت: «هكذا.. بشفتى».
فأطرقت قليلا، ثم رفعت رأسها وقالت: «لو سألتك عما تحب أن يكون جزاؤك منى، ماذا كنت عسى أن تطلب؟ أفهم أن هذه مسألة نظرية بحت».
قلت: «الجواب حاضر.. وما أظن بك ألا أنك تعرفينه.. وهل هو ألا أن تعدينى كلبا لك»؟
قالت: «هذا سهل».
فصحت مسرورا وأنا لا أكاد أصدق: «إيه»؟!
قالت: «لا تتعجل.. على مهلك.. لا تنس أن كلامنا كله نظرى».
فارتددت وتنهدت أسفا محزونا، فقالت وهى تربت لى على كتفى: «لا تحزن يا كلبى العزيز.. أنت كلبى.. ألم تقل ذلك»؟
قلت: «نعم.. ولكن الكلب له مزايا.. لا تنسى ذلك».
قالت: «يحسن أن تتدرب عليها التدريب الأول..».
فقاطعتها وصحت بها: «لا.. لا.. إنى طول عمرى كلب متدرب من زمان.. كلب عتيق.. والله».
وضحكنا ...
وافترقنا على موعد للتدريب الثانى.
الفصل الثاني
الدكان
وقفت «جليلة» لا تدرى ماذا تصنع، فقد انغزرت إحدى العجلتين الخلفيتين فى الرمل وأبت أن تخرج منه.. وعجز المحرك عن جذبها، بل كانت العجلة تزداد غوصا كلما حاولت نزعها. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب ولم يبد أحد فى الأفق، وكان الكشك الذى وقفت عنده منذ لحظة تشرب «الكازوزة» يبعد مسافة كيلو ونصف أو اثنين، فليتها ما جاوزته إلى هذا المكان القفر.. ولكنها أرادت أن ترى الطيارة الشراعية من مكان قريب والأرض بعد «الكشك» غير ممهدة. ولكن عناء السير فيها محتمل ولا خوف من الغوص. وقد طوفت من قبل فى أرجاء هذا الفضاء الرحيب. فهى تعرف صلابة الأرض ولا تخشى رخاوتها، غير أن الحظ خانها فى هذه المرة.. فما كادت تقف بالسيارة وتنأى عنها قليلا ثم ترجع ، حتى ألفت العجلة قد غاب نصفها فى الرمال الخائنة. وكان تلاميذ الطيران الشراعى بعيدين عنها بعد «الكشك»، فهل تترك السيارة وتعود أدراجها إلى الكشك تلتمس من صاحبه المعونة، وتسأله أن يدعو إلى نجدتها بعض خفرائه؟.. لم يبق من هذا مفر على ما يظهر، وإلا صار خطبها أدهى بعد الغروب. وصح عزمها على ذلك، فأقبلت على السيارة تريد أن تأخذ منها حقيبتها وقبعتها وإذا بصوت يقول لها: «اسمحى لى..».
فالتفتت مذعورة.. فما سمعت وقع قدميه وهو مقبل عليها ولا رأته، وإن كانت قد دارت بعينها فى المكان ونفضته قبل أن تنوى الرجوع إلى «الكشك». ولم يسألها الرجل شيئا ولم ينظر إليها بل انطرح على الرمل بثيابه الأنيقة بعد أن ألقى طربوشه فى السيارة، وراح يجرف الرمل بيده من خلف العجلة وقدامها.. ولما فرغ من ذلك ووسع للعجلة نهض ومشى مطرقا ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شىء، ثم انحنى وتناول حجرا كبيرا ولوحا من «الصاج» وعاد بهما فوضع الحجر خلف العجلة واللوح أمامها وتحتها، ليكون دورانها عليه لا على الرمل. ثم نهض مرة أخرى، وقال: «أظن هذا يكفى.. فلنجرب على كل حال».
فقالت: «أشكرك.. لا أدرى ماذا كنت أصنع لو لم تنجدنى»؟
فأشار بيده، وقال: «أجلى الشكر حتى أستحقه.. إن العجلة المسكينة لا تزال غائصة، فلننقذها أولا».
ومضى إلى آخر السيارة، وقال: «أديرى المحرك وسيرى بها، وسأدفعها من الخلف».
ففعلت وخرجت السيارة ثم وقفت على مسافة أمتار، ونزلت منها جليلة متهللة الوجه فصاح بها: «لماذا وقفت.. هل حدث شىء»؟
قالت: «لا.. إنما جئت لأشكرك».
ففرك يديه ومد يمناه إليها، وقال: «آه صحيح.. صار الشكر الآن واجبا. أليس كذلك»؟
فضحكت وسرها منه أنه لا يبدو عليه أنه يريد شكرا، وأنه كان ينتظر منها أن تمضى عنه بلا كلام.
وقالت، وهى تبتسم له فى عينيه: «ألا تريد أن أشكرك»؟
فقال وهو ينفض الرمل عن ثيابه: «كلا.. إنه دين قديم أؤديه.. بعضه على الأقل».
فغاضت الابتسامة، وقالت مستغربة: «دين؟ لى أنا؟ ولكنى لا أذكر أنى أعرفك.. لا مؤاخذة».
قال: «صدقينى حين أقول لك: إنه يسرنى أن أراك ناسية.. إنها ذكرى خليقة ألا تثير فى نفسك إلا الامتعاض والنفور بل المقت.. فالحمد لله».
فدنت منه مقدار خطوة، وقالت: «ولكن أرجو أن تريحنى.. هل تعرفنى»؟
قال: «أعرفك؟ أظن ذلك.. وإن كنت لا أكتمك أنى نسيت اسمك. انتظرى.. ورفع كفه الكبيرة الغليظة إلى جبينه.. اسمك يا ستى.. غريب أن تبقى الصورة كل هذه الأعوام ويذهب الاسم.. أوه.. جما.. جميلة.. وجدته.. وجدته.. جليلة.. أليس كذلك»؟
فصاحت: «نعم.. نعم.. ولكنى آسفة لأنى لا أذكرك أبدا.. لا صورتك، ولا اسمك».
فقال بابتسام: «انهما جديران منك بالنسيان».
فألحت عليه أن يذكر لها اسمه، فقال: «هذا لغز سأترك لك حله وأنت عائدة».
فابتسمت، وقالت: «ألا تخشى أن أشغل به عن الطريق وما فيه فتحدث لى حادثة»؟
فقال: «صحيح.. صحيح.. إذن لم يبق لى مفر من التضحية. سأخسر ما صرت جديرا به من الشكر، وأسترد سخطك القديم».
فسألته وهى تضحك: «هل كنت فظيعا إلى هذا الحد» فقال: «ستعرفين مبلغ فظاعتى حين تعرفين اسمى.. مراد البارونى».
فأطرقت، وقالت على مهل: «مراد.. البارونى.. (وهزت رأسها) كلا.. إن ذاكرتى لا يختلج فيها شىء.. آسفة».
فقال، وهو يضحك: «أما أنا فإن ذكراك يقشعر لها بدنى، فما أستطيع أن أنسى أنك صببت على ماء قربتين من الماء فى الشتاء. سلطت على خرطوم الحديقة وأطلقت على ماءه.. أهذه ذكرى تنسى؟. ألست معذورا إذا ظللت متذكرا»؟
فدنت منه، وقالت بصوت خافت كالهمس: «مراد؟ صحيح..».
فقال: «وكنت ظالمة لى..».
فقالت: «كلا.. لقد تذكرت الآن، فقد وضعت لى دودة ميتة فى قفاى.. الحق أنك كنت فظيعا».
فأشار بيده إشارة المستنكر: «لا.. لا.. هذا كان سوء تفاهم.. أعنى أنى كنت فرغت من اللعب بالدودة، وظننت أنك قد يسرك أن تأخذيها لتلعبى بها.. ولكنى أخطأت فوضعتها لك فى قفاك بدلا من يدك، بل كان الخطأ منك لا منى.. فقد جعلت تجرين خائفة وأنا أجرى وراءك، فلم يسعنى ألا أن أتركها حيث تيسر لى.. فالذنب ذنبك يا جليلة».
فقالت جليلة، وهى تضحك: «أتذكر كيف كنت تصيح بأعلى صوتك كلما رأيتنى.. وكيف كنت تجرى ورائى وتدبدب برجليك كلما أدركتنى فتزيدنى رعبا»؟
فقال: «نعم أذكر ذلك.. أذكر كل شىء.. إنه كل ما بقى لى منك.. لقد كنت أصيح وأدبدب لأخفى عنك حبي لك».
فقالت: «غريب.. أكنت تحبنى؟ لقد كان نجاحك تاما إذن فى إخفاء هذا الحب».
ونظرت إلى وجهه الذى لوحته الشمس وشعره الذى ظهر فيه الشيب هنا وههنا، وأخذت الصورة القديمة تسترد ألوانها وتبرز معالمها شيئا فشيئا، ثم قالت: «لقد كبرت جدا.. طولا وعرضا.. وتغيرت أيضا. من الذى يراك الآن فيذكر ذلك الطفل الشقى الذى كان يسود عيشى ويرعبنى كلما ظهر فجأة من وراء شجرة.. أو من تحت الأرض - فيما كان يخيل إلى ماذا صنعت بنفسك كل هذه السنين»؟
فقال: «أوه.. ماذا يصنع الناس بنفوسهم؟ يكبرون ويقعون على عمل يشتغلون به. أنا أيضا وجدت لى عملا.. فى تجارة رابحة والحمد لله.. وأنت»؟
قالت: «أوه.. كبرت مثلك».
فقاطعها وقال: «كلا.. إنك لم تتغيرى.. لو كان هنا دود لما خطر لى وأنا أنظر إليك إلا أننا ما زلنا طفلين، ولهممت بأن أضع لك واحدة فى قفاك».
فضحكت وقالت: «لقد صرت مهذبا جدا.. لم يبق شىء من ذلك الطفل اللعين.. غريب أن نلتقى هنا هكذا بعد كل هذه السنين.. ماذا كنت تصنع؟ أعنى هنا».
قال: «أتمشى.. للرياضة».
فتنبهت، وقالت: «إذن لا أقل من أن أحملك معى فى السيارة».
وقال وهو يركب معها مسرورا: «ما قولك.. نحتفل بهذا اللقاء الذى لم يكن لى ولا لك فيه حساب، بالعشاء نتناوله فى محل الحاتى.. هه»؟
فابتسمت لنفسها فى مرآة السيارة وأصلحت شعرها الذى عبث به النسيم، ثم التفتت إليه وهزت رأسها أن نعم.. ثم انطلقت تخطف بسيارتها الأرض.
ولم يكن في جليلة خفة أو طيش، ولكنها كانت فتاة وحيدة مدللة.. ورثت عن أبيها قسوة القلب واستقلال الطبع، وعن أمها سرعة الاستجابة لدواعي الخير. وقد مات أبوها قبل سنوات، فلم يبق لأمها سواها ولم تهمل تربيتها.. ولكنها كان ينقصها حزم زوجها وحكمته، فألقت لها الحبل على الغارب وهى تحسب أنها لا تعدو ما كان يصنع أبوها. على أن الفتاة لم يكن فيها سوء ولم تثمر الحرية شرا، وإنما أكدت استقلالها وأورثتها تمردا صريحا على كل قيد من القيود التي يفرضها العرف حتى على الفتاة الحديثة. وكانت أمها وبعض أهلها يشق عليهم ذلك أحيانا، فتقول لهم إنى لا أفعل سوءا، ولا أسىء أدبى، ولا أتوقح على أحد، ولا قيمة لخروجى وحدى، أو مرافقة أصحابى وصواحبى إلى السينما أو غيرها.. فكانت أمها تسكت ولا تقول شيئا لعلمها أن الكلام لا خير فيه.
ولم تكن جليلة بارعة الحسن، ولكن صوتها كانت له حلاوة التغريد.. وكانت نظرتها الحالمة تفعل فعلين يبدوان متناقضين: تنعش القلب وتفتر الجسم، فإذا أدامت إليك كرة الطرف - على عادتها إذا سرها منك عمل أو قول - شاع الرضى فى نفسك وفاضت بالسرور، ودار رأسك، وأحسست بالخدر فى أعصابك. وكانت أقرب إلى القصر منها إلى الطول، وإلى الامتلاء منها إلى النحافة والهزال، وقد حمتها كثرة الحركة والولع بالمشى فى الهواء الطلق، وفطام النفس عن الأطعمة الدسمة الثقيلة، أن تصبح كأمها أكداسا من اللحم تلح على روحها. وكانت سمراء، ولكن سمرتها مشربة حمرة لا كدرة فيها ولا نمش. وكان شعرها جعدا وأثيثا.. وكانت تفرقه وترسله إلى الوراء وتعقصه وتأبى أن تقصه. كانت أنيقة بلا تكلف، ولم تكن رقيقة الحال أو مضطرة إلى حسن التدبير والاقتصاد. فقد ترك لها أبوها الحازم ثروة كافية، ولكنها كانت تؤثر أن تصنع ثيابها بيديها، فتجىء محبوكة التفصيل على قدها الجميل يبرز من تحتها ثدياها الناهدان الراسخان كالرمانتين الصغيرتين. وكانت مجدولة الساقين لا عظيمة العضلة ولا مضطربتها ولا عرقوب لها. وجمال الساق فى المرأة يشير بحسن القوام.. وكانت تكره الأحذية العالية الكعوب نفورا من بروز الفخدين. على أن هذا كله ما أكثر من يشاركنها فيه، ولو اقتصر الأمر على التكوين المادى لما كانت لها مزيه تنفرد بها، ولكن أنوثتها كانت قوية الجذب شديدة الإغراء.. فلولا استقلالها وشخصيتها لما استطاعت أن تنجو من المعاطب. •••
وقال مراد وهو عاكف على البيان الذى قدمه إليه الخادم: «معذرة، فإنى أتضور جوعا.. لم آكل فى نهارى شيئا. ماذا تريدين.. كباب.. لحم رأس.. حمام؟ إنى أرى الحاتى عنده كل ما يؤكل.. لا الكباب وحده.. ما قولك»؟
فآثرت الكباب، وقالت: «إن هذا فنه الذى يمتاز به، فيحسن أن أقتصر عليه».
وكانا جالسين فى آخر القاعة ووجهها هى إلى الباب ووجهه إلى الناس. وشغلا برهة بالأكل وذكريات الطفولة، فقال لها وهو يضطجع: «أتذكرين يوم تحديتك أن تتسلقى النخلة؟ (فهزت رأسها) لقد كنت لا تطيقين التحدى.. فهل أنت ما زلت كذلك»؟
فوضعت الشوكة على الطبق، ونظرت إليه وسألته: «ماذا تعنى»؟
قال بابتسام: «أعنى أن وراءك.. بعد مائدتين اثنتين.. رجلين أحدهما يحدق فى ظهرك، لا يخالجنى شك فى أنك تحسين وقع نظراته على جسمك.. إنها نظرة حامية.. كاوية.. انتظرى قليلا وسأدعو الخادم ليجيئنا بالقهوة، فأديرى وجهك حين يقبل وانظرى».
ففعلت ثم اعتدلت فى جلستها وقد علا وجهها الاصفرار، فأكب مراد على بقية الفاكهة وتشاغل بها عما رأى فى وجهها من دلائل التغير. ولم تفت جليلة هذه الكياسة منه، ووقع من نفسها اتقاؤه الفضول.. فتماسكت وضبطت صوتها وهى تقول: «لقد تغيرت جدا.. من كان يظن أن ذلك الطفل الخبيث الذى كان يتعقبنى وينغص حياتى يصبح هذا الرجل الوديع الظريف الكيس؟ أتعرف من هذا يا مراد الذى يكوينى بنظراته؟ إنه خطيبى زكى.. أفهمت الآن»؟
فقال بهدوء وبصوت متزن النبرات: «خطيبك زكى؟ هذه أخبار.. أظن أن من واجبى أن أقدم لك التهنئات».
ولكنها أحست من نبرات صوته على الرغم من اتزانها أن هذا الخبر لم يسره، فقالت: «لا داعى للعجلة.. ثم إن الزواج مسألة عادية جدا على كل حال.. أو كما يمكن أن تقول أنت.. هو شر يصيب كل إنسان.. عاجلا أو آجلا.. متى يصيبك يا مراد»؟
فقال: «أنا؟.. لا أدرى.. صاحبك.. أعنى خطيبك لا يزال محملقا فى ظهرك. فهل تستطيعين أن تنهضى وتذهبى إليه وتقولى له بكل هدوء إن لك حقا فى أن تتناولى العشاء مع صديق قديم مثلى وضع فى طفولته دودة فى ظهرك وصببت عليه عشرين قربة من الماء فى الشتاء»؟
فقالت ببساطة: «إنى أحب زكى.. وأنت لا تعرفه.. بالطبع ليس فى كونى معك هنا ما ينبغى أن يسوءه، ولكنه لا يعرف أنك هذا الصديق القديم.. كل ما يعرفه أنه خطيبى.. وإنى - كما قال مرارا - طائشة.. مندفعة».
قال مراد: «اشربى القهوة.. لا تفسدى على نفسك الليلة.. ستشرحين له كل شىء، فيعود حملا وديعا ويعتذر إليك من هذه النظرات الحامية».
فشربت القهوة، ولكنها كانت ساهمة.. فقد كانت تحب «زكى» هذا، وكانت تكره الاضطرار إلى الشرح وتستثقل أن تحتاج حتى إلى ما يشبه الإعتذار.
وقال مراد: «لقد قام الرجلان.. خطيبك وصاحبه».
فقالت: «يحسن أن نقوم إذن.. فسيودع صاحبه ولا شك ويقف فى انتظارى.. أشكرك يا مراد.. نبهتنى إلى أنه خرج فلألحق به».
وخرجا.. وودعها مراد بعد أن عرفت منه عنوانه، وعرف منها عنوانها، وألح عليها أن تتصل به إذا جد أمر من جراء لقائهما الليلة. •••
وقالت جليلة لزكى: «معى سيارتى، فلا حاجة إلى تاكسى».
فدخل فى السيارة واضطجع.. ثم قال: «من هذا الرجل الذى كان معك؟».
فقصت عليه وما وقع لها عند المطار، فقاطعها وقال: «كيف تكلمين رجلا غريبا؟ إن هذا كثير..».
قالت: «ولكنه ليس غريبا.. لقد نشأنا معا.. فى حى واحد».
فنفخ وقال: «ولكنك لم تكونى تعرفين أنه هو صديق طفولتك».
فقالت بلهجة المستغرب: «هل كنت تريد أن أتقبل معونته ولا أشكره على الأقل»؟
فترك هذا وقال: «ولماذا تخرجين إلى هذا المكان وحدك»؟
قالت: «لأنك مشغول عنى بأعمالك الكثيرة التى لا تدع لك وقتا لمرافقتى.. ومع ذلك أى بأس هناك»؟
قال: «بأس؟ بأس؟ هذا الذى حدث لك من غوص العجلة أليس بأسا»؟
قالت: «لا تكن متعنتا.. إن السيارات يمكن أن يحصل له أى شىء فى أى مكان فى الدنيا». فترك هذا أيضا وقال: «ولكن تأتين معه إلى الحاتى.. ماذا يقول الناس»؟
فقالت: «إذا كان الحاتى مكانا لا يليق أن يدخله الشريف..».
فقاطعها بسرعة، وقال: «لست أقول هذا.. الأمر على العكس».
قالت: «اذن انتهينا».
فسكت، فما رأى حجة له تنهض. وساءه ذلك فقد كان شديد الاعتداد بنفسه، وكان عظيم الطموح واسع الأمل فى المنازل الملحوظة.. فلم يسره أن الفتاة التى سيتزوجها تقرع حجته بأقوى منها، وأحس أن فى هذا تنقصا له وغضا من مقامه وسقوطا لهيبته، ولكن الكلام خانه فآثر السكوت على مضض.
وكان زكى - أو إذا أردت اسمه كله زكى الدين حمد - من أصل تركى أو شركسى - سيان - وكان يطمع أن يبلغ بماله الموروث حيث لم يستطع أن يبلغ بالكفاية الشخصية. وكان أمله الذى لا ينفك يحلم به فى اليقظة والمنام أن يصبح يوما من أعضاء البرلمان، ومن أجل هذا كان يتقرب إلى الزعماء السياسيين بوسائل شتى.. وكان يعنيه جدا أن يحسن رأيهم فيه وظنهم به ... وكان يحرص على المركز المأمول، ويحيط نفسه سلفا بكل مظاهر الأبهة والسمت والوقار، وينظر إلى الأمر كله كأنه واقع. وينتظر من الناس أن يعدوه كذلك، بل أن يبالغوا ويروحوا يمدون بصرهم إلى المستقبل، وأن يخالوه كما يتخيل نفسه فيه وزيرا أو رئيس وزارة.
وقال لجليلة - وهو يودعها على باب بيتها: «أرجو يا جليلة ألا تعرضينى لكلام الناس، واذكرى أن لى مركزا يجب أن أحافظ عليه».
فسحبت يدها من يده وقد آلمها كلامه، وأحست أن سهما وقع فى قلبها. كانت حساسة وذكية. ولم يكن يخفى عليها أن ليس له مركز سوى ما يفيده الغنى. ولم تكن هى تحتاج منه إلى مال فإن مالها كثير. وكانت تدرك أن ما يسميه «مركزه» جانب ضعف فيه، ولكنها كانت تغض عن ذلك لحبها له، غير أنها لم تكن تتوقع أن يتهمها بأنها تسىء إلى هذا المركز - وإن كان موهوما - فضلا عما تنطوى عليه عبارته من التعريض بها، بعد أن شرحت له الأمر كله ولم تخف عنه شيئا. وماذا تخفى وليس فى الأمر ما يستدعى الكتمان؟
وقالت له - وهى تهم بالدخول: «ليلتك سعيدة ».
فسألها: «متى نلتقى غدا»؟
فأطرقت شيئا ثم رفعت رأسها، وألقت إليه ابتسامة ساخرة، وقالت: «غدا؟ لا.. إنى على موعد مع مراد..».
ولم يكن ثم موعد ولا شبهه، وإنما قالت ما قالت مدفوعة إليه بضجرها وألمها.
ودخلت.. وتركته واقفا وفمه مفتوح. •••
ولم تحاول أن تلتقى بمراد فى اليوم التالى، فقد كانت تدرك أن هذا لا يكون منها إلا خرقا وحماقة.. فلزمت بيتها إلى المساء، ثم خرجت فى سيارتها على عادتها وجالت بها جولة قصيرة، ثم ردت بعض الزيارات وعادت فلزمت غرفتها. وكان الألم لا يزال يحز فى نفسها، فساء نومها واضطرب. وذهب يوم وجاء يوم، ولكنها أحست ثقلا فى جسمها وفتورا.. فبقيت فى فراشها، وأوصت أمها أن تمنع أن يوقظها أحد - حتى ولا زكى - فشعرت الأم أن فى الأمر شيئا، ولكنها حدثت نفسها أنه خلاف لا يلبث أن يزول. وجاء زكى يسأل عن خطيبته، فعرفت الأم أنه لم يلقها منذ يومين.. فأظهرت تعجبها وزلت، فقالت إنها كانت تحسب أنها لم تخرج إلا للقائه. وزل زكى أيضا فقال لها إن جليلة تسلك مسلك الأطفال، وأن ذلك يسىء إلى مركزه، وأنه كلمها فى ذلك فغضبت ولجت فيما نهاها عنه، فهو يرجوها - الأم - أن تكبحها قليلا.. فما يليق أن تترك هكذا - حبلها على غاربها. وعرفت جليلة هذا الذى دار بين أمها وبين خطيبها، فدهشت له.. ولكنها لم تغضب ولم تثر، بل كان من الغريب أنها أحست كأنما وضع لها فى مكان القلب قطعة من الثلج.
وجاء العصر.. فركبت سيارتها وخرجت بها إلى مصر الجديدة. وكان كل همها أن تكون وحدها وأن تدور دورة فى الهواء الطلق وتمشى قليلا، عسى أن ينفعها ذلك.. فيعفيها من الشعور بالانقباض والفتور. وإنها لفى بعض الطريق، وإذا بها ترى مرادا يمشى بسرعة كأنما يريد أن يدرك موعدا.. فوقفت وأشارت إليه وقد أحست أن جسمها قد صار أخف مما كان.. فجاءها يعدو، فسألته: «إلى أين»؟
فلم يجب عن هذا السؤال ولم يلق إليها تحية، بل ركب وهو يقول: «أرانا نلتقى فى هذه الأيام.. حسن هذا.. أليس كذلك»؟
فأعداها ما فى وجهه من البشر، وقالت ضاحكة: «غريب هذا.. تمضى سنوات لا نلتقى فيها مرة واحدة، وفى أربعة أيام نلتقى مرتين».
فقال: «لا تغلطى يا فتاتى.. ليست هذه مصادفة..».
فنظرت إليه مستغربة، وسألته: «ليست مصادفة»؟
فقال وعلى فمه ابتسامته الوضيئة التى لا تفارقه: «كلا.. ليست مصادفة.. إنها إرادتى سلطتها عليك فجذبتك إلى حيث أنا.. نعم». فعاد إليها إشراق وجهها وأطمأنت، وقالت: «أوه.. آه.. إرادتك؟ طبعا..».
فقال: «لا تمزحى.. إنى أتكلم جادا».
فرمت إليه نظرة سريعة، فألفته لا يزال يبتسم.. فحولت وجهها إلى الطريق، وقالت: «هذا بديع.. تكلم، إن أذنى لك».
قال: «نعم.. إرادتى.. لم أزل منذ عشر سنين أربى هذه الإرادة، فهل تستغربين أنها بلغت من القوة هذا الشأو؟ بالطبع لا، وأنت أول من ينبغى أن يكون من تلاميذى المؤمنين بى.. من حوارى. هه؟ وسأفتتح بك العهد الجديد».
وبلغا آخر الطريق إلى المطار - من ورائه - فجلسا على سلم السيارة، وأخرج مراد سيجارة وذهب يدخن فى صمت.. فلما طال ذلك التفتت إليه وقالت: «إنك لا تسألنى ماذا حدث»؟
فلم يحول وجهه إليها وأدرك من كلامها أن شيئا لابد أن يكون قد حدث. ولم يشأ أن يتطفل عليها بالسؤال، فاكتفى بأن يقول: «إن أذنى لك.. أعرناك السمع».
فقالت: «إنك قليل الفضول».
قال: «لأنى مشغول عنه بما فى نفسى.. الدكان غاصة. لا تحتمل زيادة».
قالت: «لغة التاجر، اسمع.. غضب زكى، أوه. غضب جدا.. لم يقل شيئا كثيرا، كل ما قاله إنى خفيفة طائشة، وأنى أسىء بسلوكى إلى مركزه».
فانتفض مراد واقفا وقد تجهم وجهه ورمى السيجارة، ثم التفت إليها وقال بلهجة صارمة: «من يكون زكى هذا»؟
وكبح نفسه عن الاسترسال، ورد لسانه بجهد، وضبط أعصابه، وعاد إلى مكانه من السلم والتفت إليها وقال - وقد وسعه أن يبتسم مرة أخرى: «معذرة.. ليس لى حق.. قولى إنك صفحت عنى».
فسرها منه أنه غضب لها، وفارت نفسه بالسخط على خطيبها من أجلها، فقالت له برقة: «أشكرك.. إننا صديقان قديمان».
فقال لها - وهو ينهض مرة أخرى: «قومى نتمشى.. دعى السيارة، فلن يخطفها أحد».
وقطعا مسافة وهما صامتان، ثم وقف والتفت إليها وقال: «اسمعى يا جليلة.. إنى أعتمد على ما تخولنى صداقتى القديمة من الحق فى الصراحة ... عشرون قربة من الماء تجعل لى هذا الحق، أريد أن أقول إنى تحاشيت فى مقابلتنا الأولى أن أكاشفك بما أضمر لك من الحب كل هذه السنين الطويلة، لأنك قلت عرضا أنك مخطوبة.. ولكن وجه المسألة تغير اليوم بعد أن سمعت منك ما قال هذا البغل».
فقاطعته ضاحكة: «اذكر أنه خطيبى. لا يزال خطيبى. وإنى قلت لك إنى أحبه».
فقال: «لم يعد هذا يعنينى.. لست أحاول أن أصرفك عنه.. كلا، ولكنه لم يبق لى بد من أن أقول إنى أحبك، وإنى أحبك مذ كنت طفلة، وكنت أعابثك وأكايدك وأصرخ فى وجهك. وكان هذا مظهر حبى الصبيانى.. أما الآن، فإن مظهره أنى مستعد أن أذهب إلى خطيبك هذا وأخنقه بيدى هاتين».
فقالت ضاحكة: «لقد توهمت لحظة أنك صرت أرق».
فقال: «كلا.. أنا كما كنت.. واسمعى ولا تقاطعى وإلا بحثت عن دودة ووضعتها لك فى قفاك.. إذا حدث يوما أن صار الدكان للإيجار فاخبرينى».
فقالت: «لغة التاجر أيضا.. ولكنى سأستعيرها منك.. ثق أنك مفضل عندى على كل مستأجر لهذا الدكان إذا خلا يوما من الأيام.. لم يخطر لى أن هذا ماتنطوى عليه لى.. ومن التى تتصور أن وضع الديدان فى قفاها يكون علامة حب؟ ولكنك كنت دائما غريبا.. على كل حال، المسألة المهمة أن الدكان مزحوم. ليس خاليا.. رحت أستبضع فامتلأ.. صحيح أنه امتلأ بأشياء لا قيمة لها.. ولكنى لم أكن أعرف أن ما غص به عديم القيمة.. المهم أنه ممتلئ، وأظنك تدرك أنه ما دام مملوءا فلا مكان هناك لجديد.. يجب الصبر حتى أخليه مما فيه.. هذا يحتاج إلى وقت. ومن يدرى، ربما كان الإخلاء أصعب من الملء. ولكنك تفهم.. قل إنك تفهم وتعذر..».
فقال ببساطة وهدوء: «لا بأس. لا بأس.. إن دكانى أيضا مزحوم . ولكنه مزحوم بالنفيس الغالى.. ولست أريد أن أخليه - لا أستطيع أن أخليه حتى لو أردت. وهيهات أن أريد أو أستطيع.. أنه مكتظ منذ خمس عشرة سنة، وسيظل مكتظا طول العمر. وقد عرفت أن مفتاحه معك.. فى يدك.. فادخلى حينما تشائين. وعسى أن تشائى.. عدينى أن تحتلى مكانك من الدكان بعد أن تفرغى من أمر دكانك.. وفى أثناء ذلك نبقى كما كنا دائما.. صديقين حميمين».
ولم يسع جليلة الا أن تفكر فى أمر الرجلين - مراد الذى تعرفه منذ الطفولة، والذى كان يسود عيشها بعبثه - لأن هذا كان تعبيره الخاص عن حبه لها - وقد ظل بعد ذلك يحبها، ولكنه أحجم عن طلب يدها لرقة حاله بالقياس إليها. وقد صار تاجرا، ولكنه لم يثر لأنه لا يربح إلا الكفاية.. ومن هنا إحجامه إلى الآن عن خطوبتها كما حدثها. وقد زاد على ذلك أنه كان لا يتصور أن ترضى به فتاة مثلها، فكتم حبه وطواه فى صدره، وسأل الله المعونة على احتمال اليأس المخامر. وهو ظريف كيس لبق دائم البشر واسع الإدراك رحيب الأفق حلو الفكاهة ... وزكى الغنى الذى لا ينفك مهموما بمركزه المتخيل والذى لا يتقى فى سبيل الحرص عليه أن يجرح قلب فتاة ويتهمها بالخفة والطيش فى سلوكها، وبأن سيرتها توشك أن تسىء إلى مركزه الموهوم هذا. وقد أحبته.. هذا صحيح، ولكن عينها فتحت، فهى تراه الآن على حقيقته. وليس يسعها إلا أن تفكر فى حياتها معه كيف يكون، إذا كان كل ما يباليه فى الدنيا هو هذا المركز.. ولكنها خطيبته وقد قبلت أن تكون زوجته.. فما العمل الآن؟
وسألت نفسها: أى الرجلين أحب إليها؟ وحيرها الجواب.. فهل هذا الذى تشعر به لمراد حب؟ إن يكن هذا فهو هادئ جدا.. أما زكى فإن الدكان كما قالت لمراد مزحومة.. صحيح أنها مزحومة بما لا قيمة له - كما ظهر الآن - ولكنها مزحومة.. فهل تخلو يوما؟ هذه هى المسألة.. وإلى أن تخلو لا سبيل إلى شىء.
ولو أن زكى ذهب إليها فى ذلك الوقت ولاطفها وضاحكها ومازحها واعتذر إليها - ولو كانت هى فى رأيه المخطئة - لعادت المياه إلى مجاريها كما يقولون، ولارتفعت قيمة ما فى الدكان وارتدت إليه نفاسته. ولكنه أراد أن يلقنها درسا، فأعرض أياما وجفاها وانقطع عن زيارتها، ولم يكفه ذلك.. بل أرسل إليها خادمة من عنده تبلغها تحياته وتسألها باسمه عن صحتها، وأوصاها أن تخلق مناسبة لتقول لها أن سيدها يكثر - فى هذه الأيام - من زيارة بيت خالته - وكانت لها بنت فى مثل سن جليلة - ليثير غيرتها وإشفاقها من أن يطير العصفور من يدها، فأفلح ولكن فى استثارة نقمتها عليه.. فقالت لنفسها إن رجلا يهينها ويعرض بها ويرميها بأن سلوكها من شأنه أن يسىء إلى سمعته وأن يضر بمركزه، ثم لا يجعل هذا بينه وبينها بل يفضى به إلى أمها، ثم لا يكفيه هذا بل يجفوها ثم يغلو فى تعمد الإساءة إليها فيرسل إليها خادمة تبلغها أنه انصرف عنها إلى سواها.. مثل هذا الرجل خير له ولها أن ينقطع ما بينهما. •••
على أنها لم تتعجل - وإن كان عزمها قد صح على الفراق - فقد كانت شديدة الثقة بنفسها والاعتداد باستقلالها وإرادتها الحرة، فلم تر ما يدعو إلى العجلة بعد أن انتوت أن تفصم العروة. واستوى عندها أن يكون ذلك يوم انتهت إلى هذا العزم، وأن يكون بعده بأيام أو أسابيع. فقد كانت واثقة أنه ما من شىء يستطيع أن يحولها عنه. وصار عجبها أن الدكان خلا بسرعة مما كان يغص به. ولم تكن تلقى فى تلك الأيام مرادا، لأنها أرادت أن تختبر نفسها لتعرف ما تنطوى عليه له.. فأدهشها أنها تحس وحشة، وأنها تشتهى أن تكون معه، وأن تستعيد ما تشعر به فى مجلسه من سكينة النفس واطمئنان القلب والرضى الهادئ. وزاد شوقها إليه أنها كتمت الأمر كله عن أمها. ولو كان مراد إلى جانبها، لكان خليقا أن يفهم ويعذر ويعطف وأن يسرى عنها بفكاهته التى لا تخونه، وأن يغذيها بقوته التى تجعله لا ينسى أن يضحك وهو يفجع فى أمله الذى عاش به سنين وسنين..
وتعجبت لسرعة استيلاء مراد على هواها، فما لقيته إلا مرتين بعد طول الانقطاع والغيبة. فهل هذا هو الحب الذى يقال عنه أنه يكون من أول نظرة.. أم تراها كانت تحبه منذ عرفته وهى لا تدرى، وكان حبها له راقدا كامنا ينتظر فرصة للظهور؟ لاشك أنها كانت تحبه، كذلك قالت لنفسها وهى راقدة على سريرها بعد الغذاء. نعم كان يقسو عليها ويركبها بالمزاح المتعب، وكان يختبئ لها وراء الأشجار ثم يفاجئها بصرخة ترعبها فيضحك ويقهقه. وكان يجرى وراءها حتى تنقطع أنفاسها وتقع من الإعياء.. فيحملها، ولكنه لا يرحمها، ولا يترفق بها.. بل يقرصها ويعضها، فتصرخ وتصيح وهو يضحك ولا يبالى.. ولم تستطع أن تنتقم منه إلا مرة واحدة حين أرسلت عليه خرطوم الماء فأغرقته، فجعل ينتفض من البرد. ولكنه كان يضحك مع ذلك ولم يسخط عليها.. ولم ينطق بكلمة تشى بالألم أو النقمة أو الغضب، بل احتمل ذلك. ولما رق له قلبها وأقبلت عليه بالاعتذار إليه وطلبت الصفح منه، لم ينس دعابته وعبثه ونبحها كما يفعل الكلب «وو.. وو..» ففزعت. فما كانت تتوقع شيئا من ذلك، ومضت عنه مغيظة محنقة معتقدة أنه شر صبى فى الحارة، وكان هو يقهقه وينطوى من شدة الضحك غير عابئ بالماء والبرد.. فتالله ما أقواه. ومع ذلك كانت لا تلعب إلا معه.. وإذا أقبل عليها غيره من الصبية نفرت. نعم، لا شك أنها كانت تؤثره، ولماذا لا تقول إنها كانت تحبه؟ صحيح أنها لم تكن تعرف الحب.. ولكنها تعرفه الآن، فقد صارت خبيرة مجربة.. فلماذا لا تسمى الشىء باسمه الصريح؟
وارتدت من الماضى إلى الحاضر، وذكرت كيف غاصت عجلتها فى الرمل ووقفت حائرة.. وإذا به يظهر كأنما شق الأرض وخرج منها - كما كان يفعل وهو صبى - وينطرح على الأرض بلا كلام أو سؤال، ولا يبالى ما يصيب ثيابه، ويجرف الرمل بيديه الكبيرتين ويحمل الحجارة.. يفعل كل ذلك ولا يرفع عينه إلى.. ثم يعرفنى فيتلطف فى تذكيرى بنفسه. ويتظاهر بنسيان اسمى وهو منقوش ومحفور فى قلبه.. وتنازعه نفسه أن يفضى إلى بحبه، فيشير إليه من بعيد فى معرض الكلام على ذكريات الحداثة.. ويعرف أنى مخطوبة، فيفقد كل أمل. ولكنه يتجلد ويتكلف الابتسام ويمضى فى مؤانستى بحديثه، كأنما لم ينهد ولم يتقوض بنيانه.. وهل أنسى كيف ثار وانتفض حين رويت له ما أهاننى به زكى؟ فقد كانت وثبته تلك دليلا كافيا على عمق ما يجن لى من الحب.. ومع ذلك أبت له الكياسة والأدب إلا أن يكبح نفسه ويردها عن النيل من زكى مخافة أن أكره ذلك منه.
وظلت تناجى نفسها على هذا النحو، ولا تكتحل عينها بغمض حتى كان العصر.. فقامت ولبست ثياب الخروج، واستقلتها سيارتها الصغيرة إلى دكان مراد، فأقبل عليها يرحب بها، فقالت: «أنت أولى من الغريب».
فابتسم وقال: «آه.. أهو ذاك»؟
قالت: «نعم.. أريد شيئا من الحرير.. قطعا كثيرة. ألوانها شتى.. الوقت ضيق».
فقال: «الوقت؟.. لست فاهما شيئا..».
قالت: «ألا تعرف أن العروس تحتاج إلى ثياب كثيرة»؟
فامتقع لونه، ولكنه تجلد وقال: «متى، إن شاء الله؟ لست أطمع أن أدعى، ولكنى أريد أن أحتفل بليلة الجلوة وبسرورك فيها.. وحدى».
فسألته بخبث: «وحدك»؟
فقال: «نعم.. لن يكون معى سوى خواطرى».
وأدار وجهه إلى الباب ليخنق زفرة يعلو بها صدره، ثم التفت إليها وقال: «متى يكون هذا»؟
فرفعت إليه وجها مشرقا، ونظرت إليه نظرتها الحالمة، وقالت: «متى تريد أن يكون»؟
فقطب، وقال: «إيه»؟
فأعادت سؤالها: «متى تريد أن يكون»؟
فحدق فى وجهها - فى عينيها - ثم صاح وقد فطن إلى ما تعنى، وانحنى عليها فرفعها بيديه عن الكرسى غير عابئ بالعمال والزبائن، وأهوى على فمها باللثمات ثم ردها إلى الكرسى، وصاح بأحد رجاله: «اذهب. اذهب. حالا. حالا».
فوقف الرجل كالأبله لا يفهم ولا يدرى أين يريد منه أن يذهب، فصاح به: «هات المأذون.. ألا تعرف المأذون يا أبله؟ اذهب.. حالا..».
فوقفت جليلة وأقبلت عليه تسأله: «ماذا تعنى؟ ماذا تريد أن تصنع»؟
فقال: «ماذا أعنى؟ يا له من سؤال.. نعقد العقد.. هنا.. حالا فى الدكان .. هذا ما أعنى.. رجالى وزبائنى شهودى.. شهود سعادتى.. لقد كان التجار فى الزمن السالف يجيئون برجال يقفون على أبواب الدكاكين ويدعون المارة أن يدخلوا ويزينون لهم البضاعة، وقد انقضى ذلك الزمن وحلت الإعلانات فى الصحف محل هؤلاء المنادين.. ولكنى اليوم سأقف بالباب وأدعو الناس.. كل الناس.. أن يدخلوا، لا ليشتروا، بل ليشاركونى فى سعادتى. لماذا لم يجئ المأذون؟ اذهب أنت وراءه واستعجله».
وفرحت جليلة بهذا الجنون وخجلت أيضا.. أفرحها أن عقله استطير من فرط الجذل، وأخجلها أن كل هؤلاء الناس من العمال والزبائن يرونها وأن عيونهم جميعا عليها، وأنهم جميعا يفحصونها ليعرفوا سر هذا السحر الذى ذهب بلب الرجل الذى ألفوا منه الرزانة والوقار والسكينة والظرف والعقل.. وأرادت أن تستمهله، فأبى.. فاقترحت أن يذهبا بالمأذون إلى البيت، فأبى أيضا، وقال: إن ناسا فى هذا الزمان يتزوجون فى الطيارة.. فماذا يمنع أن نتزوج فى الدكان؟ فقالت: إنه فرق ساعة، والمسافة إلى البيت لا تستغرق زمنا. فأبى أيضا، وقال إنه يخاف عليها أن تطير وتتسرب فى الهواء.. كلا، ولابد أن يكون العقد هنا.
وراقها هذا الجنون وألهب خيالها فرضيت..
وتزوجا فى الدكان!
وقالت له وهما خارجان: «نسيت أن أقول لك إنى وجدت أن الدكان لم يكن خاليا قط.. كان ما فيه مخزونا من أيام الصبى.. فلما أدرت عينى فيه عرفت، ولهذا جئت».
فقبلها على باب الدكان ... ولم يستح الرجل!
الفصل الثالث
الكآبة
يقول بعض الأطباء بلهجة الجزم التى لا تردد فيها ولا تلعثم: إن حيوية الجسم الإنسانى تكون أدنى ما تكون بعد منتصف الليل. وفى تلك الساعة العصيبة، يعجز العقل عن تدبر الحاضر بسكينة ورضى، واستشفاف المستقبل بشجاعة، ورجع البصر فى الماضى بغير أسف. ولكن كل امرئ غير هؤلاء الأطباء يعرف أن ساعة الكآبة والهبوط لا وقت لها، وأنها قد تكون الأولى صباحا أو الثانية مساء. كما قد تكون فى العصر أو الغسق. فليس لها ثبات ولا أوان معروف، وأن ساعتها قد تكون ثوان أو دقائق. وقد تمتد وتطول، فينطوى فيها الليل والنهار جميعا والعمر أو خيره فى بعض الأحيان.
ومهما يكن من ذاك، فإن المحقق - على كل حال - أن كاتبا مثلى لا يسعه إلا أن يشعر وهو يتأمل «سعيدا» بقصوره وعجزه، فإن مثل هذه الكآبة لا يستطيع أن يوفيها حقها سوى مجمع من أعلام البيان. وقد يسع «زولا» أن ينصفها، وعسى أن يكون «جوركى» قادرا على تناولها بقلمه، ولعل «دستويفسكى» كان أقدر من سواه على ذلك، ولكنها فوق طاقتى وحدى. وشر ما فيها أنك لو سألت «سعيدا» نفسه عنها، ما سببها أو داعيها، لما وسعه أن يعلله.. ولكان الأرجح أن يتعجب لها، فقد كان حسن الحال ميسر الرزق. ولا نكران أنه كان يكد ويتعب فى سبيل الرزق.. ولكن كل إنسان يفعل ذلك، حتى أصحاب الضياع لا مفر لهم من العمل والسهر والتعهد والعناية بما يملكون، وإلا نضب المعين وجف المورد. وكان فوق ذلك ذا زوجة صالحة فيها رقة وجمال وأدب وحذق ولها عقل، وكفى بهذا نعمة.
وكان فى تلك الساعة فى «قهوة» لها حديقة تشرح الصدر. والطريق أمامها واسع نظيف، واليوم يوم أحد، والغوانى يرحن ويجئن على الرصيف.. كل اثنتين أو ثلاث أو أربع معا، وهن فى حفل من الزينة. وأخلق بالمرء حين ينظر إلى وجوههن الصبيحة وقدودهن البارعة وخطرتهن الرشيقة، ويسمع أصواتهن البلبلية أن يشيع البشر فى نفسه! وكانت فى حديقة القهوة نافورة صغيرة، ترسل الماء خيوطا دقيقة تعلو ثم تتناثر على صورة المظلة. وقد اجتمع الماء والخضرة والوجه الحسن - بل الوجوه الحسان - فماذا يبغى سعيد فوق ذلك؟ أم ترى اجتماع ذلك كله هو سر الكآبة، من يدرى؟
وجاء ماسح الأحذية وقعد ومد يده بالصندوق إلى رجل سعيد بلا استئذان، فرفع هذا قدمه إلى الصندوق بحكم العادة لا بدافع الرغبة.. فقد كان الحذاء نظيفا لماعا.
وقال الرجل بعد فترة صمت شغل فيها بغسل الحذاء بالماء والصابون: «من زمان ما جئت إلى هنا يا بك».
ولم يكن سعيد «بيكا» ولا كان له أمل أو رغبة فى رتبة كهذه.. فإنه رجل عمل لا يحفل بالألقاب والرتب، ولكن كل امرئ «بك» عند ماسحى الأحذية وسائقى المركبات. ولم يزد سعيد فى جواب السؤال على «آه»، ثم أدار عينه فى الجالسين بهذه القهوة فألفى ناسا يشربون وآخرين يلعبون «الطاولة» وحولهم كثيرون ينظرون إليهم وهم وقوف. وأخذت عينه رجلا وامرأة جالسين تحت شجرة وأمامهما قدحان من «الزبيب» فقد كان هذا أحد الشهور التى لا «راء» فى حروفها - وهى مايو ويونيه ويوليه وأغسطس - والقاعدة المصرية أن شرب «الزبيب» يحلو ويطيب فى هذه الشهور الأربعة. فاشتهت نفسه قدحا من الزبيب.. وصفق فجاء الخادم، ولكنه تردد وخطر له أنه ليس معه من يشاربه. فنظر إلى الخادم الصبور، وسأله: «عندك إيه»؟ ولم تكن به حاجة إلى سؤال كهذا، ولكن الخادم ألف هذا من الزبائن، ووطن نفسه عليه، فقال بلا تململ: «قهوة، شربات، كازوزة، شاى..» وأمسك. ثم كأنما تذكر، فزاد «خشاف، ليمونادة».. ولم يأنس من سعيد قبولا، فقال: «ويسكى، كونياك..» فاستوقفه سعيد بإشارة، وسأله: «كونياك من أى صنف؟» فقال الخادم: «كمبا، كمبا عال، مارتل، كور فوازييه، انيسى..».
فهز سعيد رأسه، وقال: «هات زبيب».
ومضى الخادم، فقال ماسح الأحذية: «القهوة دى يا بك عال».
فزاد صدر سعيد ضيقا ولم يجب، ودار بنفسه أن كل إنسان سعيد إلا هو. وأنكر أن يكون اسمه سعيدا، ورأى فى هذا الاسم تهكما من الأقدار. وخطرت فى هذه اللحظة فتاة أمامه وألقت نظرة سريعة على حديقة القهوة وهى تمر بها، فقال سعيد لنفسه إنه كان خليقا أن يشعر ببعض السعادة لو كانت معه فى هذه الساعة فتاة كهذه تؤنسه بحديثها. ومرت فتيات أخريات وراءها، فقال لنفسه: «ما أكثر الفتيات اللواتى يمشين وحدهن ولا رجال معهن»!
وقال ماسح الأحذية: «شارع ظريف يا بك.. وخصوصا يوم الأحد..» وأشار بيده إشارة عامة يمكن أن تشمل المبانى ومركبات الترام. ورفع وجهه الأسمر إلى سعيد وابتسم له ابتسامة لا تخلو من معنى.. فعبس سعيد، ثم بدا له أن التعبيس لا موجب له، فابتسم متكلفا ورد عينه إلى الشارع ومن يمشين فيه.
وقال الرجل: «بس سعادتك ما بتجيش».
فاحمر وجه سعيد، فقد أدرك غرض الرجل. ولم يخف عليه ما يرمى إليه، وكان الزبيب قد جاء فصب عليه ماء، ورفع الكأس إلى فمه ورشف. وأقبلت إذ ذاك فتاة تعدو على الرصيف وكان جسمها لينا وثوبها محبوكا، فلم يسعه إلا أن ينظر إلى صدرها العارى، وخصرها الهضيم وتحته ردفاها يرتجان، وثناياها اللؤلؤية التى تفتر عنها شفتاها الحمراوان.. فرفع الكأس مرة أخرى وشرب وقال لنفسه: إنه مسكين مسكين ومحروم محروم. ثم ارتد يقول - لنفسه أيضا - إنه ليس مسكينا ولا محروما فإن له زوجة جميلة، وإن فى وسعه أن يعجب ما يشاء بجمال النساء غيرها.. ثم يسكن بعد ذلك إلى زوجته، وأن حسبه من السعادة وفاءها وبرها وإخلاصها. ثم هز كتفيه - وإن كان وحده - وقال: «وما قيمة أن يعجب المرء بالجمال وما خير ذلك؟ وماذا يكون معنى هذا الإعجاب على مسافة أمتار؟ لكأنى أنظر إلى شريط سينما.. ولا فرق بين أن أرى الفتيات يخطرن على الرصيف أمامى، وأن أرى صور النساء فى شريط السينما. إنما تكون للإعجاب قيمة إذا جالس الرجل المرأة وحادثها ونعم بوجودها وحديثها وأنس بمحضرها على العموم. ولكن..» وهز رأسه مرة أخرى متحسرا. فقد كان فيه احتشام وحياء شديد. وكان من غريب أمره أنه يجتنب المجالس التى يختلط الرجال فيها بالنساء. وكان يدعى إلى سهرات من هذا القبيل عند من يعرف من الأجانب والمصريين، فيعتذر ثم يروح يقرع نفسه ويسخط عليها. وكان حياؤه أو شعوره الشديد بنفسه يوهمه أنه ليس مقبول الشكل أو ظريفا، ولا أنس لأحد به. وكان كثيرا ما ينظر إلى نفسه فى المرآة ويدور أمامها، ليرى كيف يبدو من كل ناحية.. فلا تعجبه الصورة التى تطالعه، فيمط بوزه ويقطب وينحط على أقرب كرسى ويروح يفكر فى سوء طالعه، حتى أورثه هذا اضطرابا فى الأعصاب.
وصفق، فقال ماسح الأحذية: «حاجة يا بك»؟
فقال سعيد: «لا..» وتردد فقال: «ناد الجرسون».
فوضع الرجل الفرشاة ونهض، ولما عاد جلس وهو يقول: «أنا خدامك يا بك .. تحت أمرك.. بس اؤمر. أتمنى خدمة.. والله يا بك».
فدار رأس سعيد، وقال لنفسه: «لم يبق إلا هذا.. نعم لم يكن ينقصنى إلا أن أستعين بهذا الرجل.. مصيبة. مثلى يخطر له أن يستعين على سد الفراغ الهائل فى حياته الجافة برجل من هذا الطراز.. ومع ذلك، لم لا..؟ وماذا يستطيع مثله.. إنه لا يسعه شىء أعجز حتى أنا عنه، لأنه إذا كان يعرف أحدا فإنه لا يعرف ولا يمكن أن يعرف إلا الطبقة التى هى كالشمس لكل الناس.. أعوذ بالله.. لا.. ليس هذا ما أريد. ومع ذلك من يدرى.. ألا يمكن أن أختبره»؟
وجاء الجرسون ثم انصرف ليجىء بالكأس الثانية، فخطر لسعيد خاطر، والتفت إلى الرجل وقال: «اسمع: إنى أريد شقة صغيرة.. غرفتين فقط.. شقة أشتغل فيها. البيت ضجة وضوضاء.. شقة صغيرة هادئة.. فى حى محترم..».
فأقبل الرجل على الحذاء يمسحه بهمة ونشاط، وقال: «كثير يا بك.. بس اؤمر».
فقال سعيد: «طيب ابحث وابق قل لى».
فقال الرجل: «حاضر.. من عينى».
فرمى إليه قرشين، فتقبلهما الرجل مسرورا داعيا مؤكدا صحة عزمه على خدمته بإخلاص، ومضى عنه.
وتناول سعيد الكاس وشرب وهو يحدث نفسه أن هذا جنون. وماذا يصنع بالشقة؟ أما إن أمره لغريب.. وهم بأن يدعو الرجل ويصرفه عن البحث، ولكنه عدل وقال إن الأمر بيدى أنا لا بيده، فلا داعى للعجلة. غير انه مع ذلك استثقل أن يدع الرجل يظن به الظنون. وعاد يقول لنفسه إنه رجل لا قيمة له ولا لظنونه، فليظن ما شاء.. ولكن حملته على نفسه لم تفتر.
وكان الليل قد أظلم ولم تبدد سواده المصابيح.. وكان هو فى النور، فقدرته على رؤية الشارع محدودة.. فصارت الفتيات كالأشباح، واتسع المجال بذلك للخيال، فالدميمة منهن يحيلها الخيال فاتنة ساحرة. وساعدته الخمر على إتمام الصور، وجلاء غامضها، وعلاج عيوبها المرئية أو الموهومة. وكانت الخمر قد أنعشته قليلا، فكان ينظر ويفكر ويتخيل بشىء من الارتياح.. ولكنه مع ذلك أحس أنه عاجز عن احتمال كل هذا الجمال، وإن كان أكثره مما رسم خياله، فنادى الجرسون ونهض..
ولقيه ماسح الأحذية وهو على الرصيف، فسأله: «تجى بكره يا بك»؟
ولكن البك لم تعد له أذن تستطيع أن تحتمل الإصغاء إلى مثل هذا الرجل، فقال له: «رح.. رح» فألح الرجل ومشى إلى جانبه، يقول: «ليه يا بك.. أنا خدامك.. بس استنى طول بالك.. إن ما كنتش أخدمك خدمة..».
فقاطعه سعيد ونهره.. ومضى عنه.
والمثل يقول: «راحت السكرة وجاءت الفكرة» ولكن الفكرة تروح أحيانا مع الصحو وتجىء مع السكر.. أو على الأقل، هذا ما كان من أمر سعيد، فقد قال لنفسه إنه إذا كان من العجز بهذا القدر.. فأولى به أن يظل عاجزا وأن يعترف لنفسه بذلك ويوطنها عليه. ولم يكن هذا الخاطر مما يجلو الكآبة ويلطف الوحشة التى تحسها النفس، وأخلق بالاعتراف بضعف الحيلة وقلة الوسيلة وعدم الصلاح أن يزيد هبوط الروح! ولا عجب إذا كان سعيد قد عاد إلى بيته وهو يسأل نفسه لماذا شرب هذا الزبيب السخيف؟
ودخل على زوجته، وهو يقول لها: «اسمعى.. من الآن فصاعدا لا تدعينى أخرج ومعى فلوس.. بس الكفاية للانتقال.. فاهمة»؟
فظنت أن ما معه سرقه النشالون، فقال: «لا.. بس شربت زبيب.. جنون بالطبع.. الرجال مجانين».
وارتمى على كرسى، وهو يقول: «قال زبيب.. كلام فارغ.. مسخرة وقلة حيا».
وأتخذت كآبته صورة السخط على النفس، ولا نعرف كيف كانت أحلامه فى تلك الليلة.. فإنه لم يقصها على أحد، ولكن الأرجح أنها لم تخل من «الزبيب والكلام الفارغ»!
الفصل الرابع
العقد الضائع
رجعنا من السويس على عجل - أختى وزوجها وأنا - وكنا نقضى فيها أياما، فقد تلقينا نبأ من خادمتنا القديمة الأمينة «فرحة» بأن عمدة قريتنا قادم.. وسينزل علينا ضيفا إجابة لدعوة قديمة نسيناها، فأسرعنا نحشو الحقائب حشوا بلا عناية، لنكون فى البيت قبل أن يصل. ومضى ابن عمى - زوج أختى - فجاء بالسيارة. وكنت قد هضت ساقى قبل ذلك بيوم، فلم يبق مفر من أن يسوق هو السيارة وإن كان لا يحسن ذلك.. ولم يتلق فيه إلا بضعة دروس قليلة. وكان الأحجى أن نستأجر رجلا لهذا، ولكنا كنا نحرص على ألا يكون معنا غريب يحول وجوده دون حريتنا فى الكلام والضحك واللهو أثناء الطريق وقد عزيت نفسى بأن طريق السويس سهل والحركة فيه قليلة، فلا داعى للخوف. وفى وسعه أن يخطئ كما يشاء.. فلن يضيره أو يضيرنا ذلك، وإن كان يخشى أن يضيع وقتنا.
وجلست إلى جانبه، وجلست أختى على المقعد الخلفى، وطمأنتها بأنى وأنا معه سأكون السائق الحقيقى، وأنه لن يفعل إلا ما آمره. ولكنا لسوء الحظ، ألفينا الطريق غاصا بالسيارات.. فتعجبنا أولا، ثم تذكرنا أن هذا يوم الأحد، فلا عجب إذا كان الكثيرون قد أقبلوا على السويس ليقضوا اليوم فيه.
وقطعنا بعض عشرات من الكيلومترات فى سلام - وفى ضحك أيضا - ثم بلغنا أول مرتقى فى طريقنا، فأشرت على ابن عمى بأن يضع ناقل السرعة فى المحل الثانى.. ففعل، فوقفت السيارة فى منتصف الانحدار. وكنا لا نزال فى مكاننا حين وقف المحرك للمرة العاشرة، فاقترحت عليه أن يكف عن العمل، وأن يضطجع ويشعل سيجارة. ولكنه هز رأسه وقال: «هل أرجع بها القهقرى، ثم أبدأ من جديد»؟
فقلت له: «كلا، إنى أفضل لسخافتى أن أواجه الموت».
فقالت أختى: «هل نستطيع أن ندفعها يأيدينا حتى نبلغ ذروة هذا المرتفع؟..» قلت: «كلا.. إن زنتها لا تقل عن طنين».
وقال ابن عمى؟ «لن أسألك عن السبب فى وقوفها كلما حاولت أن أحملها على السير، فإنى أعرف جوابك.. ولكنى أؤكد لك أنى أضع ناقل السرعة فى مكانه بأقصى ما يسع إنسانا من الترفق والبطء.. وإذا كنت تريد أن تعرف رأيى فهو أن السيارة قد أصابها تلف».
قلت: «سيصيبها التلف على التحقيق، إذا ظللت تحاول أن تدير المحرك ثم توقفه.. فستنفد الكهرباء وتحتاج كلما أردت إدارة المحرك أن تنزل وتديره «بالمنفيلا». وقد ينفعك هذا، فيغريك بالتفكير قليلا».
فصاح بى: «أتظن أنى لم أفكر؟ أتتوهم أنى لا أفكر الآن؟ إن رأسى يكاد ينفجر من فرط التفكير».
فضحكت أختى، فصاح بها: «نعم اضحكى.. انظرى إلى الجانب المضحك.. ولم لا.. قد يطير عقلى، ولكن هل يجوز أن يمنعك هذا من الضحك»؟
ودأس برجله الزر يريد أن يدير المحرك.. ووقفت السيارة مرات أخرى لا أذكر عددها فاضطجع وأغمض عينيه وراح يقول: «لا فائدة.. لا فائدة.. قضى الأمر، وأنا واثق أنه كتب علينا أن نبقى هنا إلى الأبد. ومن يدرى.. ربما كان فى الطريق مارد فى يده سيف مسلول.. والسيارة تراه وإن كنا نحن لا نبصره. ومن العبث أن يقاوم المرء القضاء والقدر. كلا.. لا تتكلموا.. فإنى أوثر أن أقضى نحبى فى سلام وبغير ضجة».
وفى هذه اللحظة وقفت إلى جانبنا سيارة ونزل منها رجل لم نكد نبصره حتى أيقنا أنه إنجليزى، وحقق هو ظننا فقال لنا بلغته: «هل أستطيع أن أساعدكم»؟
فشرحت له الأمر وعرفته خطبنا، فابتسم وهم بكلام ولكن ابن عمى قال له: «امض عنا.. اذهب.. وحدك.. إن أمامنا ماردا وقد حذر السيارة من المضى ففهمت عنه.. كان صريحا فيما قاله لها، اذهب وأرجو لك السلامة».
فابتسم الرجل ودعاه إلى النزول، واتخذ مكانه.. وصعد بنا إلى رأس التل، ولم يكتف بذلك بل ظل معنا - على مسافة منا.. وراءنا - حتى فرغنا من المرتفعات، وصار الطريق بعد ذلك سهلا منبسطا، فشكرناه ولكن أى شكر يمكن أن يفى بحسن صنيعه ومروءته؟
وكان مساء.. ثم كان صباح.
ولم يكن النهار قد ارتفع ولا كانت الشمس قد علت، لما دخلت على «فرحة» توقظنى قبل موعدى المألوف بساعتين، وتخبرنى أن أختى تصيح على وتدعونى إليها فى غرفتها. وقد عجبت، وحق لى أن أعجب.. فما أعرف موجبا لإزعاجى فى مثل هذه الساعة المبكرة - السابعة من فضلك - ومع أختى زوجها، فما حاجتها إلى؟ وقد حاولت أن أهمل هذه الدعوة، ولكن «فرحة» أبت أن تمضى عنى وتدعنى أستأنف النوم.. فتمطيت وفركت عينى وتثاءبت وقلت لها: «ماذا هناك يا فرحة»؟
فقالت بلهجتها الهادئة المطمئنة وصوتها المتزن النبرات الذى لا أذكر أنه ارتفع عن هذه الطبقة مرة واحدة فى عشرين عاما قضتها معنا مذ كانت طفلة: «إن الأمر يستدعى وجودك».
وفرحة عاقلة ذكية وحريصة دقيقة العبارة، قد رباها أبى مع أختى وعنى بتعليمها أيضا، وجعل لها حصة فى الوقف الذى وقفه قبل وفاته. وكانت هذه مفاجأة سارة لنا، فقد أحببنا فرحة حب الأخت. وكانت هى - وما زالت - ربة البيت. ولسنا نعاملها معاملة الخدم وإنما نعدها واحدة منا لها علينا مثل الذى لنا عليها. وحسبك منها، أنها ما أخذت فى حياتها معنا أجرا على خدمة، وأنها بعد وفاة أبينا لم تحاسبنا قط على ريع حصتها وإن كنا نودعه البنك باسمها.. فإذا أرادت ثوبا أو خاتما أو غير ذلك طلبته منا، كما يمكن أن تطلبه أختى منى أو من زوجها. فإذا كانت تقول الآن أن الأمر يستدعى وجودى، فقد صار القيام لابد منه.
ودخلت على أختى وورائى فرحة، فألفيتها مستلقية على السرير فى منامة قرمزية مزركشة ومعتمدة بكوعها على وسادة وثيرة مربعة محشوة بريش النعام وخدها على راحتها ويسراها على فخذها وبين أصبعيها سيجارة.. وكان منظرها فاتنا فإنها جميلة ممشوقة، وكانت هذه الرقدة تبرز خطوط جسمها الرشيق وبراعة الانحناءات فيه.
وكان زوجها قاعدا فوق السجادة، فنظرت منها إليه وقلت: «لا عجب أن تدللها.. لست بإنسان إذا لم تفعل».
فابتسمت مسرورة وأدنتنى منها وقبلتنى، وقالت: «اجلس هنا.. إلى جانبى على السرير.. وأنت يا فرحة.. قصى عليهم الحكاية» فأراحت فرحة أناملها على شباك السرير وأشارت بيدها الأخرى إلى منضدة صغيرة قريبة وقالت: «قبل أن أترك الغرفة وضعت بيدى عقدها - وأشارت إلى أختى - على هذه المنضدة، وفى الصباح دخلت عليها فلم أجده. وسألتها عنه فقالت إنه فى مكانه، فذهبت إلى البك - تعنى زوجها فإن فرحة مؤدبة - وسألته فجعل يضحك ويتحسس عنقه ويقول إنه ليس هنا.. هذه هى الحكاية».
فقلت متمما لها كلامها: «فجئتم بشرلوك هولمز ليحل اللغز ويضع يده على اللص.. أشكر لكم هذه الثقة العظيمة».
فقالت أختى، وهى تضحك: «العفو.. الواقع أن كل ما أذكره هو أنى قمت بالليل، وغبت عن الغرفة دقائق، ومررت فى عودتى بغرفة هذا الزوج الصالح.. ولكن شخيره كان عاليا فهربت».
فنهض ابن عمى محتجا وقال وهو يتمشى: «شخيرى.. هل تريدين أن تقولى إنك أفردت لى غرفة من أجل شخيرى.. شخيرى.. ليتك ترين نفسك فى المرآه وأنت نائمة. إذن لرأيت كيف ترمين اللحاف وتضربين برجلك هنا وبيدك هناك، كالأطفال بلا أدنى فرق. لقد تزوجت طفلة حين تزوجتك.. تقول شخيرى.. مثل هذا الطعن القبيح على سيدها وتاج رأسها، هل يليق يا فرحة»؟
فابتسمت فرحة ولم تقل شيئا. وماذا عساها تقول، وشخيره يزعج الجيران حتى لقد جلا السكان عن هذا الحى، وخربت بيوت أصحاب العمائر فيه. ... وانتهت ضجة الضحك أخيرا - ولكل شىء آخر - فقلت: «ماذا كان شرلوك هولمز خليقا أن يصنع فى مثل هذه الحالة»؟
فصاح بى ابن عمى: «دع الفلسفة من فضلك.. الأمر واضح.. البيت موصد من كل ناحية والمنافذ كلها مسدودة، فالذى أخذ العقد لم يجئ من الخارج وإنما هو ولا شك واحد ممن فى البيت».
فصحنا جميعا - ما عدا فرحة فإنها مؤدبة.. «برافو.. برافو..» فلم يعبأ بنا ومضى يقول: «الجديد علينا هو ابن العمدة.. فهو السارق».
فلما نطق بهذا، صحنا به جميعا - حتى فرحة وإن كانت مؤدبة - فلم ينهزم، وقال وهو يعود إلى الجلوس على الحشية: «لا بأس.. ولا داعى للصياح.. المسألة بسيطة، إذا لم يكن هو اللص فمن عسى أن يكون غيره»؟
فقلت: «أنت مثلا.. لم لا»؟
فقهقه، فقلت: «ألا يمكن أن تكون قد أخذته لتضعه فى مكان أمين ثم نسيته كعادتك؟ إنك هكذا وأنت تعرف ما يكلفنا نسيانك. قم انظر أين وضعت العقد، واذكر الأسفنجة.. قبل أن تعترض وتحتج.. قم من فضلك».
فقالت أختي وهى تعتدل في مجلسها: «يا سليم.. إني لم أخطئ حين أزعجتك.. كلا، وأنا الآن واثقة أن ابن العم قد نسى أين وضعه».
فصاح بها محتجا: «ولكنى يا ستي لم أدخل غرفتك.. ودعتك - أعنى قبلتك ولا مؤاخذة يا سليم، فهذه عادة الأزواج - ثم لم أعد.. فكيف يمكن أن أكون قد أخذته»؟
فقالت وهى تقف: «تذكر.. حاول أن تتذكر..».
وزدت أنا على قولها : «جرب مرة واحدة أن تكلف هذا الرأس عملا.. لا تخف أن تتعب».
فمضى عنا إلى الباب وهو يقول: «إنى ذاهب إلى الحمام..».
وهنا ينبغي أن أقول إن العقد الذي غاب مما ورثناه عن أمي، وهو من اللؤلؤ النفيس.. وكانت حباته نحو مائتين، وأكثرها من الكبار في حجم الفولة، وقد رأينا أن نجعل منه عقدا واحدا صغيرا أعطيناه لفرحة، وبقى الكبير وآخر صغير لأختي.. فكانت إذا لبست أحدهما تلفه على نحرها الجميل، فغير معقول أن يسرق منها وهو على نحرها. على أن الأمر لا محل فيه للتخمين، فقد قالت فرحة إنها وضعته على المنضدة.. وفرحة صادقة، ثم أن ذاكرتها لا تخونها أو تعابثها كما تعابث ابن عمى - أحمد - ذاكرته. ولم يكن أسخف من قوله - وإن كان يمزح على عادته - إن ابن العمدة «حسن» هو الوحيد الذي تتجه إليه التهمة، فإن «حسنا» هذا من سراة الناس، وهو فوق ذلك من أقرباء أحمد الأدنين. وقد ذكرت ذلك لأريك إلي أي حد يذهب أحمد في مزاحه.
ولا أحتاج أن أقول إننا استقبلنا يومنا مكتئبين مهمومين محزونين، فإن للعقد قيمته الذاتية والمعنوية.. وقد كنا نتكلف المرح ونبدى صفحة البشر ونتلقى الأمر بما يشبه الاستخفاف، لأننا اعتدنا أن نواجه الأمور على هذا النحو، وربانا أبوانا على الجلد وضبط الإحساس. أما أحمد فكان بطبيعته هزالا يركب الحياة بالدعابة والبشاشة والعبث، وقد أحبنا وأحببناه وأنس بنا وأنسنا به، فعاش معنا وآثر بيتنا على بيت أبويه، وانتهى الأمر بما كان لابد أن ينتهي به - أي أن يتزوج أختي - ولست أعرف أسرة أخرى تعيش هذه العيشة السعيدة الرغيدة. وحسبك أن المال موفور وأن الطباع رضية والأمزجة متطابقة. •••
ومن عادة أحمد أن يغنى وهو في الحمام. ولست أعنى أنه يغنى الأصوات الشائعة، وإنما أعنى أنه وهو في الحمام يصف كل ما يعمل، ويرفع الصوت بالغناء بهذا الوصف.. فإذا كنت على مقربة من الحمام لم يسعك إلا أن تسمعه يقول - أو يغنى على الأصح: «أين الأسفنجة يا سيدي.. لابد أن تكون هذه الزوجة المهملة قد ضيعتها.. ومن يدرى يا حبيبى.. فعلها خبأتها عمدا.. آه يا روحي.. وأين الكبريت.. أظنني نسيته.. هذا خازوق يا حبيبى.. وكيف أسخن الماء الآن؟ يا لعنة الله انزلي على رأس الذي اخترع التدفئة بالغاز.. آه يا عيني.. والله وحسه.. نجد الكبريت فلا نجد القرش الذي نضعه في الثقب لينطلق الغاز.. ويسخن الماء فلا نجد الأسفنجة.. وأجد كل ذلك وأنام في الحوض، ويبدأ الشعور بالراحة وإذا بالغاز قد فرغ. وأخذ الماء يبرد.. ويجب أن أخرج من الحوض لأضع قرشا آخر في الثقب وأبحث عن الكبريت.. والكبريت مبلول.. معلوم يا سيدي.. أو الكبريت فرغ.. طبيعي.. أصيح.. ومن يسمع.. ألبس البرنس وأخرج لأجيء بكبريت.. خازوق آخر يا حبيبي.. لقد سيبت الغاز مفتوحا.. فالحمام كله غاز.. وستختنق يا ولد إذا لم تفتح النافذة.. افتح يا سيدي وابرد.. وحوح يا حبيبي من البرد.. الذي سمى هذا حماما كان ولا شك ابن حرام».
وهكذا إلى غير نهاية.. ومن تحصيل الحاصل أن أقول إننا اعتدنا أن نقف قرب الحمام كلما دخل فيه أحمد لنعرف ما يجرى فيه، فنقع على الأرض من كثرة الضحك. ولابد أن يحدث له شيء لا يحدث لسواه، لأنه كما أسلفت سريع النسيان.. ينسى أين وضع الإسفنجة وأنه رمى الكبريت فى الحوض، وينسى أنه نسى أن يجيء معه بقروش ليضعها فى الثقب.. فإنه يبقى فى الحوض ساعة وساعتين وهكذا. ولولا أنه نساء لعابثناه عامدين لنضحك، ولكنه أغنانا عن ذلك.
وكان حسن قد استيقظ ونهض ليلحق بنا ويجلس معنا، فألفانا عند الحمام واقفين وإن كانت المقاعد فى الدهليز، فحيا بيده.. فأشرنا إليه أن اسكت.. ورآنا نبتسم وأحس من هيئتنا أننا نتسمع، فمشى على أطراف أصابعه ووقف معنا يصغى أيضا، وكان أحمد يقول: «العقد ضاع.. قال ضاع.. كلام فارغ يا حبيبى.. والله ما أخذه إلا هذا الحرامى الذى نزل فى ضيافتنا.. بالطبع سرقه فى عمر أمه ما رأت مثله الأقارب عقارب يا سيدى.. ضاع العقد يا ستى.. أنا المسكين يا حبيبتي.. هات لى عقد غيره يا سيدي.. طبعا يا ماما.. من يدري.. لعل العقد لم يضع.. أيوه يا سيدي.. لم يضع. الأرجح.. والمعقول أن يكون في الدولاب.. أخفته الزوجة الصالحة لأشترى لها عقدا سواه.. النسوان ملاعين يا روحي. قالوا العقد ضاع.. ضاع فين يا أهل القونطة، لا يا ستى العقد فى الدولاب، والغرض مرض».
وكان يبدئ ويعيد فى هذه المعانى.. فأما حسن فلم يفهم وكان ينظر منى إلى أختى، وكان يرانا نضحك فيتكلف الضحك مثلنا.. وأما أختى فضحكت أولا ثم لما سمعته يتهمها بأنها خبأت العقد لتطالبه بحلية.. تجهمت، فشددت على ذراعها، فنظرت إلى مبتسمة وهزت رأسها، وعاد إلى وجهها الإشراق.. ولكنها لم يسعها إلا أن تقول لنا ونحن نمضى عن الحمام قبل أن يخرج هو علينا: «شف.. ينسى أين وضع العقد ثم يدعى أنى خبأته.. طيب..».
وقال حسن: «ألا تقول ما هى الحكاية»؟
فضحكت، وقلت: «الحكاية باختصار إن أختى لا تجد عقدها.. وأحمد يتهمك بسرقة العقد.. لقد سمعته بأذنك.. والآن أفهمت»؟
وكانت هذه صدمة، فإن معرفة حسن بأحمد يسيرة، وإن كان من أقاربه الأدنين.. ولكنه احتمل هذه الصدمة، وأسرعنا نحن فعرفناه بأساليب قريبه، فضحك معنا. ولكنه مع ذلك صار يطرق من حين إلى حين.
وخرج أحمد أخيرا ودخل علينا وفى يده صحيفة يتأملها وينظر إلى الصور التى فيها فما كانت له عناية بقراءة الصحف. وجلس إلى المائدة وأدار عينه فيما عليها، ثم سأل: «ماذا أعددت لنا يا امرأة»؟
فاغتنمت أختى هذه الفرصة، وصاحت: «ألا تنتظر حتى يستعد الباقون للأكل؟ ما هذه الشراهة؟ ثم كيف تزعم أنى أخفيت العقد لتشترى لى سواه»؟
فقال ببطء: «الجواب على السؤال الأول بالنفى.. النفى البات.. أما الشطر الثانى من السؤال، فإن الرد عليه يكون بعد الأكل.. فإنه يحتاج إلى عقل، والعقل يذهب به الجوع». فعادت تصيح به: «ولكن كيف تجرؤ»؟
فقال بهدوء: «من الغريب أنى جئت إلى هنا لآكل لا لأتكلم أولا يا امرأة». فقالت: «هل عنيت بالبحث فى ثيابك؟ بالطبع لم تعن..».
فالتفت إلى حسن، وقال: «شف يا حسن.. شف.. احذر يا ابنى أن تتزوج.. لا عذر لك وقد رأيت بعينك ما تصنع الزوجات ببعولتهن».
فقال حسن: «أظن أنى سأتزوج.. وعلى فكرة كيف تسمح لنفسك أن تتهمنى بالسرقة»؟
فرفع أحمد يديه إلى السماء، ثم التفت إلى حسن وقال: «وأنت أيضا؟ لم يبق لى عيش فى هذا البيت.. فلأرحل». ونهض، وقال: «يا امرأة، إنى فى المكتب».
لم ندع مكانا فى البيت إلا بحثنا فيه، ولا ثوبا فى خزانة أحمد إلا نفضناه وقلبنا جيوبه.. حتى السجاجيد رفعناها ونظرنا تحتها.. حتى الستائر نحيناها وأجلنا عيوننا فيما وراءها وفيها أيضا مخافة أن يكون حبل العقد قد علق بشيء منها. فلم نجد عقدا ولا حبة من عقد، فيئسنا وحل الاكتئاب محل البشر، فقد كنا إلى ما قبل ذلك نعتقد أن العقد موجود فى مكان ما ولكن أعيننا لا تراه. وقد أعدنا البحث مرة أخرى لظننا وتوهمنا أننا تخطيناه بعيوننا ونحن نديرها كما هى العادة فى حالة الاضطراب. ولم يكن أحمد يعفينا من مزاحه فى خلال هذا البحث المتعب.. فلما كففنا، قال وهو يضطجع ويشعل سيجارته: «لا فائدة.. لقد كنت أعلم من أول الأمر أن لا فائدة.. قلت لكم مائة مرة أن هذه الزوجة تعرف أين يوجد العقد.. نعم، هى خبأته». فصاحت به: «ألا يمكن أن تسكت»؟
فقال: «أسكت كيف.. وأنت تحمليننا كل هذه المشاق من أجل خرزات»؟.. ولم يتمها.. فقد هجنا به احتجاجا على وصف حبات اللؤلؤ بأنها خرزات.
ولما هدأت الضجة، قالت أختى: «اسمعوا.. إنى لم أعد أطيق البقاء هذا النهار فى البيت، فلنذهب إلى أى مكان آخر ولنتغد هناك».
وكان هذا اقتراحا حسنا، فإن بقاءنا فى البيت كان خليقا بأن يغرينا باستئناف البحث مرة وأخرى، فنشقى على غير جدوى. فمن الخير أن نخرج وأن نقضى النهار فى مكان آخر ثم نعود.. ومن يدرى؟ فقد نجد العقد تحت عيوننا حين نعود كما يحدث كثيرا. وما زلت أذكر كيف كنت أبحث مرة عن قلمى وكانت أختى معى، فلما تعبنا جلسنا على الكراسى وهممت بأن أخرج سيجارة وإذا بالقلم بين أصابعى.. ومن الغريب أن أختى لم تره فى يدى كما لم أره. وقد ذكرت أختى بهذه الحكاية أو الحادثة، وفى مرجوى.. أن أبعث فى نفسها الأمل، فلا تقضى النهار يائسة، وإن كانت تتشجع وتتجلد ولا تبدى جزعا.
وقمت إلى حمامى على حين راح غيرى يلبس الثياب استعدادا للخروج.. وكان طبيعيا أن يفرغوا من شأنهم قبلى وأن يستبطئونى، فإنى أنا فى حركة دائمة فى الحمام، وهم لا يصنعون شيئا بعد أن لبسوا الثياب ووقفوا ينتظرون.. وليس أشد على المضطرب القلق من الانتظار. فأقبلوا على باب الحمام يدقون عليه بأيديهم وينقرون بأصابعهم، ويدعوننى أن أسرع..
وأخيرا خرجت.. فما يمكن أن تكون لمستحم راحة أو لذة وعلى بابه من يصيحون به ويسمعونه ما يكره، فلحقوا بى فى غرفتى ولكنى أخرجتهم منها بجهد.. فإنى مستعد أن أحتمل كل شىء إلا أن يحيط بى هؤلاء الصائحون الصاخبون وأنا ألبس. على أنى أسرعت وعجلت لأتقى شر هجومهم على كرة أخرى، وكانت ساقى لا تزال أحسها ثقيلة مما أصابها فى السويس وهاضها، وإن كانت لا تؤلمنى. فلما صرت إليهم فى الردهة وقفت هنيهة أدعكها بكفى لالينها، فسألتنى أختى: «ألا تزال تؤلمك»؟
قلت: «كلا.. لا ألم ولكنى أحسها ثقيلة».
فقال ابن عمى: «كلك ثقيل يا أخى.. تعال».
فقلت: «ولكنى حقيقة أشعر أنها أثقل مما كانت أمس».
فقالت أختى: «طبيعى.. هذا من الجهد الذى تكلفته اليوم فى البحث».
فاقتنعت ونزلنا إلى الباب، وكان ابن عمى قد جاء بالسيارة قبل ذلك وتركها أمام الباب، فجلست أختى ومعها حسن على المقعد الخلفى، واتخذ أحمد مكان القيادة، وقلت له وأنا أفتح الباب الآخر لأجلس إلى جانبه: «لعل درس الأمس نفعك، فلا تكرر أخطاءك المعتادة».
فزام أولا، ثم قال: «ولكن إذا كنتم تريدون أن أشرفكم بتولى القيادة العامة.. أفلا يحسن أن أعرف إلى أين يراد منى أن أحملكم»؟
فقالت أختى: «أوه.. إلى أى مكان.. إلى القناطر الخيرية إذا شئت أو إلى أى مكان تحب».
قال حسن : «إلى القناطر إذن. اركب يا هذا.. أم تريد أن أنزل وأحملك»؟
وكان الركوب يحوجنى أن أحمل ساقى بيدى، لأن ثنيها كان يؤلمنى فى موضع الركبة.. فجلست على المقعد ووجهى إلى الباب وملت على ساقى وهى ممدودة لأحملها وأدور بها لأدخلها فى السيارة. ثم ارتددت ضاحكا، فسألتنى أختى عن الخبر، فقال لها زوجها: «دعيه.. إنه يحلم. لا يزال نائما.. ألا تريدين؟.. أعنى ألا تسمعين»؟
فمسحت أولا الدموع التى ترقرقت فى عينى من فرط الضحك، ثم مسحت بطنى التى صارت توجعنى.. ثم تنهدت وقلت: «أخ.. مسألة ظريفة جدا».
فقالت أختى: «ولكن ما هى الحكاية؟ أتظن أن من اللائق أن نقف ساعة أمام الباب»؟
قلت: «أظن أن الواجب أن ندخل.. نعود إلى البيت دقائق قبل أن نخرج إلى رحلتنا».
فنهضت أختى عن مقعدها قليلا وزحفت إلى الأمام مقدار شبر ووضعت كفها البضة على كتفى، وقالت: «لا تعذبنى انطق». قلت: «لا حاجة بى إلى الكلام.. خذى».
وانحنيت فأخرجت العقد المفقود من طية البنطلون عند حرفه، ورفعته إلى عينها وقلت: «لقد كنت أظن أن ساقى اليوم أسوأ مما كانت أمس لأنى أحسها أثقل.. فالآن عرفت السبب، ولكنى لا أعرف كيف سقط العقد فى طية البنطلون».
ولا أزال إلى الآن أجهل كيف أمكن أن يحدث هذا، وإنما الذى أعرفه أن أختى نعمت فى يومها هذا، وأن ابن عمى حاول أن يركبنى بعبثه المألوف.. فوضعت كفها على فمه، فقبل أصابعها، ثم عضها، فصرخت. فقال: «هذا جزاء من يدافع عن السراق واللصوص والخونة»!
الفصل الخامس
الجارة
كثيرا ما أطلب العزلة والهرب من الناس لا لأنى أكرههم أو أنفر منهم، بل ليتسنى لى أن أخلو بنفسى وخواطرى. ولست أعنى أنى أشتهى أن أكون فى مكان خلاء.. وأنما أعنى أنه يحلو لى أحيانا أن أرى أن كل من حولى ممن لا أعرف. ولا أدرى كيف هذا.. ولكنه يخيل إلى حين يتفق لى ذلك، أنى خلعت ثيابى على ساحل بحر ورميت نفسى على مائه ورحت أسبح فيه، وأضرب بذراعى ورجلى، وأفعل غير ذلك مما يفعل السابح. وما أعرف من السباحة شيئا.. وأنى لشبيه بابن الرومى الشاعر الذى يقول فى بعض شعره إنه لم يتعلم من السباحة سوى «الغوص» وأنه لو ألقى به فى الماء لسبق الحجر. ولكن هذه هى الصورة التى ترتسم بذهنى حين أرانى فى حشد كبير ممن لا أعرف من الخلق. وكثرا ما يسألنى أخوانى: «أين كنت البارحة؟» فأقول: «كنت فى السينما» فيسألوننى: «وحدك؟» فأقول: «نعم مع الأسف» ولا داعى للأسف، ولكنى أقول ذلك لهم على سبيل المجاملة، فيقول قائلهم: «ولم لم تخبرنا؟.. إذن لذهبنا معك وأنس بعضنا ببعض» فأقول: «أى والله.. ولكن هذا هو الذى كان، فلندعه إلى الحاضر الذى نحن فيه».
وفى نوبة من هذه النوبات، ركبت سيارتى وانطلقت بها إلى سينما «المتروبول» وأنا أحدث نفسى بما أرجو أن أفيده من السرور والمتعة حين أرى تلك الطفلة الفاتنة «شيرلى تمبل» من غير أن يكون إلى جانبى أحد يقول لى: «انظر.. يا سلام أما إنها لراقصة.. يا للبراعة. كيف استطاعت أن تجيد التمثيل إلى هذا الحد؟ ترى كم ينقدونها أجرا لها فى الأسبوع»؟.. إلى آخر هذا الهذر الفارغ الذى يفسد على كل متعة.
ووقفت أمام الشباك ومددت يدى إلى الفتاة بثمن التذكرة، وإذا بيد على كتفى.. فأبيت أن ألتفت إلا بعد أن آخذ التذكرة، ويحل غيرى محلى أمام الشباك مخافة أن يكون هذا صديقا فيلازمنى، وماذا يبقى لى حينئذ من الوحدة التى أطلبها وأحدث نفسى بحلاوتها. ومن يدرى أى صديق هذا؟ فقد يكون ممن أحب وآنس بهم وأرتاح إليهم، وقد يتفق أن يكون من الثقلاء الذين يفرضون أنفسهم على الناس، فلا مهرب لمن يقعون عليه. وأحسست أنى نجوت فقد اخترت مقعدا بين مقاعد أخرى ليس واحد منها خاليا، فأنا على الأقل فى أمان من جيرة هذا الذى وضع كفه على كتفى. ووسعنى أن ألتفت إليه وأنا مطمئن لأرى أى أنسان هو.. فلم يخب ظنى، فقد كان ممن ينبغى أن يهرب المرء منهم ويسأل الله السلامة من صحبتهم، فسألنى : «وحدك»؟ فكرهت أن أكذب واكتفيت بأن أشر بيدى، وأنا أمضى عنه، إشارة قد يكون معناها أن معى غيرى أو أنى ذاهب إلى مكان ما أو غير ذلك، مما يمكن أن يفهمه الإنسان من إشارة غامضة كهذه.
ونجوت بنفسى، وكان فى الوقت متسع.. فقلت لنفسى: إنى أخشى أن يلحق بى فلأبعد. فرحت أتمشى على الرصيف فى شارع فؤاد - وهو يغص بالناس فى مثل هذه الساعة - فجعلت أنظر إلى الرائحين والغادين أو لعل الأصح أن أقول الرائحات والغاديات وهن مقبلات ومدبرات فى ثيابهن المحبوكة التفصيل. التى تبدى منهن أكثر مما تستر. نعم تستر الجسم، ولكنها تعرض على عينك صورة للقوام هى أبرع من صورة البدن العارى. فقد يكون الثدى مسترخيا فيرفعه ويبرزه الرباط، وقد يكون الخصر أكثر امتلاء مما يجب.. فيرده حسن التفصيل أهيف ويبرز من تحته الردفين. ولم أزل أتمشى حتى آن أن أعود، وإذا فتاة أعرف وجهها ولا أجهل أين بيتها، فإنه قريب من بيتى.. وكثيرا ما رأيتها فى شرفتها أو داخلة أو خارجة من البيت أو نازلة من الترام. وأحسبها تعرفنى كما أعرفها، فقد لفتت وجهها وأطالت النظر إلى - فى عينى - فبيننا معرفة يسهل جدا أن تصبح وثيقة فى أوجز وقت، إذا أمكن أن يفتح أحدنا فمه بكلمة. ولكن من هو الذى ينبغى أن يبدأ؟ أما أنا فإنه من العسير على - بل من المستحيل كما تبينت ذلك بالتجربة المرة - أن أبدأ إنسانا لا أعرفه بكلام، رجلا كان أو امرأة. وقد خطر لى وهى تنظر إلى - لا بل تحدق فى وجهى - أن فى وسعى على الأقل أن أبتسم. ولم لا؟ إن الابتسامة تحية ظريفة، فإذا قابلتها بمثلها انتهى الأمر، واستطعت أن أنتقل أو أترقى إلى الكلام. وإذا أغضت عنها كأنها لم ترها، ففى مقدورى أن أعزى نفسى بأنها خجلت أو أنها خشيت ألا تكون هى المقصودة بها. وإذا قابلتها بالعبوس أو غير ذلك من مظاهر الامتعاض والنفور، ففى إمكانى أن أزعم لنفسى مغالطا أنى لم أكن أعنيها حين تبسمت، وأن أهز كتفى استخفافا بها كأنما أريد أن أقول إنها ليست المرأة الوحيدة فى هذه الدنيا، وإنها ليست أجمل الفتيات، وإنها حرة.. ولها إذا شاءت أن ترفض نعمة الاتصال بى.
دار كل هذا بخاطرى، وأنا أنظر إليها وهى تنظر إلى، وكان ينبغى أن أتبسم.. فما فى ذلك بأس، ولكننى لفرط شعورى بنفسى خشيت أن أبدو كالأبله، ووددت فى هذه اللحظة لو أن معى مرآة فأنظر فيها إلى وجهى، وأرى كيف يكون حين أبتسم لفتاة لا أعرفها. ولكنى أرجو أن تفتنها الابتسامة وتغريها بمثلها - على سبيل التجربة - وأين المرآة؟ ومتى كان الرجال يحملون المرايا معهم كالنساء؟ وهب مع الرجل مرآة، فهل يستطيع أن يخرجها ويتأمل وجهه فيها ويروح يبتسم وحده وهو يفعل ذلك كالمجنون!
وذهبت الفتاة وغابت عن عينى، وأنا أحدث نفسى بهذه السخافات.. وضاعت الفرصة وأزف الوقت، فعدت إلى السينما وأنا أقول لنفسى: «ألم يكن فى وسعى أن أدنو منها وأقول لها مثلا إننا جاران من قديم أو كلاما آخر كهذا ... كلاما أبرع من هذا وألطف وأوقع فى النفس فإن كونها على طريقى إلى البيت لا يستوجب أن تعرفنى وأعرفها»؟
وذهبت أنشئ أحاديث وأتخيل حوارا بينى وبينها من أظرف وأرق ما يمكن أن يخطر على البال، وكنت وأنا أتخيل ذلك أحس أن وجهى ترتسم عليه المعانى التى تدور فى نفسى.. فخجلت وخفت أن يرى الناس ذلك منى فيتعجبوا ويشكوا فى عقلى - أعنى فى صحته - وكنت قد بلغت المدخل، فدفعت «التذكرة» إلى العامل فتقدمنى ووقف عند صف، وأشار إلى موضع الكرسى وقال: «السادس» فسألته على سبيل التثبت: «الثالث؟» قال: «لا. لا. لا.. السادس..» فاستأذنت الجالسين ودخلت بظهرى - أعنى أن ظهرى كان إليهم وأنا أخطو أمامهم متحرزا - فلم أر وجوههم ثم جلست وبدأت أتلفت، فما راعنى إلا أن الفتاة جالسة إلى جانبي..
ولا أدرى لماذا فزعت.. وقد كان المعقول أن يسرنى هذا لأنه يتيح لى فرصة جديدة، فقد تلتقى يدى بيدها أو تقع رجلى على رجلها فأعتذر بأدب وأعرب لها عن الأسف فيفتح باب الكلام الموصد. أو قد تضحكنا «شيرلى» بنكاتها أو بحسن أدائها فألتفت إلى جارتى فأراها تضحك مثلى، ويمنعها السرور فى هذه اللحظة السعيدة أن تعبس أو تقابلنى بالجفوة. ولكنى فزعت كما قلت ولم أشعر بسرور. وإنما كان فزعى لأنى توقعت أن أعجز عن اغتنام هذه الفرصة الطويلة - وهى إذا ضاعت لا يمكن أن تعود - فأروح أوسع نفسى بعد ذلك تأنيبا وتقريعا وذما وهجاء. وأدرت عينى فى المكان لأرى هل فيه من يعرفنى.. أو على الأصح من أعرفه أنا؟ فإن من عوامل التشجيع أن يشعر المرء أنه غير معروف، وخجل المرء ممن يعرف أقوى من خجله ممن لا يعرف فى مثل هذه المواقف.. على أنى لست على يقين من هذا، فقد يكون وجود الإخوان دافعا إلى الجرأة، والإنسان لا يسره أن يعرف أصدقاؤه أنه جبان.
ولم أر وجها أعرفه، فأخرجت سيجارة وأشعلتها، ورحت أدخن. وخطر لى وأنا أفعل هذا أنه يحسن أن أستأذنها.. فلعلها لا تحتمل الدخان، وهذا أدب لا ضير منه، ثم أنه مألوف. ولكن الوساوس لم تترك لى راحة. فقد قلت لنفسى إنى أستطيع أن أستاذن أى فتاة أخرى فلا تستغرب ولا تستريب، أما هذه فإنها خليقة أن تتوهم أنى أتحكك بها وأحتال للكلام معها. ثم عدت فقلت لنفسى إنى أريد أن أكلمها، وما أظن بها إلا أنها تعرف ذلك. نظرتى إليها تشى بهذه الرغبة. ولماذا لا أكلمها؟ أى بأس هناك فى ذلك؟ ولماذا أقدر أن يسوءها كلامى؟ ومن يدرينى أنها لا ترغب فى كلامى؟ ولكن ماذا بالله يدعوها إلى الرغبة فى قزم دميم الخلقة مثلى؟ سخافة ... كلا، لست دميما إلى هذا الحد المنفر، ثم إن رأى المرأة فى الجمال غير رأى الرجل.. أوهوهو.. لقد وصلت إلى الكلام فى الجمال. أما إنى والله. لسخيف..
وضحكت.. فالتفتت إلى مستغربة، فليس من المألوف أن يضحك العاقل وحده ومن غير أن يكون هناك ما يوجب الضحك. فلها العذر إذا كانت قد استغربت.. ووجمت أنا، وخيل إلى أنها تنحت قليلا. ومن المحقق على كل حال أنها لمست طرف المعطف وكان متدليا، فجعلته على فخذها. فسخطت على نفسى وصببت وجهى فى قالب صارم من الجد، وجعلت عينى إلى الستار لا أحولها عنه.
وبدأت الرواية ووضعت كوعى على المسند - عفوا - وكانت كفها عليها أيضا.. فلمسها كمى، فجذبت يدى وتمتمت بألفاظ أعتذر لم أسمعها أنا، فكيف بها؟ ولم يسعنى إلا أن أضع يدى على ساقى. ولم أعد أرى أو أسمع شيئا من الرواية. وكانت نفسى تقول لى بصوت غليظ فيما أحس: «إنك بليد.. هذا أنت.. وحمار أيضا.. أين جرأتك؟ لماذا تجفل من هذه الفتاة الوديعة التى تتوقع منك أن تكلمها والتى وطنت نفسها على ذلك واستراحت إليه؟ هل بلغ من سخافتك وجبنك أن تتوقع أن تبدأك هى بالكلام؟ اجترئ يا شيخ، لقد كان أجدادك الأولون يخطفون النساء خطفا ولا يبالون شيئا، وكان النساء يسرهن ذلك. وقد ذهب الخطف بالقوة، ولكنه بقى - وسيظل باقيا - أن المرأة تنتظر من الرجل أن يهاجمها، بالكلام - على الأقل - ثم بعد ذلك بالقبل والضمات والعناق».
فقلت لها: «استحى يا نفس.. إننا فى سينما.. وهذا الكلام.. هذا التحريض على الأعمال الفاضحه لا يليق.. إننى رجل متمدين ولست وحشا كما كان آبائى».
فسخرت منى نفسى، وضحكت.. نعم ضحكت الملعونة ضحك السخر والزراية.. فكدت أجن، ولكنها لم تعبأ بذلك وذهبت تقول: «أين المدنية؟ سبحان الله العظيم! وهل المدنية تمنع أنك إنسان وأن شعورك بالمرأة هو نفس شعور جدك الأعلى الذى كان يسكن الكهوف والغيران؟ أو تخشى أن تغضبها بالتطفل عليها؟ فاعلم أن المرأة إنما يغضبها أن ترى الرجل بليدا جبانا.. هذه يدها على مسند الكرسى فضع يدك عليها. نعم لا تخف.. وماذا تخاف؟ إنها لن تأكلك، بل ستترك كفها تحت كفك وتنعم بملامستك لها ... أدن ساقك من ساقها.. انقل إليها بعض الحرارة التى فى جوفك. قرب فمك من خدها.. يا له من خد أسيل.. هل رأيت أحلى منه؟ دع أنفاسك تصافح هذا الخد. قد انتهى الفصل الذى لم تر منه شيئا وأضيئت الأنوار، فادع هذا البائع واشتر منه قطعتين من الشكولاتة المثلوجة وقدم لها واحدة وتبسم تبسم ياشيخ هل أنت قطعة من جليد القطب الشمالى».
ولكنى استحييت أن أفعل ما تشير به هذه النفس.. فظلت تقرعنى طول الفصل الثانى وتفسد على قصة «شيرلى».
وانتهت الرواية، فنهض الناس ونهضت.. وأولتنى الفتاة وجهها، فأفسحت لها لتخرج قبلى، فقالت «مرسى» فابتسمت ابتسامة عوجاء وتحركت شفتاى، ثم فتح الله على فقلت لسخافتى: «تفضلى» فابتسمت وقالت مرة أخرى: «مرسى» والخطوة الأولى هى الصعبة، كل شىء يسهل بعدها.. فلا غرابة إذا كنت وجدت لسانى الذى كأنما كانت به عقلة، فقلت لها: «أظن أننا جاران» قالت وهى تضحك: «أظن ذلك».
قلت: «إذا كان طريقك إلى البيت، فإن معى سيارة صغيرة تحملنى.. فإذا خربت حملتها أنا».
قالت: «أعرفها.. لا تطعن عليها.. رأيتك فيها كثيرا».
قلت: «سنجد السيارة ترقص» قالت: «ولماذا ترقص؟» قلت: «طربا.. ألست تثنين عليها؟ ليتنى أنا السيارة».
وفتحت لها بابها وقلت لنفسى وأنا أدور إلى الباب الآخر: «أرأيت؟ إن أساليب المتوحشين لا تصلح لهذا الزمان.. إنك نفس قديمة.. عتيقة».
فقهقهت اللعينة وقالت: «لولا درسى! على كل حال العبرة بالخواتيم».
الفصل السادس
البحث عن الذهب
وجدت صديقى ينتظرنى - كما وعد - فدخلنا معا وجلسنا متقابلين إلى مائدة صغيرة، وبدأنا بأيدينا ففركناها.. فقد كان البرد شديدا، وكان كلانا قد خلع المعطف والطربوش، وكانت الحجرة دافئة ولكنه لم يكن قد مضى من الوقت ما يكفى لانتقال الدفء إلى أبداننا. ثم أكب صاحبى على البيان الذى فيه ألوان الطعام، وجعل يسردها لى لأتخير ما يطيب لى منها. وفرغنا من ذلك بعد طول التردد، وانصرف العامل بدفتره الذى دون فيه ما طلبنا، فقال صديقى وهو يميل على المائدة: «والآن ما العمل»؟
قلت: «هذا هو السؤال الأبدى.. وما أظن بنا إلا أننا سنظل نسأل عن ذلك طول العمر - طال أم قصر - المسألة مسألة حظ يا صاحبى».
فقال: «كلا.. لابد أن هناك وسائل لاكتساب المال بسرعة.. كثيرون يفعلون ذلك. وهذا دليل على أن الوسائل موجودة، ولكنا نحن - لسبب ما - لا نهتدى إليها».
قلت: «فليكن الأمر كما تصوره، فلست أرى أن هذا يجدينا شيئا».
قال: «ولكن لابد أن تكون هناك وسيلة».
قلت: «إذا كان ينفعك أو يريحك الإيقان من ذلك.. فأيقن وأرح نفسك».
فقال وهو يهز رأسه: «نحن اثنان.. كلانا محتاج إلى مبلغ حسن من المال.. والحاجة ملحة والسرعة لا مفر منها. لا سبيل إلى الاقتراض، لأن الذين يقرضون يطلبون ضمانا.. شيئا يطمئنون به على مالهم.. سخافة.. ولماذا ينبغى أن نرد شيئا؟ ألسنا أحق بالمال من هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقونه ويروحون يكترونه ويدفنونه فى خزانات أو فى قدور يدسونها تحت الأرض»؟
فضحكت، وقلت: «هذه بلشفية».
قال: «لا تصدق.. آه لو كنت غنيا، إذن لصارت الدنيا أرغد وأهنأ».
قلت وأنا أبتسم: «ماذا كنت تصنع»؟
قال: «أصنع؟ أتسأل؟ كنت أضع المال فى صرر وأرمى بها لمن أتوسم فيهم أنهم أهل لأن يكون فى يدهم مال» - وأطرق شيئا ثم رفع رأسه وقال: «هل تعرف أنى زرت اليوم أختى؟ إنها غنية كما تعرف.. وكيف لا تكون غنية وهى لا تنفق شيئا؟ فلما دخلت عليها وفتحت فمى لأتكلم، رفعت يدها وقالت: «ولا مليم» فغضبت وصحت بها ونهرتها عن هذا السلوك. أكدت لها مائة مرة إنى محتاج إلى قليل من المال، فوقفت وأكدت لى أنى سأكون محتاجا إلى هذا المال حين أخرج من بيتها.. سلوك يطير العقل.. فهل تسمى هذه أختا؟ أنى أتصور أختا ظريفة لطيفة سخية كريمة تعطينى وهى تعتذر وتملأ يدى وهى مغضية. هكذا تكون الأخت».
فقلت: «لماذا لا تفكر فى طريقة لكسب المال»؟
فقال بلهجة الاستنكار: «أفكر..؟ وما الفائدة من التفكير؟ لا فائدة ما دامت الدنيا مقلوبة. آه لو كان لى سلطان فى هذه البلاد، إذن لعقدت امتحانا كل ثلاثة شهور للأغنياء.. يجلس أعضاء اللجنة ويقف أمامهم الغنى، فيقول له أحدهم: «كم تملك يا مولانا»؟ فيقول: «ألف فدان ونحو مائتى ألف جنيه فى المصرف، وعمارتين - كل منهما ذات سبع طبقات فى شارع الملكة نازلى». فيقول أحد الأعضاء: «وماذا تصنع بكل هذه الثروة»؟ فيقول: «أوه لا أصنع شيئا.. كل ما زاد على حاجاتى الضرورية جدا أضيفه إلى المدخر» فتقول اللجنة: «شىء جميل.. أهذا رأيك فيما ينبغى أن يصنع المرء بالمال؟.. لا بأس.. اسألوا أحمد - أى العبد الخاضع المطيع - ماذا يكفيه»، فأقول ردا على السؤال: «أوه يكفينى القليل.. خمسون ألفا. كفاية.. أعنى مؤقتا» فتقول اللجنة: «أحمد هذا رجل يحسن إنفاق المال.. أعطوه ما يطلب» فأقبض المبلغ وأشكرهم وأفرك يدى وأقول: «إذا سمحتم لى يا حضرات الأعضاء الموقرين، أستأذنكم فى لفت نظركم إلى رجل يعرف كيف يعطى.. بارع جدا فى الإنفاق» فيسأل أحدهم: «من هذا؟ قل بسرعة» فأقول: «إنه المازنى» فيقول: «آه صحيح.. كيف نسيناه.. هاتوه حالا.. علينا به. اقبضوا عليه فى حيثما تجدونه» فيقبض عليك الشرطة ويجرونك مصفدا إلى اللجنة، فيضحك الأعضاء ويقولون: «خذ.. خذ.. خذ أيضا» فتخرج معى مسرورا.. وتروح تنفق باليمين وبالشمال حتى يحين موعد الامتحان التالى. ما قولك»؟
فقلت وأنا أضحك: «شىء عظيم جدا.. ولكن إلى أن يتيسر أن تلى أمور الناس، ماذا تصنع»؟
فقال: «آه هذه هى المسألة.. ما رأيك أنت»؟
قلت: «يمكننا أن نكسب الورقة الأولى الرابحة من يانصيب المواساة أو اليانصيب الإرلندى».
قال: «هذا ممكن.. ولكن ذلك يتطلب أن ننتظر بضعة شهور والعجلة من الشيطان».
قلت: «صدقت.. يمكن أن نخترع شيئا ونحتكر بيعه - وصنعه بالطبع - فنغتنى».
قال: «صحيح.. فكرة لا بأس بها.. سأدون هذا فى مذكرتى.. تنفع فى المستقبل.. وعلى ذكر ذلك، ماذا نخترع»؟
قلت: «باب الاختراع واسع.. واسع جدا: مثلا نخترع طريقة تجعل السيارات تستغنى عن البنزين وتكتفى بالماء - أو حتى بالهواء - أو نخترع بديلا من النقود فإن النقود هى أصل البلاء فى هذه الدنيا.. أو نخترع..».
فقال: «يكفى.. يكفى. ولكن هذا كله يحتاج إلى زمن.. والمطلوب هو الاهتداء إلى وسيلة تكفل إعداد المال اللازم فى أربع وعشرين ساعة.. أنا أقول لك»!
فقلت وأنا أضطجع وأرسل الدخان من فمى خيطا ملتويا، بعد أن فرغنا من الطعام: «يظهر أن الضرورة تفتق الحيلة حقيقة».
فقال: «معلوم ... اسمع، أترى هذا الرجل القاعد هناك فى الركن الأيمن؟ أترى كيف يأكل؟ أترى كرشه المدورة كالكرة ووجهه المنتفخ، وكيف يفتح عينا ويغمض أخرى، وينظر حوله قبل أن يدس اللقمة فى فمه كأنما هو يخشى أن يراه أحد؟ الحق أقول لك أنى أكره وجهه ولا أرتاح إلى النظر إليه».
قلت: «يا أخى لا تنظر إليه.. دعه وحول عينك عنه».
قال: «ولكنى لا أستطيع.. إنه وجه سوء، لا يمكن أن يكون هذا الرجل من أهل الخير.. إنه ممن لا يؤتمنون على القصر والأيتام والأرامل.. هذا الرجل لابد أن يكون منطويا على أسرار يكره أن تذاع.. لأن وجهه ناطق بأنه شرير. فلو قمت إليه الآن وهمست فى أذنه أنى أعرف سره الذى يجاهد لإخفائه، ألا تظن أنه يفزع ويضطرب ويشترى سكوتى بأى ثمن»؟
فقلت: «أها! أهذه طريقتك؟ أتريد أن تبتز المال من الناس بهذه الوسائل»؟
قال: «المصيبة أنى لا أستطيع.. تنقصنى الشجاعة، ولكنى واثق أنى أنجح إذا استطعت أن أصنع هذا.. ومع ذلك لكل إنسان سره القبيح.. ولو أن واحدا جاء إلى ووقف على رأسى الآن وحدق فى وجهى، ثم هز رأسه هزة العارف بكل ما هناك، ثم قال: إنى أعرف سرك يا أحمد، لما وسعنى إلا أن أضطرب.. على كل حال يظهر أنه لا فائدة.. لا أمل فى مال كثير نحصل عليه بالسرعة اللازمة».
قلت: «صدقت لا أمل».
قال: «خسارة.. سأظل أتحسر لأنى لم أجد الشجاعة الكافية للوقوف على رأس هذا المجرم - هو مجرم ولا شك - وإبلاغه أنى أعرف باطنه كما أعرف ظاهره البادى لنا ... خسارة، نهايته.. نقوم»؟. قلت: «تفضل».
ودفع إلى الخادم ثمن الطعام وخرجنا.
وقلت لصاحبى وأنا أودعه: «على فكرة.. من قبيل الاحتياط للمستقبل ما هو الجواب الصحيح أمام اللجنة»؟
قال: «آه.. أنفق ما فى الجيب يأتك ما فى الغيب».
قلت: «أهو ذاك؟ أما ما فى الجيب فلست أحتاج فى أمر إنفاقه إلى التكلف.. وأما ما فى الغيب فهل تعرف متى يأتى»؟
فأشار لى بيده.. ومضى عنى وهو يضحك.
الفصل السابع
تفيدة
نشأت فى بيت لم أكن أجد فيه من يكلمنى، لا لقلة فى أهله ولا لبكم يعقد ألسنتهم.. بل لأن مشاغلهم كانت تصرفهم عنى. فهذه جدتى، لأبى، كانت لا تفارق السجادة - أو الفروة على الأصح - وفى يدها السبحة التى لا أذكر أن الخيط الذى ينظم حباتها انقطع، وشفتاها لا تكفان عن الحركة والتمتمة بما لا أعرف من الأدعية والصلوات على النبى. وما أكثر - وأطول - ما كنت أقعد أمامها محدقا فى هاتين الشفتين الدائبتين دؤوب الليل والنهار. وكانت ربما التفتت إلى فتتبسم وتدنينى منها وتمسح لى رأسى، ثم تبسط يديها بالدعاء إلى الله بصوت يبريه الضعف وتبحه الحسرة ويهدجه الألم والأسف لما صرنا إليه بعد وفاة أبى، ثم تربت على كتفى وتميل على وجهى الصغير بفمها الأدرد وتقبلنى، فتخرج شفتاها صوتا كهذا «مق».
وتلك أمى لا تزال مصروفة عنا بشئون البيت من طبخ وغسل وكنس ونفض، ومن حمام تسقيه وتطعمه، ودجاجات لا تنفك تجس حويصلاتها أو تصبعها لترى أفيها أم ليس فيها بيض أو تنتف ريشها. وكثيرا ما كنت أقف أنظر إليها وهى تتناول فراخ الحمام وتزقزقها، أى تمج فى مناقيرها الماء والحب.. ولا آخر لعمل السيدة في البيت. ولم يكن لنا في ذلك الوقت خادمة، وكانت أمى تنهض بالأعباء كلها اقتصادا فى النفقة.. فكانت هى تطبخ الطعام، وتكنس الغرف، وترتب الأثاث، وتخيط لنا الثياب، وتصنع كل شىء إلا أن تخرج لتشترى الأشياء التى نحتاج إليها لطعامنا. فقد كان رجل من أتباع أقاربنا الذين يقيمون فى أجنحة أخرى من هذا البيت الكبير، يقوم لنا بذلك. وكانت عمة أبى معنا، ولكنها كانت عجوزا ناهزت المائة.. وكانت تجلس وساقاها ممدودتان أمامها ورأسها مستند إلى وسادة، ولسانها لا يمل الدوران، وكان كلامها هذيانا فكنت أضحك منها أحيانا ثم أمل ذلك فأتركها لهذرها الذى لا ينقطع.
وكنت إذا شعرت بالشوق إلى مكالمة أحد، أنحدر إلى فناء البيت.. وكانت فيه غرف كثيرة، يقيم فيها أتباع الشيخ قريبنا ويحيون الليل بقراءة الأوراد. وكانت هناك أيضا ميضة ومصلى، فكنت إذا رأيت الشيخ مقبلا أندس بين المصلين وأروح أقف وأركع وأسجد كما أراهم يفعلون. ولكن هؤلاء كانوا يروننى صبيا صغيرا، فينظرون إلى ويبتسمون - لأن أفواههم مشغولة بالتمتمة - ولكن لا يكلموننى. غير أنه كان هناك فى أكبر غرفة فى الفناء، رجل ليس من الأتباع ولا هو يعنيه أمرهم أو يشاركهم فيما يصنعون. ولا أدرى إلى هذه الساعة كيف سكن هذه الغرفة.. فما كان يعطى الشيخ شيئا، وكان الشيخ يستنكف أن يؤجر بيته أو بعضه. وكان هذا الرجل يصنع أزرار الطرابيش، فكان يطيب لى أن أجلس إليه ألاحظه وأحادثه أو أستمع إلى حديثه وقصصه وكان يحادثنى كأنى رجل كبير لا طفل صغير، وكان يبرم خيوط الحرير المصبوغة ويفتلها ويعقد أطرافها ويجمع كل بضعة خيوط معا ثم يثنيها ويربطها ويصمغها ويدقها على قالب من القوالب التى تتخذ لكى الطرابيش. وكانت لهذه الخيوط رائحة لا أزال أذكرها، وإنى لأجدها الآن فى أنفى وأنا أكتب ذلك. وقد علمنى صناعته، فكان يدع لى الخيوط فأفتلها وأرتبها وأعقد أطرافها وأفعل مثل ما أراه يفعل بالمدق على القالب. ثم يعود إلى فينظر فيما صنعت ويصلح لى أخطائى، أو يثنى على حذقى. وكان يكل إلى ذلك كلما قام لإعداد طعامه أو خرج لشرائه. وفى وسعى أن أقول بلا مبالغة إنى قلما تعشيت إلا معه، فكنت أصعد فأجىء بطعامى وأضيفه إلى ما عنده، فنأكل معا. ولكنى لم أكن أصنع هذا إلا إذا كان عندنا طعام يليق أن يقدم إلى غريب.. أما إذا كان فولا أو عدسا أو ما هو من هذا القبيل، فقد كنت أخرج فأشترى زيتونات وشيئا من الجبن «والحلاوة الطحينية» وأعود بها إليه، فيؤنبنى على فعلتى وينهانى عن العود إلى ذلك، فأصارحه بأن طعامنا الليلة فول أو عدس ... وإنى لا أحبه. فكان يحدث أن يقول لى إنه يحب هذا الطعام، ويرجو منى أن أصعد وأجيئه بشىء منه، فأستغرب.. ولكنى أطيع. فلا عجب إذا كنت قد أحببته وألفته. ولم يكن أغرب من هذه الصداقة بين رجل جاوز الأربعين وطفل فى التاسعة من عمره. وقد ألفنى كما ألفته، وتعلق بى كما تعلقت به.. فكان ينادينى إذا أبطأت عليه، فأستبطئ النزول على الدرج وأركب الدرابزين لأن التزحلق عليه أسرع..
وكانت له بنت أخت تزوره من حين إلى حين.. رأيتها أول مرة فى ليلة شتوية كثيرة المطر شديدة البرد، وكنت ألعب فى الحارة.. فلما أخذ المطر ينهمر فجأة ذهبت أعدو إلى البيت. ولمحت، وأنا أجرى، ضوءا فى غرفة صديقى.. فاشتهيت أن أخبره أن السماء تمطر وأن الريح تعصف. ودخلت الغرفة ثم وقفت على العتبة، فما رأيت المصباح المألوف وإنما رأيت نارا موقدة، وكانت ألسنة اللهب عالية.. فرأيت، أول ما رأيت، كفا بدت لى كأنها - ولسان النار من ورائها - مرجان شفاف. وطالعنى محيا فتاة صغيرة على هذا الضوء المضطرب، فرأيت شعرا أسود يتوهج هنا وهاهنا، وضفيرتين فى طرفيهما خيوط من الصوف نسج عليها الشعر واستراحتا على جانبى الصدر، وأنفا فى عرنينه نتوء قليل، وفى مارنه لين، وفى أرنبته انثنا إلى فوق، وعينين ضيقتين مائلتين بعض الميل. وكانت الحدقتان تلمعان كأنما تطلان من شقين، وفى نظرتهما من وراء الأهداب الوطفاء معانى الرضى التام والسكون العميق والاغتباط الذى لا سبيل إلى العبارة عنه. وكانت هذه المعانى على الفم أيضا، وكانت الشفتان رقيقتين وفى العليا منهما نثلة بينة، وهنة دقيقة نابتة فى وسطها، وكانت عليها ابتسامة أبلغ فى العبارة عن السرور من الضحك المجلجل، وكان خط الشفتين موازيا لميل العينين، وقد خيل إلى وأنا أنظر إلى هذه الابتسامة المرتسمة على الشفتين المتلامستين كأنما هى معلقة على ما تغضن على جانبى الفم، وكانت صحيفة الوجه عريضة عند الوجنتين ولكنها تنتهى بذقن دقيق، وفى الديباجة حسن، وفى الخدين رى وأسالة وبضاضة. أما العنق فطويل مستدير، وأما الذراعان - وكانا معتمدين على الركبتين - فمستدقان.
وقفت أحدق فى هذا الوجه الذى أضاءته لى النار المضطربة الخفاقة اللمعان، وخيل إلى وأنا أنظر أنى لم أر قط أجمل ولا أبرع من هذا الحسن، وراعنى على الخصوص ما على الوجه من آيات السرور الباطن .. فألفيتنى أتساءل: ماذا ترى يسرها وهى قاعدة وحدها تتدفأ؟ ومن أين جاءت ياترى هذه السعادة التى تومض بها عيناها وتشى بها هاتان الشفتان الصامتتان؟ وأحسست أن أنفاسى أسرعت وأن الدموع تجول فى عينى، فقد كانت الفتاة جميلة وكانت الروعة قد غمرت صدرى، بل ملأ قلبى الخوف كأنما أشهد الحياة نفسها لا إنسانا فانيا مثلى. وارتفع لسان النار فجأة وخفق ضوءها على محياها المبتسم، فخيل إلى أن الدم يجرى كالمجنون تحت جلدها الرقيق. وكانت هى ساكنة لا تتحرك، ولا تزايلها ابتسامتها الهادئة المرتسمة على عينيها الضيقتين المائلتين وفمها المطبق الشفتين. نعم.. كانت الحياة نفسها تنظر إلى من عينيها.. وبعينيها.
رأيتها بعد ذلك مرة أو مرتين فى نحو عام، وعلمت من صديقى - خالها - أنها يتيمة وأنها تقيم مع عمها وتزور خالها أحيانا، وأكثر ما تكون الزيارة فى الصباح حين أكون أنا فى المدرسة.. ولكنها لا تبقى معه إلا ساعة أو بعض ساعة. وقد حاولت أن أكلمها، ولكنى كنت أستحيى أن أطيل الوقوف معها أو الجلوس إليها، وكانت هى تحدق فى وجهى ولا تطرف حين تكلمنى، ولا أذكر ما كانت تقول وإنما أذكر كيف كانت لهجتها هادئة وحالها بادى الوثاقة.. كما ينبغى أن تكون الحياة.
وكنت أسألها أحيانا - وأنا لا أجد كلاما أقوله لها غير ذلك: «هل تلعبين الحبل»؟ ولا أصغى إلى جوابها، بل أروح أفكر فى جمالها وأعجب له.. وأسأل نفسى مستغربا ماذا وراء هذه العين يا ترى؟.. لماذا أراها سعيدة دائما بلا سبب أعرفه؟ وأشتهى أن أسألها عن ذلك، ولكنى آنس من نفسى جبنا فأسكت.
ومضت الأيام وتعاقبت السنون وكبرت وعرفت الأدب والقراءة، فصار كل ما أقرأه عن الحب فى شعر الشعراء وفى وصف الروائيين، يدور حول ذكرياتى القليلة منها، وابتسامتها الساكنة ووجهها الجميل وسعادتها الهادئة. وكان زملائى فى المدارس يذكرون مغامراتهم ويتحدثون بها ويباهون، وكنت أسمع وأسكت وأتعزى بأن هذا الذى يلهجون به ليس من الحب فى قليل أو كثر، وأقول لنفسى إنى أعرف ما لا يعرفون، وأعرف ما أعرف بالتجربة. ومع ذلك لم يخل هذا الصدر من أيامى مما يسمونه المغامرات، ولكنها لم تكن كثيرة أو باعثة على الرضى.. بل كانت على النقيض سببا فى السخط على نفسى واحتقارها، فآليت لأنصرفن عن هذا العبث. وأقبلت على الدرس والتحصيل واشتغلت بالشئون العامة، فصرت أحضر جمعيات الخطابة بل ألفت مع إخوان لى جمعية للخطابة. وعنيت بقراءة الصحف فكنت على صغرى أقرأ كل يوم ثلاث جرائد سياسية، وكنا جميعا من أنصار «مصطفى كامل» وعشاقه فى ذلك الزمان.
ثم جاءت الحرب العظمى، فشغلنا بأنبائها وبالاختلاف على نتائجها المحتملة وبالخوف على أنفسنا من الجواسيس والاعتقالات التى كنا لا نأمنها ولا نستطيع أن نعرف الطريق إلى اتقائها.. ولكن يوما من أيام تلك الحرب أذكره ولا أنساه. وكان لى صديق داره قريبة من دارى، ولم يكن معه أحد فى بيته وكان السهر محرما بعد الساعة التاسعة، فكنت أقضى عنده السهرة فى الأغلب، ولا سيما فى الصيف، فأرانى يوما مسدسا ورصاصات، فجعلنا نتدرب على إطلاقها ونرمى بها باب الحمام، ولم نكن نخشى أن يسمعنا أحد لأن البيت كان بعيدا عن العمار. ثم افترقنا، واتفق أن زارنى بعد ذلك ونسى عندى مسدسه.. ولا أدرى كيف كان يجترئ على حمله معه؟ فوضعت المسدس فى درج المكتب ونسيته فيه، وتكدست فوقه الأوراق على مر الأيام. فحدث يوما أن جاءنى صديق وثيق الصلة بالسلطة العسكرية، وأخبرنى أن بيتى سيفتش الليلة.. فشكرته، ولم أعر الأمر اكتراثا.. لأنه ليس فى بيتى ما أخشى على نفسى منه. فلما كان العشاء، جاء ضابط إنجليزى ومعه من المصريين ضباط وجنود، فدخلوا المكتب أول ما دخلوا. ورأى الإنجليزى الكتب الكثيرة على رفوفها، فأقبل عليها يتأملها.. فألفاها كلها كتب أدب، فجعل يقلبها وينظر إلى ثم سألنى عن عملى، فقلت: «مدرس» فاطمأن واعتقد مما رأى أنى رجل مأمون الجانب، وأرسل المصريين يفتشون بقية البيت، ووقف هو معى فى غرفة المكتب، ثم دنا من المكتب وجعل يقلب ما عليه من الأوراق المنتشرة بغير احتفال، ثم فتح درجا وألقى عليه نظرة ثم رده وشد الدرج الثانى.. ولم تكن للأدراج مفاتيح، فجمد الدم فى عروقى، فقد تذكرت المسدس فجأة، ولم أستطع من فرط الجزع أن أدعو الله أن ينقذنى. وكان الإعدام عقوبة من يحمل سلاحا كهذا بلا ترخيص - أو هكذا أعلنوا - ولكن الله سلم.. فرد الرجل الدرج وكان زملاؤه قد عادوا مخيا وانصرف وهو يبتسم، ولعله كان يعتقد أن تكليفه تفتيش هذا البيت سخافة مطبقة.
وما كادوا يذهبون حتى أسرعت إلى المسدس، فقذفت به فى بستان مجاور لبيتنا، وتشهدت.. ولم أطق البقاء فى البيت بعد ذلك من فرط الاضطراب، فخرجت أتمشى على غير هدى وإذا بى فى بعض الطريق - طريق حدائق القبة - التقى بفتاتى القديمة. عرفتها على الرغم من طول الزمن.. وعرفتنى هى كذلك ولم تنكرنى، فصحت بها كالأبله: «تفيدة.. أنت..»؟
فابتسمت لى ابتسامتها القديمة الهادئة ولم تزد، فقلت لها: «من أين، وإلى أين»؟ قالت: «إلى البيت» فمشيت معها إليه. وكان شقة فى عمارة عند «المحمدى» فدعتنى إلى الدخول فلم أتردد.. فإنا صديقان قديمان. ولم أر فى بيتها غيرها فلم أستغرب فإنها يتيمة، ولكنى لم أعرف من أين جاءت بهذا الأثاث الحسن وإن كان قليلا وعلى قدر الحاجة، واتفقت معها على يوم نخرج فيه للتنزه فى القناطر أو حديقة الحيوانات، فهزت رأسها أن نعم.. فتركتها ولم أسألها عن حالها وكيف تعيش.
والتقينا فى الموعد المضروب.. وكان النساء يتقنعن فى ذلك الوقت ولا يخرجن إلا فى الندرة القليلة بوجوههن سافرة، فركبنا عربة يجرها جوادان هزيلان، ومضينا إلى حديقة الحيوانات، وجلسنا على دكة منعزلة.. وقضينا أكثر الوقت صامتين، ثم فتحت فمى فحدثتها عن الزمن الماضى وحبي الصبيانى لها، وكيف طال عمر الحب وامتد إلى الحاضر، فلم تزد على أن تبسمت - كعادتها - وقالت: «لا أدرى لماذا أرى الناس يجنون بى».
فأحسست أن لوحا كبيرا من الثلج يوضع على قلبى.. الناس يجنون بها.. الناس ... إذن هناك مجنون، أو مجانين بها غيرى ودار رأسى، وذهبت أسأل نفسى عنها كيف تعيش. ولم يخطر لى هذا من قبل، ولكنه خطر الآن نعم كيف تعيش هذه التى يجن بها الناس؟ وأين وكيف ترى هؤلاء المجانين كلهم؟ لابد أنهم كثر ... فمن أين يجيئون.. إنى أنا صديق صباها، فلا عجب إذا كنت أعرفها.. ولكن غيرى.. غيرى.
وقطع على هذه الخواطر المزعجة سودانى فى ثياب الردنجوت. وكان كهلا، ولكنه يمشى معتدل القامة كالرمح.. فدنا منها وحياها باسمها وسألها عن حالها وعينه تومض، فردت عليه برزانة وسكون ومن غير أن تفارقها ابتسامتها المطبوعة. ولم يطل الوقوف، فمضى عنا وقد عرفت منها أنه ضابط فى الجيش وأنه الآن فيما يسمى الاستيداع، وأن بيته فى العباسية - قرب «المحمدي» فلم أقل شيئا ولكنى قلقت - أو على الأصح زدت قلقا وصرت أناجى نفسى بأن لعل هذه طريقة حياتها.
وتعددت المقابلات بيننا والخروج إلى الحدائق العامة، وكنت أعود بها إلى بيتها فى الليل، فتدعونى إلى مقام قليل، فألبى ونذهب نتحدث كأننا رجلان لا رجل وامرأة. فرأيت منها - شيئا فشيئا وعلى مر الأيام - ما أقنعنى أنها ليست الفتاة التى أحببتها فى صغرى، وأنها لا أكثر ولا أقل من امرأة كغيرها من النساء. ولا أدرى الآن وأنا أكتب هذه السطور أى شىء كنت أحسبها قبل أن أتبين أنها ليست سوى امرأة، ولكن الذى أدريه أنى ظللت أحبها على الرغم من ذلك وأنى جعلت أحاول أن أقنع نفسى بأنها كما كنت أتصورها - على الأقل فى حقيقتها الكامنة، ولكن حبى القديم لها تغير.. فلم يعد فيه تعلق بخيال، بل صار حبا لامرأة معينة. وليس فى هذا ما يدعو إلى العجب، فإن الرجل يحب المرأة لأنها امرأة ولأن فيها من بواعث الإغراء ما يكفى لإثارة الرغبة فيها والتعلق بها، ولكن هذا شىء لم أكن قد تعلمته فى تلك الأيام، فرزقنى الله فى شخص «تفيدة» معلما لا يفتر ولا يتردد ولا يترفق بالمثل العليا وصور الكمال وغير ذلك من الأفلاطونيات السخيفة. وكان أول ما تعلمته - أو من أول ذاك - أن من الممكن أن يحب الرجل حبا عميقا طاغيا امرأة لا يحترمها ولا يرى لها مزية ولا ينطوى لها على إكبار أو مودة أو صداقة، ولا يستطيع أن يتفاهم معها ويشركها فى نفسه وخواطره وآماله ومخاوفه وعواطفه.. امرأة لا يرى فيها إلا أنثى منحطة.. بل امرأة يشعر بالشقاء وهو إلى جانبها وبالملل والضجر من قربها وحديثها. نعم تعلمت ذلك.. وكان هذا لما تعلمته شيئا فشيئا يبدو لى مدهشا، ويخيل إلى أن الحال فيه مقلوب والآية معكوسة، ولكنى الآن أضحك من نفسى وأسائلها: ولم لا يعشق الرجل بالله امرأة كهذه؟ وأين ترانى كنت أعيش يومئذ؟ فلم أر أن كثيرين من الرجال يعشقون نساء ليست لهن أية مزية.. نساء هن فى الحقيقة كوم عظيم من صنوف الانحطاط.. ونساء يحببن رجالا ساقطين منحطين لا يساوى الواحد منهم ملء أذنه نخالة ولكنى كنت فى ذلك الوقت أعتقد أن الحب شىء سام جدا، وأنه سماوى لا ينبغى أن يخالطه إلا الإعجاب والعبادة.
وكانت كل لحظة أقضيها مع تفيدة، تزيدنى إيقانا بأنها عاجزة عن السمو بنفسها إلى المرتبة التى وضعتها فيها فى حداثتى. وكان يزعجنى وينغص عيشى ويسود الدنيا فى عينى هذا التباين بين الواقع والصورة القديمة التى احتفظت لها بها فى نفسى.. وتغير حبى لها كما قلت واشتهيتها وصبوت إليها، ولكن هذا التحول لم يعفنى من التنغيص والعذاب. وقد كنت أخجل مما صرت أحسه لها، وأعنف نفسى على ذلك وأزجرها عنه. وكانت هى ترى ضبطى لنفسى ورياضتها على العفة، وتعلقى بخيالاتى وسخافاتى وأوهامى، فتمتعض وتظهر لى التأفف والتبرم ولا تكتمنى الضجر الذى يثيره حديثى، ولها العذر. وقد كنت أرتفع بالكلام عن طبقتها.. وأتركها على الأرض، وأذهب أحلق فى أجواء لا تستطيع أن تذهب ورائى فيها. وكنت أنشدها ما أقوله فيها من الشعر، فيسرها أنها وجدت شاعرا يحبها كل هذا الحب ويتغنى باسمها، وأن يقرأ الناس ما يقوله فيها وما يصف به وجده لها. ولعلها كانت ترى فى هذا إعلانا.. ولكنها لم تكن تفهم ما أنظم أو تقدره، وكثيرا ما كانت تمط شفتيها ساخرة. وربما قالت لى: «ألا تستطيع أن تقول كلاما حسنا»؟ فأهز رأسى وأقول لنفسى إنى وقعت وقعة سوداء، وإنى يجب أن أصد عنها فإنها لا تصلح لى ولا أصلح لها لأنها لا تفهمنى.. ولا أنا أيضا مع الأسف، أستطيع أفهم هذه الطبيعة المادية التى يكون فيها الجمال ستارا لكل ما هو منحط.. وكانت تدعونى كل ليلة إلى دخول بيتها حين نعود إليه، وكنت ألبى فى بعض الأحيان.. فأقعد معها كالصنم من شدة الكبح، فلا تلبث أن تتثاءب فأقوم وأنصرف فلا تعنى بأن ترافقنى إلى الباب.. فيسوءنى ذلك، ولكنى أراجع نفسى وأقول: إنه ليس بيننا كلفة فإننا صديقان قديمان. وقالت لى ذات ليلة، وقد دنونا من البيت: «لا تغضب إذا لم أدعك إلى الدخول» فسألتها بوقاحة: «هل هناك غيرى»؟ فلم يسؤها ذلك ولم يظهر عليها الامتعاض منه، وقالت بابتسامتها الهادئة: «يخيل إلى أنك لا تحب الوجود معى فى البيت.. إنك شاعر، تحب الرياض والبساتين والماء والسماء والنجوم.. أليس كذلك»؟ فضحكت وإن كنت لم يفتنى ما فى كلامها من التهكم والزراية، وحدثت نفسى أن هذه دعوة صريحة لا يليق أن أغضى عنها مخافة أن يؤدى الإغضاء إلى القطيعة والجفوة.. وكانت هذه مغالطة منى لنفسى، فقد كنت أنا أريد ذلك ولكنى كنت أصرف عنه نفسى وأفطمها بجهد، فقلت لها: «بل سأدخل الليلة - إذا سمحت بالطبع - وسترين أنى أحب بيتك كما أحبك».
قالت: «صحيح»؟
وأحسست من نبرة صوتها إنها ارتاحت إلى كلامى، وإنها استغربته فى الوقت نفسه.. ودخلنا، وأغلقت الباب وراءها كعادتها.. فلم أمهلها بل طوقتها بذراعى فى الدهليز وقبلتها على خدها، فأدارت وجهها ومنحتنى فمها..
وكنت أسخط على نفسى بعد كل ليلة وأرميها - نفسى - بالانحطاط، ولكنى ألفت ذلك - فصار الأمر عادة كالتدخين وغيره مما يعتاده المرء ويتأفف منه ويود لو كف عنه، ويمضى فيه مع ذلك ولا يكلف نفسه جهد المقاومة وعناءها. وبقينا هكذا زمنا غير قصير، وعرفت أن لها أصدقاء غير قليلين.. فقد كنا نلقاهم فى الطريق، فيومئون إليها بالسلام فتبتسم لهم، ولكنهم كانوا لا يدنون منها ولا يكلمونها كما فعل الضابط السودانى فى حديقة الحيوان. ولم أكن أعبأ بذلك، فقد كنت أرى أنى منفرد بها وإن كنت لا أعلم ماذا تصنع فى غيابى؟ فما كان يسعنى أن أظل معها كل ساعة. وكنت أروض نفسى على الاطمئنان والثقة لحاجتى إليهما، لا لأنى واجد ما يدعو إلى الثقة والاطمئنان..
ولم يكن هذا المنطق يقنعنى أو يريحنى، ولكنه كان المنطق الذى اضطررت إليه.. على أن الأمر لم يطل، فقد جاء يوم اعتذرت لى فيه بأنها مسافرة.. فاستغربت، فما أعرف لها من تسافر إليه، ولكنى سكت ولم أقل شيئا. ورأيتها بعد أيام، فسألتها عن رحلتها ورجوت أن تكون كما أشتهى لها.. فقالت بضجر متكلف لم يخف على: «أوه أبدا.. كانت رحلة مملة.. إنك تعرف هؤلاء الفلاحين وكيف يعيشون.. ليس فى حياتهم أى تسلية».
ومضت أيام، فعادت تعتذر من التخلف عن لقائى لأنها مدعوة فى بيت صاحبة لها. فلم أجادل، وتركتها، وتكرر بعد ذلك الاعتذار، وتوالى انقطاعها عنى. وكنت أحيانا أقسم أن أهملها وأبقى أياما لا أسأل عنها، لأعرف أعادت أم هى لا تزال مع هؤلاء الذين ظهروا فجأة فى حياتها، ولم أسمع بهم مرة واحدة قبل ذلك كل هذه الشهور. وأحيانا كنت أضعف فأذهب إلى بيتها، فتفتح لى وتلقانى كأنها كانت معى قبل ساعة، ولا تسألنى لماذا غبت ولا ماذا كنت أصنع وكيف كنت أقضى الوقت.. لا.. لا شىء من هذا على الإطلاق، فأشعر بالغصة ولكنى أكتم الألم..
وكنا قد دخلنا فى الشتاء، وكنت أعرف أنها لا تحب أن تكون فى غير بيتها بعد العشاء على الأكثر.. فذهبت إلى قهوة قريبة من مدخل الحارة، كى أرى ما يكون. وانحدرت الشمس وأنا لا أرى شيئا.. نعم رأيت ناسا كثيرين راكبين أو ماشين وباعة متجولين ومركبات الخ الخ، ولكنى لم أرها تدخل أو تخرج. وكانت نفسى لا تفتأ تنازعنى أن أنهض منصرفا، وكنت أحدثها بأن من السخافة والحماقة أن أتعب نفسى بهذه الجلسة المضنية لأعرف ما أعرف. وهل فى الأمر سر؟ أليست قد ملتنى ونبت بى وجفتنى واعتاضت منى سواى كائنا من كان هذا السوى؟ وما حاجتى إلى علم ما أعلم؟ ولماذا أحقر نفسى وأمرغ وجهى فى التراب وأضعه عند قدمى امرأة سوء كهذه؟ وأهم بالنهوض ولكنى أحس أنى قد سمرت إلى الكرسى أو لصقت به.. ويتجسد وهمى ويضحكنى أمرى أحيانا ثم تغلبنى الكآبة والحزن - على نفسى وعليها - ثم أرانى غضبت وثرت وهاجت نقمتى على هذه المستهترة التى لا تبالى ولا تدرك. ثم أراجع نفسى فأسألها: «ماذا تريدين منها أن تبالى.. أمن العدل أن أطالبها - أو أتوقع منها - أن تحفل ما لا تدرك»؟ وأستسخف من نفسى أن أروح أنتظر من هذه العامية - على الرغم من أنها تعلمت شيئا - أن ترتفع بنفسها إلى حيث ارتفعت أنا. ثم أرجع فأقول: إن المسألة ليست مسألة تعليم أو ثقافة، وإن كان التعليم يهذب.
وانقضى النهار فى هذه الهواجس أو الخواطر، وأقبل الليل ومعه البرد.. فاحتجت أن أقوم وأن أتمشى لأشعر بالدفء، فرحت أتمشى فى الحارة وعينى على بيتها وأنا فى حماية الظلام. فسمعت بعد قليل صوت باب يفتح ويغلق فدنوت على أطراف أصابعى فاذا هو بابها، وإذا الخارج منه هو الضابط السودانى. وكاد يختفى فى الظلام، ولكن الباب فتح مرة أخرى وخرج منه صوت كهذا: «هسسس» فوقف الرجل وتلفت ثم كر راجعا ووقف أمام الباب. وكنت على مسافة مترين منه، فأدرت ظهرى إليه ولويت عنقى لأكون أقدر على السماع، فسمعتها تقول له: «الساعة الثالثة تماما.. فإنى أخشى أن يجىء ذلك الثقيل للسؤال عنى».
فمشيت.. ولم أقف لأسمع رده.
الفصل الثامن
الهارب
دخل «سعيد الميدانى» على مدير دار الكتب - حين أذن له - وهو يحيى وينشر الجريدة التى كانت مطوية تحت إبطه، وقال وهو يقدمها له: «هل قرأت هذا يا بك؟ إن الحملة واضحة التلفيق، ولهذا جئت وفى مرجوى أن أظفر منك ببيان للرد عليها».
فتناولها منه المدير وألقاها على طرف المكتب، ولم يكتم ضجره وهو يقول: «تفضل.. تفضل.. إن كل ما يعنى رواد الدار هو أن يجدوا ما يطلبون - كل ما يطلبون - فيها وأن يهتدوا إليه بسرعة وسهولة وبغير عناء أو تضييع وقت. ومتى كان هذا حاصلا فلست أبالى ما تكتب الصحف أو يقول غيرها. وهذا حسبى وحسبك بيانا، فإذا اقتنعت به فذاك.. وإلا فأمرى إلى الله، فما أستطيع أن أضيع وقتى فى الكلام الفارغ».
وكان أمامه وهو يقول هذا كتاب ضخم وضع بين صفحتين منه قلما أحمر غليظا. وكان ينظر إلى إحدى الصفحتين ويشير بأصبعه إلى سطور فيها كأنما يتلو منها ما ينطق به. بل لقد خيل إلى سعيد أن الأمر كذلك، ولكنه هز رأسه كأنما يريد أن يطرد هذا الخاطر، فقد استأذن من غير أن يبين الغرض من المقابلة. وكان سعيد من أحدث خريجى كلية الآداب بالجامعة المصرية، ومن أنشطهم وأشدهم إقبالا على التحصيل والاطلاع ونزوعا إلى الاستقلال والعمل الحر. وخال فيه صاحب جريدة «الأحوال» الخير من لمحاته، وآنس الرشد من أعماله.. فألحقه بمساعديه الكثيرين، وما لبث أن صار يعتمد عليه فى تعقب الأخبار وتقصى الحقائق.
ورأى المدير أن سعيدا ينظر إلى الكتاب الذى بين يديه، فمسح جبينه العريض بأنامله ثم قال: «على فكرة.. هل عندكم فى «الأحوال» ملفات خاصة بترجمة المشهورين»؟
ثم كأنما تذكر أمرا، فقال: «متى أسست جريدة الأحوال»؟
فقال سعيد: «بعد الحرب العظمى.. سنة 1919م - أو 1920م».
وقال المدير: «إذن لا فائدة..».
فقال سعيد: «هل تسمح لى أن أسأل ما هى الحكاية لعلى أستطيع أن أساعد».
فقال المدير: «الحقيقة أنها مسألة غريبة.. كنت أمس أقرأ كتابا لعبد القادر التميمى، وهو كاتب مصرى وشاعر أيضا.. وإن كان شعره قد ضاع بإهماله - أو على الأصح - لأنه هو أبى أن ينشره لأنه كان يستضعفه ولا يرى رأى الناس فيه. وقد كان مشهورا منذ أربعين سنة، ثم اختفى فجأة ولايدرى أحد أهو حى فيرجى أم ميت فيبكى.. وقد رجعت اليوم إلى المستدرك - وأشار بيده إلى الكتاب الذى بين يديه - وهو كما تعلم الجزء الرابع من كتاب الأعلام للزركلى، فوجدت فيه نبذة عن الرجل فيها تاريخ ميلاده وأسماء كتبه إلى آخر ذلك، وليس فيها تاريخ لوفاته. والمفهوم من هذا بداهة، أنه كان حيا حينما صدر الجزء الرابع من الأعلام - أعنى المستدرك. ولعل صاحب الأعلام لم يقف على تاريخ لوفاته إذا كان قد مات، ولكنه كان حينئذ خليقا أن يذكر تاريخا تقريبيا لوفاته على عادته. لهذا أرجح أن الرجل كان حيا وقت صدور الكتاب. ولكن المسألة تبقى مع ذلك بلا حل ... فهل هو لا يزال حيا؟ أم تراه مات؟ وأين؟ هذه هى المسألة. ولست أعتقد أن فى وسعك أن تساعدنى، ولكن أدر المسألة فى خاطرك عسى أن تهتدى إلى شىء فتخبرنى؟ إذا سمحت ولك الشكر».
ونهض واقفا إيذانا بانتهاء المقابلة.. ولكن سعيدا كان مطرقا، وكان يفرك جبينه بأصابعه، فلم ير المدير يقف.. فعاد ذاك إلى مقعده على مهل وقد جال بذهنه أن لعل هذا الشاب يعرف شيئا أن يصغى إليه، وتنبه سعيد ورفع رأسه وقال وعينه على السقف: «عبد القادر التميمى؟ أى نعم.. أذكر هذا الاسم، وإن كنت لم أقرأ له شيئا. قرأت عنه ولكن لم أقرأ له، وسمعت من أستاذنا فى الجامعة أن الناس فى عصره كانوا فى حيرة من أمره، وكان أكثرهم لا يعرف له جدا من هزل.. وكان يتهكم بكل شىء.. كل شىء حتى نفسه. وكان أسلوبه جديدا فى بابه فأخذ الناس على غرة وكثر مقلدوه، ولكنهم أخفقوا فأقصروا».
وهنا تململ المدير، فما كانت به حاجة إلى من يصف له الرجل.. وإنما كانت حاجته إلى من يدله عليه أو على مكان قبره.
ومضى سعيد فى كلامه غير عابئ بضجر المدير، فقال: «نعم.. وأذكر أن أستاذنا قال: إنه رحل من مصر وخلف أسرته بها، وترك لها كل ما جمع من مال. وكان ابنه قد كبر وصار ذا عمل يكسب منه رزقه، ولم يرجع الأب بعد ذلك.. ولكن من المحقق أنه لم يمت وإن كانت أخباره قد انقطعت.. نعم أذكر هذا».
فقال المدير: «أواثق أنت من ذلك»؟
قال سعيد: «كل الثقة.. ولكن أين هو؟ لا يدرى أحد».
قال المدير: «ولكنه إذا كان لا يزال حيا - لابد أن يكون الآن قد جاوز الثمانين.. انتظر.. ولد.. ولد.. نعم.. سنة 1850، فهو الآن فى السادسة والثمانين؟ يألله! أتظن؟ أنى لا أكاد أصدق، لقد كان معروفا عنه أنه مسرف فى إنفاق حياته.. لا يبالى أعاش أم مات.. فكيف يمكن..»؟
فقال سعيد: «مثل هؤلاء الذين لا يبالون أعاشوا أم ماتوا هم الذين يعمرون».
فقال المدير وهو شارد: «ربما.. ربما.. ولكن 86 سنة.. هذا عمر.. هذا..».
فنهض سعيد ومد يده إلى المدير، وقال: «سأعنى بالبحث.. وإذا وفقت إلى شىء فسأخبرك».
فمد المدير إليه يده، وهو يقول كالمحدث نفسه: «86 سنة.. أما لو كان حيا؟ ولكن كيف يمكن؟ كيف يمكن»؟ •••
مضى شهران على هذا الحديث لم يسمع فى خلالهما كلمة من سعيد، ولم يكف هو أثناءهما عن البحث والتقصى - عبثا - فأقصر يائسا وصرف نفسه أسفا عن عبد القادر التميمى. وكان جميل بك - أو إذا شئت اسمه كاملا، جميل بك أحمد القناوى - رجلا مخلصا عطوفا رقيق القلب، وقد شق عليه جدا أن يحدث فى القرن العشرين أن يختفى أديب مشهور وأن تنقطع أخباره نحوا من أربعين سنة، فتنساه الدنيا التى يسرها ويملؤها حبورا وجذلا، ولا تعود تعرف عنه حتى أبسط ما ينبغى أن يعرف: «أهو حى أم تراه ميت»؟ وكان جميل بك يرى أن هذه فاجعة إنسانية لأنه لم يشك فى أن اختفاء هذا الأديب وانقطاع أخباره سببهما يأس عميق آخذ بالكاتب، وهو مع ذلك الذى يرفه بكتابته عن الناس وينعش نفوسهم ويهذبها بفكاهته ويفيض على حياتهم البشر والسرور كما تفعل الشمس، ولم يسعه الا أن يعجب لاختفاء رجل مشهور فى عالم لا يكاد يختفى فيه شىء فى هذا العصر، ورجح عنده لهذا أن الرجل لابد أن يكون قد لقى حتفه فى أول مراحل هجرته - إذا صح أن تسمى هجرة - ولا يبعد أن يكون قد تنكر واتقى ألا يحمل معه ما يدل على حقيقته. وأخلق به حينئذ أن يكون قد دفن حيثما اتفق بالاسم الجديد الذى تنكر به، وهز جميل بك كتفيه ومط شفتيه ، ثم زفر زفرة طويلة وقال: «إيه لا حول ولا قوة الا بالله» وشرع يشعل سيجارة وإذا بالتليفون يدق إلى جانبه، فتناول السماعة متثاقلا وقال: «نعم» ولكن ما عتم أن أعتدل فى جلسته، وصاح: «أيه ماذا تقول»؟
ولكن الذى خاطبه اكتفى بما قال، فوضع جميل بك السماعة، وقام يتمشى بسرعة ويشعل سيجارة ويضعها فى الطبق وينساها ويروح يشعل غيرها حتى اجتمع فى الطبق أربع سجاير بعضها أقصر من بعض وهو ذاهل عنها جميعا. وأنه ليهم بإشعال الخامسة، وإذا بالخادم - فقد كان فى بيته - ينبئه أن «سعيد أفندى الميدانى» قد حضر، فيقول له بلهفة: «أدخله.. أدخله» ويسبقه هو إلى الباب.
ويدخل سعيد أفندى ويده فى يد جميل بك، وهو يقول: «نعم وجدته.. فى غرفة فى ربع قديم فى أعتق أحياء هذه المدينة.. أو هو من أعتقها..».
فيقول جميل بك: «وكيف وجدته»؟
فيقول سعيد أفندى: «أوه.. هذه حكاية طويلة. وليس المهم كيف وجدته، بل المهم أنى وجدته. ويمكننى أن أقول لك إنى استعنت بابنه، وقد كان اعتقاده أنه مات لا محالة، ولكنى زعزعت له هذا الاعتقاد بعنف بل بقسوة.. هل تعلم أن ابنه أحيل على المعاش منذ سنتين، وإن له حفيدة تزوجت وولدت بنتا».
فيقول جميل بك: «ليس عجيبا أن يعتقد ابنه أن أباه مات وشبع موتا، ولكن كيف وجدته؟».
فيقول سعيد مرة أخرى: «لقد قلت لك أن هذه الحكاية طويلة».
فيقول جميل بك: «إنما أعنى كيف حاله».
فيقول سعيد: «حاله.. وماذا تنتظر أن يكون حال رجل قارب التسعين وأقعدته شيخوخته العالية عن العمل.. فقر وضعف وعمش ... حال لا يعلم بها إلا الله». - ولكن كيف يعيش؟ - كان يستعين به طابعو الكتب القديمة لضبطها وهم يجهلون شخصيته لأنه يسمى نفسه عبد القادر ناجى.. أليس اسما غريبا؟ إن اختياره له يشى بثقته بالله وبحسن المآل على كل حال.. لقد أدهشنى منه أنه لايزال يبتسم للدنيا ويؤمن بحسن حظه فى الحياة على الرغم مما هو فيه من الفاقه الشديدة.. ولكن من يدرى؟ لعله قد خرف فهو لا يقدر سوء ما هو فيه. فسأله جميل بك: «ألا يعرف أن ابنه موجود»؟
فقال سعيد: «يعرف، ولكنه أبى أن يذهب إليه حين عاد من رحلاته لأنه استكبر أن يجعل نفسه حميلة عليه، وخشى أن يأنف ابنه من الانتساب إليه إذا وقف على حالته الزرية». - وهل قابل ابنه؟ - بالطبع ... وقال له حين رآه: من يصدق أنك ابنى؟ إنى أبدو أصغر منك.. على كل حال، يمكنك دائما أن تنسى أنى مازلت على قيد الحياة.. فما أشك فى أن عثورك على حيا صدمة لك بعد أن وطنت نفسك على موتى. وأحسب أن بعثى الآن قد خيب أملك فى.. كذلك قال لابنه.. مدهش.. إن ذهنه لا يزال حافظا لقوته.. قال لابنه فى جملة ما قال: إنى لما كبرت كنت أقول: لو عاش أبى لما عاشرته، لأنى أستنكف أن أكون فرعا وأحب أن أشعر أنى أنا أصل مستقل بنفسه عما عداه وعما غذاه ونماه. ولكن ذهنه يشرد أحيانا فيخلط فى كلامه، لأنه يكر راجعا إلى ذكرياته الطويلة فى حياته الحافلة، من غير أن يشعرك بالانتقال أو الرجعة.. فتحس أنك تهت وضللت طريقك، وقد تظنه يهذى ولكنه ليس هذيانا بل كر الذهن إلى الوراء فجأة بغير انذار. ولما قلت له أنك تبحث عنه، ضحك وقال هل يريد أن يغلفنى ويضعنى على رف.. وقال عن كتبه لما عرض ذكرها: إن خيرها ما لم يكتبه.. ولا تزال أسنانه باقيا بعضها، وقد قال لى إن متانتها وسلامتها من الآفات هما السبب فى بقائه حيا إلى الآن.. ولما قلت له إن من واجبه أن يملى مذكراته على بعضهم، صاح بى: «أعوذ بالله يا شيخ.. حرام عليك.. اتق الله فى يابنى».
فسأل جميل بك: «وماذا كان يعمل كل هذه السنين الطويلة»؟ - أوه كل شىء.. قال لى أنه لم يعش لنفسه ساعة واحدة أيام كان يشتغل بالأدب، وأن كل ما كان يرى نفسه تشتهيه كان يرى أنه محروم منه. وكان مما يثقل عليه جدا أنه لا يرى نفسه يفعل إلا ما يكره فهو لا يحب المجالس التى يكثر فيها الناس ولا يرتاح إلى أحاديثها ولا يغتبط بالزوار ويحب أن يشعر أن بيته حصن منيع لا يقتحم، ويود ألا يجلس إلا الذين يصطفيهم من الإخوان ويأنس بهم ويطمئن إليهم، ولكنه كان يجد - لسبب خارج عن إرادته بل ضد إرادته - أنه يعيش كما يعيش الناس، ويفعل ما يستثقل، ويحرم ما يحب، وقد كبر فى ظنه أنه سيظل حياته هكذا. ولم يستطع أن يروض نفسه على السكون إلى هذه الحياة أو أن يوطنها على احتمال هذا التقيد الذى لا يعرف ماذا يفرضه عليه، وشق عليه أن يظل هكذا.. يعرف أنه حر ولا ينعم مع ذلك بحريته، فكره هذه الحرية الظاهرية، ومل السخط على نفسه.. وود لو أنه مقيد حقيقة بإرادة غيره ليتسنى له على الأقل أن ينحى باللائمة على هذه الإرادة الخارجية ويجعلها غرضا لذمه وطعنه. ولهذا فر من مصر والتحق بشركة أجنبية للملاحة، وركب على بواخرها البحار.. وأقام فى الموانئ مندوبا لها، ثم ترك ذلك وعمل وكيلا تجاريا يجوب المدن ويذرع الأرض داعيا مرغبا، ثم انقلب مدرسا للغة العربية فى بلاد الأفغان حتى أقعدته الشيخوخة ولم تقعده فى الحقيقة، ولكن الناس كانوا يرون أن سنه علت فهم يزهدون فيه من أجل ذلك ويؤثرون من هم أدنى منه سنا، وكان قد جمع مالا فى رحلاته الكثيرة فصار ينفق من رأس ماله حتى قارب النفاد فعاد إلى مصر فدخلها ومعه نحو تسعين جنيها. قال لى - وهو يضحك: إنه حدث نفسه أنه ينبغى أن يموت بعد أن تنفد، فما له رزق سواها. ولكنه كان يخرج ويتردد على المكاتب التجارية، فأنس به أصحابها وأدركوا أنه عالم وأن فى وسعهم أن يستغلوه، فكان يضبط لهم الكتب القديمة التى يعيدون طبعها، وساعده ذلك على إطالة عمره، فقد أغناه عن الإنفاق من رأس ماله أو ما بقى منه. ومعنى ذلك عنده أن عمره طال لأنه يحسب عمره بما لديه من المال، فعلى حسب كثرته أو قلته يكون ما بقى له فى الدنيا من السنين.. فهل رأيت أعجب من هذا؟
فأطرق جميل بك شيئا، ثم رفع رأسه وقال: «لا شك أن الأمر عجيب ولكن ابنه ... ألم يأخذه بعد أن اهتدى إليه»؟
فقال سعيد: «أوه.. إن الرجل شاذ كما تعرف وقد أبى كل الإباء أن يذهب إلى بيت ابنه، لأن هذا خليق أن يحدث فى رأيه اضطرابا لا داعى له فى حياة ابنه. وقد أطال النظر إلى البذلة الأنيقة التى يلبسها ابنه، ثم ألقى نظرة على الجلباب البسيطة الذى يرتديه هو وأشار بيده المعروقة إلى الثوبين، وقال: «دعنى لشأنى، فإنه غير شأنك» ولم يزد بعد على الابتسام كلما ألح عليه ابنه فى القيام معه».
فقال جميل بك: «والآن ألا نستطيع أن نصنع شيئا لهذا الرجل الذى كشفنا عنه؟ إن رجال الآثار يملأون الدنيا ضوضاء كلما وقعوا على حجر قديم، أفلا ينبغى أن ننبه الناس إلى حقيقة هذا الرجل الذى لا يزال حيا وإن كان محسوبا فى أهل القرون الخالية»؟
فقال سعيد: «بالطبع نستطيع.. يمكن مثلا أن نقيم احتفالا كبيرا فى أكبر الفنادق ندعو إليه رجال الأدب والعلم والصحافة وطائفة من كبار الرجال ونقدم إليهم صاحبنا.. غرابة الموضوع نفسه كفيلة وحدها بنجاح الحفل».
فهز جميل بك رأسه، وقال: «لا شك.. ولكن صاحبنا لا يبالى هذا ولا فائدة له منه على كل حال، وأنا أخشى إذا دعونا إلى الاكتتاب أن لا نفوز بشىء يستحق الذكر.. فنكون قد أهنا الرجل بلا داع.. ثم من يدرى.. فقد يأبى هذا وذاك..».
فقال سعيد، وهو ينهض: «أقول لك.. دع هذا لى. والله الموفق».
لم يكن الأستاذ عبد القادر التميمى يبرح بيته، وكان يجلس طول النهار على سريره الضيق تحت النافذة ويطل منها ولا يكاد يحول عينه عنها. ولم يكن يرى شيئا فى الحقيقة الا أشكال المبانى القريبة، وذاك لضعف بصره.. ولكنه لم يكن ينظر ليرى شيئا، ولا كان يعنى بأن يرى أو أن تأخذ عينه المناظر، وإنما كان يحدق كالذاهل. وكانت أسارير وجهه المتجعد تنبسط أو تعمق الأخاديد التى حفرها الزمن، فيخيل إلى الناظر إليه أن هذا وقع ما يشاهده. ولكن الحقيقة كانت خلاف ذلك وعلى نقيضه، فما كان يبصر شيئا وإنما كان يدير عينه فى قلبه أى فى ماضيه، فيبدو عليه السرور أو الألم أو غير ذلك، كما يبدو على وجه من يشاهد قصة معروضة فى دار السينما. وكان سعيد يزوره كل يوم مرة - وأحيانا مرتين - فى اليوم ويصغى إليه - أكثر الوقت، وهو يهضب ويسح بذكرياته التى لا آخر لها وقال له مرة: «ما رأيك يا أستاذ.. أن خبر عودتك قد شاع وذاع بين الأدباء ورجال الصحف وكلهم متلهف على رؤيتك».
فقال بإيجاز: «فليتلهفوا». فقال سعيد: «ولكنهم لابد أن يصلوا إليك فى النهاية.. كما وصلت أنا.. ولا سبيل إلى صدهم». فتجهم الرجل وقال: «ولكن يجب أن يمنعوا.. إن المكان لا يليق.. ما العمل.. أشر..» قال: «اسمع منى وأطعنى.. خير ما يمكن أن نصنع هو أن يروك كلهم دفعة واحدة». قال: «ولكن كيف يتسنى ذلك؟ هذا مستحيل». قال: «كلا.. الضرورة تفتق الحيلة.. وقد رأى المعجبون بك أن خير ما يصنع هو أن يقيموا حفلة يدعون إليها الأدباء والعلماء ورجال الصحف ورجال الدولة أيضا.. فنفرغ من الأمر كله فى ساعة». قال: «ساعة؟ يا حفيظ». قال: «هذا أهون من أن تظل كل يوم ساعة معرضا لحضورهم إلى هنا وإزعاجك.. فكر..». قال: «صدقت.. ولكن حفلة؟ حفلة. إن هذا صعب».
قال: «لماذا.. أين الصعوبة؟ ما عليك إلا أن تحضر وتجلس معهم ساعة أو بعض ساعة ثم ننصرف جميعا، وكفى الله المؤمنين القتال».
فأطرق الرجل قليلا ثم قال: «ولكنى لا أريد أن أختصر حياتى.. إنى أستطيع أن أعيش.. دعنى أنظر..».
فعالجه سعيد حتى صرفه عن التفكير فيما تكلفه الحفلة من النفقات للثياب، فقد كان هذا هو الذى يفكر فيه ويستثقله خوفا على عمره.
ولكن المشكل لم يحل مع ذلك، فقد كان ابنه على بك - فقد صار بيكا - عبد القادر التميمى، فى حيرة شديدة من أمره من جراء عناد أبيه، فإنه - أى على بك - رجل ذو مركز ومقام فى المجتمع، وقد زوج ابنته منذ عهد قريب لرجل له مركز ومقام فى المجتمع أيضا، وليس يليق أن يكون أبوه - أى أبو على بك - هذا الرجل الرث الهيئة الزرى اللباس الرقيق الحال الساكن فى غرفة حقيرة فى ربع عتيق أو جديد إذا أمكن أن يكون هناك ربع جديد - وقد استطاع أن يرجئ لقاء بنيه ونسيبه لهذا الأب الذى جاء من حيث لم يكن يحتسب، فقد زعم لهم أن العثور عليه أو الاهتداء إليه أحدث له رجة عصبية يحسن معها اتقاء إزعاجه إلى حين. ولكن الصحف بدأت تكتب وتفيض، ولا سبيل إلى كبح الصحف أو صرفها عن الموضوع.. فما كل يوم يختفى أديب كانت له شهرة واسعة، ثم يظهر بعد أربعين سنة. وقد حرص جميل بك وسعيد أفندى على إخفاء مسكن الرجل، ولكن الصحف لا يسعها أن تصبر على ذلك.. ومن حقها أن تعرف أين يسكن أو يقيم وإلا كانت معذورة إذا هى استرابت فى الأمر كله. أضف إلى ذلك أن حفلة ستقام ويشهدها مئات من الخلق. وقد كانت فكرة الحفلة هى التى أعانت جميل بك على إقناع الصحف بالصبر والانتظار، وجعلت الموضوع شيقا وخليقا أن يجد القراء فيه مثل لذة الأساطير. ولكن هذا لا يمكن أن يدوم ولا مفر آخر الأمر من كشف الحقيقة كلها، فما العمل؟
لهذا لجأ إلى سعيد وجميل بك ورجا منهما أن ينقذاه ويحولا دون الفضيحة التى يجزع منها ولا يعرف له قدرة على احتمالها، فاتفق الثلاثة أن يحملوا الرجل - ظهر يوم الحفلة - بعد أن يلبسوه بذلة إلى بيت ابنه، ومن هناك يذهبون به إلى الحفلة فى المساء. •••
وجاء يوم الاحتفال، فذهب إليه سعيد بعد الظهر ومعه ثياب أراد أن يلبسه إياها.. فأبى واستكبر وغضب أيضا، وقال إنه ليست به حاجة إلى ثياب ولا إلى أحد من الناس، وإنه لا يريد أن يحضر هذه الحفلة أو يرى وجه إنسان، وإنه ما يعيب ثيابه على كل حال؟ أليس قد قابل بها الناس فى مصر وفلسطين والشام والحجاز والأفغان والعراق وإيران.. فاذا كانت لا تكفى هؤلاء المعجبين به والذين يريدون أن يحتفوا ببعثه، فإنه يحسن بسعيد أن يحمل إليهم ما جاء به من الثياب على مشجب، ويقول لهم إن هذا ما يطلبون وهو كل ما يستحقون أن يروا.
ولم يقل هذه الألفاظ بعينها ولا ما يقرب منها، بل فاه بما هو أعنف. وكان صوته متهدجا وكلامه متقطعا، وكانت لحيته الطويلة الكثة تضطرب وأسنانه الباقية تصطك، فلم يجد سعيد بدا من السكوت والكف عن الإلحاح عليه بعد أن وضحت له قلة جدواه، وسأل الله فى سره الستر والسلامة فى هذه الليلة.
وخرجا من الغرفة.. سعيد فى ثيابه الإفرنجية التى يلبسها الأفندية من أمثاله، والأستاذ التميمى فى جلباب فضفاض وجبة قديمة وحذاء أصفر صارت الرقع فيه أكثر من الأصل فكأنه مركوب أبى القاسم، وطربوش مصرى سوى أنه طرى وعليه لغة كانت فى الأصل مزركشة فأصبحت ألوانها حائلة باهتة.
وكان سعيد قد جاء فى مركبة وتركها تنتظر فى الطريق أمام الباب، فأحاط بها غلمان الحارة.. هذا ينط على السلم وذاك يعبث بالغطاء ويطويه وينشره ويكرر ذلك مرات، والسائق يصيح بهم أن يكفوا ويلعن الساعة التى دخل فيها هذه الحارة، ويقرقع بسوطه ليزجرهم ويخيفهم فينفضون متضاحكين ثم يعودون إلى غيهم حتى كاد عقل السائق يطير. فلما ركب الرجلان راح الغلمان يجرون وراء المركبة ويتعلقون بها من خلفها ويصيحون، والسائق يلوح لهم بالسوط ويضرب به ظهر الغطاء حتى خرج إلى الطريق العام.
ولا نطيل.. ولا نحاول أن نصف لقاء الرجل بأحفاده، فقد خاب أمل الأسرة كلها حين رآه أعضاؤها وأخذت عيونهم الفاحصة قدم الثياب ورثاثتها. وكان ابنه أعظمهم خيبة أمل وأشدهم قلقا واضطرابا، ولا سيما حين عرف إصرار أبيه على هذه الثياب الوضيعة المخجلة حتى لقد أشفق عليه سعيد أفندى أن يفلج، فراح يحاور الأستاذ التميمى ويداوره مرة أخرى عسى أن يهديه الله.. ولكن الرجل كان جبلا لا يتزعزع، ولما قال: «أنا كما أنا.. فمن كان يقبلنى على علاتى فأهلا به، وإلا فإنى أرجع إلى غرفتى.. فما طلبت أن أجىء ولا أردت أن يعرف ابنى أو سواه أنى على قيد الحياة»، عندئذ أمسك سعيد أفندى وأقصر.
وكانت الحفلة فى فندق من أكبر فنادق المدينة وفى أوسع قاعاتها، وقد دعى إليها - أو على الأصح اشترك فيها - نحو مائتين من رجال الأدب والعلم والصحافة والحكم والوجاهة. وكان أكثرهم قد بكر وجاء قبل الموعد.. وجاء غير المدعوين - أو المشتركين - كثيرون، وقفوا بحيث يرون الداخلين، واحتشد جمهور غفير على الرصيف ليروا هذا الأديب الذى بعث بعد أربعين سنة، والذى دأبت الصحف عدة أيام متوالية على الكتابة عنه. واستعد المصورون لاستقباله وتصويره فى القاعة الكبرى بآلاتهم ومصابيحهم القوية.
ثم أقبل أحد الشبان يعدو، وقال: «جاء الأستاذ»، فساد السكون وانقطع حتى الهمس وتعلقت الأنفاس واشرأبت الأعناق، واتجهت العيون إلى الباب لرؤية هذا الذى كأنما قام من القبر. ودخل الأستاذ فى الثياب التى أبى سواها، وقد أخذ بذراعيه جميل بك وسعيد أفندى، وأقبل ابنه وراءهم. ولكن الناس لم يعيروا الابن أدنى التفات وإنما كانت عيونهم على هذا الرجل الهرم ذى الثياب العتيقة واللحية البيضاء والجبين المقطب والعين الثابتة اللماعة وإن كانت لا ترى إلا قليلا. وكان قد ثقل عليه ما رأى من ابنه، فآلى ليرجعن إلى غرفته. وعرض جميل بك المدعوين على الأستاذ بأسمائهم، فصافحوه واحدا بعد واحد حتى كاد ينخلع ذراعه وإن كانوا جميعا قد ترفقوا به وحرصوا على الاكتفاء بلمس راحته. ولم يبد عليهم ما خشيه ابنه من الاشمئزاز أو الاستخفاف، حين تقع عيونهم على ما هو فيه من الهلاهيل.
وأديرت ألوان الطعام، فكان الأستاذ يسأل عما يعرض عليه، ما اسمه؟ وكيف يصنع؟ ولا يتناول إلا بقدر. وكان المدعوون فى أول الأمر يحدجونه بعيونهم، ولكنهم ما لبثوا أن انصرفوا إلى الطعام والحديث. ولكل شىء آخر - انتهى الأكل وبدأت الخطب والقصائد والأستاذ مطرق كأنه يصغى، وكان يهز رأسه من حين إلى حين كمن سره شىء - أو ما يسمع.
وانتهى هذا أيضا على طوله ، فهمس جميل بك فى أذن الأستاذ: «ألا تحب أن تتفضل بكلمة ترد بها عليهم»؟
فقال الأستاذ مستغربا: «أنا؟.. أقول كلمة؟.. أرد على ماذا؟ الحقيقة أنى لم أكن مصغيا.. لم أكن مصغيا.. لم يكن بالى إليهم».
فذعر جميل بك - فما كان يتوقع هذا - وقال: «ولكن يا أستاذ. لابد من كلمة.. لا نستطيع أن نقول لهم إنك لم تكن مصغيا إلى كلامهم.. أرجو يا أستاذ.. كلمة شكر قصيرة.. القليل منك كثير».
فهز الأستاذ كتفيه، وقال: «إن هذا غريب! لقد كنت أفكر فى ليلة قضيتها فى كهف..».
فقال جميل بك مقاطعا: «فيما بعد الحفلة نسمع ماكنت تفكر فيه.. لابد أنه كان شيئا غريبا.. ولكن الآن.. أرجو يا أستاذ».
فالتفت إليه، وقال: «ماذا قلت إنهم كانوا يقولون؟ إنى لم أكن مصغيا».
فقال جميل بك: «كانوا يثنون عليك ويمدحونك ويذكرون كتبك العديدة ويصفون ما فيها.. كلام كثير يصعب أن ألخصه لك الآن. أنا أيضا قلت كلمة ولكنك لم تسمع مع الأسف.. نهايته.. لابد من الرد، فاصنع معروفا».
وكان سعيد - حلال المعضلات - قد أدرك وهو فى مكانه أن فى الأمر شيئا، فخف إلى جميل.. فلما عرف المسألة انحنى على الأستاذ، وهمس فى أذنه: «إن هؤلاء الناس خليقون أن يتوهموا أننا ضحكنا عليهم أو أننا مخدوعون، وأنك لست الأستاذ التميمى وأنما أنت رجل غيره ينتحل اسمه، فقم قل كلمة وإلا ...» ولم يتمها فقد نهض الأستاذ معبسا، ورفع رأسه كأنما يحاول أن يقيم ما قوسه الزمن، وكانت لحيته تضطرب، وشفته تختلج، وكفاه لا تثبتان على المائدة التى وقف معتمدا عليها، وظل هكذا نحو دقيقة كان من الواضح فى أثنائها أنه يعالج نفسه ليردها إلى السكون، ويحاول أن يضبط أعصابه ويفىء بها إلى الاتزان ثم فتح فمه، وقال بصوت خافت: «أيها السادة» وسكت شيئا وثبت حملاقه فكأنه تمثال نصب فى مكانه، ثم ابتسم فجأة وبدأ يتكلم بلا توقف. ولم يشكرهم كما رجا منه جميل بك، بل قال لهم فى صراحة سرت فريقا وساءت آخرين، إنه وجد بالتجربة الطويلة أن من العسير أن يهرب المرء فى هذه الدنيا من الناس - ومن الأدب والأدباء وعشاق الأدب على الخصوص - المخلصين والمتكلفين والذين يظلون يوحون إلى نفوسهم أنهم يحبون الأدب حتى يؤمنوا بذلك. كلا، لا سبيل إلى الهرب.. وطالب الفرار لابد له من الجرى الطويل والذهاب إلى أبعد مما كانت الحاجة تدعو إليه قبل نصف قرن. وهو يتكلم عن خبرة فيجب أن يصدقوه، بل إن وجوده الليلة بينهم دليل مادى على تعذر الهرب فى هذا الزمان الذى امتد به العمر إليه. وكيف يهرب الإنسان؟ إلى أى مكان يذهب وكل مكان فيه ناس؟ وقد صار الناس أكثر والاتصال بينهم أسرع وأسهل.. ومن أى مكان يهرب؟ إن الهرب الصحيح مستحيل.. وقد يستطيع المرء أن يعيش فى الصين، ولكنه لا يستطيع أن ينكر أو ينسى أن القاهرة والإسكندرية ودمشق والقدس موجودة. والهرب من الزمان أصعب. نعم، يتوهم المرء أنه يعيش لا فى الحاضر بل فى المستقبل وللمستقبل، ويروح يعزى نفسه عما هو كائن بما يزعم أنه سيكون، ويذهب يعمل ليقلب الدنيا ويجعلها كما ينبغى أن تكون، «إنى أؤكد لكم أنى أعرف هذا. فقد فعلته - أعنى توهمته - وعشت فى سكرة طويلة ونشوة مستمرة وحلم دائم بما سيكون».
وقال لهم إن هذا كله عبث فى عبث، وأكد لهم أنه لا مسوغ على الإطلاق لأن يفترض الإنسان أن للجنس الإنسانى مستقبلا.. هذا أولا. وثانيا أن ما نسعى له ونلح فى طلبه أو تمنيه، قد يكون مستحيل التحقيق. وهب أن تحقيقه ميسور، فقد يتبين أنه ليس مما يسيغه أو يرتاح اليه أو يرضى به الجنس الإنسانى. وسألهم هل هم يعتقدون أن الإنسان ينشد السعادة؟ ولو كانت السعادة الدائمة الخالدة التى لا تزول ولا تتغير ممكنة، ألا يستفظعها الإنسان ويفرق من تحقيقها؟ على أن التفكير فى المستقبل والسعى له لا يمنعان أن الحاضر موجود وأنه مؤثر بوجوده.. وهناك مهرب آخر إذ يتعلق المرء بالمثل العليا وصور الكمال، ولكن اللجوء إلى الخيال لا ينفى الحقائق المحيطة بالإنسان. وانتهى إلى أن المهرب الوحيد الصحيح لا يكون فى الحياة وهذا لا يعد مهربا، لأن المرء لا يشعر به ولا ينعم بإدراكه أنه استطاع الهرب.. ولو كان هذا مهربا حقيقيا للجأ إليه! وابتسم وقال إنه يرجو أن لا يلجئوه إلى هذا الذى ليس مهربا..
واستطرد بطريقة ما إلى كتبه وما يلقى التكريم من أجله، فقال إنه واثق أن أكثر الموجودين لم يسمعوا باسمه، ولم يكونوا يعلمون أن له كتبا، وأن الذين قرأوها فهموا منها غير ما أراده، وقد يكون هذا عيبه هو كما قد يكون عيبهم هم، ولكنه الواقع على كل حال. والمجتمع لا ينتظم أمره إلا بالمجاملة وهى شىء حسن فى ذاته، ولكنه هو فرغ من ذلك كله وأخرجته سنه من المجتمع وأعفته من ضروراته. وهو ليس من هذا الزمن، فيحسن أن يرتد ويتراجع إلى ما أخرجوه منه لأنه ليس إلا قطعة متخلفة من زمن سابق، ولا شك أنهم أدركوا غلطتهم حين خرجوا به إلى زمانهم.
وظل يهضب على هذا النحو الذى لم يكن منتظرا ولا كان فى حساب أحد. وطال الأمر فمل الناس وأحس هو الهمس.. فلم يترفق بالذين ضجروا كأنما أراد أن ينتقم لنفسه أو أن يبغضها إليهم فيتركوه بعد ذلك فى سلام. ولم يطق البعض المقام أو طوله، فتسلل خارجا وتبعه غيره وغيره حتى لم يبق إلا ما دون النصف.
ولكل شىء آخر.. عاد الأستاذ إلى غرفته لا إلى بيت ابنه واستلقى على فراشه بثيابه، فقد أضناه الكلام والوقوف أكثر من ساعة ونصف ساعة.
وفى الصباح جمع ثيابه وأشياءه، وانتقل إلى ربع آخر.
وجاء سعيد بصحف الصباح وفيها وصف الحفلة التى ظلت أياما تدعو لها وتروج، وفى صدر أكثرها خطبته التى عنى سعيد بتدوينها.
فلم يجد الأستاذ، وأعياه أن يعرف أين ذهب.. فأسرع إلى ابنه على بك يخبره ويسأله ما العمل، فقال على بك وهو يرسل الدخان فى الهواء: «أظن أن الواجب أن نحترم إرادته ونعفيه من الإثقال عليه».
فمضى عنه سعيد وهو يهز رأسه ويفكر فى على بك، أكثر مما يفكر فيمن عاد فاختفى.
الفصل التاسع
النسيان
- إنك قاس.. - أنا؟ يا خبر أسود! وهل فى هذه الدنيا الطويلة العريضة من هو أرق منى قلبا؟ - ولكنه أبى.. أنا أتألم. - أعرف أنه أبوك.. وأعرف أيضا أنه نادر، وأنه منقطع القرين.. أيكفى هذا الثناء أم تريدين الزيادة؟ يكفى؟ حسن.. ولكن ذهوله يضحك الثكلى، فماذا أصنع؟.. ما حيلتى؟
فقالت الفتاة بلهجة مبطنة بالعتاب: «ولكن هل من الضرورى أن تقلده؟ إن هذا هو الذى يسوءني منك».
فقلت: «فكرى يا فتاتى.. قولى لى كيف يمكن أن أقص عليك الحكاية وأصف لك ما حدث بغير ذلك.. إنى لا أريد تقليده، ولكن الصدق فى الرواية والفن فى عرضها يتطلبان ذلك.. بل يجىء منى التقليد عفوا وعلى غير عمد» فاقتنعت أو هى لم تقتنع، ولكنى كنت قبل أن يدور هذا الحوار، قد شرعت أقص عليها حادثة جديدة من حوادثه التى لا آخر لها.. فلما احتجت إلى تقليده فى بعض مواقفها ضحكت، ثم انقلبت تعاتب وتستهجن التقليد وتعيب المحاكاة. وهذا بعض ما يحيرنى من المرأة، فقد كان ضحكها وعتابها فى وقت معا، وكانت تضحك وتشير إلى بيدها منكرة ماترى وتسمع منى.
وقد عرفتها من أبيها، وبفضل ذهوله العجيب. وكانت تخرج معه لتقيه عواقب ما يقع منه. فكأنها وهى ترافقه وتروح وتجىء معه، ذاكرته الذاهبة. واتفق يوما أن نسيها - نعم نسيها - وخرج وحده، واهتدى - لا يدرى أحد كيف؟ - إلى ناد لم أكن أعرف أن مثله موجود فى بلادنا، فإن حياة الأندية طارئة وعهدنا بها حديث جدا. وكنت قد دعيت فى تلك الليلة إلى زيارة هذا النادى، وقضاء بعض الوقت فيه.. وكان الذى دعانى يرجو أن أنضم إليه ويحثنى على ذلك ويزينه لى، وأنا أتأبى وأبين له أن حياة الأندية فى مصر جافة ثقيلة، وأنها قلما تكون إلا حياة مقامرة أو ما أشبه ذلك، فيضحك منى وينفى ذلك ويقول: «تعال انظر بعينك ثم احكم» فذهبت وكان أول من لقينا هذا الشيخ ولم أكن أحتاج إلى من يعرفنى به، فإنه صديق قديم.. فأقبلت عليه وجلست معه فصفق، فلما جاء الخادم نظر إليه مستغربا ثم إلى أنا مستفهما. فقال الخادم، وكان يعرف ذهوله: «هل تريد شيئا يا بك»؟
فقال البك: «أ.. أ.. أريد.. أريد.. ماذا أريد»؟
فكتمت الضحك، وقال الخادم: «لقد دعوتنى يا سيدى فهل أجىء لك بقدح من الويسكى»؟ فنسينى وقال: «أ.. أ.. نعم.. نعم.. أ.. نعم نعم نعم..».
وذهب الخادم وعدنا إلى الحديث الذى لا يكون معه إلا محاورات ولفا من هنا وهاهنا، بسبب هذا الذهول الذى أصيب به. فقال بعد كلمات: «ولكنى أهملك.. إن هذا لا يليق.. اعذرنى.. لقد نسيت أن أدعو الخادم».
وصفق مرة أخرى، فلما جاء الخادم لم أقل شيئا انتظارا لما يكون منه، فقال له: «أ.. يا خليل.. هل طلبت منك شيئا»؟
فقال الخادم: «نعم.. قدحا من الويسكى».
فسأله: «هل جئت به؟ أعنى..».
قال: «لا يابك.. سأجىء به حالا».
ومضى عنا فصفقت أنا وطلبت ما طاب لى، فمال على الخادم وهمس فى أذنى: «إذا سمحت لى يابك فإن اسمى عبده، ولكن البك ينسانى ويطلق على كل يوم اسما جديدا».
وسألنى الشيخ المسكين بعد أن ذهب الخادم: «ماذا يريد هذا الرجل»؟ قلت: «لا شىء.. كان يقول إن اسمه عبده لا خليل». قال: «من هو»؟
قلت: «الخادم». قال: «ماله؟». قلت: «اسمه عبده». قال: «عبده؟». قلت: «نعم». قال: «من عبده هذا؟». قلت: «الخادم».
وأحسست أنه سيعود فيسألنى: «ماله»؟ وكان الويسكى قد أقبل به الرجل فقلت له: «آه.. هذه كأسك.. ومعها كأسى أيضا».
فنظر إلى كأنه لا يفهم ما أقول وسكت أنا، فما أدرى ماذا يدور فى نفسه. وطال الأمر، فشعرت بالضيق.. فليس مما يخف محمله على النفس أن ترى غيرك يحدق فى وجهك ولا يطرف. فنظرت إليه مستغربا، ولكنه كان كأنه لا يرانى وخيل إلى أنى فى طريق نظرته، فتزحزحت عن مكانى إلى الوراء قليلا وبقى هو ثابت الحملقة لا يشعر بى ولا بحركتى، فحولت وجهى إلى حيث ينظر فلم أر شيئا - أعنى أنى لم أر ما يستوجب هذا التحديق كله - فتركته لشأنه حتى يثوب إلى ويمل طول النظر.
وبعد هنيهة، قال - وكأنه يحدث نفسه: «لم أر فى حياتى إنسانا يأكل هكذا».
فدهشت وقلت: «إيه؟ كيف»؟
فأهمل سؤالى - أو لعله لم يسمعه - وسألنى هو: «هل تقضم اللقمة وتبلعها بلا مضغ»؟
فزادت دهشتى، وقلت: «كلا بالطبع.. من قال لك أنى أصنع ذلك»؟
قال: «خفت أن تكون ممن يفعلون ذلك.. ليس أضر على المعدة منه..».
فسكت، فقد استطردنا إلى حديث لم يكن لى فى حساب، فعاد يقول: «كلا.. لا تفعل.. احذر..».
فقلت، وقد مللت: «ما الذى يجرى ببالك هذا السؤال»؟ قال: «إيه؟.. أى سؤال»؟ قلت: «المضغ والبلع، ولا أدرى ماذا أيضا». قال: «ألا تمضغ طعامك»؟ قلت: «بالطبع أمضغه.. لماذا تسأل»؟
قال: «خفت ألا تكون تمضغه.. لقد كان الطبيب يوصينى أن أمضغ اللقمة اثنتين وثلاثين مرة أو ثلاثا وثلاثين لا أدرى.. الزيادة احتياط ينفع ولا يضر.. هل تفعل ذلك»؟
فقلت لنفسى: إن النسيان فى ذاته وبمجرده ثقيل وبلاء عظيم، ولكنه يكون أعظم وأثقل إذا ألح على المصاب به خاطر واحد يحوم حوله العقل ولا يقع ولا يستقر، فأردت أن أصرفه عن ذلك، فسألته هل له فى كأس ثانية من الويسكى، وحدثت نفسى وأنا أسأله إن رؤيته مخمورا لا يكاد يعى ما يقول أفضل وأشبه بما ينبغى، وأقل استدعاء للعجب والاستغراب من تخليطه وهو مفيق صاح. ولكنه رد على سؤالى بسؤال أذهلنى، فقد قال مستغربا: «وهل شربت ويسكى»؟ ووجه العجب فى كلامه أنه لم يشعر بالتأثير المألوف للخمر، فكأنه لا يسكر لأنه ينسى أنه شرب شيئا. ويظهر أن نسيانه هذا يعفيه من تأثير الخمر وينجيه من إسكارها، وصار السؤال الذى يحيرنى هو: «إذا كانت الخمر لا تؤثر فى نفسه أو جسمه أو عقله، فلماذا يشربها»؟
وبدا لى أن خير ما أصنع هو أن أعود به إلى بيته، فاقترحت ذلك فوافق ونهضنا. وحملته فى السيارة إلى هناك.. ولم يكن ينسى أين يسكن، ولكن الموقع كان يغيب عنه أحيانا وتخونه ذاكرته فيقف حائرا لا يدرى ماذا يصنع حتى يتذكر أو يلقى من يعرف البيت فيسأله ويدله عليه أو يمضى به إليه.
وكانت بنته فى النافذة تنتظر أوبته وهى قلقة خائفة عليه.. فأسرعت إلى الباب تفتحه، وكانت ذكية فلم تعاتبه. وما جدوى عتاب من لا يتذكر شيئا؟ ودخل غرفته ونسينى مع فتاته.
وقالت لى: «ماذا حدث؟.. لا تدعنى معلقة.. طمئنى» قلت: «كل خير..» وشرعت أصف لها ما وقع منه وأقلده وهو ينظر إلى الرجل الأكول المبطان الذى يعظم اللقم ويبلعها بلا مضغ، وقلت لها بعد ذلك: «إنى أحسد أباك فما أشك فى أنه قد نسى كل ما يجب أن ينساه المرء من متاعب الحياة ومنغصاتها لو كان إلى هذا سبيل غير الذهول».
قالت: «إنى أخشى أن ينسى اسمه فلا يعود يعرف من هو، ألا تكون هذه مصيبة»؟ قلت: «يا فتاتى إنه ليس أحمق ولا أقل عقلا ممن يحمل هم المصيبة قبل نزولها.. دعى هذا إلى أوانه وعسى ألا يجىء. ومع ذلك هل أنت واثقة أنه يعرف اسمه؟ من يدرى؟ أمن أجل أنا لا نسأله عنه يكون عارفا»؟ قالت: «لا تفزعنى». قلت: «إنما أردت أن أبين لك أن ما تخافين، لو وقع لما كان شرا فى الحقيقة أو أدهى مما هو حاصل الآن، فلا تزعجى نفسك بلا موجب. وعسى ألا يكون إلا كل خير.. والآن فلنتكلم عن شىء آخر.. شىء أحلى من أبيك وإن كان يكفيه من الحلاوة أنه كان له هذا الفضل العظيم على الدنيا التى تجملينها يا فتاتى».
فقالت وهى تضحك: «إنك لا تعرف إلا موضوعين حين تكون معى ... أنا وأبى». قلت: «وأنا.. أليس لى حساب عندك؟ ألا أصلح أن أكون موضوعا ثالثا معكما؟». قالت: «بالطبع.. ولكنك لست شيئا ثالثا.. موضوعك هو موضوعنا، فهما يبقيان اثنين ليس إلا».
قلت بابتسامة أردت أن يكون لها معناها: «صحيح؟ بالذمة»؟ قالت: «يا خبيث ليس هذا ما أعنى». قلت: «هذا الذى لا تعنينه، ما هو»؟ قالت: «طيب اسكت بقى». قلت: «سكتنا يا ستى» ومددت يدى إلى كفها الرخص وأطبقت عليه أصابعى الخشنة، فتركتنى هنيهة ثم سحبت كفها فنظرت إليها فقالت: «أو لا تسكت»؟
فلم أتكلم وأشرت إلى فمى المطبق فضحكت، فهززت رأسى موافقا وأنا أبتسم، فعادت إلى الضحك، فعدت إلى إشارات الاستحسان والرضى. وتكرر هذا مرات، فصاحت بى: «ألا تنطق؟.. أين لسانك»؟. فقلت وأنا أنظر إلى السماء - أعنى إلى السقف فقد كان يحجب السماء: «حرت والله معك.. أسكت طوعا لأمرك فلا يرضيك الصمت. وأتكلم امتثالا لمشيئتك فلا يروقك الكلام فماذا أصنع بالله؟.. كونى منصفة».
فضحكت، فقلت: «عندى اقتراح». قالت: «ما هو»؟ قلت: «هناك ما هو أبلغ من كل كلام وأحسن من الصمت أيضا وإن كان مما يحوج إليه ولا يتيسر الكلام معه».
فزوت ما بين عينيها، وقالت: «ما هذا»؟
قلت: «هل أفهم من تقطيبك أنك غير موافقة سلفا»؟ قالت: «لست مقطبة، ولكنى أفكر». قلت: «لماذا تتعبين هذا الرأس الصغير بالتفكير؟ دعيه مرتاحا وتعالى نعمل بالاقتراح أولا، ثم نفكر بعد ذلك فى جماله وما أفدناه من السرور به». قالت: «ولكن ما هو؟ ألا تقول لى أولا». قلت: «هو ذا» وملت عليها فلثمت فمها ورفعت عينى، فإذا أبوها واقف فى مدخل الباب، فتنحنحت ونهضت وقلت: «لقد كان بيننا رهان.. هى تقول إنك نسيتنى، وأنا أقول إنك لم تنس.. فهل نسيت»؟
فشغله الأمر الجديد عما سبقه، وأنساه ما رآه، وبدا عليه أنه لا يعرف أو على الأصح لا يذكر، هل نسينى أو لم ينسنى. وشعرت الفتاة أن الجو صفا وأن الأزمة انفرجت، فنهضت إليه وعانقته وقالت: «بالطبع نسيت.. أعترف بالحق».
فعادت ذاكرته تحاوره، وسألها: «الحق؟.. أى حق»؟ قالت: «إنك نسيت». قال: «نسيت.. نسيت ماذا»؟ فقلت لنفسى: إنك رأيتنى أقبل فتاتك يا مسكين.
ولقيت الفتاة بعد ذلك مرة، فقالت لى: «هل تعرف أنه يخيل إليه أنه رآنى أقبل رجلا أو أن رجلا يقبلنى، ولكن هذا يطوف برأسه كالحلم.. بل هو فيما يعتقد حلم».
فسألتها: قلت: «ماذا قلت له»؟ قالت: «قبلته فقط وماذا تريد أن تقول له»؟ «وأنا.. أليس لى شىء؟ أزعمينى كأبيك أو عمك وقبلينى .. أم يجب أن أرسل لحيتى أولا»؟
فصاحت بى: «احذر».
قلت: «أذن هاتيها.. حلوة طويلة».
الفصل العاشر
فتاة الحارة
كنا غلامين صغيرين وجارين صديقين، وكنت أنا أسن منه قليلا.. ولكن الفرق كان فرق شهور لا تقدم ولا تؤخر، لا فرق سنوات تباعد بين الناس. وكان الوقت صيفا والمدارس مغلقة، فلا عمل أكثر الوقت إلا اللعب فى الشارع. وكان يفصل بيتينا بيت صغير لأرملة وبنتيها، وإحداهما فى مثل سننا والأخرى أكبر بسنوات وأضخم جسما، وكنت أسميها فيما بينى وبين صديقى «السقاء» لأن ثدييها كانا - فيما يبدو لى - كالقربتين. ولم أكن أرتاح إليها، ولكن أختها الصغيرة كانت أثيرة عندى وحبيبة إلى ... فكنت لهذا أصانعها، ولكن صدرى كان يضيق بها أحيانا فأغضبها وأمرى إلى الله. وكنت إذا زجرنى أهلى عن اللعب فى الشارع، وملوا ترقيع الثياب التى ألبسها فى الصباح نظيفة سليمة فلا يجىء العصر إلا وهى ممزقة وعليها طوائف شتى من الأوحال والأقذار.. أقول كنت إذا نهيت عن الشارع، أصعد إلى السطح وأتدلى منه إلى سطح الفتاة وأصفر لجارى فيوافينا، وننحدر جميعا إلى غرفة من غرف البيت أو إلى فنائه - وكان رحيبا - فنلعب ما حلا لنا اللعب حتى إذا أمسى الليل تفرقنا إلى بيوتنا.
واتفق يوما أن كانت الفتاة معى فى ساحة الدار، وكنت قد تخلفت بعد ذهاب صديقى وصعود الأخت الضخمة - أو «السقاء» كما كنت أسميها - وكان باب البيت مواربا، فطوقتها - أعنى البنت الصغيرة لا السقاء - بذراعى وقبلتها، وكانت فيما أحس تلين لى فى العناق، ولكنها عبست فجأة وتفلتت منى ودفعت ذراعى عنها بعنف، وذهبت تعدو إلى السلم.. فتعلقت بأذيالها، ولكنها شدت الثوب أو على الأصح ضربته بيدها، فطار من يدى وصعدت بسرعة، وتركتنى واقفا أنظر وأتعجب.
وفى صباح اليوم التالى، قالت لى أمى فجأة ونحن على الطعام: «هل أنت بنت»؟ فصحت مستغربا منكرا: «بنت»؟ فقالت: «نعم، لماذا تلاعب البنات ولا تلاعب الأولاد من أمثالك»؟
فأطرقت استحياء وقد أدركت أنها تأخذ على شيئا وتستهجن مصاحبتى لهذه الفتاة، ولم يخطر على بالى أن فى الأمر أكثر من هذا. وحان الظهر وجاء معه رجل تركى الأصل عتيق من أصدقاء أخى الأكبر - وكان يلازمه من الظهر إلى نصف الليل - وكان شعره أبيض ووجهه مغضنا، كما تبدو المدينة للمشرف عليها من قمة جبل شامخ، فصاح بى وأنا خارج: «تعال يا سيدى ... تعال». فوقفت مستغربا لهجته، وقلت: «نعم». فقال: «جارتك هذه، يظهر أنها تعجبك».
فغضبت وتألمت ولكنى تجلدت، فقد كان إذا اعتبرنا السن يعد جدا أعلى لى، وقلت: «نعم».
فضحك وتفل وفتل شاربيه الكثيفين، ثم قال: «لقد رأيتك البارحة تحضنها». فصحت به: «إيه»؟ فأشار إلى بيده المتجعدة المعروقة: «لا تغضب.. كلنا كنا صغارا.. ولكن يا ابنى..».
فلم أدعه يتمها وانصرفت عنه، وأنا أغلى من الغيظ والنقمة على هذا الطفيلى الوقح الذى لا شك أنه روى لأخى ما رأى منى، فلم يسع أخى إلا أن ينبه أمى.. فقد كان غير شفيق، وكان يؤثر أن يدع أمر تربيتى لأمى.
وخرجت إلى الشارع أنفخ ولا أكلم أحدا حتى ولا صديقى الأثير، وكان يرى ما عرانى فيلح على أن أفضى إليه بالأمر فلا أجد لسانى قادرا على الدوران. وانقطعت عن الفتاة أياما كان صديقى فى خلالها حائرا بينى وبين صاحبته، يعز عليه ألا يكون إلى جانبى وهو يرانى مهموما مكروبا لا أتسلى ولا أقول بشجوى وألمى، ويكون معى فيمل صمتى الذى لا أخرج عنه، وتصبو نفسه إلى مجالسة السقاء وأخيرا نفد صبره، فقال لى يوما: «اسمع.. تعال معى إلى فوق».
وكان يعنى «بفوق» منزل الجارة، فنظرت إليه مستغربا كأنما كان عليه أن يعرف كل ما كتمت عنه فقال: «تعال.. قم.. قم».
فانحلت العقدة وانطلق لسانى، وقلت له: «ماذا يعجبك فى هذه الفتاة»؟ فتلعثم وأخذ يتنحنح، ولم يزد على أن سأل: «إيه»؟ قلت: «أو ماذا يعجبها فيك»؟
فرمانى بنظرة عتب ثم ابتسم ولم يقل شيئا، وخيل إلى أنه لو كان له شاربان لفتلهما، ثم قال ببساطة: «الحقيقة أنى أحبها و و و وهى أيضا تحبنى». فوثبت إلى قدمى من فرط الدهشة، وتناولت كتفيه فهززتهما وصحت: «ماذا تقول؟.. أعد هذا».
قال: «ماذا جرى لك؟ ألم تسمع؟ أحبها وتحبنى.. شىء بسيط جدا». ونحى يدى عن كتفيه.
وثابت إلى نفسى، فأطرقت قليلا ثم سألته: «كيف حدث هذا»؟ فقال: «لا أدرى كيف حدث؟ ولكنى أول من أمس سلمت عليها وجلست بجانبها ثم ملت عليها فقبلتها».
فسألته وأنا فى دهشة: «قبلتها؟.. هل تعنى أنك قبلتها»؟
فضحك وقال: «بالطبع أعنى أنى قبلتها.. ماذا تظننى أعنى غير ذلك»؟ فسألته: «ولم يسؤها ذلك؟ لم تغضب ولم تذهب عنك ساخطة»؟ فقال مستغربا: «تغضب؟ لماذا تغضب؟ أما أنك لغريب». فقلت وأنا مطرق: «غريب»! فقال: «غريب؟ ما هو الغريب»؟ قلت: «أعنى أنى أعرف واحدا قبل فتاة فسخطت عليه وولت منه هاربة». فقال ببساطة: «لابد أن يكون له وجه قرد».. وضحك.
وتركته وعدت إلى البيت، فكان أول ما صنعت أن نظرت فى المرآة وتأملت وجهى كما يبدو فى صقالها، ثم درت حول نفسى وعينى على جانبى وجهى ثم تنهدت وأقصرت. •••
وكان للفتاة - فتاتى أنا لا السقاء - قطة صغيرة عزيزة عليها، فاتفق أن مر كلب ضال، وكانت هى - أعنى القطة لا الفتاة - واقفة على العتبة، فدنا منها الكلب وهى غافلة، ولعلها كانت مغفية، فأحست أنفاسه وهو يشمها، ففتحت عينيها وهى تتثاءب وانتفضت مذعورة.. وثبت وثبة، قطعت بها عرض الشارع، ولم يكف هذا لإطمئنانها، فدخلت من باب ألفته مفتوحا، وكان فى ساحة البيت شجرة «جميز» فانطلقت تتسلقها، ولم تزل تصعد فيها حتى صارت على أعلى فرع فيها. وكانت الفتاة قد بصرت بالقطة وهى تعدو مذعورة، وتدخل البيت المقابل لبيتها.. فانحدرت مسرعة ودخلت وراءها ونظرت فلم تجد شيئا، فارتدت إلى الباب وقد أغرورقت عيناها بالدموع. وأقبل صديقى فى هذه اللحظة فسألها عما بها، فقالت له إن الكلب أفزع القطة فهربت لا تدرى إلى أين وهى تخشى أن يأخذها الجيران.
فركل صديقى الكلب - أعنى أن صديقى ركل الكلب، والمعنى واضح فى الحقيقة ولكنى أوثر هذا الايضاح اتقاء لكل غلط - ودخل مع الفتاة البيت ووقفا وأرهفا آذانهما، فسمعا مواء خافتا فتلفتا ، ثم عرفا أن القطة على الشجرة فجعلا ينظران من هنا ومن ههنا ويميلان رأسيهما إلى اليمين والشمال حتى رأياها، وجعلت الفتاة تدعوها بأصوات مختلفة أن تنزل والقطة تأبى أن تطمئن وتخشى إغراء الأصوات المهيبة بها أن تنزل، فتصعد حتى بلغت القمة فدعت الفتاة صديقى أن يتسلق الشجرة ليجيئها بالقطة، فهز رأسه وقال لها: «حرام عليك.. هل تريدين أن أقع فأموت»؟ فتوسلت إليه فلم يلن، وقال إن القطة لا تلبث متى هدأ روعها أن تنحدر من تلقاء نفسها. وكان هذا صحيحا فما يمكن أن تظل القطة على الشجرة طول عمرها، ولكن قلب الفتاة أبى أن يطمئن فخرجت باكية ورأيتها أنا فانطلقت أعدو إليها، وقد أحسست أن قلبى يتفطر، وسألتها ماذا يبكيها.. فقصت على الحكاية، وقالت إن صاحبي لايريد أن يتسلق الشجرة خوفا على عمره، فقرضت أسنانى وقلت: «أنا أفعل» ففرحت وأبرقت أسارير وجهها، وقالت: «صحيح»؟ قلت: «بالطبع صحيح.. وهل تظنين أنى مثله أخاف على عمرى.. ومم أخاف»؟
وخلعت حذائى ورميت الطربوش وشرعت أتسلق الشجرة المخوفة حتى صرت بين أغصانها الغلاظ المتشابكة، وذهبت أزحف على الغصون السميكة التى يحمل الواحد منها جملا لا غلاما خفيفا مثلى حتى بعدت عن الأرض جدا، وحتى أنها كانت تكلمنى فلا أسمع وأصيح بها أن ترفع صوتها وأحتاج أن أنحنى وأفرق الأوراق لأرى أين هى. ولم أزل أصعد حتى دنوت من القطة، ولكنها كانت مع ذلك لا تزال بعيدة، وشاء الحظ أن تخاف القطة فلفت حول الشجرة وأصبحت على فرع فى الناحية الأخرى، وكانت الفروع هناك أمتن وأسمك. فدرت كما دارت ومددت يدى فقبضت عليها ودسستها فى جيبى، وكان الهبوط أخطر من الصعود وأشق.. ولكن الله سلم.
وتناولت القطة منى بعد أن أخرجتها من جيبى، وكدت أخنقها وأنا أحاول إخراجها - فقد كان لابد أن أقبض على عنقها لأتقى أسنانها وأظافرها - وأهوت عليها تقبلها وتضمها إلى صدرها وتمسح لها شعرها، كأنها طفل رضيع لا قطة لعينة كانت منذ دقيقة على قمة جميزة ضخمة تحاورنى وتعرض عنقى للدق وأنا مازلت فى مقتبل العمر. وكنت أنا أنظر إليها راضيا قرير العين فرفعت عينها إلى، والقطة مضمومة إلى صدرها، وقالت إنها مدينة لى بالشكر ففركت كفى مسرورا ومرتبكا، فما كنت أنتظر شكرا ولا شبهه وإذا بها تصرخ فذعرت، فقالت: «يداك» فنظرت فيهما فألفيتهما مخدوشتين فأخفيتهما وراء ظهرى، وقلت إن هذا من لحاء الشجرة وسيزول ولا شك، فقالت: «لا.. تعال» فقلت: «إلى أين»؟ قالت: «معى.. أغسلهما لك فى البيت.. مسكين..».
فنظرت إليهما مرة أخرى، وقلت: «فكرة..».
ودخلنا البيت معا.. ونسينا صديقى فى بيت الجار.. تحت الشجرة.
ووصلت القطة المستنقذة ما كان قد انقطع.
الفصل الحادي عشر
فى رأس السنة
دهش الثلاثة ووقفوا حيث هم - آذانهم مرهفة، وأحداقهم ثابتة، وأنفاسهم معلقة. وكانت الليلة ليلة العام الجديد - أو رأسه - وقد تهيأ حامد للخروج، ولبس ثياب السهرة وأدار الراديو وراح يتمشى فى الغرفة، ريثما تجىء جارته فتنقر له على النافذة المفتوحة.. فيمضى بها إلى العشاء والرقص والمرح. وكانت الإذاعة فى تلك اللحظة رواية متخيرة، ولكن حامدا لم يكن باله إليها وإنما أراد أن يغرق ضجات الطريق المتقطعة فى ضجة أخرى أكبر لأنها أدنى - لا تنقطع ولا تفتر فيألفها ويتسنى له أن يفكر، بعد أن تسكن أعصابه إلى وقعها المتصل، فى أمره مع جارته أو فيما ينبغى أن يصنع ليحمل أباه العتيق الطراز على الرضى بما تقتضيه حياة العصر الجديد. ولم تكن به حاجة إلى أبيه، ولكنه لم يكن يريد أن يفسد بينهما الحال أو أن يضيف إلى عبء السنين التى يحملها عبء الشعور بخيبة الأمل - إذا وسعه ألا يفعل. وكان أبوه فى تلك اللحظة قد دخل بالمفتاح الذى أعطاه إياه حامد ليروح ويجىء كما يشاء. ولم يشعر به حامد لأن خواطره كانت تستغرقه ولأن الراديو كان أعلى من أن يسمح بالالتفات إلى باب يفتح أو يغلق، ثم لأن الرجل لم يكد يرد الباب حتى وقف مذهولا، فقد سمع ضحكات نساء ولغط رجال، وكان ريفيا ساذجا فيه ورع وتقوى يعرف الراديو ويصغى بخشوع إلى ما يذاع من كتاب الله، وقد يتفق له أن يسمع بعض المقطوعات الموسيقية.. ولكنه لم يشهد فى حياته رواية تمثل، ولم يخرج عن عادته فى التبكير فى النوم إلا فى الفلتات القليلة. فإذا كان قد وقف الآن مستغربا منكرا، فلا شك أنه كان معذورا. ولم يكن يفهم شيئا من الأصوات التى تأدى إليه أو يفطن إلى دلالة الكلام. وكان المذيع يصف حركة الروليت بعد أن توضع النقود، وتذهب العجلة تدور وتخفت الأصوات انتظارا لوقوف الكرة عند الرقم السعيد.. ولكن الرجل لم يكن يعرف أن هذا مذيع يصف للسامعين ما لا يرون، بل كان يظنه أحد رفقاء حامد ابنه فى سهرة جمع فيها طوائف شتى من الرجال والنساء.. نعم والنساء فما فى هذا شك، أليست هذه امرأة تقول: «اسرع يا ميمى.. أسرع.. بين ال 7 وال 8..».
وهذا صوت رجل يصيح: «لالالا.. هذا من حق لولو.. نعم فقد رأيت ما حدث.. البيك نقل الورق عن موضعه بكفه، وهو لا يدرى».
وها هى الفتاة تعود إلى الكلام مرة أخرى، وتقول: «مرسى يا حبيبى.. ميل مرسى».
فيقول الرجل الأول، هو بعينه بالتأكيد فإن الصوت واحد: «العفو.. لقد رأيت كل شىء، وإذا كنت تسمحين بأن أقدم إليك نصيحة رجل مجرب.. فنصيحتى أن تكفى عن اللعب، فإن مثل هذه الغلطة فى العادة تكون إيذانا بانتهاء حظ اللاعب».
لعب ... نصيحة ... حظ ... نساء ورجال ... ما معنى كل هذا يا ترى؟ فى هذا وقف الرجل المسكين يفكر. وكان يفكر فى شىء آخر هو هل يدخل فيعرف الحقيقة كائنة ما كانت أو يخرج ويدع ابنه لشأنه؟ ولكن كيف يستطيع أن يخرج ويدع ابنه.. وكيف يدخل ومعه نساء غريبات؟
ولم يكن هذا الأب الساذج هو الحائر الوحيد فى تلك اللحظة، فقد كان هناك رجل آخر من طراز غير طرازه وجد باب المطبخ مواربا.. فتسلل منه ودخل على أطراف أصابعه وفى مرجوه أن يخفف عن صاحب البيت - وعن نفسه أيضا - ولم يكد يبلغ باب الدهليز حتى صافح سمعه هذا اللغط الكثير المنبعث من غرفة الاستقبال ، ولم يكن كالآخر ساذجا فلم يلبث أن فطن إلى أن ههنا أناسا يقامرون، فسمرته الدهشة والحيرة، فقد كان يظن البيت خاليا فإذا هو عامر بل غاص بالخلق. وكان سبب حيرته أن وجود هؤلاء اللاعبين جميعا يجعل فرصة الغنم فى ليلته هذه أكبر، والورق أخف محملا وأخفى أمرا، وحامله أقل تعرضا للاعتقال، ولكن كثرة الموجودين تجعل تعرضه للوقوع فى المحذور أشد فماذا يصنع؟ أيأخذ بالأسلم فيعود من حيث جاء، أم يذعن للإغراء فيبقى؟ ولا سيما والأرجح أن القوم يشربون وبعد قليل يسكرون.. على أن الأمر خرج من يديه، فقد جاء اللبان فى هذه اللحظة ووقف بباب المطبخ كعادته، ورفع صوته بكلمة واحدة ولكنها طويلة ممطوطة «لبن» فريع الرجل ووثب ودار حول نفسه، فقال اللبان: «اللبن.. عايزين لبن الليلة»؟
فمشى إليه الرجل كالمضروب على أم رأسه، فعاد اللبان يسأله: «عايزين لبن والا إيه؟.. ما ترد».
فأفاق الرجل وأشار اليه، وقال: «هس.. هس».
فاستغرب اللبان وقال: «هس إيه.. عايزين لبن.. أنت مين قبله»؟
فألهم أن يقول: «أنا الخادم الجديد».
فقال اللبان: «طيب ما تقول كده من الصبح! عايز كام»؟ - واحدة.
فناوله سلطانية ووقف ينتظر وصاحبنا ينظر إلى الدهليز، ثم قال اللبان: «ماتجيب امال خلينى أروح لحالى».
قال المسكين: «أجيب.. إيه»؟ - حق السلطانية.
فألهم مرة أخرى أن يقول: «الصبح.. عندنا ضيوف.. ما أقدرش أنادى سيدى دلوقت».
فمشى اللبان ومسح الرجل عرقه ووقف يستعيد انتظام أنفاسه، وقد دار برأسه أن خير ما يصنع هو أن يخرج وراء اللبان وأمره لله فى هذه الليلة المنحوسة، ولكن القدر أبى إلا أن يعد له مفاجأة أخرى أدهى وأمر.
ذلك أن الفتاة كانت قد وصلت ونقرت على حافة النافذة، فخف إليها حامد وانثنى على النافذة يقبلها، ثم اعتدل وهم بأن يقول لها إنه سيخرج لها حالا وإذا بها تستوقفه وتسأله: «من عندك»؟ وتشير إلى الدهليز، فقد رأت بابه يختفى فيه شبح، فعجب حامد لسؤالها ونفى لها أن أحدا عنده، ثم نظر إلى حيث كانت تنظر محدقة فخيل إليه أنه يسمع أصواتا، فقال: «انتظرى» وخرج.. ولكنها لم تنتظر، فقد كانت فتاة عملية، وكانت تحب حامدا وتقرأ الروايات البوليسية، فجمح بها خيالها وجسم لها الأمر، وأوهمها أن خطرا عظيما قد أحدق بفتاها.. فذهبت تعدو إلى أقرب شرطى وجرته من ذراعه جرا، فقد كانت خطوته بطيئة وهى تريد أن تطير.
وفى أثناء ذلك كان حامد قد خرج، فألفى أباه واقفا وراء باب الشقة، فقال حين رآه: «يا شيخ ظنناك لصا».
فسأله أبوه: «من عندك»؟ فخطر لحامد أن هذا هو الليلة سؤال الناس كلهم، فضحك وقال: «لا أحد.. لماذا لا تدخل.؟ لماذا تقف هكذا»؟
وتذكر أن الفتاة واقفة عند النافذة، ولم يدر كيف يفسر لأبيه وجودها. نعم، يستطيع أن يقول إنها جارته - وهذا صحيح - وأنها مرت به فوقفا يتبادلان التحية، ولكن أباه رجل محافظ ثم إنه يريد أن يعرف أباه بها أحسن تعريف. على أن تفكيره فى هذا لم يطل، فقد سمع حركة فى المطبخ فمشى إليه مستغربا وضغط زر الكهرباء.. فاذا صاحبنا الذى تركناه هناك حائرا بين البقاء والهرب يمد يده إلى سلطانية اللبن، وقد خطر له أن خير ما يصنع هو أن يأكلها قبل الخروج، فلا يكون قد خرج من المولد بلا حمص كما يقول المثل.
وبقيت يد الرجل ممتدة لا هى تصل إلى السلطانية ولا هى تنثنى إلى صاحبها، فقال حامد: «ماذا تصنع هنا»؟ فتلعثم قليلا، ثم قال: «جوعان»!
قال حامد: «أهو ذاك؟ ومن أين دخلت»؟
قال: «رأيت اللبان داخلا، فلما خرج.. وقفت أنادى فلم يرد أحد فدخلت».
فمال حامد إلى تصديقه وكان مستعجلا، فقد ترك الفتاة عند النافذة فقال: «طيب كل واخرج.. خدها كلها على السلم».
ودفعه وأغلق الباب وراءه وهم بأن يعود، فسمع وقع أرجل.. ولكنه لم يعبأ بذلك، وكر راجعا إلى الغرفة، فإذا أبوه واقف ينظر إلى الراديو ويضحك فلم يفهم ومضى إلى النافذة وأطل، فلم ير أحدا، فالتفت إلى أبيه يريد أن يسأله، ثم آثر العدول. وسمع دقا على باب المطبخ وصوتا ناعما يناديه ، فذهب يعدو وفتح الباب وإذا به يرى شرطيا ضخما مفتول الشاربين وفتاته، والرجل بينهما وفى يده السلطانية فارغة، فارتد حامد خطوات وقال: «ما هذا»؟
قالت صفية: «لقد صح ظنى.. الحمد لله..».
فقال حامد ببلاهة: «تفضلوا..» وأفسح لهم الطريق ثم أردف: «ولكن لماذا الشرطى»؟
فقالت صفية وهى تدخل: «لماذا؟ أو تسأل؟ ألا تعلم لماذا؟ للص يا روحى» فكاد يضع يده على فمها، ولكن أباه كان قد خرج فلم تبق أى فائدة.
وقال حامد: «بابا.. هذه صفية.. جارتنا.. بنت أحمد بك.. لا ليس هذا لصا.. أنا أعطيته السلطانية ليأكلها..».
فقال الشرطى: «إذا كان الأمر كذلك فلا داعى لوجودى. سعيدة».
وخرج وهو ينظر إلى صفية نظرة محنق. وقالت صفية: «شرفت يا عمى..».
فتمتم الرجل وهو مطرق، وقال حامد: «أ.. أ.. نحن.. أعنى صفية وأنا.. اء.. خطيبان.. اتفقنا على الزواج.. بعد موافقتك طبعا..».
فدنت منه صفية ومالت على كتفه وهمست فى أذنه: «قل إنك موافق..».
فقال الرجل: «أنا متوضئ ... ابعدى قليلا..».
فضحكت، وقالت: «إذا لم توافق فإنى أنقض لك الوضوء..».
ففزع الرجل ونهض قائما، وقال: «لالالا احذرى.. الدنيا برد وأنا راجل كبير ضعيف، وأريد أن أصلى العشاء».
فقالت: «قل أولا أنك موافق.. وإلا.. هه».
فلوح الرجل بذراعه، وقال: «أنا مالى ... مفلوقين فى بعض ... فين السجادة يا حامد»؟
الفصل الثاني عشر
الذى يضحك أخيرا يضحك كثيرا
لما جاءنى رسول أختى برقعة منها يدعونا فيها - أمى وأنا - إلى قضاء العيد معها، لأن زوجها سافر إلى الإسكندرية.. أدركت أن فى الأمر شيئا، وأن خلافا لابد أن يكون قد شجر بينهما، ولكن دقة إحساسها بالواجب حملتها على البقاء فى بيتها بدلا من أن تجىء هى إلينا.
ولم تفت أمى دلالة هذه الدعوة، فقد سألتنى: «أتظن أن شيئا حدث»؟ فقلت: «لابد» فقالت: «أترى أن نسألها»؟ فهززت رأسى، فليس أكفل بفساد الأمر بين زوجين - فى رأيى - من الدخول بينهما.
وكان وجه أختى وحده كافيا للارتفاع بالظن إلى مرتبة اليقين. نعم، كانت تبتسم ولكن ابتسامها كان متكلفا، وكلامها أكثر مما ألفنا منها، وحركاتها أسرع، وكان لونها ممتقعا حتى لقد احتاجت إلى الأحمر لخديها وشفتيها. وكان الجو باردا، فاحتجنا إلى ما ندفئ به.. فجاءتنا بموقد صار الفحم فيه جمرا لأنها تكره مدفأة الكهرباء أو البترول لشدة تجفيف الكهرباء للجو، ولأن البترول له رائحة لا تطيقها.
وسألتها وأنا أتبسم: «وأين اللعين زوجك»؟
وكان لابد أن أسألها عنه، وإلا كان اجتناب ذكره واشيا بالفطنة إلى ما عسى أن يكون قد وقع بينهما. وما دامت هى لم تقل شيئا فقد يربكها أن تعلم أننا نعلم.
فقالت ببساطة: «أوه.. أظنه ملنا.. سافر ليبحث مع شريكه أمر هذه الشركة الجديدة التى يريد أن يؤلفها.. إنك تعرفه.. لا يعترف بعيد، ولا يطيق أن يقعد بلا عمل».
فسرنى أنها تكذب لتستر حماقته.. وكنت أعرف أن هذه كذبة لأنه أخبرنى بما تم، فالأمر مفروغ منه ولا حاجة به إلى سفر جديد، ولكنها لم تكن تدرى أنى أعرف هذا وإلا للجأت إلى كذبة أخرى.
وقضينا النهار على خير ما نستطيع، وإذا بنا بعد العصر نتلقى هذه البرقية: «اصطدمت السيارة وتحطمت، وإصابتى خفيفة. فهل تستطيعين أن تحضرى؟.. سيكون أخى بانتظارك بسيدى جابر» خليل.
فذعرنا جميعا فقد كان من الواضح أن الحادثة أكبر مما زعم.. ولم تستطع أختى أن تضبط نفسها، فبكت وهمت أمى أن تزجرها عن البكاء، فقلت لها: «دعيها فما خلق الدمع للناس عبثا». فقامت ترتب لها أشياءها فى الحقيبة، وتضع معها ما قد يحتاج إليه زوجها مخافة أن تكون حقيبته قد فقدت فى الحادثة، أو تركت مع السيارة المحطمة.
وقلت لأمى: «اذهبى معها، وسألحق بكما غدا.. فإنى مضطر إلى البقاء الليلة، وأبرقوا إلى فى الصباح بعد أن تروه ليطمئن قلبى».
وودعتهما فى المحطة وعدت إلى البيت - بيت أختى - حزينا كاسف البال موجع القلب، وجلست فى البيت أفكر فى هذا الحظ السيئ وأسخط على خليل، وأقول لنفسى هل كان لابد أن يصنع هذا الأحمق ما صنع، وأن يعلن إلى زوجته الجفوة ليلة العيد، ويروح يكسر عظامه أيضا ويرج زوجته هذه الرجة الشنيعة؟ ولكنه لقى فوق جزائه. مسكين. ومن يدرى ماذا جرى له؟ ولعله الآن مشرف على الهلاك، وإنها لقسوة أن ألومه. ثم أنه كان مثال الزوج الصالح، ولم تكن سيرته معها قط إلا سيرة المحب الذى لا يعنيه من الدنيا سوى زوجته، فماذا يا ترى جرى حتى كانت هذه الجفوة المشئومة؟
وإنى لجالس أدخن سيجارة فى إثر أخرى، وبى ما يعلم الله من الحزن.. وإذا بخليل داخل كالقنبلة! فانتفضت واقفا وحدقت فى وجهه مذهولا وفمى مفتوح كالأبله، فلما رآنى كذلك وقف هو أيضا، وسألنى أول ما سأل: «أين فريدة؟».
فأحسست أنى سأسقط على الأرض، فانحططت على أقرب كرسى ورفعت يدى إلى رأسى، فأقبل على يهزنى بعنف ويقول بصوت عال جدا: «أين فريدة؟ قل.. انطق، ماذا جرى»؟
فحاولت أن أتكلم، ولكن لسانى وقف فى حلقى، فأشرت إلى البرقية المشئومة، فتناولها مستغربا ولم يكد يقرأها حتى صرخ: «إيه»؟
فوجدت لسانى، وقلت: «ماذا تظن؟ من أرسل هذه البرقية»؟ قال: «لا أدرى.. ماذا نصنع الآن؟.. فكر.. فكر.. فقد ضاع عقلى.. فريدة.. من يدرى فى أيدى من من الأشرار ستقع الآن؟»
فقلت: «وأمى أيضا معها.. رهينتان لا واحدة يا صاحبى».
فقال: «رهينتان؟ هل تعنى أنك تعتقد؟»
قلت: «بالطبع.. أى معنى لهذه البرقية غير ذلك؟ إنها شرك.. وليس المهم الآن حل اللغز بل السفر وراءهما لإنقاذهما.. لمنعهما من الوقوع فى أيدى هؤلاء الأشرار كائنين من كانوا».
فقال: «صدقت.. قم بنا» قلت: «سيارتك لا تصلح لهذا.. ألا تستطيع أن تجد لنا سيارة قوية.. تستعيرها من أى صديق؟»
وفى هذه اللحظة أقبل أخى فتشهدت واستبشرت، فقد كانت له سيارة جديدة من طراز هدسون تستطيع أن تطير بنا، فدفعته إلى الباب وسبقته إلى السلم وأنا أناديه وأدعوه أن يسرع ورائى.
وكان أخى يكره السرعة فتوليت أنا القيادة، وجلس هو وكلبه معه وراءنا، وجلس خليل معى وكان لابد من التمهل حتى نخرج من المدينة وإلا عطلنا الشرطة، وكنت كالجالس على الجمر، ولكن ما حيلتى؟ واجتزنا شبرا بعد أن ضاع ربع ساعة ثمين، فسألت أخى: «هل الأنوار قوية»؟ ولم تكن بى حاجة إلى السؤال فإنى أنا السائق وأمامى مفتاح النور وفى وسعى أن أجرب، ولكن السؤال جاء دليلا على مبلغ اضطرابى. ودليل آخر على هذا الاضطراب هو أننا لم نخبر أخى ما الحكاية، فراح يكلم كلبه ويقول: «روكسى إنه يسأل عن الأنوار هل هى قوية؟ كأنه لا يعلم، لا بأس. هل تظن أن من حقه أن ينتظر جوابا؟ نعم، الجواب تحصيل حاصل.. بالطبع.. الحق معك.. ثم إنه أرسل النور أمامه وهو يضيىء إلى مسافة أميال.. أليس كذلك؟ ولكن إلى أين يمضى بنا يا روكسى؟ نعم؟ أتقول إن هذه هى الطريقة الأمريكية فى الاستيلاء على السيارات واغتصابها من أصحابها الشرعيين؟ إنها كذلك على التحقيق.. وإنى أراك مصيبا دائما فى ملاحظاتك يا روكسى أوه.. تسعون؟ روكسى.. إنه يخطف بنا الأرض فهل تظن أنهما ارتكبا جناية»؟
وهكذا وهكذا..
ولم أكن أستطيع أن أقول له شيئا لإن عينى على الطريق. وكان خليل يساعدنى فينظر إلى عداد السرعة ويخبرنى بالرقم الذى نرتقى إليه وينظر فى الساعة كذلك، فيطمئننى أو يزعجنى، وأخى ماض فى هذره حتى بلغنا بنها. ولم أدخلها بل آثرت أن آخذ طريق سيارات النقل لأنه أقصر وإن كان غير ممهد - اجتنابا للبطء الذى نضطر إليه فى شوارع المدينة. وبعد أن اجتزنا الكوبرى الجديد، ثم جسر السكة الحديدية - أو المزلقان كما يسمونه - أطلقت للسيارة العنان فجعل خليل ينظر ويقول: «مائة.. مائة وخمسة. وعشر. وعشرون.. وخمس وعشرون.. امض امض. لا شىء.. هذه دجاجة..».
فقال أخى: «أظنها ذهبت إلى جنتها - جنة الدجاج - قبل الأوان.. أتراه سباقا يا روكسى»؟
وبلغت السرعة مائة وثلاثين كيلو، فلولا أن السيارة كبيرة ومتينة وثابتة لانقلبت بنا وقتلتنا.. ولكن أخى خبير بالسيارات والذى لا يعرفه عنها لا يستحق أن يعرفه أحد. والحق أنها كانت سيارة أصيلة، بل هى السيارة وكفى. لكن بالى لم يكن فى ذلك الوقت إلى شىء من هذا، بل إلى ما بقى من الوقت حتى يصل القطار إلى طنطا أو دمنهور وإلى مبلغ الأمل فى إدراكه قبل أن يبلغ سيدى جابر.
وتأدى إلى صوت أخى يقول: «هل تعلم يا روكسى أن إسماعيل مهمل - يعنينى - أموافق أنت؟ هذا ما كنت أنتظر.. ولكنه ينقصك أن تعلم لماذا.. أتريد أن أسر إليك يا روكسى بالسبب؟ اسمع إذن ولكن لا تخبره.. لقد أردت أن أستعير حقيبته الصغيرة. أقول لك الحق يا روكسى بينى وبينك يا روكسى.. استعرتها فعلا.. ولكنى وجدت أنه أهمل أن يضع فيها المفتاح ولهذا جئت إلى بيت الأخت لعلى أجده فآخذ المفتاح.. أعرف ما تريد أن تقول فإنك ذكى.. بالطبع لم يكن ينتظر أن يعطينى المفتاح.. ولكنى كنت سآخذه على كل حال.. أوه بطريقة من الطرق.. من غير أن يشعر بالطبع..».
وقد هممت مرات أن أصيح به، ولكنى كبحت نفسى فليس هذا وقت الاختلاف على الحقائب.. ولكنه غاظنى مع ذلك أنه أخذها وهو يعلم أن فيها أشيائى، فقد كنت أعددتها لرحلة قصيرة، فلما جاء رسول أختى عدلت وكان ما كان.. ونويت أن أغتنم أول فرصة تسنح لاستردادها. بطريقة من الطرق.. كما يقول.. والبادى أظلم.
ولم أكن أطمع أن أدرك القطار فى طنطا، فلم أستغرب أن أعرف أنه تركها قبل وصولنا بعشر دقائق، واحتجنا إلى البنزين فضيعنا دقائق أخرى، ثم استأنفنا السير بأقصى سرعة لنعوض - سلفا - التأخير الذى لابد منه فى كفر الزيات. واعترانى ما يشبه الحمى، فلم أعد أبالى كيف أقطع الطريق. وكنت ربما صادفت مركبة أو رجلا على حمار أو جمل فأمرق ولا أعنى نفسى باليمين والشمال. ولم يكن الطريق بعد كفر الزيات على خير ما يمكن أن يكون، ولكنى لم أكن أحفل بذلك ولم أترفق بالسيارة. وكان أخى يرى هذه السرعة الجنونية - فقد بلغنا أربعين بعد المائة وأصررنا عليها - فيقول لكلبه: «انظر يا روكسى.. إن الخبيث ينتقم منى - أعنى منا، فإنك شريكى فى كل شىء - لأنى أستعرت حقيبته.. من أجلها يريد أن يفجعنى فى السيارة.. أى والله يا روكسى. فتعال نبك على ما كلفتنا من مال يضيع الآن فى هذه السكة المنحوسة .. ثلاثمائة وخمسون جنيها خرجت عنها من حر مالى.. وماذا يعنيه هو.. يأخذها بلا استئذان، وينحينى عن مجلسى فيها، يردنى إلى الوراء.. هل هذا يليق يا روكسى»؟
ولولا أن خليلا صاح فى هذه اللحظة: «القطار، القطار، سنسبقه يا إسماعيل ... سنسبقه بالتأكيد ... الحمد لله» لمضى أخى فى هرائه. وكنا قد قاربنا دمنهور، فلما بلغنا مدخلها عاد أخى إلى الثرثرة، ولكنى لم أسمع شيئا لأن أذنى كانت تطن. ودنونا من المحطة، فوقفت وفتحت الباب، وقلت لخليل: «انزل.. بسرعة» فشرع يفتح الباب من ناحية وأخى يقول: «ألم أقل لك يا روكسى إنه سباق.. بين السيارة والقطار»؟
ولم أسمع بعد ذلك شيئا لأنى ذهبت أعدو إلى الرصيف الذى يقف عنده القطار. ولم نكد نفعل حتى دخل، فركبت - بلا تذكرة، وماذا يهم؟ - وخليل ورائى. ومشينا خلال المركبات حتى وجدنا أمى وأختى، فانحططت بجانبهما بلا كلام.
ولو كان فى رأسى أو رأس خليل عقل لنزلنا بهما من القطار وعدنا بالسيارة على مهل، ولكنا لم نفكر فى شىء حتى كان القطار فى طريقه إلى سيدى جابر، فأدركنا أننا تعرضنا لغرامة فادحة لم يكن لها داع. وكان فى الوسع اتقاؤها لو عنينا أن نخبر المفتش أو أحدا من رجال القطار أننا راكبون من هنا، وسندفع الأجر فى القطار.. على أن الثقة بأنا أنجينا الفريستين هونت علينا الخسارة.
وقلت لأختى: «هذا زوجك.. البرقية مزيفة، فما الرأى الآن؟».
ولكنها لم تكن فى حال تسمح لها بإبداء رأى. وأى رأى هناك يمكن أن يشير به أحد.. لقد ضاعت الفرصة الذهبية فى دمنهور، ولو كنا أخبرنا أخى على الأقل لاستطاع أن يبرق إلى بوليس سيدى جابر بالموضوع، ولكان لاستمرار السفر فى هذه الحالة معنى، أما الآن ...
وعلى أنا قلنا إن الفرصة لم تضع، وأن من الممكن إذا تركنا الاثنتين تسيران أمامنا وحدهما وعيوننا عليهما أن نرى هذا الذى سيتقدم لهما نائبا عن أخى خليل، وقد نستطيع فى ذلك الوقت أن نجعل البوليس يقبض عليه.. على كل حال لم يبق إلا هذا ..
ولكنا لم نجد فى سيدى جابر غير الحمالين. ووقفنا بعيدا ووقفت الاثنتان تنتظران أن يتقدم إليهما أحد - رجل أو امرأة - حتى البوفيه لم يكن فيه أحد، فقلنا لعله ينتظر فى الشارع فأومأنا إليهما أن تخرجا أمامنا، فلم يكن حظنا خارج المحطة أحسن منه داخلها. ولم تبق فائدة من التفرق فركبنا وهممنا بالمضى إلى الفندق. ولكن خاطرا خطر لى فجأة فنزلت وذهبت إلى مكتب التلغراف وبعثت ببرقية منه.
وفى اليوم التالى كنا فى مصر..
ولكن هذا لم يكن كل شىء. وهنا يحسن أن أدع أخى يتكلم: «لعله يعنيكما - يريد أختى وأمى - أن تعرفا كيف كانت عودتى البارحة بعد أن تركنى هذان المخلوقان. لا فائدة من قولى انتظرت، فإن هذا القول لا يدل على شىء. فقد تركنى فجأة وذهب يعدو كأنى جرب.. حتى محرك السيارة لم يعن بأن يوقفه. ستقولون جميعا إنه كان معذورا فليكن فإن الجدال عبث، وستسمعون بأشياء أخرى أرجو أن يكون عذره فيها أوضح.. وكان معى روكسى كما لا أحتاج أن أقول، ولا أدرى ماذا كنت أصنع لو لم يكن هذا الرفيق معى. لعلى كنت أجن أو يحدث لى شىء من هذا القبيل. ما علينا، هل أقول إن الأمر طال على وأنا قاعد فى السيارة؟ كلا، وهل أقول إنى كنت ميتا من الجوع؟ كلا أيضا. وأختصر حكاية مؤلمة، فأقول إنى نزلت من السيارة وسرت فى الاتجاه الذى رأيتهما يقصدان إليه، ولم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء.. فقد كان كلامهما دائرا كله على القطار ووجوب سبقه، وإن كان فيما عدا ذلك لا معنى له عندى. ولم أجدهما فى المحطة كما تعلمون، لأنهما شاءا أن يركبا القطار من غير أن يبعثا لى بكلمة. وقد سمعتهما يقولان أنهما أديا أجر الركوب مضاعفا، وهذا حسن وأن كان قليلا.. ولكنه يبرد بعض الغلة. وقد وصفتهما لكل من فى المحطة، فظن واحد أنهما هاربان من سجن، واعتقد ثان أنهما مجنونان خطران. واقتنعت أنا بأن لا فائدة من البحث، وأن أبى - رحمه الله - أخطأ حين رمانى بهذا المخلوق وزعمه أخا، وأن أمى أخطأت أيضا فى ربطنا بهذا المخلوق الثانى الذى أخفوا أمره عنى حتى خطف أختى، فصار واجبي الآن بعد أن عرفته أن أخفيه أنا عن الناس. ما علينا.. فلندع هذا التاريخ القديم.. أظنكم ستضحكون حين أقول أنى احتجت أن آكل وأن أطعم روكسى وقد يسركم أن تعلموا أنى أحب أن أنسى فترة هذا الأكل وأن أمحوها من تاريخ حياتى الحافل بالتضحيات فى سبيل من لا يستحقون شيئا.. ولكنى هكذا دائما.. كريم مفضال، وجزائى من الناس بل ممن يمرحون فى أبراد نعمتى الجحود والكفران. ما علينا أيضا.
وقلت لروكسى: تعال يا صاحبى، فإن هذا بلد لا يستحق أن يتشرف بوجودنا فيه، فلنرجع إلى بيتنا فى مصر.. وقد كنت أسلمت السيارة إليه وهى سليمة لا شىء بها، ويشهد شريكه فى المؤامرة أنها أنقذتهما، ولكنى حين أردت أن أدير محركها أبى أن يتحرك.. ولا أطيل. قضيت نصف ساعة فى هذا البرد حتى استطعت أن أقنعها بالحركة والعودة إلى دفء البيت.
وكانت السيارة كأنما ركبها قبلى ألف عفريت، ولكنى صبرت وقلت عوضى على الله، وهذا جزاء من يكون له أخ كهذا ونسيت كهذا.. وأظن أن الفجر بدأ يطلع حينما بلغنا شبرا، فتنهدت وتمهلت فى السير وإذا بشرطى يستوقفنى، فوقفت فدار حتى صار إلى جانبى، وقال وهو ينقر على الزجاج: «تفضل معى إلى الكركون».
فقلت: «الكركون»؟، قال: «نعم، تفضل انزل».
فقلت «ولكن لماذا؟ ماذا صنعت؟ إنى لم أكن مسرعا بل كنت أسير بسرعة خمسة أمتار فى اليوم والليلة».
فقال بلهجة جافية: «انزل ولا تحوجنى أن أجرك بالقوة».
فقلت لنفسى إن المكابرة والجدال عبث، ولا شك أنى سأجد رجلا يفهم فى مركز البوليس. وذهبت معه، فقال: «اقعد هنا»، فقعدت حيث أشار، وهم بتركى فتعلقت به وقلت: «ألا تسمح من فضلك بأن تخبرنى لماذا جئت بى إلى هنا»؟
فنهرنى بعنف، فهويت إلى الكرسى وروكسى بين يدى لم أر أحدا مستعجلا سواى. وأخيرا جاء شرطى آخر، وجلس إلى مكتب وأخرج أوراقا وبدأ يستعد للكتابة، وسألنى عن اسمى وعنوانى ومولدى وعن السيارة ورقمها، ثم سألنى بخبث: «ماذا معك فيها»؟
فابتسمت وقد خيل إلى أنه ظننى من مهربى المخدرات، وقلت ببساطة: «ليس معى سوى روكسى».
فقال: «إيه»؟ قلت: «يعنى الكلب.. اسمه روكسى»، فقال متهكما: «يا حبيبى يخوى.. كمان عامل لى قمع ومعاك كلب.. تعملوها وتخيلوا والله».
فلم أدر ماذا أقول له.. وأعفانى من الكلام، فسألنى: «هل معك مفتاح السيارة»؟
فناولته المفتاح، فنادى شرطيا وطلب منه أن يفتحها أمامى، وأن يجىء بما يجده فيها فلم يجد الا الحقيبة.. اضحكوا.. اضحكوا.. لا بأس.. سيجىء يوم أثأر فيه لنفسى..
فلما جاءوه بالحقيبة، ابتسم ابتسامة عريضة جدا وتنهد مرتاحا، وقال لى: «لا شىء.. هه..؟ طيب».
فابتسمت أنا أيضا وقد صح عندى أنه يحسبنى من المهربين وأيقنت بقرب الفرج. وشرع يسألنى عن الحقيبة، فقلت له إنها لأخى وذكرت اسم الأخ المحترم، فأدهشنى بأن سألنى هل أنا أعترف بأن الحقيبة لإسماعيل أفندى زفت وقطران؟ فقلت بالطبع أنا معترف.. إنه أخى.
فقال: «أخوك..؟ أواثق أنت أنه أخوك»؟
فضحكت وقلت: «بالطبع واثق ... ولكن ما هى الحكاية»؟
فقال: «أين المفتاح»؟
قلت: «معه ... لم آخذه منه». وهممت بأن أقص عليه القصة، ولكنى رأيت أنها مما لا يصدق فأقصرت، فقال: «هل تستطيع أن تثبت شخصيتك»؟
فقلت: «بالطبع.. ماذا تظن»؟.. ودفعت يدى فى جيبى لأخرج له أوراق السيارة ورخصة القيادة وغير ذلك مما عسى أن يكون فى جيبى، فما راعنى إلا أن الجيب خال ليس فيه قصاصة واحدة! وأظن وجهى فضحنى على الرغم من محاولتى أن أتماسك وأتجلد، فقد سألنى بعد ذلك مباشرة عن السيارة ولمن هى؟ فأيقنت أنى وقعت، وقلت له: «اسمع.. إنك تطيل بلا داع.. لابد أن يكون قد حدث خطأ، ومن سوء الحظ أنى نسيت الأوراق كلها فى البيت، فإذا سمحت فأرسل معى شاويشا أو عشرة إذا شئت إلى البيت لأجيئك بكل ما يزيل الشك ويريح ضميرك».
فلم يبال بهذا الاقتراح المعقول، وقال: «هل أنت مصر على دعواك أنك أخو إسماعيل؟»
فقلت: «الحقيقة أنى مستعد للتبرؤ منه ولكن إلى أن أفعل لا يسعنى أن أنكر أنه أخى». فقال: «إذا كنت أخاه، فلماذا يبعث ببرقية كهذه»؟ وناولنيها، فقرأت فيها الحكم على.
وللرجل العذر لأنه إذا كان إسماعيل هذا أخى، فلماذا يطلب من البوليس أن يحجز السيارة رقم كذا، وفيها حقيبة صفتها كيت وكيت. لا تعترض من فضلك.. لقد كانت عبارة البرقية يفهم منها أنك تريد حجز السيارة أيضا. ولا أكتمك أنى لم أجد جوابا لهذا السؤال، وأنى استحييت أن أقول إنه مزاح بارد.
وحرت ماذا أصنع، ولم يفتح الله على بحيلة تخرجنى من هذا المأزق الثقيل.. وكان النهار قد طلع ولكنا ما زلنا فى البكور، ولا يليق أن أزعج الناس فى مثل هذا الوقت، فعدت إلى اقتراحى أن يبعث معى من يشاء إلى البيت، فرفضه. فسألته عن المأمور من هو؟ عسى أن يكون من معارفى.. فانتهرنى بغلظة، فتساهلت وسألته عن المعاون أو غيره، فلم يزد على أن قال: «بلاش دوشة»، فناشدته أن ينظر إلى ثيابى، وأن يفكر هل هذه ثياب مجرم ولص؟ فقال وهو يضحك: «إن بين اللصوص من هم أشد أناقة منك» فوضعت أصبعى فى الشق، وأسلمت أمرى إلى الله. •••
وختم المحضر على هذا ... أى على أنى لص ولا شك وأن البوليس حاذق فطن ولا شك. ولست ألوم البوليس، فقد كانت كل القرائن ضدى. وأشهد له أنه كان رفيقا، فقد سمح لى بأن أشترى - أعنى أن يبعث من يشترى شيئا لطعامى وطعام روكسى. ولا أنكر أنى شربت قهوة أيضا، وإن كانت أشبه بمغلى الفول السودانى أو بماء الوحل الساخن. ولكن هذا لم يكن ذنب البوليس.
وأخيرا فى الساعة الثامنة دخل ضابط علينا، فنظرت إليه ببلادة.. فقد فترت ويئست ولم أعد أبالى ما يجرى لى، ولكنى لم أكد أرى وجهه حتى انتفضت واقفا، وصحت به «حمدى.. الحمد لله.. أين المحقق»؟
فاستغرب وسألنى عن الحكاية، فقصصتها عليه فضحك ملء شدقيه. مدهش أن يضحك الناس من هذه الفصول الباردة! والباقى لا يحتاج إلى كلام ... جئت إلى هنا ونمت ساعة أو اثنتين على هذا الكرسى بثيابى.. ولكنه ينقصك يا حضرة الأخ أن تفسر للبوليس مزاحك، فقد صار الأمر مزاحا مع البوليس لا معى».
فما استطعنا أن نتكلم ونغالب الضحك، قلت: «هون عليك.. فإنى أعرف ماذا أقول.. ولكنى أرجو أن يكون ما حدث درسا لك».
فقال وفى عينيه نظرة خبيثة: «وأنا أرجو أن يكون ما حدث لكم درسا كذلك».
فقال خليل: «ماذا تعنى»؟
فقال أخى: «أعنى أنكم لو لم تكونوا عميا لعرفتم أن اليرقية ليست لكم.. للجار رقم 223، وقد تشابه الرقمان على الساعى واتفق أن اسم الجار خليل أيضا، واتفق أنكم عمى لا تبصرون. ولولا ذلك لقرأتم الرقم واسم الجار الذى أرسلت إليه البرقية.. هذا ما أعنى.. فقوموا كفروا عن سيئاتكم يا جهلة».
الفصل الثالث عشر
عقاب اللص
لست أخشى اللصوص.. فما معى ولا فى بيتى ما أخشى عليه الضياع وأتقى أن أمنى فيه بخسارة. ولو أن لصا كريما فيه مروءة دخل بيتى - أو حيث أقيم فما هو بيتى - وحمل ما فيه من متاع لحملته شكرى، ولبعثت بنسخة منه إلى الصحف.. فإن من اللؤم أن يقابل الإحسان بأقل من الشكر. فما أرى لى متاعا فى شىء مما حولى. وسبب آخر يجرؤنى على لقاء اللصوص وينفى عنى الخوف منهم ويجعلنى لا أتهيبهم، وذلك أنى كما تعلم - أو كما لا تعلم - ضامر ضاو، ظاهر الضآلة بادى الضعف. وأوجز تعريف بنفسى يحضرنى الآن، وهو أنى امرؤ فارغ الثياب.. وأحسب أن هذا تعريف شامل محيط جامع مانع، فإن لم يكن كذلك فأمهلونى، حتى يلهمنى الله ما هو أوفى. وأرجع إلى اللصوص فأقول إن الذى يجعل لقاءهم خطرا فى ساعات العمل هو أنهم يريدون التخلص مما وقعوا فيه اتقاء السجن وما فيه، والمفاجأة فى هذه الحالات تذهلهم وتطير صوابهم، فيحدث أن يضيفوا إلى جريمة السرقة جريمة أخرى هى الاعتداء على النفس.. أما إذا كان الذى يفاجئهم رجلا صغير الجسم مأمونا مثلى، لا خوف من قدرته على منع السارق من الفرار والنجاة.. فإن العدوان لا يخطر لهم على بال. وحسبهم أن يشدوا هذا المتطفل بحبل ويلقوه فى زاوية أو ركن، ويمضوا فى عملهم كأنما لم يعطلهم معطل. ومن هنا اطمئنانى، وهو اطمئنان لم يزعزع الثقة به إلى الآن مزعزع.
وقد اتفق لى أن كنت مرة فى الأقصر وكان الوقت شتاء، والأقصر تطيب فى هذا الوقت.. فنزلت بالفندق ومضى يوم أو يومان - فقد نسيت لطول العهد - وإذا بصديق من أغنياء الأقصر يقع على فى شرفة الفندق حيث يجلس أكثر النزلاء يشربون الشاى قبيل المغرب. وأقول يقع على - وأنا أعنى ما أقول - فقد كان ظهرى إليه وهو مقبل، ويظهر أن باله لم يكن إلى الأرض وهو سائر فاصطدمت رجله بساق الكرسى الذى كنت جالسا عليه فكاد يقع وارتمى فوقى - أعنى الصديق لا الكرسى - ثم شرع يعتذر وشرعت أنا أيضا أهز له رأسى إيذانا بقبول الاعتذار، فالتقت العيون وإذا به يكف عن الاعتذار ويصيح: «أوه.. أهو أنت»؟
كأنما هذا ينفى وجوب الاعتذار ويعفيه من تكاليفه ويجعلنى غير أهل له، فقلت له: «نعم، أنا أنا يا صاحبي» قال مستغربا: «وماذا جاء بك إلى هنا»؟
قلت: «قذفتنى موجة الحياة على هذا الساحل الذى لا أراه أرفق بى من اليم». قال: «آسف يا صاحبي..» فقلت مقاطعا: «لأن الحياة رمت بى على شاطئكم»؟
قال وهو يجلس: «لالالا.. إنما عنيت أنى آسف لأنى وقعت عليك».
قلت: «هذا أدهى.. أؤكد لك أنى لم أتعمد أن أكون فى طريقك».
فصاح بى: «يا أخى، لا.. ليس هذا ما أعنى.. ألا يمكن أن أقول شيئا لا تستطيع أن تؤوله على هذا النحو؟ إنما أعنى.»
فترفقت وقلت: «أعرف ما تعنى.. وأعرف أيضا أنك حمار.. والآن هات حديثا آخر».
وعرف أنى مقيم بالفندق، فدعانى إلى النزول ببيته فأبيت.. وشكرته فألح، فقلت له إنى هنا حر أفعل ما بدا لى ولا أتوخى إلا راحتى. وحريتى أعز على من أن أقبل ضيافتك الكريمة، فأبى فأصررت، ثم مضى وفى ظنى أن الأمر انتهى.. وإذا بى أعلم حين هممت بالعود إلى غرفتى لحاجة لى، أن الصديق حمل حقيبتى ومضى بها إلى بيته وترك لى مركبته، وأنه لم تبق لى فى الفندق غرفة.
وأوجز فأقول: إنى لم يسعنى إلا أن أذهب إلى البيت على فرط استثقالى لذلك، فإذا البيت شىء مهول وإذا هو بيتان فى الحقيقة.. واحد للرجال وآخر بعيد عنه للنساء، وبينهما بستان واسع وحديقة زهر فيحاء، وفضاء رحيب.. ألفيت أبناء صديقى يلعبون فيه - أو خيل إلى فى أول الأمر أنهم يلعبون - ولكنى لما دنوت منهم رأيت رجلا معروفا لم أرتح إلى وجهه ولم يعجبنى شارباه المفتولان وصلعته الناصعة، وكان قصيرا مثلى.. ولكنه أشد منى دمامة وأضيق عينا. وكان هذا الرجل يصيح بالغلمان وهو واقف لا يتحرك، فيحركون أيديهم أو أرجلهم وينثنون ويعتدلون ويستلقون على ظهورهم ويرفعون سيقانهم وأذرعهم، وكان صديقى واقفا يهز رأسه راضيا مرتاحا، فقلت له: «ما هذا الذى أرى؟ ومن هذا الرجل القبيح؟ ومن هؤلاء الصبية؟ هل نويت أن تقيم فى بيتك (سيرك)»؟
فقال وهو يضحك: «لالالا.. هؤلاء أبنائى».
فقلت مستغربا: «أبناؤك؟ ولماذا تترك هذا الرجل القبيح يمرغهم فى التراب»؟
فقال وهو يجرنى: «لا تصح هكذا لئلا يسمع.. إنه معلم الرياضة فى المدرسة.. يدرب الأولاد على الحركات الرياضية».
فقلت: «أولا يكفى تدريبه لهم فى المدرسة؟ مدهش.. أمن أجل أن الله رزقك مالا تروح تبعثره فى هذا الكلام الفارغ ليقال إنك متمدين»؟
قال: «لا، إنك لا تعرف.. إن الحكاية طويلة ولكنى أختصرها لك فأقول: إن أحد السياح الأمريكيين كان هنا فى الشتاء الماضى، فاتصلت به بطبيعة الحال - صديقى تاجر عاديات - ورأى أبنائى فنصح لى - وهو طبيب - أن أعنى بحياة أبنائى الرياضية، وأن أتخذ لهم معلما. هذه هى الحكاية.. وقد نسيت أن أقول إن أحدهم كان مريضا».
قلت: «هذا ما قلت.. تقليد ليس إلا.. ما علينا.. أين الحقيبة؟ فلست أنوى أن أقيم فى مصحة».
ولكنى أقمت فى المصحة وإن كنت قد استطعت أن أتقى هذا «التصحيح» الذى يجرى على أبناء مضيفى.. •••
والأقصر - إذا كنت مقيما فى بيت لا فى فندق - مملة، لأن الحياة كلها فى الفنادق، وقد حزمنى صاحبي وألقانى فى بيته. فلم أكن أخرج إلا نهارا لأزور الآثار، فإذا جاء الليل ذهبنا إلى شرفة الفندق ومكثنا قليلا، ثم عدنا إلى البيت لنتعشى حتى ولو كنت غير جائع وإلا عد نفسه مقصرا فى حقى، ولا أدرى لماذا.. ولكن هذا هو الاعتقاد الشائع. وضقت ذرعا بهذا الكرم ولم أعد أطيقه، فغافلته مرة وانطلقت أعدو إلى الفندق، ودخلت البار وشربت حتى ارتويت ثم خرجت إلى الحديقة الرحيبة، وذهبت أتمشى فيها وأطوف فى أرجائها. وكانت الليلة مقمرة والهواء لا رطوبة فيه، فطال تجوابى فلما نظرت فى الساعة إذا هى الحادية عشرة ولم يكن هذا ظنى، فبادرت إلى العودة إلى البيت وقد سرنى أنى استطعت أن أروح وأجىء وحدى وكما أحب وفى حيث أريد والسلام، وإن لم يكن هذا - بمجرده - خيرا مما فررت منه.. فما كان ثم أى حرج فى أن أشرب أو أفعل ما أشاء وهو معى، ولكن الوحدة أشعرتنى حرية كنت افتقدتها معه إذ أراه إلى جانبى، وكان هو يتوخى مرضاتى فى كل شىء كبر أم صغر. ولكنى لم أكن أرتاح إلى هذا ولا كان يسرنى أن أرى رجلا يقيد نفسه بى، وكان يخيل إلى أنه فى سريرته كاره غير راض، وأنه مثلى لا يريد أن يكون غير مرتبط أو مشدود إلى أحد. ولم يكن هذا كذلك فى الحقيقة، فإن الرجل كريم عظيم الأريحية، ولكن هذا هو الذى قام فى نفسى وكبر فى وهمى.
وعدت إلى البيت وأنا أشعر أن الحياة تستحق أن يحياها المرء وأن الدنيا جميلة، وشعرت بشىء من الظمأ على كثرة ما شربت.. وكنت أعرف الطريق إلى حيث أطفىء ظمئى ففتحت بابا ودخلت إلى حيث الشراب، وهو مكان رحيب فيه خزانات شتى، فيها ما لم أحصه من الزجاجات المختلفة الألوان والحجوم، وفى الوسط مائدة مستطيلة مغطاة بالمخمل الأخضر وحولها الكراسى الوثيرة.. فأدرت مفتاح النور، وإذا بى أرى ذاك الرجل الدميم القصير الذى يقيم الأولاد ويقعدهم ويعذبهم بالانحناء والانثناء والقفز والوثب والنط إلى آخر ما كرهت منه ومن منظره، فندت عنى صيحة استغراب وإنكار، وماذا يجىء به إلى هنا فى الليل - فى منتصف الليل - وهو لا يبيت معنا بل يذهب إلى بيته؟
ولم يخالجنى شك فى أنه لص شرير، على أنه خطر لى مع ذلك أن بيت الرجال أو الضيوف ليس فيه ما يسرق غير الأثاث وهو ضخم لا يسهل حمله أو نقله، ورجح عندى أن هذا المعلم الرياضى لص خمر وأنه جاء متسللا ليشرب كأسين أو ثلاثا بلا ثمن ... وسواء أكان هذا أم ذاك هو الصواب، فقد شعرت أن من واجبى أن أنغص عليه ليلته.
وصحت به: «من أين دخلت أيها اللص الجاحد الناكر للجميل»؟ وكنت أتكلم بعنف وفى يدى عصا ضخمة وفى عينى لمعة أظن الفضل فيها لما سقانى صاحب «البار» فى الفندق، فرأيت الرجل يستخذى ويتضاءل ويتراجع إلى النافذة، فأطلقت عليه صيحة عالية: «قف» فوقف كالجندى، وكان الفضل فى سرعة الوقفة واعتدالها وجمال منظرها لتربية الرجل الرياضية أو العسكرية لا لقوة الصيحة، ولكنه أطاع على كل حال.. فسررت وقلت له مرة أخرى: «قل من أين دخلت فى الليل.. فى منتصف الليل»؟
فقال بذلة وضراعة: «من النافذة.. فقد وجدت الأبواب موصدة، والخدم نياما». قلت: «آه.. ولكنى أنا لم أجد الباب موصدا».
وأيقنت أنه كاذب وأنه تعمد أن يدخل من حيث لا يراه أحد، وهم فى هذه اللحظة أن يقول شيئا فأطلقتها عليه صيحة أخرى مدوية.. فى أذنى أنا فما أظن أحدا سمعها أو سمع بها خارج الحجرة: «اخرس».
فخرس ووقف ساكنا لا يتحرك، فسرنى مرة أخرى أنه يطيع على هذا النحو، وقلت لنفسى إن للرياضة نفعا على ما يظهر. ولو لم يكن هذا الرجل رياضيا، لكان الأرجح أن يحاور ويجادل ويكابر ويناقش ويوجع لى رأسى، ويسلب الأمر كله ما أجد الآن فيه من المتعة.
وقلت له: «ألست أنت الرجل الذى يكلف هؤلاء الأولاد المساكين أن يتلووا ويتعوجوا وينطوا ويقفزوا»؟
قال: «نعم يا سيدى». قلت: «أرنا إذن بعض ما أتقنت يا صاحبي».
قال : «نعم».
قلت: «تلو.. تعوج.. انثن.. انحن.. افعل كل ما رأيتك تأمرهم أن يفعلوا.. تفضل».
فتردد برهة لا أدرى لماذا أو كيف، ثم كأنما بدا له أن خير ما يصنع هو أن يطيع وأمره لله.. فراح ينثنى ويعتدل، وأنا أقف أنظر إليه معجبا مسرورا، وكلما نظر إلى استزدته حتى خيل إلى أن ظهره سيقصم.. فدعوته أن يقف، وشرعت أفكر فى عذاب آخر أنزله به، ففركت جبينى ثم تذكرت فقلت: «آه.. لقد كنت واثقا أنى سأتذكر.. اصنع من جسمك عقدة كعقدة الحبل».
فلم يفهم، فقلت له مرة أخرى: «ألا تعرف العقدة؟ تلف الحبل وتصنع منه دائرة وتدخل طرفا منه فى هذه الدائرة ثم تشد الطرفين فتعقد العقدة. هكذا أريد منك الآن أن تصنع بنفسك. اصنع من خصرك دائرة وأدخل ساقك فيها.. أو لا أدرى كيف تصنع ذلك؟ المهم أن تصنع ذلك وأن أراه ... تفضل».
فرقد الرجل على الأرض، وراح يقوس ظهره كما لم أكن أتوقع أن يستطيع أن يفعل.. وأنا متكئ على المائدة، وفى يدى سيجارة أشعلتها ورحت أدخن وأنظر معجبا مغتبطا. ورأيته يحاول أن يعقد العقدة التى أمرته بها، فلم يسعنى إلا أن أضحك.. فقد كان منظره يغرى بذلك وهو يلتوى على الأرض، ولكنى لحماقتى ضحكت والدخان فى فمى، فكادت روحى تزهق ... وجعلت أسعل سعالا شديدا، فاغتنم الخائن الماكر هذه الفرصة ووثب إلى رجليه ثم إلى النافذة، ومنها إلى حيث لا أعرف.
وبينما كنت أوصد النافذة.. وأنا آسف على المتعة التى لم تطل، إذا بمضيفى يقول: «يا أخى أنت كنت فين.. لقد حدثتنى نفسى أن أبلغ البوليس والله».
فقصصت عليه القصة وأنا أكاد أقع من الضحك، فقال: «يا شيخ حرام عليك.. هذا رجل مسكين».
فصحت به: «أما أنك لرجل مدهش.. إذا كنت تعتقد أن تكليفه هذه الحركات البهلوانية تعذيب له فإنها تكون أيضا تعذيبا لأولادك».
فقال: «لا، ولكنه كبير السن وأولادى صغار ... ثم إنه لا يكلفهم أن يلووا أجسامهم ويصنعوا منها عقدة كعقدة الحبل.. كيف خطرت لك هذه الفكرة الخبيثة»؟
قلت : «لم يخطر لى شىء، وإنما كان هذا ما بدا لى أنه يكلف أولادك أن يصنعوه حين رأيتهم».
قال: «قم لتنام، وحسبك هذا طول العمر».
وقد صدق.. فما أزال أضحك إلى الآن كلما تذكرت تلك الليلة.
الفصل الرابع عشر
ثمن سيجارة
كم تظن السيجارة كان ثمنها فى سنة 1909م؟
لا أدرى ممن القارئ.. أمن الأيفاع الذين يزدان بشبابهم الغض هذا القرن العشرون، أم من المخضرمين الذين أدركوا - مثلى - القرن الماضى وهو يجود بأنفاسه، وأبوا إلا أن يركبوا هذا الزمن بشبابهم الدائم الذى يأبى أن يدركه الهرم أو يرده الشيب إلى تكلف الوقار؟ وإن كان - أعنى شبابهم المتلكىء - لا يمتاز لا بغضاضة، ولا ببضاضة. وليكن القارئ من شاء - من المحدثين أو ممن هم أحدث منه وإن كانوا أعلى سنا - فهذه فذلكة تاريخية يستطيع أن ينتفع بها إذا كان له من الذكاء حظ. وهل أحرص منى على فائدة القراء؟
كنت فى تلك السنة - سنة 1909م - قد تخرجت فى مدرسة المعلمين العليا، ومن كان يشك فى ذلك فليسأل وزارة المعارف فلن تحابينى. وكنا فى مقدمة الصيف، وكنت متعبا مرهقا - لا أدرى لماذا؟ فما أعرفنى عنيت بحفظ درس فى حياتى - فاستشرت طبيبا أو على الأصح ألح أهلى أن أستشيره، فقد صارت لحياتى قيمة بعد أن حملت هذه «الدبلوم» وبلغت بها مبالغ الرجال الذين يكسبون رزقهم وينفقون على سواهم. فلما فحصنى الطبيب، قال: «لا شىء.. يكفى أن ترتاح وتتنزه» قلت: «أين»؟ وكان ضيق الصدر فقال: «وهل أنا أعرف.. فى أى مكان غير البيت» فلم يحسن وقع جوابه فى نفسى، فقلت له: «وهل كنت تحسب أن بيتى منتزه يا أخى.. أم خيل إليك أنى بنت لا أعرف غير غرف البيت.. سبحان الله العظيم» وأنصرفت ساخطا.
وأوسعته ذما فى الطريق إلى بيتى - مزقته ونثرت لحمه وجلده للكلاب.. حتى الشعرات القليلة التى بقيت فى رأسه الأصلع انتزعتها واحدة واحدة، وسرنى أنه كان يتألم ويتلوى وأنا أشدها بأظافرى وأقتلعها من جذورها - بخيالى - وكنت أقول له: «هذا جزاؤك يا وقح.. عسى أن يعلمك هذا أن التهكم على الناس غير جائز».
ويظهر أنى كنت أكلم نفسى فى الطريق بصوت عال، فقد استوقفنى قريب لى وقال لى: «مالك.. ماذا جرى»؟
قلت له مستغربا: «نعم.. ماذا جرى»؟
وتجهمت له فقال: «من الذى تشتمه وتسبه هذا السب القبيح»؟
فأفقت وارتد إلى عقلى.. وكان قريبى هذا له نسيب عندنا له بقية من مال قليل استودعناه إياه ليجريه مع ماله فى تجارته، فقلت له: «يا أخى هذا الطبيب الذى أرسلتمونى إليه يقول لى: إنه لا دواء لى إلا أن أذهب إلى لبنان، وأنه لا أمل لى فى الشفاء بغير ذلك.. ولا أدرى ما أصنع، فقد ذهب أكثر نصيبى فى نفقات التعليم والباقى لا يكفى للسفر إلى الشام. ولست أحب أن أجور على نصيب أمى وأخى وإن كان من السهل رد ما أقترض بعد أن أقبض مرتبى من وظيفتى.. وعلى ذكر ذلك، أقول لك إنى عينت مدرسا فى المدرسة السعيدية الثانوية».
وكان الذى أخطر الشام على بالى فى هذه اللحظة، أن لى صديقا أصابه صداع ملح أعيا الأطباء شهورا.. فبعثوا به إلى لبنان فاستراح من آلامه، وكتب إلى من هناك يصف لى جمال البلاد ويدعونى إلى اللحاق به.
وكان لابد من موافقة أمى على الاستدانة من نصيبها أو نصيب أخى من هذه البقية الباقية من المال القليل، وكانت - رحمها الله - قوية ذكية، ولم أكن أجرؤ أن أكذب عليها.. ولو أنها كانت سألتنى لما وسعنى إلا أن أحدثها بما دار نفسى من أساليب الاحتيال عليها - لا خوفا منها، بل لأنها عودتنى أن أصدقها وألا يكون جزائى على الصدق إلا الخير. غير أنها لم تسألنى شيئا بل وافقت وقالت: «اقتراح حسن.. اذهب إلى ... خذ منه ما يكفيك».
ولو كنت ذكيا لأدركت أن فى الأمر سرا، وأن وراء هذه الموافقة السريعة التى لم أكن أتوقعها تدبيرا خفيا.. ولتذكرت أنها كانت تحبنى حتى كانت لا تستطيع أن تفارقنى يوما واحدا فكيف بشهر أو شهرين؟ ولكن خفة الشباب صرفتنى عن النظر فى شىء من هذا ، فصدقت وذهبت إلى الرجل فقال: «ليس معى الآن إلا خمسة جنيهات فخذها، ولولا أنى مريض لخرجت معك لأجيئك بكل ما تحتاج إليه.. ولكن بضعة أيام لا تقدم ولا تؤخر».
فخرجت مغتبطا فما كنت رأيت قط قبل ذلك اليوم خمسة جنيهات - ذهبا - فى كفى أصنع بها ما أشاء ولا أسأل عنها. وأنسانى الفرح أن كونى لا أسأل عن هذه الجنيهات ماذا صنعت بها هو التدبير الذى لجأت إليه أمى اعتمادا على ما تعرف من تبذيرى وإسرافى اللذين أعياها علاجهما.
ومضت أيام ثلاثة نقصت الجنيهات التى معى بعددها، فقد أبقيتها فى جيبى.. فطارت واحدا بعد واحد كأن لها أجنحة، فعدت إلى صاحبنا وقلت له أنى أريد بقية المبلغ اللازم لأنى أخشى الضياع على كل ما يعطينى.. فأبدى الاستغراب وسألنى عما بقى معى من الجنيهات الخمسة، فقلت لم يبق إلا اثنان فقط.. فهز رأسه ولم يقل شيئا وناولنى خمسة أخرى وقال: «إلى أن أشفى».
فكبرت فى عين نفسى، فقد كنت فرحت بخمسة وأحسست أنى رجل عظيم.. فكيف وقد صار معى سبعة لا خمسة فقط.. ولم أعد فى تلك الليلة إلى البيت إلا قبل الفجر متسللا، فألفيت أمى قاعدة تدخن وتنتظرنى، ولكنها لم تقل شيئا واكتفت بالنظر والابتسام. ولو كنت ذكيا لاستغربت أن تبتسم لابنها الذى لا يكاد يقوى على الوقوف على قدميه - لا من السكر فما كنت سكيرا بل من التعب والإعياء والسهر - وكانت هى تعرف أن الخمر لا تعنينى فلم تكن تخشى شيئا من هذه الناحية. •••
ولا أطيل على القارئ، فإنى أخشى أن أستطرد إلى غير ما أردت - والحديث ذو شجون كما يقولون - ويكفى أن يعلم أنى أضعت خمسة عشر جنيها فى خمسة عشر يوما. وكان الذى عنده ما بقى من مالنا يتماثل للشفاء، وكنت أزوره لأعوده كل يوم فما يليق غير ذلك، فاتفق يوما أن كنت عنده - معه فى غرفته - فجاءه الطبيب على عادته فى كل يوم فخرجت إلى الشرفة وجعلت أتمشى فيها - وكانت رحيبة - إلى أن يفرغ الطبيب من فحصه ، وكنت قد اشتريت «علبة» من الفضة للسجاير - فقد صار هذا البذخ فى وسعى - فأخرجتها من جيب البنطلون حيث رأيت أبناء الوارثين يضعونها، وأشعلت سيجارة وانطلقت أدخن وقال لى الطبيب: «هذه قسوة».
فاستغربت وسألته عن معنى كلامه، فقال إنه - أى الطبيب - حرم التدخين على نسيبنا هذا، وقد كانت رائحة الدخان تدخل الغرفة. وكان يرى المسكين تجحظ عيناه ويهتز رأسه على الوسادة، ولكنه لا يستطيع أن يقول شيئا لأنه - أى الطبيب - واقف، وحذرنى من أن أعطيه دخانا، وقال إن مريضه لاشك سيتعلق بى ويلحف فى رجائى أن أعطيه ولو سيجارة واحدة.. ولكن مصلحته تقتضى أن لا أرق له. ثم انصرف.
وعدت إلى صاحبنا وقد اختمرت فى رأسى فكرة - آخذ عشرة جنيهات دفعة واحدة، فإن أخذ الخمسات لا فائدة منه - وأسافر بها بلا تريث، وأطلب من هناك كل ما أحتاج إليه.. فما يعقل أن يضنوا على بشىء فى الغربة. ودنوت منه، وفركت كفى وقلت: «أظن أن لا فائدة اليوم من طلب شىء».
فوافق - وهو عابس - على أن لا فائدة.
فقلت: «حتى لو كان الطلب لا يعدو عشرة جنيهات لا أكثر»؟
فزاد وجهه عبوسا وهز رأسه هزات متوالية بلا مناسبة فما كان ثم ما يقتضى هذا العنف وهو المحتاج إلى الراحة التامة. ثم إنى لم أتعود منه إلا التلبية السريعة، فاقتنعت بأن رائحة الدخان - أو الطباق كما علمنى المرحوم الشيخ حمزة فتح الله - هى المسئولة عن هذا السلوك الجديد الذى لا عهد لى به منه.
قال بلهجة الجزم: «أبدا» ولم يزد.
قلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله».
ومددت يدى إلى جيبى، فأخرجت العلبة الفضية منه وفتحتها ببطء - وكانت ملأى بالسجاير - وخفضت يدى بها وأملتها وأنا أتناول منها - ليرى ما فيها من صفى السجاير، وأخرجت واحدة ورددت العلبة إلى مكانها، وأشعلت السيجارة.
وإذا بالنائم ينتفض ويقعد على السرير ويصيح بى بصوت كالرعد: «هات العلبة.. هات العلبة».
فصحت به وأنا لا أريم مكانى ولا أظهر اكتراثا لانتفاضه: «إيه»؟
فصاح وهو يلوح بكلتا يديه: «هاتها.. أقول لك هاتها. ألا تسمع»؟
فقلت وأنا أتظاهر بأنى لم أفهم مراده إلا الآن فقط: «آه تقصد السجاير..»؟
وأخرجت العلبة وفتحتها له وأنا فى مكانى - على نحو مترين منه - «هنا - فى هذا الجانب سجاير الفيل.. وفى هذا الجانب سجاير جناكليز».
فصاح: «هات.. هات.. هات».
قلت ببرود: «هى لك كلها إذا شئت».
فصاح: «أو لم أشأ.. لقد قلت لك هات مائة مرة فهل أنت أصم.. هات.. أقول لك هات».
قلت، وأنا فى مكانى: «وهل تظن أنى أضن عليك بشىء؟ إذن أنت لا تعرفنى.. ولكنى أشعر بحاجة شديدة إلى عشرة جنيهات.. عشرة ليس إلا.. مبلغ زهيد فى الحقيقة وقد جئت إليك وفى مأمولى أن أبلغ عندك مقصودى، فما قولك»؟
قال: «خمسة.. مثل كل مرة».
قلت: «عشرة.. والعلبة كلها لك.. إذا شئت.. أما إذا لم تشأ، فالأمر على كل حال لك».
قال: «اجعلها سبعة.. وهات بقى».
قلت: «إنى أكره المساومة.. طباعى تأباها.. وتربيتى تجعلنى أنفر منها.. أوه أنفر جدا منها.. إنك لا تستطيع أن تتصور شدة نفورى من المساومة.. يبلغ من كرهى لها أن أزهد فى الأمر كله فلا أعود أقبل الكلام فيه مهما كان الذى يبذل لى».
وطويت العلبة على سبيل التأكد لهذا النفور ووضعتها فى جيبى وقلت: «والآن.. أستودعك الله.. إن شاء الله. إن شاء الله أراك غدا بخير» وأدرت وجهى وهممت بالخروج، وإذا به يصيح بى: «تعال يا مجنون.. خذ العشرة التى تريدها.. هات بقى».
قلت: «حتى تصير العشرة فى كفى هذه».
وبسطتها له حتى لا يساوره الشك.. فتنهد، وناولنيها وعددتها على مهل ثم رميت له العلبة.
وخرجت وتركت له السجاير غير عابئ بأوامر الطبيب، فما أطيش الشباب وأشد حمقه وأقل رفقه.. ولكن الله سلم ونجا ولم تقتله السجاير. أما أنا فلم يكتب لى الله أن أذهب فى سنتى تلك إلى الشام. ولهذا حديث طويل ليس هذا وقته فإن أكثر الذين يعنيهم لا يزالون أحياء فموعدنا به بعد عمرهم الطويل.
الفصل الخامس عشر
الببغاء والقط
- أعوذ بالله من الستات ... إنهن لا يرحمن ولا يتركن رحمة الله تنزل.
قلت: «لماذا؟ ماذا يسخطك على الجنس اللطيف»؟
فاعتدل على كرسيه وحدق فى وجهى، وقال - أو صاح على الأصح: «لطيف؟ أتقول لطيف..؟ أيكون جنسا لطيفا ذاك الذى يلبس هذه الثياب الخفيفة فى البرد ويبدو فيها مكشوف الذراعين إلى ما فوق المرفق؟ إننا نحن الجنس اللطيف لو عقل الناس».
قلت: «يا سيدى.. ثم ماذا أيضا»؟ قال - غير عابئ بتهكمى: «ثم إنه ليس لطيفا فى الحقيقة».
قلت: «هذه ملاحظة سمعناها فهى مكررة.. فإما قلت شيئا جديدا، وإلا فاسكت».
قال: «أنا أعنى أنه جنس غير لطيف المعاشرة».
قلت: «وكيف كان ذلك؟.. أعنى ماذا يسخطك عليه اليوم»؟
قال: «لعلك تذكر «إحسان».. لقد عرفتك بها. تعلقت بى كأنها ظلى، فسئمت وأقول لك الحق أنى خفت العاقبة.. فقد كنت أستملحها وأستعذب حديثها وأستريح إلى مجلسها، ولكن المصيبة أنها تحسب أن الملاطفة والمجاملة حب. الحق أن أمر هؤلاء البنات عجيب.. كل كلمة من الرجل - أعنى كلمة ملاطفة أو تودد - يتخذنها دليلا على الحب.. فإذا قلت لها إن ثوبها جميل، أو أن شعرها المرسل أو المرجل بديع، أو أن حذاءها حسن، أو أن ابتسامتها حلوة أو عذبة، أو أن ظل أهدابها على وجنتيها فاتن أو غير ذلك - أى كلمة ثناء تنطق بها - فما أسرع ما تؤولها بأنها صادرة عن حب وعشق وهيام وتدله! مصيبة يا أخى والله، يظهر أن هؤلاء الفتيات بهن ظمأ شديد إلى الحب، ويخيل إلى أن حياتهن تجفف نفوسهن وتذويها وتؤجج فيها الشوق إلى الحب.. فلا تكاد الواحدة منهن تسمع لفظا عاديا من ألفاظ المدح التى يستدعيها حسن المجالسة وأدب الحديث حتى يثب خيالها من فرط اللهفة إلى سماء الوهم السابعة».
فقلت - وقد برمت بهذه المحاضرة: «أتريد أن تقص حكاية أم أن تتفلسف؟ يجب أن أعرف لأعد نفسى، وأتهيأ لما سأتلقى».
فقال: «طيب.. قلت لك أن هذه الفتاة - «إحسان» توهمت - أو أنا خفت أن تكون قد توهمت - أنى أحبها. ولست أكرهها أو أستثقلها فإنها ظريفة جدا ، ولكنها ليست الفتاة التى أختارها للزواج ولا سيما بعد أن عرفت «حورية»».
قلت: «إنى أهنئك».
قال بلهفة: «أو تعرفها.؟ أليست بالله مدهشة؟ ألا ترى أنها..» قلت - وأنا أرفع يدى لأصد هذا السيل المنحدر: «مهلا.. مهلا.. أنى لى أن أعرفها؟ إنما راقنى الاسم وجرى فى خاطرى أنك.. لعلك..».
فلوح بيده وقال: «إنك ثقيل.. تخجل المرء وتلقى على حماسته ماء باردا.. ما هذه الطباع السخيفة؟ لماذا تحب أن تصدم الناس على هذا النحو القاسى»؟
قلت: «آسف يا صاحبى.. لم أصدمك.. ولو كنت أعلم أن كلمتى سيسوء وقعها فى نفسك إلى هذا الحد لما نطقت بها. والآن ارجع إلى حوريتك، فإن اسمها يبشر بحكاية ...».
قال: «أو هذا كل ما يعنيك ... الحكاية ليست إلا ... شىء بارد».
قلت: «يا أخى كن منصفا ... هل تريد أن أحب حوريتك هذه من فرط حبك لها وأعجابك بها»؟ قال: «أعوذ بالله» قلت: «انتهينا إذن ... هات الحكاية».
فاقتنع وقال: «الحكاية أن حورية أهدتنى ببغاء صغيرا وقطة أيضا.. لا أدرى لماذا؟ ولكن لعلها ظنت أن بيتى حديقة حيوانات.. على كل حال هذا ما حدث.. ثم سافرت، وخطر لى أنى أستطيع فى فترة غيابها أن أتخلص من «إحسان» حتى إذا عادت حورية، وجدت الميدان خاليا.. فقد كنت أخاف أن ترى إحسان معى مرة فتظن بى الظنون وإن كان لا محل لها فى الحقيقة، فما بينى وبين إحسان ما يدعو إلى أى ظن.. ولكن النساء لا يفهمن الصداقة، ولا سيما بين الرجل والمرأه. وإحسان - كما تعلم - رقيقة الإحساس جدا، دقيقة الحساب والتقدير لكل حركة. وكانت أمى تحبها وتخالفنى فى رأيى فيها.. ولكنى كنت أقول لها - أعنى لأمى - إنى أنا الذى سيتزوج لا أنت، فاسمحى لى بحرية الاختيار. وأختصر فأقول: إنى اتفقت معها - أعنى إحسان فى هذه المرة لا أمى - أ ن تمر بى فى البيت لنذهب معها إلى القناطر الخيرية ونقضى يومنا هناك ومعنا أمى. وسافرت فى ذلك اليوم على الرغم من احتجاج أمى واعتراضها، ولكنى حلفت لها أن العمل الذى يدعونى إلى السفر لا يحتمل الإرجاء . وطمأنتها فأوصيتها بإحسان وألححت عليها - وإن لم تكن بها حاجة إلى ذلك - أن تكرمها وتسرها وأن تتقى أن «تكسر خاطرها» كما يقولون.. فهل تدرى ماذا صنعت أمى»؟
فهممت أن أقول شيئا، ولكنه منعنى بإشارة ومضى يقول: «إن الذى أريد أن أقوله هو أن أمى - على ما يظهر - سئمت عشرة القطط والببغاوات - ولها العذر - والحقيقة أنى لا أدرى كيف يمكن أن يوفق بين قط قوى صحيح وثاب وببغاء صغير لا يستطيع أن يتكلم ولا يحسن إلا أن يخرج أصواتا كتلك التى قد يخرجها كروان أصابه زكام - لا تقاطع أعوذ بالله من هذه المقاطعة - إنما أعنى إذا أمكن أن يصاب الكروان.. أو أى عصفور بالزكام.. هل استرحت الآن؟ فقد كان القط لا ينفك يثب إلى القفص محاولا أن يقتنص الببغاء، وكان الببغاء لا ينفك يصرخ أو يصيح أو يستنجد أو لا أدرى ماذا أسمى هذه الأصوات المزعجة التى يخرجها ويستغيث بها حين يهم به القط. ومن العبث أن تحاول أن تفهمه أنه فى قفص وأن القط يستطيع أن يقتل نفسه وثبا، فإن له - أعنى للببغاء - من القفص وقاية كافية. وكيف السبيل إلى الراحة فى بيت فيه ببغاء لا يكف عن الصراخ، وقط لا يكف عن الوثب حول قفصه؟ والقط حيوان خبيث متلصص لا سبيل إلى منعه أن يدخل على الببغاء فى حيث يكون من البيت إلا إذا وقفت له بالعصى على باب الغرفة طول النهار. ومع ذلك يستطيع أن يغافلك ويتسلل من بين رجليك وأنت غير دار بما فعل، وإن كنت واقفا كالعصى أو المقشه التى فى يدك. وقد حيرنا جدا هذا القط - أعنى أنه حير أمى فقد تركت الأمر كله لعنايتها فإذا وضعنا الببغاء على حافة الشرفة لينعم بالشمس والهواء قليلا، نط القط إليه وراح يحاول أن يدخل من بين القضبان فينأى الببغاء المذعور إلى آخر القفص، ويرى القط أن يده لا تصل إليه فيطوى كفه ويثنى يده ويروح يحكها بالقضبان - عامدا بلا شك - فينقلب القفص ويصيب الببغاء الرعب، فيضرب بجناحيه كالمجنون ويطلق أعلى صيحاته المنكرة، والقط يحوم حوله ويلوب ويموء مواء له دلالته التى لا تخفى، ويطل الجيران من نوافذهم وشرفاتهم على القيامة التى قامت فى شرفتنا، ونسمع نحن الضجة فنذهب نعدو كمركبة الإسعاف. أعنى أننا لا نبالى ما يكون فى طريقنا من الأشياء، فكم من طاولة انقلبت بما عليها، ومن زهرية انكسرت، ومن أطباق سجاير انتثرت فى الغرفة، الخ الخ.. وإذا علقنا الببغاء - أعنى قفصه يا سيدى - راح القط يتوثب حوله غير عابئ بما يسقط عليه حين يهبط إلى الأرض من وثباته، ويقلبه أو يكسره.. ولا أطيل عليك فإن فى وسعك أن تتصور حياتنا مع القط والببغاء.. وأكبر الظن أن حورية أرادت أن تتخلص من هذا البلاء فأهدته إلينا وقيدته علينا فى سجل حسناتها. المهم على كل حال أن أمى فى غيابى أحسنت الاعتذار إلى «إحسان» وأهدت إليها القط والببغاء جميعا.. ويخيل إلى الآن أنها رمت عصفورين بحجر.. لاحظ أنى لا أقول أصابتهما، وإنما أقول إنها رمتهما فما أصاب الحجر سوى رأسى.. ذلك أنى بعد أن عدت وعرفت ما كان واضطربت له وقلقت، انتهيت إلى أن الخيرة فى الواقع وأنه ليس فى الإمكان خير مما كان.. ومضت أيام وأنا مغتبط بالراحة الجديدة التى شعرنا بها بعد أن تخلصنا من هذين البلاءين - القط والببغاء - وإذا بحورية داخلة كالمدفع الرشاش. ولست أستطيع أن أقص عليك ما سمعت منها، فقد دار رأسى حتى صرت لا أعى ما أسمع، ولكن أمى لخصت لى الموضوع بعد خروجها، فقالت إنها عرفت - لا أدرى كيف - أنى أهديت هديتها، القط والببغاء، إلى «إحسان» فهى لهذا واجدة ناقمة ولا تريد أن ترى وجه هذا الخائن بعد اليوم.. وهكذا طارت من يدى حورية.. ما أظن بأمى إلا أنها تعمدت أن تطيرها بهذه الحيلة.. فقد كنت أريد أن أتخلص من إحسان فما تخلصت إلا من حورية. ولا أدرى ماذا أصنع فإنها لا تقبل أن تسمع منى كلاما أو تصغى إلى شرح وتفسير، فهل عندك رأى تشير به»؟
فقلت: «قل لى أولا.. هل تعلم كيف استطاعت إحسان أن توفق بين القط والببغاء»؟
فقال: «الحق أقول لك أنى أعتقد أن المرأة أحزم من الرجل، فإن إحسان لم تحاول قط أن تحل العقدة.. وأنما قطعتها بحد السيف. ذلك أنها لم تكد تصل إلى بيتها وترى كيف ينظر القط نظراته المريبة إلى الببغاء حتى خيرت نفسها فاختارت الببغاء. ثم تناولت القط ودسته فى غرارة ودفعت به إلى الخادم، وأمرته أن يذهب إلى الطرف الآخر من المدينة ويفرغ الغرارة هناك. ويطهر أن حورية عرفت هذا أيضا فإنى أرى نقمتها تزيد وتشتد ولا أراها تفتر فما العمل»؟
فقلت: «أوه.. لا شىء.. لا تقطع نفسك حسرات.. دع الأيام تعمل عملها».
فصاح بى: «ولكن عمل الأيام زفت وقطران.. فكيف أتركها تعمل عملها»؟
فهززت رأسى ومططت بوزى. وماذا أقول لمن يتكلم هذا الكلام؟ ثم خطر لى سؤال فقلت: «هل أمك رجل»؟ فصاح: «إيه»؟
قلت: «لماذا لم تحل العقدة كما حلتها إحسان وهى امرأة مثلها»؟
فمضى عنى ساخطا ولم يجب.
الفصل السادس عشر
السيارة المسروقة
- إن من الواضح أن تربيتك ناقصة.. ناقصة جدا.. هذا أنا - بجلال قدرى - أكلمك منذ عشر ساعات وخمس وعشرين دقيقة وثلاث وأربعين ثانية وأنت لا تجيبين.
فقالت زوجتى أخيرا وألقت ما بيدها - وكان شيئا تطرزه أو لا أدرى ماذا تعنى به: «إنى لست اليوم كفؤا لك ولهزلك، فاسكت من فضلك».
قلت: «هذا بديل جميل من الاعتذار. ألا تستحيين يا امرأة؟ ثم ما هذه الذى تتشاغلين به عن التقاط الحكمة من فم سيدك وتاج رأسك وبعلك»؟
قالت: «أرجوك.. أرجوك يا مسلم.. ثم إن الطباخة خرجت».
فانتفضت واقفا وصحت: «نهارها أسود.. لماذا»؟
قالت: «استحسن زوجها أن يكون ذهابها إليه يوم الجمعة بدلا من يوم الأحد».
فانحططت على الكرسى وقلت: «ووافقت أنت بالطبع»؟
قالت: «وماذا أصنع غير ذلك؟ وقد أصرا على يوم الجمعة، فلو رفضت لفارقتنا ولعدنا إلى حيرتنا القديمة».
قلت: «يا امرأة.. هل تعرفين أنى أتضور فى هذا البيت؟ يوم الجمعة الذى أستريح فيه وأظل أحلم طول الليل بما أطمع أن أنعم به من الآكل ... أوه إن هذا لا يطاق! هذه.. هذه.. هذه.. نعم بلشفية صريحة، ومع ذلك تزعم الحكومة أنها تكافحها.. ما عيب يوم الأحد بالله.. لماذا يجب - حتما - أن تكون بطالتها يوم الجمعة لا غيره»؟
فضجرت زوجتى وبدأت تنفخ، وقالت: «ألا تسكت؟ مالك أنت.. إن لك أن تأكل والسلام.. ثم أنها مسلمة وكذلك زوجها فيوم الجمعة أوفق لهما».
قلت: «وهل من الضرورى أن تتزوج هذه الدميمة وذلك المغفل»؟
قالت، وهى تتمطى: «إنى أشعر بفتور وخدر فاعفنى بالله من وجع الدماغ.. وحسبى هم إطعامك فى هذا اليوم الثقيل».
فقلت، وقد خطرت لى فكرة: «اسمعى، أقل لك».
قالت وهى تضحك: «وهل ترانى اليوم هنا إلا لأسمع؟ تفضل يا سيدى ونور عينى.. وماذا أيضا»؟
قلت: «وتاج رأسك.. اسمعى.. إن الفتور يغشى جسمك كما تقولين، وأنا رأسى يكاد يطير مذ عرفت أن هذه الطباخة الكريهة الوجه قد تخلت عنا فى يومنا هذا، فما قولك فى أكلة ناشفة خفيفة نصنعها هنا أو نشتريها»؟
فاعتدلت وقالت وقد لمعت عينها: «لماذا»؟
قلت: «وندعو فلانة وفلانا - من أقربائنا - ونذهب جميعا ومعنا الأولاد إلى القناطر الخيرية، فنقضى يومنا هناك بين الخضرة والماء».
قالت: «ولكنه سينقصك الوجه الحسن».
قلت: «يا خبيثة.. هل تظنين أنى تزوجتك وأنا مغمض العينين»؟ •••
وحشرتهم جميعا فى السيارة، ودسست السلة التى فيها الطعام والشراب فى مكان مجعول لما يحمل المسافر من زاد ومتاع، وكانت الساعة الثانية مساء حين انطلقنا فبلغنا القناطر بعد نصف ساعة، فحملنا أشياءنا وتركنا السيارة فى حراسة رجل من الواقفين هناك المستعدين لهذه المهمات. وتخيرنا مكانا يشرف على الماء وتظلله أشجار باسقة، وبسطنا السجادة وألقينا عليها صفحات من جرائد الصباح والمساء، ووضعنا عليها الصحون والصوانى ثم شرعنا نأكل، ولم يكن الطعام فيما يبدو لعيوننا الفارغة كثيرا.. فجعل بعضنا يخطف من بعض فكانت ألذ أكلة وأهنأها، ثم طرحنا الوسائد على السجادة واستلقينا فنام من نام. ولما آذنت الشمس بالغروب ركبنا زورقا فى ترعة أشمون، ثم بدا لنا أن نعود لندرك الشيخ رفعت وهو يتلو القرآن الكريم - فما نحب أن يفوتنا ذلك منه قط - فرجعنا إلى حيث السيارة.. فاذا بها قد اختفت..
بهت حين رأيت مكانها خاليا فوقفت كالصنم، وأقبلت على زوجتى تسألنى وتهز ذراعى، فقلت لها وقد أفقت قليلا: «نعم.. هزى ذراعى بقوة.. إن بى حاجة إلى الشعور بأنى لست أحلم وأن هذا ليس كابوسا..».
قالت: «أين ذهبت»؟ قلت: «فتشينى.. لقد كانت هنا.. تركتها فى هذا المكان.. وليس فى الأرض ما يدل على أنها انشقت وابتلعتها ... ولست أعرف أن لها أجنحة، فلا يمكن أن تكون طارت. إن الطريقة الصحيحة للاهتداء إلى الحقيقة هى أن يبدأ المرء بنفى كل الاحتمالات غير المعقولة، كما تريننى أصنع الآن».
فصاحت «لولو» قريبتنا: «لقد سرقها اللصوص».
فصحت بها: «تالله ما أذكاك يافتاتى.. ولكن كيف لم نفطن إلى هذا بمثل هذه السرعة المدهشة»؟
فقالت لولو: «وماذا تكون مزية العبقرية وفضيلتها إذن»؟
قلت: «صدقت يا فتاتى النابغة..».
فقالت زوجتى مقاطعة: «هل هذا وقت الكلام الفارغ! ألا تفكرون فى طريقة لاستردادها»؟
فقلت: «آه.. هنا أيضا عبقرية ولكن من ضرب آخر - ضرب عملى لا يرتاح إلى النظريات.. عبقرية يمكن أن ننعتها بأنها نابليونية، ولست أرى أنه ينقصنا - لنوقن أن السيارة عائدة باذن الله - إلا ضرب ثالث».
فقالت زوجتى متهكمة: «نعم يا سيدى.. تفضل».
فقلت بحدة: «لا تتهكمى يا امرأة.. نعم ينقصنا الضرب الشرلكمزى».
فصاحوا جميعا: «إيه»؟
فقلت: «أعوذ بالله.. مالكم تصرخون هكذا؟ نعم الشرلكمزى يا جهلة.. لو كنتم تعنون بثقيف عقولكم الفارغة قدر عنايتكم بخلافى والمكابرة معى وإنكار نعمتى عليكم وجحود فضلى.. لعرفتم أن الشرلكمزى نسبة إلى شرلوك هولمز».
فقالت زوجتى وهى تضع كفها على فمها: «طيب اسكت بقى».
فلثمت راحتها وسكت.. كما أمرت. •••
وقال سليم - أخو لولو: «إن من الواضح أن علينا أن نتفرق».
قلت: «بديهى.. حتى لا يرانا اللصوص فيخافوا.. نعم يحسن أن لا نضع شيئا يزعج اللصوص ويفسد عليهم متعتهم».
فصاح بى: «يا أخى ألا تكف عن هذا العبث»؟
قلت: «كففت بإذن الله.. تفضل.. ولكن اسمح لى أن أسأل هل تعنى أن ترسل الأطفال وحدهم فى ناحية، وأمهم وأختك فى ناحية وتذهب أنت إلى حيث ألقت، وأعود أنا إلى البيت وقد تخلصت منكم جميعا؟ إن كان هذا مرادك فأنا من الآن موافق والسلام عليكم، ولا تكلفوا أنفسكم إرسال عناوينكم».
وبعد أن هدأت الضجة التى أثارتها هذه الكلمات البريئة، قال سليم: «تأخذ أنت الأطفال وهاتين أيضا - وأشار إلى زوجتى وأخته - وتركب تاكسى وتمر أولا بمركز البوليس ثم لا تتكل عليه بل تذهب تبحث.. وأنا أذهب أبحث من ناحية أخرى».
فقالت زوجتى لسليم: «أكون أنا معك فإنى لا أكاد أطيق مزاحه فى مثل هذه الساعات.. إنه لا يفرق بين جد وهزل كل وقت عنده صالح للضحك ... شىء فظيع..».
قلت: «أشكرك.. على أنى أستطيع أن أهذب لك خطتك العقيمة..».
فقالت زوجتى: «بالله اسكت.. أرجوك.. أر.. جوووووو».
قلت: «حالا. حالا. كل شىء فى وقته يا امرأة.. وهل هذا وقت رجاء؟ إنه وقت العمل.. ألا تفهمين؟ اسمع يا هذا. تذهب أنت إلى البوليس وتعفينى من هذه المهمة التى لا أرتاح إليها ولا أعتقد أن فيها فائدة، وتأخذ معك هذه الزوجة الجاحدة الناكرة للجميل، وأفعل بعد ذلك ما تستطيع.. وإلى الملتقى فى البيت العامر إن شاء الله».
فقالت زوجتى: «أيوه.. أنا أقول لكم ماذا ينوى أن يصنع.. سيذهب إلى البيت مباشرة ولا يكلف نفسه أى عناء فى البحث عن سيارته.. وسترون».
وكنت مقتنعا بهذا الرأى حتى لقد اشتريت «صفيحة» بنزين من القناطر وضعناها معنا فى التاكسى، وقلت للولو: «لهذا فائدة أخرى هى أن يعتقد سائق التاكسى حين نتركه ونركب سيارتنا أنا ما استأجرنا سيارته إلا لهذا السبب، فلا يروح يعجب أو يسأل عن شىء ولا يبدو له شىء غريب فى عملنا».
وقد شاء الله أن يحقق ظنى، فما كدنا نقطع خمسة كيلومترات من الطريق بعد أن تركنا القناطر وأخذنا فى سكة قليوب حتى وجدنا السيارة. وأوجز فأقول أنا ركبناها فرحين، وعدنا إلى القناطر عسى أن نجد بقيتنا. فلما لم نجد أحدا تركنا لهم خبرا عند الحارس النائم، ثم حملناه معنا إلى مركز البوليس لنسرهم ونعفيهم من البحث، فعلمنا أن أصحابنا أبلغوهم خبر السرقة، وأن بعض الشرطة خرج للبحث وأن الخبر طير بالتليفون إلى قليوب والقاهرة ولجهات أخرى أيضا لضبط السارق فى الطريق. فشكرنا لهم هذه الهمة التى لم تكن متوقعة ثم قلت لهم: «إن المهم الآن هو البحث عن زوجتى».
فصاح الرجل: «إيه»؟ قلت: «إنها مع قريبى وقريبها» قال: «انتهينا».
قلت: «كلا لم ننته.. وما أدراك أن هذه ليست سرقة أخرى أفظع وأشنع»؟
فضحك الرجل.. وجرتنى لولو وهى تحتج. •••
تركنا السيارة أمام رصيف البيت وجلسنا فى الشرفة نأكل لحم الغائبين - أعنى ننتظرهما - وإذا بهما عائدان بعد نحو ساعتين فى سيارة - هى أخت سيارتنا بلا فرق - فانحدرت إلى الطريق بسرعة فوجدتهما يتأملان هذه المعجزة، فقلت: «تمام.. لقد سرقت هذه السيارة يا صاحبي، ولم أكن أعرف أن قريبى ونسيبى لص.. ولكن ماذا أصنع؟ لقد أخفوك عنى قبل أن أتزوج، فصار واجبي أن أخفيك عن أعين الناس بعد أن تزوجت».
فهم بكلام فمنعته ودعوته أن ينظر إلى السيارتين، فاقتنع وقال: «ما العمل الآن»؟ قلت: «تستعد للسجن.. لقد كان هذا واجبا من زمان طويل فى الحقيقة، ولكن ما أكثر من يستحقون السجن وهم طلقاء.. والآن اذهب بالسيارة إلى الجراج - السيارة المسروقة ثم أبلغ البوليس بالتليفون وقل له إنك عندى تنتظر حضوره للقبض عليك».
وعرفنا منهما بعد ذلك أنهما ركبا القطار ثم الترام إلى العتبة الخضراء وإذا بهما يريان السيارة عند رصيف إدارة البريد، فذهبا إليها يعدوان فألفياها خالية فركبا، وانطلقا بها من غير أن يعنيا بالنظر إلى رقمها وانحدرا بها فى شارع فاروق.. وتركا صاحبها المسكين يجرى وراءهما ويصيح ويصرخ ويستنجد، وهما يضحكان مسرورين.. بارك الله فيهما من لصين جريئين.
وقلت لهما: «لا عليكما.. ستكون العتبة الخضراء كلها عندنا بعد دقائق ببوليسها وصبيانها وباعتها.. إلى آخره.. إلى آخره.. وسيشهد الجيران وجيران الجيران أمتع رواية رأوها أو يمكن أن يروها فى حياتهم أو حياة هذا الشارع الرزين ».
وجاء الشرطة والمسروق المسكين فى تاكسى. وكان لابد أن يروا السيارة وأن ينزلوا، وكنت واقفا إلى جانبها أنتظر هذه التشريف، فقال الرجل: «هذه هى» ومسح العرق المتصبب ودنا منها وهم بأن يفتح بابها فتصديت له وقلت: «عفوا.. هل من خدمة»؟
فصاح: «خدمة؟ يا حرامى يا مجرم.. أين أخفيت شريكتك؟ المرأة التى كانت معك»؟
فنظرت إلى الشرطى وأنا أبتسم - فقد كان الموقف يتطلب الهدوء والكياسة، وقلت: «هذه سيارتى يا حضرة الشاويش، فما خطب هذا الرجل»؟
فصاح الرجل: «سيارتك يا حرامى يا صفيق الوجه»؟ - إنى أسمح لك بأن تتأملها.
فدار حولها ونظر إليها من الأمام ثم من الخلف، ثم وقف أمامى وهو يرعد وينتفض ويقول: «أما مجرم.. بسرعة غيرت أرقامها؟ ولكن هل تظن أن هذا ينفعك؟».
فبدا على وجه الشرطى التردد حينما سمع أن الأرقام مختلفة، وإذا كان المفجوع فى سيارته قد طار عقله، فإن الشرطى لا يوجد ما يدعو إلى ذهاب عقله أيضا، وقلت أنا: «المسألة بسيطة. ومن المعقول أن أغير لوح رقم المرور بسرعة، ولكن ليس من المعقول أن أغير رقم الشاسيه المحفور على محرك السيارة، فتفضل واذكر هذا الرقم بعد مراجعة رخصتك إذا شئت، ثم ارفع غطاء المحرك وانظر».
ففعل فإذا الرقم مختلف جدا، وشعر بالهزيمة وأدرك أنه تجنى على جدا فبدأ يعتذر.. فسألته: «ولكن كيف يمكن أن تخطئ إلى هذا الحد..؟ هل يعقل ألا تعرف سيارتك»؟
قال: «إنه لا فرق بينهما على الإطلاق لا من الداخل ولا من الخارج».
فقال الشرطى وهو يريد أن يفض النزاع الذى تهور فيه صاحبنا: «ما دامت السيارتان متشابهتين إلى هذا الحد فإنه معذور».
قلت: «وهل كنت تعذرنى لو كنت أخطأت مثل خطئه وذهبت أسب الناس وأتهمهم بالسرقة»؟
قال: «طبعا.. صحيح إنه تهور فى الاتهام قبل التثبت، ولكنه معذور فى خطئه فى معرفة السيارة».
قلت: «وإذا دللتك على سيارتك هل تشكرنى.. أم تستأنف اتهامك لى بالسرقة»؟
فعاد إلى الاعتذار، وأكد لى أنه يكون شاكرا جدا. فلم يبق داع للإطالة فرويت له وللشرطى القصة من أولها إلى آخرها كما وقعت، وقلت لهما إننا أبلغنا مركز البوليس أنا وجدنا السيارة الأخرى التى ظنها قريبى سيارتنا، وأن البوليس لاشك سيحضر بعد قليل ليتسلمها. وبهذا انتهى الحادث..
وقلت لزوجتى وأنا أدخل بعد الفراغ من ذلك: «هل تعترفين الآن أن الذى كان يضحك ويمزح كان هو الحكيم السديد الرأى الصحيح النظر»؟
فآثرت المكابرة وقالت إنها مصادفة واتفاق، فشهدت لولو بأنى أحسنت التقدير.. فعادت زوجتى تلوم لأنى كتمت رأيى الحقيقى وتركتها تذهب وتلف وتدور مع سليم، وأنى آثرت لها التعب ولنفسى الراحة.
فقلت: «ليكون هذا لك درسا ... ألم أقل لك أن تربيتك ناقصة»؟
فهاجوا بى وثاروا، ولكن هذا لا يعنى القراء لا قليلا ولا كثيرا.
الفصل السابع عشر
ميمى
- أنت أجمل فتاة على ظهر هذه الكرة الأرضية.. وأنا أسعد الرجال وضم إليه زوجته التى لم يمض على بنائه بها أكثر من اثنتى عشرة ساعة، فالمبالغة تغتفر له ولا ينبغى أن تسوء أحدا من بنات حواء - كل ما فيك صاغة فنان.. فخداك من المرمر الناصح - وأمر يده عليهما برفق - وردفاك حساسان ولجلدهما الرقيق اختلاج حسن تمشين كاختلاج الماء صافحه النسيم الوانى.. وثدياك راسخان لينان وأحلى فيما تحس اليد من الكمثرى.
وحنا عليها بسرعة وطبع على غلالة شفتيها قبلة حارة.. فلمعت عينا «ميمى» واتقد وجهها وصار صدرها يعلو ويهبط، ثم قالت: «لكأننا تزوجنا منذ سنين يا سليم.. أليس كذلك»؟ ولصقت به، ثم قالت: «تحبنى يا سليم»؟
فرفع رأسه وابتسم ابتسامة عريضة، وقال: «أحبك إنى مجنون بك.. لا أدرى ماذا أصنع إذا لم تكونى معى»؟
فلمعت عيناها وقالت: «من يدرى.. ربما شغلت عنى وألهيت عن ذكرى..».
فلم يدعها تتم الكلام وأهوى على فمها بقبلة. •••
وكانت «ميمى» مشهورة بقوة جذبها السريع حتى أيام كانت بنتا صغيرة. وكان غيرها من البنات أجمل منها شعرا أو أحلى عينا أو أفتن إبتسامة.. أما ميمى فلم يكن لها ما يمكن أن تقول إنه سر جمالها، وإنما كان المرء يشعر أنها فى جملتها أجمل وأسحر. وكانت قوة الجذب هذه تلفت النظر إليها وهى تلميذة فى المدرسة، وكان كل من يراها يشتهى أن ينظر إليها مرة أخرى. ولكنها هى كانت تعتقد أنها ليست على شىء من الجمال، وإن كان اعتقادها هذا لم يغرها بالتكلف. وكان الذى وجه خواطرها فى حداثتها إلى هذه الناحية أنها سمعت أمها تقول لصاحبة لها مرة: «إن ثديى ميمى كبيران جدا» وكان هذا صحيحا، فلما أقبل الليل وصارت فى غرفتها وحدها نظرت إلى صدرها فى المرآة وسألت نفسها: «أترى هذا من الدمامة؟ أهما أكبر مما يجب أن يكونا»؟ وآلت على نفسها فى تلك الليلة أن تهتدى إلى الحقيقة.
ولو أن ميمى لم تسمع أمها تقول ذلك لكان الأرجح أن لا تجرى خواطرها هذا المجرى، ولظلت على الأقل سنة أخرى لا تطلب أن تهتدى ولا تشتاق إلى هذا الضرب من المعرفة. وكان أول ما عنيت به هو أن تتأمل صدور البنات من أترابها فى المدرسة، فألفتهن جميعا إلا القليلات ذوات أثداء صغيرة نابتة ولم تكن للقليلات أثداء كبيرة، ولكنها كانت تقبل المقارنة بثدييها.
أما المقياس الحقيقى فأتيح لها فى يوم خرجت فيه مع لفيف من أهلها بينهم سليم - ابن عمها - إلى القناطر الخيرية فاتفق أن جلست على دكة هناك تحت شجرة على ربوة، فجاء سليم وجلس إلى جانبها.. فقالت لنفسها حين أبصرته يقعد معها إن هذه فرصتها، وشرعت تحاول أن تعرف منه ما تريد. أليس سليم شابا؟ فهو خليق أن يقول لها ما رأى الرجال فى حجم ثدييها. ولكن سليم حيى فهى محتاجة إلى اللف والدوران أو إلى أن تكون معه كالطلمبة الماصة لتحمله على القول الذى تنشده، فسألته: «هل تخرج كثيرا مع البنات يا سليم»؟
فقال: «إيه؟ أحيانا».
فسألته: «كم بنتا خرجت معها إلى النزهة»؟
فأطرق وقال وعينه على الأرض: «أوه.. وهل أنا أعرف؟ ربما كان عددهن سبعة أو أكثر..».
فسألته: «كلهن من حيكم»؟
فقال بإيجاز: «تقريبا».
فسألته: «ألا تعرف أحدا من غير الحى الذى أنت فيه»؟
فقال: «أعرف.. ولكن ما هى الحكاية»؟ قالت: «هل هن جميلات؟ أعنى هل قوامهن جميل»؟ فقال: «بعضهن» فقالت: «هل قوامهن أعدل من قوامى»؟
وكان صوتها وهى تلقى عليه هذا السؤال يخيل إلى السامع أنها ترجو منه أن يكون جوابه «لا» ولكنه خرج من «لا» ومن «نعم» بقوله: «لا أعلم».
ففعلت شيئا لم تكن تظن أنها تستطيع أن تقدم عليه، ولكنها أقنعت نفسها بأن الامر كله أمر بحث عن حقيقة واختبار لمبلغ الصدق فى قول أمها أن ثدييها كبيران، فقالت له وهى تمنحه فمها: «قبلنى».
وصارت شفتاه على شفتيها - لا يدرى كيف، ولكن هذا هو الذى كان - وأحس حرارة القبلة تسرى فى بدنه وتوقد النار فيه وتخزه أيضا. وانتهى الفصل الأول ورجعت ميمى إلى بيتها فى تلك الليلة وهى تشعر أن شيئا حصل تحت الشجرة اللفاء، وأن بابا يفضى إلى أسرار عويصة قد فتح لها.. فتحته قبلة واحدة ليس إلا.. وصارت تشعر بعد ذلك أنها مخلوق جديد وأن حياتها من طراز آخر غير الذى غبر.. وأصبحت تناجى نفسها وتسألها عما وراء الباب.. وتقول لنفسها إن القبلات حلوة وإنها تحسها معسولة، ولكن أهذا كل شىء؟.. لا.. فإنها تحس حنينا إلى ما لا تعرف وما لا يسعها أن تدرك، وأخيرا عرفت بعد أن بلغت العشرين وانتقلت إلى بيت سليم وارتمت بين ذراعيه. •••
وقالت ميمى وهى بين ذراعى سليم صباح ليلة الجلوة: «لقد ارتفعت الشمس.. صرنا قرب الظهر.. ألا نقوم»؟
ففتح سليم عينيه ببطء وقال: من حسن الحظ أن الزواج ليس كله شهر عسل، وإلا متنا.
فزوت ميمى ما بين عينيها وقالت: «لست أفهم ما تقول.. أليس واجبا أن تظل حياة الزوجين شهر عسل كلها.. أى أن يكون الشهر سرمدا»؟
فتنهد وقال: «إنه ليس كذلك من حسن الحظ.. أوه مستحيل.. أين من يحتمل ذلك.. أوهو.. مستحيل».
ثم عاد فقال: «لا يخب أملك.. كل شىء يفتر على الأيام.. هذا عزاؤنا جميعا».
فلم تستطع ميمى أن تفهم لماذا لا يبقى شهر العسل دائما.. ولم تدر ماذا يمنع أن يدوم، ولكنها لم تقل شيئا ولم يحاول هو أن يفهمها، وشغل كلاهما بحياتهما الجديدة فى البيت وخارجه فنسيت أن شهر العسل سيزول كما هددها سليم أو أنذرها. وكانت بعد أن تفرغ من تغيير ثيابها كل ليلة على أثر عودتهما من السينما أو الرياضة أو نحو ذلك تجلس فى حجره وتنحى ما أمامه من الأوراق وتوسعه تقبيلا، ثم تسأله: «ألا تزال تحبنى»؟ فيقول: «بالطبع.. يا له من سؤال»!
وكان النهار أثقل الأوقات على نفسها لأن زوجها يغيب فيه عنها، ولم يكن لها فى البيت عمل فإن الخدم كثيرون.. الطباخة وبنتان للكنس والمسح وما إلى ذلك. وكان بيتها شقة فى عمارة كبيرة عالية فحدث يوما أنها كانت تنتظره ليخرج بها إلى السينما، وإذا بالباب تفتحه فألفت سيدة تقول لها: «معذرة إذا كنت أزعجتك.. ولكن خادمتى أضاعت المنفضة، فهل أجد عندكم واحدة»؟
فقالت ميمى: «لا أدرى.. تفضلى حتى أسأل الخادمة».
فدخلت السيدة وهى تقول إن شقتها هى التى فوق هذه، فاستغربت ميمى فى سرها لماذا لم تذهب إلى أحد من السكان الآخرين المقابلين لها فى دورها، وحدثت نفسها أن لعلها فعلت فلم تجد عندهم ما تطلب. وقالت السيدة - كأنما ترد على هذا الذى تحدثت به ميمى إلى نفسها: «لقد رأيتك منذ لحظة تخرجين إلى الشرفة فى قميصك.. ولا يسعنى الا أن أقول أن قدك مدهش».
فسألتها ميمى: «رأيتنى؟ كيف رأيتنى وأنت فوق»؟
قالت: «رأيتك من الشرفة الأخرى.. من حسن الحظ أن زوجى ليس فى البيت ولم يرك، وإلا لكان من المحقق أن يقذف نفسه عليك».
فدهشت ميمى ولم تقل شيئا وراحت السيدة تسألها عن اسمها كله، فقد عرفت بعضه من البواب، وتخبرها باسمها هى تقول إن من الواجب أن تلتقيا كثيرا وأن تتزاورا، ثم سألتها: «هل زوجك يسافر ويغيب عنك أياما»؟ فقالت ميمى: «يسافر؟.. يسافر أين؟.. كلا بالطبع».
فقالت الأخرى: «إن زوجى لا يزال على سفر.. وقد كنت فى أول الأمر أقعد فى البيت ولا أبرحه يوما بعد يوم انتظارا لعودته. وقد ضاق صدرى ولم أعد أطيق ذلك، فلن تجدينى فى البيت حين يتركنى ويرحل».
فأحست ميمى أنها تحتاج إلى حماية من هذه الجارة، وألفت نفسها تلف الروب دى شامبر على صدرها وإن كانت مع ذلك لم تستطع أن تمنع نفسها أن تسأل جارتها: «أين تذهبين حين يغيب عنك زوجك»؟
فقالت الجارة بابتسامة وضيئة: «أوه فى أى مكان.. الأصدقاء يتكفلون بذلك».
فصاحت ميمى: «الأصدقاء.. أى أصدقاء»؟
فقالت الجارة: «بالطبع يا طفلتى العزيزة.. وأى بأس فى ذلك»؟
فقالت ميمى: «ولكن زوجك؟ ألا يسوءه هذا؟ ألا يغضبه أن تخرجى مع رجال»؟
قالت الجارة: «يغضبه؟ وماذا تظنيه يصنع وهو مسافر؟ يقضى الوقت فى المسجد؟ كلا إنى أعرف ما يصنع».
وصارت هذه الجارة معلمة لميمى. وكرت الأيام فأصبحت لا تبالى تقصير سليم معها، ولا تحفل ما تراه من فتوره حين يعود إلى البيت متعبا. وتكررت زيارات الأتراب لها فجأة بفضل الجارة الحاذقة التى أدركت أن ميمى غريرة لا عهد لها بهذا الضرب من حياة المرح، وما لنا لا نقول حياة الاستخفاف.. فبدأت معها بتبادل الزيارة ثم صارت تزورها ومعها أتراب لها، فتحتاج أن ترد الزيارات وتخرج إليهن، وارتقت من ذلك إلى دعوتها إلى التنزه والخلوات، ولم تكن الجارة تعدم سيارة تستعيرها بسائقها من بعض من تعرف من الرجال، وكانت تحرص فى هذه الرحلات الأولى على أن تكون قاصرة عليهن، ثم صار يتفق أن يلتقين فى هذه الرحلات إلى الأهرام أو الماظة أو غيرهما ببعض «أقارب» الجارة، فيحصل التعريف الذى تقضى به الآداب، وهكذا إلى أن ألفت ميمى أن تكون مع الرجال كما ألفت أن تخرج مع النساء. وكان الزوج غافلا عن ذلك فى أول الامر. وكانت ميمى إذا آن أن يناما تدنو منه وتلصق به فيتثاءب ويعرض عنها. وكان ربما زجرها عن ذلك وقال لها بعنف إنه محتاج إلى النوم، وكانت هى فى أول الأمر يشق عليها إعراضه وتحس بحزة فى نفسها فتبكى، فلما توثقت الصلات بينها وبين الجارة لم تعد تبالى هذا الفتور. وظن سليم فى بادئ الأمر أن زوجته «هداها الله» حتى كانت ليلة فأقبل عليها يريد أن يقبلها وفتح لها ذراعيه ليضمها، فلم تحرك ساكنا ولم يبد عليها أنها راغبة فى ذلك فعجب وسألها: «مالك»؟ قالت: «لا شىء.. ما لك أنت»؟ قال: «ألا تقبليننى»؟
فمطت شفتيها وهزت كتفيها وقالت: «إنك تحتاج إلى النوم وأنا لا أريد أن أقبل أحدا».
فلم يفهم وألح عليها بالكلام، فبدرت منها كلمة فهم منها أنها لا تباليه، فنظر إليها محدقا فى وجهها وقال: «مع من تخرجين؟ من هؤلاء الأصدقاء أو الصديقات اللواتى ظهرن فجأة»؟
فقالت: «لم تعد الحقيقة.. أصدقاء وصديقات.. ومن الجنسين.. ولكنك تكون نذلا إذا أسأت الظن.. ولا أكون أنا بنت أبى وأمى إذا احتملت منك ذلك».
فذهل - وإن كان عنفها قد طمأنه - وقال: «ولكن.. ماذا جرى لك»؟
قالت: «لم يجر لى شىء.. إلى الآن.. لا أزال ميمى التى تعرفها وإن كنت قد تعلمت أشياء كثيرة، ولكنه سيجرى لى على التحقيق أشياء كثيرة إذا بقيت تهملنى.. ثق أنى تعلمت ولكنى لم أعمل بما تعلمت إلى الآن.. سأعمل حتما.. فهل ترضيك هذه الصراحة»؟
فقال: «لقد كنت طول عمرك جريئة».
وانحط على كرسى، فقالت: «جريئة أو غير جريئة.. سيان.. المهم أنك دفعتنى إلى التعلم.. وأخشى أن تدفعنى إلى ما هو شر.. وقد أنذرتك.. وأنت ورأيك.. ولكن لا تلمنى حينئذ».
فأطرق يفكر وطال تفكيره وأحس أنه واقف على حرف هاوية، وكان قلبه يخفق بشدة وعنف غير أنه كان يبدو للمتأمل هادئا ساكنا، وجرى بخاطره أن ميمى على حق، وراجع نفسه وهو قاعد ورأسه مثنى على صدره وعينه على الأرض، وتذكر أن ميمى كانت أبدا جريئة مجازفة.. ألم تدعه إلى تقبيلها مرة؟ ولكن كيف عرفت هؤلاء الناس.. من الرجال والنساء على السواء.. ولم يرتب قط فى صدقها، ولم يخالجه أدنى شك فى أن الأمر اقتصر على اللقاء والتنزه، وأنه لم يقع بينها وبين أحد من هؤلاء الرجال ما لا يحمد فإن ميمى صريحة لا تهاب شيئا ولا تخش أحدا. ولكن كيف عرفتهم.. وقال لنفسه إنها عرفتهم لأنه أهمل أن يكون معها ولأنه كان يتركها وحدها ويقضى سهراته مع الإخوان وفى ظنه أنها ستقنع برفقة الخدم. هذا هو يستنكر كيف عرفت هؤلاء.. والمهم الآن هو إنقاذها من الهاوية وإنقاذ نفسه معها. ونهض ومشى إليها وهو يمد يده ويتناول كفها: «سامحينى يا ميمى.. لن أهملك بعد اليوم».
فرفعت رأسها وحدقت فى عينيه، وقالت: «صحيح..؟ لا تتركنى وحدى»؟
فقال وهو يميل عليها ويدنى فمه من فمها: «كيف يمكن..؟ وأنت هل رجعت إلى..؟ هل أرجو أن أراك كما كنا»؟
وفى هذه اللحظة دق التليفون فمدت يدها وتناولت السماعة، وقالت: «اللو.. نعم..؟ زكيه؟ معك من..؟ حمدى..؟ آسفة.. يا زكية مشغولة.. نعم.. معى صديق قديم عاد إلى.. تريدين أن تعرفى من يكون.. اسمعى إنه أحب الناس إلى.. لا أستطيع أن أعرف أحدا ما بقى هذا الصديق لى.. من هو..؟ سليم.. ألا تعرفين سليم.. لم تسمعى به قط.. معذرة.. زوجى يا بلهاء.. معذرة.. لا.. لا أمل فى لقاء أحد بعد اليوم. كلا.. لا تتعبى نفسك لا أنت ولا غيرك.. أعنى هذا.. تماما.. مع السلامة».
والتفتت إلى زوجها وقالت: «فهمت أنى لا أريد منها ولا من غيرها زيارة فغضبت».
فلم يقل سليم شيئا بل انحنى عليها وحملها بين يديه ومضى بها إلى الأريكة الواسعة وهى متعلقة به تضحك له وتقبله راضية.
الفصل الثامن عشر
ليلى
وقفت ليلى أمام المرآة تصلح شعرها، وتضع فيه المشابك وتسويه براحتها وأناملها، وتثنى شعرات منه هنا وترد أخرى إلى مكانها هناك، ثم تناولت المثبنة وفتحتها ونظرت فيها هنيهة ثم قلبتها على المنضدة ونفضتها بأطراف أصابعها، ثم نحتها وراحت تتأمل ما أفرغته منها. ثم هزت رأسها آسفة، وشرعت ترد الأشياء إلى الحقيبة: المشط والمنديل وثلاثة طوابع بريد بثلاثة ملاليم.. لا شىء غير ذلك.. حتى ولا أجرة الترام إلى عملها الجديد الذى فازت به. وما غناء ثلاثة من طوابع البريد بثلاثة ملاليم.. لو كانت عشرة لباعتها وركبت، إن المسافة طويلة من حدائق القبة إلى شارع سليمان باشا. ولو كانت عشرين لباعتها أيضا - لتركب - فإن المشى يسهل أن يحتمل إذا كان معها قرش تأكل به. كلا.. لابد أن تصبر على الجوع، وأن تتجلد وتحتمل المشى مع الطوى، وما بقى سوى يومين ثم تقبض أجرها عن هذا الأسبوع الأول. ولكن هل تستطيع أن تحتمل الجوع وتعب العمل والمشى يومين كاملين؟ وأبت أن تفكر فى هذا وأن تدعه يثبط همتها وقالت لنفسها إن حسبها أنها وفقت إلى عمل، وأنه فى وسعها أن تظل حية إلى اليوم. وهبطت على كرسى وهى تقول «آخ» لا من التعب بل مما ستلقى فى يوميها هذين. ومر أمام عينيها كشريط السينما ما كان من أمرها إلى الساعة، فقد تخرجت فى المدرسة السنية ولكنها لم تشتغل بالتدريس.. فقد أحبت فتى رشيقا أغراها بنفسه ووعدها بالزواج وكرر الوعد وأكده وأقسم على الحفاظ - وما أسهل بذل هذه الوعود على الشبان - حتى فاز منها بما يبغى. وألحت عليه تطلب منه الوفاء. وتوسلت إليه، وبكت وقبلت يديه ورجليه. ولم يكن هو ينوى الوفاء، ولا كان هذا فى وسعه.. فما كان سوى عامل فى مصنع، وإن كان مظهره يوهم أنه من الوجهاء. ولم يكن يدرك ما تورط وورطها فيه - وماذا عسى أن يخشى مثله؟ ولكنها هى كانت لا يخفى عليها ما هى صائرة إليه من الفضيحة لا محالة إذا لم تعجل بالتدبير المنقذ. وليتها أطلعت أمها على ما كان من أمرها مع هذا الفتى.. ولكن ما جدوى «ليت» بعد ثلاث سنوات قضت فيها الحسرة على الأم المسكينة ولم ترقق قلب أبيها الغليظ؟ وكانت ليلى تخشى ضعف أمها وقوة أبيها فلم تجد أمامها الا فتاها تلقى بنفسها عند قدميه باكية متوسلة، وهو يرى تضعضعها هذا فيتجبر ويتغطرس ويتحكم ويدعوها أن تفر معه. وتتردد وتحجم عن هذه الخطوة الحاسمة التى لا رجعة بعدها إلى أهلها، فإن أباها عنيف عنيد يؤثر أن يقتلها على أن يقبلها فى بيته. بل هو لا محالة قاتلها إذا عرف الحقيقة، وإذا أطاعت فتاها وفرت. وسيعرف الحقيقة إذا بقيت فالفرار أنجى. وقد لا يكون أشرف، ولكنه سبيل الحياة إذا شاءت أن تبقى حية. وقد كان ... فرت مع هذا الفتى وحملت معها فى حقيبة الثياب حليها وشيئا من حلى أمها أيضا، وقد نفعها ذاك فما أقامت مع الفتى إلا أياما فى فندق زرى، وكان ظنها أنها ذاهبة إلى بيته، وأنها ستكون زوجة له، فيكون مما يرجى، أن تغتفر زلتها على جسامتها.. فإذا بالفتى لا يريد إلا أن يقضى أياما فى متعة خالصة ثم يلقى بها عظمة بعد أن أكلها لحما. فكادت تجن ... واغتنمت فرصة خروجه من الفندق يوما، فحملت حقيبتها وأدت حساب الفندق، وانطلقت على غير هدى. وصارت المسألة «أين تذهب»؟ بيت أبيها لا سبيل إليه، وأترابها فى المدرسة ... كلا، هذا أيضا ممتنع. وتذكرت وهى واقفة فى محطة للترام صديقة لها كانت من جيرانها فى زمن الحداثة، وهى الآن «حكيمة» فى قصر العينى. ولكن الحكيمات فى هذا المستشفى يبتن فيه ولا يخرجن إلا أياما معلومة، فما العمل؟.. ولم يطل ترددها فذهبت إلى العيادة الخارجية، وسألت تلميذة لقيتها فيها عن صاحبتها، واتفق أنها كانت تعرفها فدلتها عليها وأنبأتها أنها تعمل فى قسم الرمد، وكتبت إليها ورقة بعثت بها مع خادم أو «تمورجى» كما يسمى فدعتها الحكيمة إليها.. وكانت هذه المقابلة بداية الفرج.
أقامت ليلى بعد ذلك مع أهل الحكيمة، وكانتا تلتقيان يوم الأحد ويوم الخميس والجمعة إلى المساء - كل أسبوعين مرة - وكانت ليلى ربما اشتاقت إلى صديقتها فى أيام عملها بالمستشفى فتذهب فى الظهر أو فى الساعة التاسعة لتراها وهى خارجة من المستشفى فى طريقها إلى «الهوستل» حيث الطعام والنوم، فتحدثها دقائق ثم تكر راجعة إلى البيت. وكانت المسألة التى تشغل البنتين هى كيف ينبغى أن تحيا ليلى. فقد كان مفهوما أن إقامتها فى بيت صاحبتها ليست سرمدا، وإن كانت تنفق على نفسها من ثمن ما تبيعه من الحلى.. فإن لهذا آخرا على كل حال. وكان مما فكرا فيه أن تعمل فى عيادة أحد الأطباء، ولكن ليلى أشفقت أن تلتقى عنده بأحد من أهلها أو معارفها. وخطر لهما أن تعمل فى مصلحة التليفون ولكن السعى أخفق ولم تجد وساطات الأطباء الذين استعانت بهم «الحكيمة» فقد تحول التليفون وانقلب. «أوتوماتيكيا» فما الحاجة الى بنات جديدات؟ وخشيت أن تشتغل بالتعليم فى مدرسة أهلية فيهتدى إليها أبوها، وكان خوفها من ذلك عظيما. وأخيرا اقترح عليها طبيب أن تتدرب على الآلة الكاتبة، ففعلت وأتقنت ذلك حتى صارت تكتب ثمانين كلمة فى الدقيقة، وأعانها الطبيب وألحقها بمكتب يتلقى طلبات «النسخ» ولكن العمل كان قليلا لأن أكثر ما كان يطلب كان باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وكانت تعرف الإنجليزية فقد تعلمتها فى المدرسة، فلم يسعها الا أن تتدرب على كتابتها على آلتها، وسهل عليها بعد ذلك أن تستطيع «نسخ» الفرنسية أيضا، فإن الحروف واحدة وإن كان جهلها بهذه اللغة قد جعلها أبطأ. غير أن السرعة يمكن أن تجىء مع الوقت.
واستغنت على الأيام عن المقام فى بيت صديقتها، وإن كانت صلتها بها قد بقيت وثيقة فإن فضلها عليها كبير، وجميل صنعها معها ليس مما يجحد ولا مما ينسى، حتى لو نزعت نفسها إلى الكفران. وأفلس المكتب فانتقلت إلى سواه بعد عناء، على الرغم من أنها أصبحت معروفة فى هذا المحيط.. محيط الكاتبات الناسخات. وكانت حليها قد ذهبت جميعا فى نفقات الحياة وأجور التعليم وسد النقص.
وها هى ذى الآن قد التحقت بمكتب جديد، بعد أن ظلت عاطلة شهرين أكلت البطالة فى خلالهما القليل الذى كان مدخرا.
ونهضت عن الكرسى وهى تتنهد، وتناولت حقيبتها لتخرج إلى عملها. وكانت الساعة السابعة.. فأمامها ساعة كاملة للمشى إلى المكتب، وقد عرفت بالتجربة أن الساعة فوق الكفاية، ولكن فسحة الوقت خير من ضيقه. ومضت إلى بابها لتفتحه وتخرج، وإذا بقرع خفيف عليه.. فقالت: «تفضل»، فدخل رجل بدين وسلم وقال: «أراك خارجة» فقالت: «نعم» وهمت أن تقول أنها مضطرة إلى التبكير، ولكنها كبحت نفسها فما يعنيه هذا، فقال: «أجرة الغرفة عن ثلاثة أسابيع.. ألا يمكن أن تعطينى منها شيئا على الحساب»؟
فقالت: «آسفة.. وإنى لشاكرة لك هذا الصبر كله.. والعطف أيضا.. وبعد يومين.. أقبض أجرة الأسبوع فأعطيك شيئا».
قال: «إنك تحرجيننى مع زوجتى.. هذا الصبر الطويل ليس له عندها إلا معنى واحد. وقد أنذرتنى اليوم.. وعبثا أحاول أن أفهمها الحقيقة.. لا تريد أن تفهم.. كل ما تعرفه أن الأجرة تأخرت ثلاثة أسابيع. وكل ما تريده هو أن تؤدى إليها هذه الأجرة أو تخرجى اليوم».
قالت: «ألا يمكن أن تمهلونى يومين اثنين.. أين أذهب إذا خرجت اليوم.. ليس لى مكان آخر». فهز الرجل كتفيه الغليظتين، ولم يقل شيئا.
فدنت منه ليلى، وقالت: «أرجو أن تمهلنى.. كن شفيعى عندها».
فقال: «لو كان الأمر إلى لما تقاضيتك شيئا قط.. ولكنك تعرفين زوجتى.. ولست أعرف لى حيلة».
قالت: «ولكن كيف أستطيع أن أعطيك اليوم شيئا؟ لا أعرف أحدا أقترض منه. ولا يمكن أخذ شىء من المكتب إنى جديدة فيه».
فقال: «اسمعى، لو لم تكونى بلهاء لأمكن تذليل كل هذه المصاعب، ولكن لم أر فتاة مثلك».
فقالت: «ماذا تعنى؟ كيف يمكن تذليل الصعاب»؟
فأراح كفيه الغليظتين على كتفيها، وقال: «أنا أستطيع أن أدبر الأمر إذا طاوعتنى». فهزت رأسها غير فاهمة، فقال: «تعالى».
وطوقها بذراعيه، وأدنى شفتيه الممطوطتين من فمها.. فحاولت أن تنأى عنه، ولكنه جذبها إليه بقوة، فحولت وجهها عنه، فذهبت تعبثان فى نحرها وكتفها، وكانت يده اليسرى تتحسس صدرها وتقف وتتكور على ثديها الراسخ، فكاد عقلها يطير وتفلتت من عناقه بعنف، وارتدت راجعة إلى آخر الغرفة، وهى تلهث وتنهج، كأنما كانت تجرى وصدرها يعلو يهبط كالموج من جهد المقاومة ومن الغضب أيضا، وكان هو ينظر إليها نظر النقمة والغيظ فصاحت به وهى ترتجف: «إذا لم تخرج من هنا فسأصرخ».
فزام وهز رأسه، وقال وهو يدور ليخرج: «طيب.. سنرى.. أما أن تدفعى اليوم، وإلا فاخرجى أنت».
فلم تقل شيئا.. وماذا عسى أن تقول؟ ••• - بونجور. - بونجور ... خذى هذا العنوان واذهبى إليه حالا ... عمل مستعجل ... الرمنجتون ذهب بها أحمد ... العمل يستغرق يومين ... ثلاثة ... المهم الاتقان ... يجب أن يكون راضيا.. فاهمة؟
فذهبت ولم تسأله أهو عربى أم أفرنجى.. وماذا يهم .. كله عمل.. آلى. ودخلت الشقة فإذا هى بيت لا مكتب، وقالت للخادم النوبى: «إنى من محل ...».
فاكتفى بأن يشير إلى غرفة المكتب، فجلست على كرسى من الجلد كبير وثير.. وأدارت عينها فى الغرفة، فلم تر فيها أثاثا غير كرسى آخر كالذى جلست عليه. وحول الجدران رفوف كثيرة عليها كتب لا تحصى، وفى الركن مكتب أنيق، وفى وسط الغرفة منضدة صغيرة مما يستعمل للشاى وضعت عليها «الرمنجتون» فتوقعت أن ترى رجلا عالى السن، وأدهشها أن يدخل عليها شاب يناهز الثلاثين، وأن تعلم أن هذا هو الذى جاءت لتعمل له ولتنسخ ما يشاء.
وقال برقة لا تكلف بها: «قهوة»؟
قالت: «أشكرك.. فيما بعد.. بماذا تأمر؟..».
فقال - وهو يناولها ملفا ضخما: «فى كم يوم يمكن الفراغ من نسخ هذا كله»؟
فقلبت الأوراق ونظرت فى الخط والسطور، ثم رفعت رأسها إليه وقالت: «صعب أن أقول كم يستغرق.. ولكن.. بعد ورقة أو اثنتين أستطيع أحكم حكما قريبا من الصحة».
فهز رأسه وهو يبتسم وتحول عنها، ثم خطر له خاطر، فدار على عقبيه بسرعة وسألها: «يهودية»؟
فابتسمت وقالت وهى تهز كتفيها: «لأنى شقراء»؟
فقال: «إذن أنت..».
فأراحته من عناء التخمين، وقالت: «مسلمة».
فقال وهو يهز رأسه بعنف: «أنا أيضا مسلم».
فلم تقل شيئا واجتزأت بالابتسام وشرعت ترفع غطاء الرمنجتون، وتركها هو وذهب فجلس على الكرسى الآخر، ثم رآها تتلفت فى الغرفة، فنهض وهز رأسه مستفسرا، فنهضت هى أيضا وقالت: «لا تتعب نفسك.. أظن أن فى وسعى أن أجد كرسيا من الخيزران فى..».
فقال وهو يعدو إلى الباب: «بالطبع.. أما أنى لمغفل..».
وعاد بالكرسى وهو يقول ضاحكا: «لكأنما كنت أظن أنك ستجلسين القرفصاء وتكتبين على حجرك.. لم تشهدى ذلك العهد بالطبع.. لا يمكن فإنك ما زلت صغيرة.. أوه جدا.. ولكن أين تعلمت الكتابة على هذه الآلة؟.. معذرة إذا كنت أتطفل، ولكن المصريات يندر.. جدا أن تعنى واحدة منهن بذاك».
قالت: «أضطررت أن أتعلم.. صنعة فى اليد أمان من الفقر ...». وابتسمت، فقال: «أهو ذاك ؟ معذرة، كان سؤالى فضولا منى لا يغتفر ... سامحينى».
فسرها منه هذا الأدب، وقالت: «ليس هذا سرا.. ألست أعمل؟ لست هاوية بالطبع».
فقال: «إذا كنت تعملين فى مكتب.. فإنك ولا شك تعرفين لغة أجنبية أو اثنتين.. ف.. ف..».
قالت: «أعرف الانجليزية.. وأصبحت أعرف من الفرنسية ما يكفى للنسخ.. وأتكلمها أيضا، فإننا جميعا نتكلمها هناك».
فقال: «أوه لست أريد أن أفتح لك محضر تحقيق.. معذرة مرة أخرى». ورفع يده إلى جبينه العريض ومسحه، وقال: «هذه أول مرة أرى فيها مسلمة تشتغل بالنسخ - وضحك - أرانا نتقدم.. أليس كذلك»؟
وكانت قد شرعت تدق على الآلة الكاتبة، فاكتفت بالابتسام..
وتركها هو بعد ذلك وخرج بعد أن قال لها أن فى وسعها أن تطلب ما تشاء من الخادم.. أى شىء.. قهوة.. شاى.. أكل.. كل ما فى البيت تحت أمرها..
ولكنها لم تطلب من الخادم شيئا، ولم تقلق راحته بل أقبلت على الآلة تدق وتدق بسرعة ثمانين كلمة فى الدقيقة، وتخرج له من كل ورقة نسختين. واستغرقها العمل، ووجدت فيه متعة لا عهد لها بها فى مثله.. فقد كانت هذه رواية تنقلها - استعدادا لطبعها ولا شك - وكانت الصور التى يرسمها المؤلف - هذا الشاب الوسيم المؤدب - تتجسد لها، والمواقف تتمثل وهى تدق وتدق بسرعة ثمانين كلمة فى الدقيقة. وكانت نفسها تجيش بمثل العواطف الموصوفة والإحساسات المصورة، فتضحك تارة، وتخنقها العبرة تارة أخرى، وتعبس حينا.. وترى نفسها تنطق الألفاظ التى تدقها بقوة وعنف كأنها تمثل ما تقرأ أو كأنما كان الأمر حقيقة لا خيالا. وكانت بعد ورقة تلقى فى السلة على المكتب، وهى ذاهلة عن كل شىء. فما قامت مرة، ولا تمطت لتريح أعضاءها المكدودة وتحرك أصابعها التى كادت تتشنج وتتصلب أو تتخشب، ولا شعرت بظمأ أو جوع، ولا كان لها بال إلا إلى هذه الرواية التى تقرأها وهى تنسخها. ولقد كانت مشغولة أيام المدرسة بالروايات والقصص، ولكنها منذ ثلاث سنوات لم تقرأ رواية، وإن كانت قد ذهبت مرارا إلى السينما - وهى مطمئنة - فإن أباها من ألد أعداء السينما . ومع ذلك كانت تتحرز وتلقى على وجهها نقابا خفيفا شفافا، حتى حين تمشى فى الطريق كانت تتنقب زاعمة أن هذا وقاية من الشمس والتراب.
ولم تشعر بعبد الحميد - فقد كان هذا اسمه - حين دخل عليها، ووقف ينظر إليها أكثر من دقيقتين. فلما رآها لا تنظر إليه ولا ترفع عينها إليه عن الورق ولا تتمهل أو تتباطأ فى العمل، قال: «معذرة.. إن هذا انتحار».
فرفعت رأسها حينئذ، وقالت: «أوه.. لم أرك لما جئت.. كلا.. إنى على العكس مسرورة.. وأعترف لك بأن هذه أول مرة سرنى فيها عملى ... رواية مدهشة».
فقال وهو ينحى كفيها عن الرمنجتون: «قد تكون الرواية مدهشة.. ولكن أبعث على الدهشة أن لا يحتاج الإنسان إلى راحة.. تفضلى وقومى، أريحى جسمك قليلا على هذا الكرسى» وتناول ذراعها لينهضها، فقالت وهى تقوم: «صدقت.. أستريح دقيقة».
فقال وهو يمضى بها إلى الكرسى: «تستريحين تماما».
فقالت، وهى تجلس على الكرسى: «ولكنى أريد أن أعرف بقية الرواية».
فقال: «اضطجعى أولا.. أنا أقص عليك البقية.. ألخصها لك فى ألفاظ قليلة».
قالت: «كلا، هذا يفسدها ... إنى أريد أن أقرأها».
قال: «إذن أقرأها لك». قالت: «تتعب.. دعنى أقرأها أنا وأنا أستريح». قال: «بعد الغذاء.. الوقت طويل».
فقالت: «الغذاء..؟ كلا.. اسمح لى أن أخرج وأعود فى الساعة الثالثة كالعادة».
قال: «ولم لا تبقين وتتغدين هنا..؟ قولى إنك باقية».
قالت: «لا أستطيع.. سأعود بالطبع بعد الظهر».
وكانت تعلم أنها مفلسة، وأنها لا تستطيع أن تذهب إلى بيتها - حيث ذلك الرجل الخشن الفظيع - وهبه ليس فيه، فما تصنع هناك؟ وإذا لم تذهب إلى البيت فأين يمكن أن تذهب؟ هذا شاب يعرض عليها أن يطعمها وأن يريحها من الأنياب التى تمزق أحشاءها ويعفيها من الشعور الثقيل بالقرص والعض فى جوفها، فلم لا تطيع وتقعد وتأكل؟ وأحست وهى تدبر هذا فى نفسها بالدموع تترقرق فى مآقيها أمامه.. فقرضت أسنانها وشدت أعصابها ونهضت متحاملة على نفسها. فقال: «إلى أين؟.. لا يمكن أن تخرجى.. عيب.. لا يليق».
فقالت بضعف، فما بقيت فى بدنها ذرة من القوة بعد أن أنفقت البقية فى المكابرة: «أرجو..» ولم تزد، فقد هوت كالجثة أو كأنها ثوب فارغ.
ولم يكن هذا مما يجرى لصاحبنا فى حساب، فلم ينتبه إلى ما حدث إلا بعد أن ارتمت على الأرض.. بعضها على الكرسى، وسائرها على السجادة. فانحنى عليها وحملها وأراحها على الكرسى، وخرج يعدو ويصيح: «محمد. محمد. تعال حالا..» ولم ينتظره بل ذهب إلى غرفة النوم، وجاء منها بزجاجة من الكولونيا رش منها على وجهها الأصفر، وأقبل على راحتيها يدلكهما وخلع حذاءيها وجوربيها، وراح يدلك قدميها أيضا بالكولونيا ومحمد واقف ينظر وينتظر الأوامر التى لا تصدر ولا يصنع شيئا.
بعد لأى ما، بدأ الدم يعود إلى وجهها الممتقع.. فتنفس عبد الحميد الصعداء واطمأن. وفتحت ليلى عينيها وأجالتهما فيما حولها بفتور، ثم تنهدت ووسعها أن تتكلم. فقالت: «لم يحدث لى هذا أبدا».
فقال بشىء من العنف: «كان جميلا جدا أن يحدث لك هذا فى الشارع.. هه». فابتسمت، وقالت: «أشكرك، إنى آسفة ... هذه أول مرة». فقال: «محمد. خذ هذه الزجاجة وضعها فى مكانها.. والآن لا يسعنى - وقد خرج محمد - إلا أن أوجه إليك سؤالا ثقيلا ... باردا فى الحقيقة ... ولكنه واجب ... متى أكلت آخر مرة؟ احذرى أن تكذبى».
قالت: «لا داعى للكذب.. أمس، الظهر».
قال: «لقد ظننت ذلك..». قالت: «كيف عرفت؟».
قال: «أوه المسألة فى غاية البساطة.. ليست المسألة فراسة، ولكنها مسألة ضم قرينة الى قرينة.. مررت بمكتب.. واستدرجت صاحبه إلى الكلام عنك، فقال إنك معروفة فى مكاتب النسخ وإن كنت من الجديدات عنده.. هذا يومك الخامس فى مكتبه، وأثنى عليك وطمأننى كأنما كنت أحتاج إلى ذلك، فلما أغمى عليك الآن أدركت أن هذا من التعب والجوع ... ألا ترين أنى أصلح للقيام بدور سنكلر أو شرلوك هلمز»؟
فضحكت وقالت: «لماذا سألت عنى»؟
فقال: «قبل أن أجيبك، يجب أن تنتظرى قليلا حتى أعود إليك».
وخرج وتركها، فراحت تفكر مسرورة فى هذا الشاب. نعم هو شاب، وإن كان الأرجح أنه جاوز الثلاثين. وفى رقته ودعته، وفى مروءة نفسه وحسن أدبه، وفى براعته فى فن الرواية، براعة جعلتها تعمل كما لم تعمل قط فى حياتها، وفى وسامته، وفى هذا السحر الذى ينطلق من عينيه فينفذ إلى القلب، ثم تنهدت آسفة.. سحر أو لا سحر ... سيان، لا شك أنه يعجب بها، هذا واضح. ولكن ما قيمة هذا الإعجاب؟ وهبه أحبها فما أملها معه إلا أمل الخليلة، وهيهات أن ترضى ذلك. ولو كانت ترضى ذلك، لما فاتها ما فاتها من الفرص، ولا كانت خسرت ما خسرت من الأعمال، فما كان أكثر أصحاب الأعمال الذين طمعوا فى هذا النوع من العلاقة، فلما خيبت أملهم ألقوا بها فى الشارع، وحسبها زلة واحدة فى حياتها أورثتها هذا الشقاء الطويل.
واختصرت زفرة طويلة، فقد دخل فى هذه اللحظة محمد وأمامه سيده.. الخادم يحمل سلطانية متوسطة فيها مرق، والسيد يحمل فوطة، وقال السيد: «اشربى هذا حالا».
وطرح الفوطة على حجرها ففعلت كما أمر، وقال: «هذا يكفى الآن.. بعد طول الطوى، يحسن التخفيف حتى لا تتعب المعدة».
فقالت وهى تضحك: «لا تبالغ، إنه يوم واحد ليس إلا».
قال: «هذه الشجاعة التى تظهرينها تسرنى وتعليك فى عينى، ولكنها تكلف على كل حال».
فقالت مستغربة: «تكلف ... أبدا».
قال: «إن الذى أعنيه هو أن الشجاعة لا تكون إلا تكلفا شىء يحمل الإنسان نفسه عليه، هذا ما أعنى».
فسألت: «ولكنى لست فاهمة».
قال: «نؤجل الدرس إلى وقت آخر. ونتحدث الآن عنك.. قولى ما اسمك». فقالت: «فريدة». قال: «ينطقونها فى المكتب «فريدا».. ما علينا.. هل هذا اسمك الحقيقى»؟
قالت: «ولماذا تظن أنه ليس اسمى»؟ قال: «ما رأيت من شجاعتك يحملنى على هذا الظن.. أنت بنت ناس».
قالت: «كل الناس أبناء ناس». فضحكت، فقال: «أعنى أنك تشعرين بكرامة تحرصين عليها».
قالت: «هل أنا الوحيدة التى تفعل ذلك»؟ قال: «أعترف أنى انهزمت ... عندى كلام كثير ... حجج ... ولكنى أوثر الهزيمة ... فما قولك أن نكون صريحين»؟
فضحكت.. ولم يكن ضحكها مسرورا، بل عن شعور بالضعف وبالاضطراب الذى أدركت أنه سيدفعها إلى الاعتراف بكل ما فى نفسها، فقال: «قولى لى اسمك الحقيقى.. سأحتفظ به».
فأقرت من حيث تريد المكابرة، وقالت: «ولكن ما الفرق بين اسم واسم..؟ كله اسم».
قال: «ها.. لقد صح ظنى، والآن اسمك الحقيقى. لقد وعدتك بكتمانه فهل تستطيعين أن تثقى بى»؟ قالت: «نعم، ليلى» قال: «ليلى، ليلى ماذا». قالت: «ألا تعفينى؟ لست أشعر أنى أستطيع المقاومة إذا ألححت ارحم ضعفى».
فقال: «بالطبع ... معذرة ... لست أريد أن أستغل ضعفك ... كلا، اغفرى لى فضولى، فإنه ليس عن خسة بل عن».
وأمسك مترددا، فقالت وقد رأت تردده وأدركت بغريزتها الذكية دلالته: «عن».
فقال: «عن حب ... لقد قلتها ... قولى عنى مغفل. ما شئت قوليه.. ولكنها الحقيقة، وقد استرحت الآن، رفعت عن صدرى حجرا.. تنفست.. عجيب ولا شك.. هى دقائق رأيتك فيها.. ولكنى مع ذلك أحببتك كأنى عرفتك من قبل أن أخلق، كأنما كنا معا فى عالم آخر قبل هذا. ولست أقول هذا لأخدعك. وإنى لأعلم أن الرجل يستطيع أن يخدع المرأة بتمثيل دور العاشق، ولكنى لا أحاول خداعك ولا مطمع لى فيك، كل ما أعرفه أنى أحببتك، قد يكون هذا شعورا وقتيا يفتر بعد قليل أو كثير، وأى حب لا يفتر؟ على كل حال لا أعلم، أعرف فقط أنى أنا فوجئت بهذا الحب الذى غمر نفسى وشاع فيها علوا وسفلا ... انظرى إليه كيف شئت ... باستخفاف إذا أردت أو لم يسعك غير ذلك. ولكن صدقينى، فإنى أحتمل الاستخفاف، ولكنى لا أستطيع أن أحتمل التكذيب. كلا»!!
فقالت ببساطة: «إنى أصدقك» فصاح بها: «إيه»؟ قالت: «ألم تسمع؟ هات أذنك وأنا أصيح لك فيها ... صدقتك ... هل سمعت الآن؟ لالالالا ... صدقتك معناها صدقتك فقط..».
وعرف اسمها الكامل اسم أبيها أيضا، فقال وهو يمسح جبينه: «انظرى ... أليس والدك هو الذى كان ضابطا فى الجيش»؟
قالت: «هو بعينه» قال: «وكان يسكن فى شارع ...».
قالت: «هذا هو البيت الذى ولدت فيه».
قال: «غريب.. لقد كان أبى رحمه الله صديقا جدا لأبيك. ولداهما يلتقيان الآن.. غريب. ماذا حملك على ترك أبيك؟ أسمع أنه كان عنيفا». قالت : «لأنى خفت عنفه ... اسمع ... سأقص عليك حكايتى كلها ... لم يبق بد من هذا. وأحببنى بعد ذلك إذا استطعت، ربما كان هذا لازما لتشفى».
وقصت عليه الحكاية ولم تكتم شيئا ولم تحاول أن تهون من زلتها. وكان يصغى وهو مطرق، فلما فرغت قالت: «والآن يمكنك أن تبلغنى أنك دفنت حبك المباغت لهذه الفتاة الطائشة».
قال: «لقد كنت ضحية ... ولست أدفن حبي لك، ولكنى أنوى أن أعلنه، فهل تسمحين لى بأن أطمع أن تحبينى يوما من الأيام»؟
فأطرقت تفكر، فقد أساءت فهم ما قصد إليه وتوهمت أنه يريدها كما أراد غيره، خليلة ... وشعر هو من إطراقها أن معنى كلامه ليس واضحا وشجعه ترددها الظاهر فقال: «إنى لا أرى أنى أستطيع أن أعيش بعد اليوم بدونك، فهل تقبليننى زوجا على أن تكون الطاعة منى والحب ... ولا يكون منك إلا ما يسمح بالأمل فى أن تحبينى يوما ما»؟
فصاحت: «ولكنى أحبك من الآن!».
وندعهما ... فما بقى لنا مقام معهما.
الفصل التاسع عشر
حواء والحية
رفعت «جليلة» رأسها قليلا عن الرمل، ونظرت إلى صدرها الذى يعلو ويهبط، وجلدها الذى دبغته الشمس ثم مدت بصرها إلى ساقيها وإلى أصابعها التى عنيت بصبغ أظافرها، وابتسمت ابتسامة الرضى والاغتباط، ثم ردت رأسها وظلت راقدة وتركت الشمس تفعل فعلها فى جسمها العارى من الصدر إلى الردفين ومن الساقين إلى الأخمصين وكانت هذه عادتها مذ جاءت إلى الاسكندرية.. تخرج كل صباح من الفندق فى ثياب الاستحمام، فتلقى بنفسها فى الماء فى هذه الناحية المنعزلة وتسبح ما شاءت قريبا من الساحل، ثم تخرج إلى الرمل وترخى ما على صدرها من ثوب البحر وتعريه للشمس، لتفيد ما قيل لها أن أشعة الشمس تفيده من الصحة والعافية. ولم تكن تلقى أحدا فى هذا المكان أو تخشى أن يتطفل عليه فيه مخلوق، لبعده وضيقه واحتجابه وكثرة ما يحيط به من الصخور.
ولمحت زورقا شراعيا يشق الماء من بعيد فنهضت واتكأت على كوعها، وراحت تنظر إليه تارة وإلى أظافر قدميها المصبوغة تارة أخرى ثم أرهفت أذنيها، فقد خيل إليها أنها سمعت صوتا يشبه صوت تكسر العود داسته قدم.. فنسيت أظافرها وانطرحت على بطنها وعينها إلى الناحية التى تتأدى إليها منها الصوت، فما لبثت أن سمعت وقع أقدام - أو قدمين على الأصح - فما أسرع ما جلست على ركبتيها، ورفعت الثوب فغطت صدرها. وكانت أصابعها لا تزال تعمل فيه لتربطه، حين وقف أمامها رجل وسيم معتدل القامة حسن البزة عارى الرأس، فحدقت فى وجهه.. فقد وقف مفتوح الفم وكأنما بهره جمالها ثم قال: «أرجو المعذرة».
فلم تقل جليلة شيئا وظلت قائمة على ركبتيها تنظر إليه، فضحك فجأة وبلا مناسبة ظاهرة، ثم كف فجأة وقال: «أرجو المعذرة.. لكأنك حواء تصلى فى الجنة».
فقالت بلهجة امتزج فيها الغضب بالسرور المكبوح: «ماذا تعنى بحواء والجنة»؟
قال: «من الاتفاق الغريب أن اسمى آدم، وقد كنت وأنا ماش أتوقع - أخشى فى الحقيقة - أن ألقى حية ... ولكنى على التحقيق لم أكن أتوقع أن ألتقى بحواء».
وضحك مرة أخرى، فقالت بحدة: «ليس اسمى حواء». فقال بابتسام: «هل لى إذن أن أسأل ما اسمك»؟
قالت: «كلا.. لن أخبرك» قال: «إذن سأسميك حواء فإنه أليق ما يكون.. وليت من يدرى هل كان لحواء بحر كهذا فى الفردوس»؟
ونظر إلى البحر، ولكنها ردته بقولها: «سمنى ما شئت فإنى راجعة إلى الفندق». وهمت بالنهوض، فقال: «سأرافقك إليه فإنى نازل فيه إذا كان هو هذا» وأشار الى ناحيته.
ولكنها لم تذهب، بل وقفت وقالت، وقد جنحت إلى العناد: «بل سأبقى هنا». فوافق الرجل بسرور وقال: «حسن جدا.. سأبقى أنا أيضا.. لأسليك وأونسك فى وحدتك».
فهزت جليلة كتفها هزه خفيفه، وعادت إلى الرمل فجلست عليه، فجلس مثلها بثيابه الأنيقة وراح يجيل عينه فى مفاتنها ... وكانت هى أيضا تتأمل كتفيه العريضتين ووجهه القسيم وشعره وساقيه المفتولين، ولا يبدو عليها أنها غير راضية عن وجوده وتطفله عليها فى هذا المكان الذى كانت تظنه نائيا عن الخلق.
وسألها: «ماذا تصنعين هنا»؟ فقالت باختصار: «كنت أتمشى».
ولكنها رمت إليه ابتسامة ساحرة، فقال: «ولكنك كنت راقدة على الرمل، فهل هذه طريقة جديدة للمشى»؟ قالت: «كنت أستحم». قال: «تستحمين؟ ولكن بينك وبين البحر أكثر من مائة متر».
فقالت بغضب: «ألا أستطيع أن آخذ حمام شمس إذا أردت»؟
فقال: «أوه.. صحيح».
وهز رأسه ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: «حواء تأخذ حمام شمس، فيفاجئها آدم الذى كان يبحث عن الحية ... أليس كذلك؟ ويفسد عليها حمامها ... معذرة مرة أخرى».
فتركت الاعتذار وسألته بلهفة: «آدم.. قل لى.. هل تظن أن هنا حيات»؟ فقال: «لا أظن.. وماذا تصنع حتى الحية هنا؟.. تأخذ حمام شمس هى أيضا»؟
فضحكت وقالت: «ألم تأخذ قط حمام شمس»؟
فكاد يفهق. وقطب هنيهة وهو يحاول أن يهتدى إلى المعنى الذى أرادته ثم قال بابتسام: «كلا.. لم أفعل ذلك قط ... جربت كل نوع من الحمامات إلا هذا، والله فكرة».
فصاحت به: «لم أكن أعنى هذا» وابتسمت على الرغم منها، ثم أردفت: «أنما أردت مجرد الاستفهام».
فقال: «لقد كنت الآن فى حمامك فقطعته عليك، أفلا يمكن أن تستأنفيه من حيث انقطع»؟
فقالت: «ولكن هذا لا يمكن ... أعنى لا يليق يا آدم. ربما كان هذا مألوفا فى الجنة. ولعلنا لو كنا فى عصر قبل عصرنا هذا ببضعة قرون ... ولكن فى هذه الأيام التى ليس فيها جنات ... كلا يا آدم». فسألها: «ولكن لماذا تحرمين نفسك ما تحبين»؟ قالت: «قد يرانى أحد». قال: «لا أحد هنا يراك». قالت بابتسام: «ألم تفاجئنى أنت فى الحمام»؟
فلم يستطع أن يرد عليها وينقض حجتها وأطرق شيئا، ثم تناول شعره وشده وصاح: «وجدتها ... استأنفى حمامك ... وأقعد أنا وراء هذه الصخرة ... أحرسك ... وأنبهك - عند الحاجة - إذا طرأ طارئ».
ولم ينتظر أن توافق بل نهض ووثب فوق الصخرة واختفى عنها. وصاح بها من ورائها: «ما قولك»؟ قالت: «حسن. وإذا رأيت أو سمعت أحدا مقبلا فنبهنى واسمع حاذر أن تنظر».
قال: «مستحيل» بلهجة من يعتقد أن هذا غير معقول ثم أردف: «لقد رأيت بما فيه الكفاية».
واستلقت مطمئنة وراحت تفكر فى آدم القديم وآدم الحديث، وتسأل: «أتراه سينظر من بين الصخور»؟ وتهز كتفيها وتنظر إلى ثدييها وتحدث نفسها أن لا بأس ... ولا خوف ... ثم إنه ظريف، فلينظر ... ألم ير ما فيه الكفاية كما قال؟
وكان آدم - على الجانب الآخر من الصخور - قد خلع الجاكتة واتخذ منها وسادة لرأسه واستلقى على الرمل وذهب يفكر فى هذا الجمال البارع الذى كتب له فى يومه أن يراه، ويسأل نفسه: «أتراها تريد منه أن يبقى حيث هو.. أم هى ياترى تنتظر منه أن يكون جريئا وأن يحور إلى طباع أجداده.. ماذا كان جده الأعلى خليقا أن يصنع فى مثل هذه الحالة؟ أكان يطيع المرأة التى لعلها تعنى خلاف ما تقول أم كان يطيع غرائزه ورغباته»؟
وأنه ليفكر فى هذا وما إليه، وإذا بصرخة عالية.. فوثب إلى قدميه ونط فوق الصخرة وانحط عند جليلة وسألها: «ماذا جرى»؟
ولم يحتج منها إلى جواب فقد كان حسبه ذلك الفزع الذى ارتسم على وجهها، فدار بعينه ينظر فما كان يسعها أن تقول شيئا من فرط الجزع، فأبصر أفعى على نحو مترين منها.. فانقض عليها وتناولها من ذيلها وطوح بها فرماها بعيدا، ثم تناول يد الفتاة فأنهضها وهى لا تزال نصف عارية، ولكنها صاحت به: «لا تلمسنى ... أوه لقد لمست يدى ... ماذا أصنع الآن»؟
وانتزعت يدها منه، ولكنها أبقتها بعيدة عنها كأنها ملوثة، فقال: «ماذا جرى؟ هل يدك»؟
وهبط قلبه فى صدره، وابترد الدم فى عروقه وجمد، وجعل ينظر إليها وهو مفتوح الفم من الخوف الذى ساوره، فقالت: «لا تلمسنى.. أقول لك لا تلمسنى.. أنى أمقت الأفاعى».
فأدرك مرادها، واطمأن قلبه وتشهد، وهز رأسه مرتاحا، ووسعه أن يبتسم وقال: «آه ... هذا ... لا بأس ... سأذهب وألبس جاكتتى وأعود إليك». فصرخت: «كلا. لا تتركنى وحدى» قال: «إذن تعالى معى.. نلبس جماعة».
وهم أن يتناول يدها ليعينها على الصعود فوق الصخرة، ولكنها تراجعت عنه فقال: «لا بأس ... أرانى صرت مثل المنبوذين الهنود الذين لا يلمسهم أحد..».
فرقت له ولكنها قالت وهى تخطو إلى جانبه: «أظنك وضعت هذا الثعبان بيدك إلى جانبى عامدا». فقال: «كيف يمكن؟ لقد كنت راقدا فى الناحية الأخرى».
فقالت: «وأظنك كنت ستنام» فقال معترفا: «أى والله كاد النعاس يغلبني».
قالت: «هذا ألعن». قال: «ولكنك أمرتنى أن أبقى هناك ولا أجىء».
قالت: «وتتركنى مع الثعبان»؟ قال: «لا تكونى متعنتة». قالت: «لن أجىء إلى هنا بعد اليوم».
فقال بضحك: «انتهى فصل الحمامات الشمسية» قالت: «بل انتهى شهر العسل».
فالتفت إليها وصاح بها: «إيه؟ شهر ال ... ال..».
قالت: «نعم شهر العسل.. ألا تعرف ما هو.. أنا وزوجى هنا فى الفندق وسنعود إلى القاهرة غدا ... واسمع، إن زوجى غيور جدا. أسرع ما يكون إنسان إلى إساءة الظن.. فاحذر.. ابق حكاية حواء والحية بينى وبينك».
قال: «تعنين بينى وبين نفسى» قالت بابتسام: «لا.. سنلتقى يوما..». قال: «متى؟.. طمئنينى» قالت: «متى أيقنت أن يدك لم يبق بها أثر من الحية..».
الفصل العشرون
العقلة
لم يكن «عبده» يشكو قبل هذا أن فى لسانه عقلة، وأن الكلام يتردد فى فمه ولا يكاد يخرج منه.. ولكنه أحب بنت خاله، فماذا يقول لها أو لأمها أو لخاله؟ وكيف تحتمل علته هذه فتاة عصرية تحب أن تباهى النساء بزوجها؟ والمصيبة أن شعوره بهذه الحبسة يزيد لسانه امتساكا كلما جالسها. فكان إذا هم بكلامها لا يزيد على أن يخرج صوتا كهذا «أ أ أ أ أ أ..» أو «م م م م» أو «ف ف ف ف» وأين الفتاة التى لا يحيله هذا مضحكا فى نظرها؟ وأخيرا أشاروا عليه بأن يستشير طبيبا، قالوا له إنه بارع فى علاج هذه الحالات.. فقصد إليه، فلما جاء دوره وقف أمامه يقول أو يحاول أن يقول: «أ أ أ أ.. شن سششسسسش للللل..» فقال الطبيب: «ظاهر، ظاهر.. إن هذه الحالات العصبية معروفة» فأراد عبده أن يقول إنه ليس مصابا بمرض عصبى، فقال: «أ أ أ أ أريد أاان ا أتتتتززززززوج وووو» فسأله الطبيب: «ماذا تقول»؟ فحاول أن يبين، ولكن الحبسة حالت دون الإفصاح.. ففرك الطبيب جبينه، ثم قال: «غن إذا استعصى عليك الكلام » فدهش عبده ولم يصدق أن الطبيب يطلب منه الغناء، وبدا عليه أنه يريد أن يستوثق، فقال الطبيب: «بالطبع غن. غن بما تريد.. إنها طريقة حسنة للتغلب على العلة، وإن كان إسعافها وقتيا».
فملأ عبده صدره بالهواء ورفع عقيرته بأنكر ما سمع الطبيب فى حياته، حتى لقد لام نفسه على حماقته فيما أشار به. وبعد أن اضطرب لسان عبده قليلا، انطلق يقول بصوت شبيه بشهقة المصاب بالسعال الديكى إنه يريد أن يتزوج. ولكن هذه الحبسة تقضى على أمله. وكان كلما أخرج صوتا أحس الطبيب أن حجرا دفع فى صدره، فما ندم فى حياته على نصيحة كما ندم فى يومه هذا، فقد حمس عنده وظن نفسه فى موقف مناجاة، فمضى يغنى: «طول الليالى وناطيفك على بالى، ياللى غرامك ملك قلبى وشغل بالى، يا خوفى من طول بعادك واللى خبالى».
فأسرع الطبيب يقول مقاطعا: «تمام ... لم تكن بك فى الحقيقة حاجة إلى إتعاب نفسك بهذا الغناء البديع. الآن اسمع: إن حالتك عصبية وأنت على ما يظهر شديد الحياء». فلم يرق عبده هذا التشخيص، وحاول أن يعترض، فحالت الحبسة دون ذلك ... فتذكر أن الغناء أسعفه كما لم يسعفه شىء فيما يذكر، فصاح يقول: «لا، لا، لا، ليس بى حياء بل أنا قليل الح..».
وقاطعه الطبيب بدوره إشفاقا على نفسه وعلى سمعة عيادته، وعجل بأن يقول: «طبعا.. طبعا.. والآن اسمع ولا تضيع وقتى. يجب أن تفهم أن علاجك الوحيد أن تجترئ على الناس بالكلام.. تعرفهم أو لا تعرفهم، سيان. والأفضل أن يكونوا ممن لا تعرف. ابدأ بالكلام كل من تلقاه إذا استطعت، بأى كلام ... وحبذا لو كلمت النساء فإذا فعلت هذا كل يوم، فأنت لا شك تشفى بعد حين».
فنفخ عبده صدره استعدادا للاستفسار بالغناء، فريع الطبيب منه وسد أذنيه وخاف أن تطير لعيادته سمعة سيئة، وصاح به: «لالالا.. ابق صوتك الحلو لمن تقابل لا تسرف يا صاحبي» وأسرع فأدراه إلى الباب وأحكم إيصاده وراءه وتشهد.
وكانت عيادة الدكتور - ولعلها ما زالت - فى العباسية فلما خرج عبده اتجه إلى آخر محطة الترام الأبيض إلى مصر الجديدة حيث بيت خاله، وكان وهو يمشى شارد الذهن موزع النفس، يفكر فيما أشار به الطبيب من ابتداء الناس بالكلام وإن كان لا يعرفهم. وكيف بالله يبدأ غريبا لا يعرفه بمثل هذه الأصوات: «ممممن ففففضلك السسسساعة كككككام». إن هذا مستحيل. وهذا الطبيب لا شك مجنون إنه طبيب مجانين لا طبيب ... ماذا؟ أى طبيب هو؟ لقد أرشده إخوانه إليه أنه أخصائى فى هذه الحالات، غير أنهم لم يقولوا أى حالات فهل تراهم حسبوه؟ ولكن هذا غير معقول وكان قد بلغ المحطة وراح يتمشى ريثما يجىء الترام، وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، ولم تكن المصابيح التى رفعتها شركة النور سبعة أمتار فوق الرءوس إلا كالنجوم التى لا تنير، وأنما تريك كيف تكون العتمة، وكيف تغيب معارف الأرض، وكيف تستطيع أن تظن الرجل شجرة ومصباح النور فتاة هيفاء، والظل على الأرض ماء يحسن أن تتقى بلله وتلويثه للحذاء الجميل. وإنه لكذلك، وإذا به يرى رجلا عجيب الثياب مقبلا يتمشى مثله، فوقف مكانه مبهوتا. وكان الرجل لابسا جلبابا قد يصلح أن يكون كلة لسرير، ولكنه لا يصلح ثيابا لآدمى مهما بلغ من الجسامة، وكان الثوب لسعته يكنس الأرض، وقد اضطر صاحبه أن يطوى أكثره تحت أبطه. وكان يحمل عمامته مقلوبة على كفه، كما يحمل الخادم القصعة. وكانت مشيته بطيئة، وعلى ثغره ابتسامة العاشق رأى فى منامه حبيبته تؤاتيه بعد طول الصد والحرمان. وحدث عبده نفسه أن لا ضير من خطاب رجل كهذا، ولكن غرابة أمره صدته. على أن الأمر خرج من يده، فقد دنا منه الرجل وقال بابتسامته المتحجرة: «كله من فضل الله.. كلوا مما رزقناكم» ونظر عبده فى العمامة المقلوبة، فلم يجد شيئا فهم بأن يقول شيئا على سبيل الاعتراض على هذا المزاح، ولكنه لم يستطع أن يجاوز ابتداءاته المعهودة.. وقال له الرجل يشجعه: «لا تستحى أن الخير كثير. اطلب تعط. ألست مؤمنا مسلما.. هه»؟ فلم يفهم ما العلاقة بين الإيمان وبين ما فيه الرجل، ولكنه شعر بأن الحزم يقضى عليه بأن يجيب فقال: «ننننعم مممم مسسسسسلم ووو مممموحد ببببالله» فأشرق وجه الرجل، وحنى رأسه تواضعا وقال وهو يبتسم: «انتهينا إذن.. أنا ربك» فذعر عبده وتلفت ناحية الترام، وألفى نفسه يقول وهو يتلفت: «أأأنا مممممؤمن ججججدا».
فقال الرجل: «لا عجب أن تتلعثم فى حضرة إلهك، فما كل يوم يظهر الله للناس. لا تقل لأحد أنك رأيتنى، فإنى أحب أن أظهر لمخلوقاتى فى السر». فحنى عبده رأسه مرات عديدة بسرعة لم يكن يدرى أنه قادر عليها أو أن رأسه يحتملها، ومضى الرجل فى كلامه فقال: «أنت من أحسن من خلقت. وإنى لأذكر أنى أردت أن أخلق من طينتك بغلا، ولكن شيئا ألهمنى أن أجعل منك إنسانا ... وقد ندمت على ذلك ولكنى أرى الآن أنى لم أخطئ، فاطلب ما تشاء. هل تريد مالا؟ أو تريد غير المال؟ سلنى فليس فى بخل ... عندى من الحب كل صف يورث الجنون ويضرم النار هنا - ودفع كوعه فى بطنه - حتى لتحرق الصدرية وتزغرد من فوقها. وعندى من الحب ما يجعل منك شاعرا، وثالث تصير به خطيبا، ورابع يغريك بالخيالات ويحبب إليك احتضان أعمدة السرير، فأيها تريد؟ تعال هنا ... بعيدا عن الناس ... فى هذا الكشك ولنغلقه علينا، فأنى أرى الترام آتيا وأخشى أن يرانا أحد فلا يظفر بنصيبك العادل من وجودى».
وأمسكه من ذراعه وجعل يدفعه أو يقوده، فقد كان عبده بادى الزهد فى هذه الخلوة ... ولما بلغا الباب كان الترام قد وصل فاندفع الرجل داخلا، واندفع عبده راجعا، ووثب إلى الترام فدخل فى الدرجة الأولى وانحط على كرسى وهو ينهج ويمسح العرق المتصبب. وكانت أمامه سيدة تنظر إليه، وهو غير شاعر بها. وكان يتنهد ويتشهد ويثب من حين إلى آخر، لينظر من النافذة مخافة أن يكون ذلك المجنون قد لحق به. وكان الترام قد قطع شوطا كبيرا، فهدأت نفسه شيئا فشيئا وأبصر السيدة.. وكان الترام لم يقف بعد أن ركبه فلا شك أنها كانت من أول الأمر هنا معه. وتذكر أنه دخل كالمدفع وانحط على المقعد كالحجر وأنه لا شك قد بدر منه ما يريب، فأراد أن يفسر ما لعلها استغربته من سلوكه ... غير أن دخول الكمسارى قطع عليه عزمه، وكان الكمسارى ثرثارا فجعل يقول وهو يتناول القرش ويقدم التذكرة: «مجنون هرب من المستشفى.. وجدوه فى محطة العباسية. فى آخر محطة وقفنا فيها، لكنه اختفى بسرعة غريبة. من يعرف يمكن يكون ركب الترام. لكن هذا مستحيل ... ومع ذلك أين اختفى؟ ليس فى المحطة مكان يختبئ فيه.. لابد أن يكون ركب الترام».
وكان عبده حين سمع ذلك قد ذعر وفتح فمه كالأبله.. وكانت السيدة تنظر إليه وتسمع حديث الكمسارى ثم تنظر إلى عبده، وترى آيات الفزع فى وجهه. وخرج الكمسارى إلى حيث الركاب الآخرون وأحس عبده أن عليه أن يقول شيئا، ولو على سبيل التفكهة والتسلية وليخفف عن هذه السيدة التى لا شك أنها ريعت من حديث الكمسارى، ولا سيما أنه - أى عبده - الوحيد الذى يعرف أين اختبأ المجنون - وهذا العلم وحده يغرى بالكلام. ولكن لسانه خانه على عادته فقال - على حين لم تكن تنتظر كلاما: «أأأأأنا ششفففته».
وأمسك، فما فى مثل هذا فائدة، وتذكر أن الطبيب قال له: «غن».
فرفع صوته يقول مغنيا: «المجنون يا ستى الذى سمعت عنه مختبىء فى الكشك هناك».
ولم تتح له فرصة لإتمام ما بدا.. فقد وقفت السيدة وانطلقت تصرخ بأعلى صوتها وتصيح: «أدركونى.. أدركونى.. الحقوا..».
وكان الترام قد بلغ محطة وقف عندها، فلم يسع عبده الا أن ينزل مسرعا ... فما بقى له مقام فى هذا الترام وإلا قبضوا عليه على أنه المجنون الهارب، وانطلق يعدو.
وأخيرا بلغ البيت وقابل - أول من قابل - بنت خاله، فأدهشه وأدهشها أن الحبسة زالت عنه.
Página desconocida