En la actualización de la cultura árabe
في تحديث الثقافة العربية
Géneros
وأريد أن أتوسع مع القارئ في الفكرة التي طرحتها عن الأفكار الإطارية، التي حاولت أن أوضح بها الصفة التي يجب أن تتصف بها الأفكار التي تصمد على الزمن؛ أقول إني أريد الآن أن أتوسع قليلا مع القارئ لعلنا نزداد إيضاحا ووضوحا؛ إذ قد تكون الإضافة، التي سأضيفها، ذات نفع كبير في إلقاء ضوء على مشكلة تراثنا وضرورة إحيائه، ليكون جزءا لا يتجزأ من حياتنا الثقافية اليوم؛ وأما تلك الإضافة التي أردتها، فهي أن «إطارية» الفكرة التي يراد لها أن تدوم، إنما هي صفة تمتد حتى تشمل «الأسماء» التي يطلقها الإنسان على مجموعات الأشياء المتشابهة، كاسم «نبات» الذي يطلق على أسرة ضخمة من الكائنات، التي وإن اختلف بعضها عن بعض، إلا أنها جميعا ترتبط بمثل ما يرتبط به أفراد الأسرة الواحدة؛ واسم «حيوان» واسم «منزل» واسم «نهر» و«مدينة» و«نجم» و«إنسان» وسائر «الأسماء» التي تشتمل عليها لغة من اللغات؛ بل إن كل لفظ من ألفاظ اللغة قد يعد «اسما» بمعنى من معاني هذه الكلمة؛ إذ ما يقول عنه علم النحو إنه «فعل» أو إنه «حرف» فهو إنما يسمى شيئا ما، ففعل «يمشي» مثلا، يشير إلى حركة معينة نعرفها، ونعرف أنها هي التي يشار إليها بذلك اللفظ؛ والحرف «في» وإن يكن حرفا في علم النحو، إلا أنه أيضا اسم نشير به إلى «علاقة» معينة تربط شيئين، كأن أقول إن القلم «في» جيبي، وإذا كان هكذا، جاز لنا أن نقول إن كل لفظة من ألفاظ اللغة، هي - فوق صفتها الخصوصية - اسم نسمي به شيئا، أو حركة، أو علاقة.
والآن فلننظر كيف تتم لأبناء اللغة الواحدة عملية التسمية هذه. هنالك إجابات كثيرة عن هذا السؤال، يكفينا منها الآن، بالنسبة لما نحن بصدد الحديث فيه، أن نقول: إن كل اسم في اللغة إنما هو تلخيص لحياة طويلة مارس فيها أبناء اللغة خبرات كثيرة في تعاملهم مع المحيط الذي يعيشون فيه. وهم إذ يمارسون حياتهم العملية، إنما يمارسونها مع أشياء مفردة، أو مواقف مفردة؛ فكل ما هو موجود في دنيا الواقع مفردات، لكنه يتعذر، بل يستحيل استحالة تامة، على أي إنسان أن يحتفظ في ذاكرته بمفردات الحياة العملية التي عاشها مفردا؛ فكم من مفردات النبات، وكم من مفردات الطير والحيوان، وكم من مفردات الجماد، وكم من أفراد الإنسان! فماذا هو صانع - إذن - إزاء هذا الخضم الذي لا ينتهي عند حد؟ إنه بقدرة عقلية في فطرته، يجمع بفاعلية ذهنية معينة، المفردات المتشابهة، ويكون منها بخياله أسرة واحدة، يطلق عليها اسما واحدا، فيتعارف الناس على هذا الاسم ليستخدموه؛ إلا أنهم حين يلخصون نوعا بأسرة من الكائنات في اسم واحد، يضطرون إلى تجاهل الخصائص الكثيرة التي يختلف فيها أفراد النوع الواحد من الكائنات، فلكل شجرة خصائصها دون سائر الشجر، ولكل نهر، ولكل جبل، ولكل مدينة، فما الذي يبقى من الخصائص، لنضمه معا بخيالنا في صورة واحدة، ونطلق عليه اسما واحدا نتعارف عليه؟ إن الذي يبقى هو أقرب إلى «إطار» أجوف، أضلاعه تنم عن الخصائص الجوهرية الهامة، وأما الحشو المضموني الذي يملأ ذلك الإطار، والذي لا يكون الكائن كائنا بدونه، فيسقط من الحساب؛ ومعنى هذا كله أن أسماء اللغة الواحدة (وكل مفردات اللغة هي بوجه من الوجوه أسماء) إنما تستطيع البقاء على مر القرون، تنتقل خلالها من جيل إلى جيل، بفضل كونها إطارية البناء.
وتترتب على هذا التحليل نتيجة بالغة الأهمية والخطورة، فيما يختص بموقف أي إنسان من التراث الثقافي الذي ورثه عن أسلافه، وتلك النتيجة هي أننا اليوم، وإن كنا نتكلم اللغة العربية التي تكلمها أسلافنا، ونستطيع قراءة ما كتبوه وخلفوه لنا ميراثا من فكر وأدب وغيرهما مما تحمله الصفحات المكتوبة؛ إلا أنه من المرجح جدا أن تكون الدلالات اللفظية قد تغيرت مع تغير العصور، فكلمة «منزل» - مثلا - أو كلمة «مدينة»، أو أي كلمة أخرى من ذوات الدلالة الحضارية، لا بد أن تكون قد تغيرت في معناها الحقيقي الذي ترمز إليه، لماذا؟ لأن أبناء كل عصر، يفهمون الاسم المعين، على أساس مفرداته العينية الموجودة في الواقع الخارجي، فالقاهري يفهم كلمة «منزل» على صورة تختلف عما يتصوره منها ساكن الريف، ودع عنك ما كان يتصوره منها عربي عاش منذ عشرة قرون؟ ولهذا وجب علينا - ونحن نقرأ لأسلافنا ما خلفوه لنا - أن نقف وقفات طويلة، خصوصا إذا كنا إزاء فكرة لها صداها في حياتنا العملية، لنتبين ما الذي كانت تعنيه لفظة معينة عند أبناء فترة زمنية معينة؛ إذ المشترك بيننا وبينهم هو صورة «الاسم» وأما «المسمى» بهذا الاسم فيتعرض لاختلافات هينة حينا، شديدة حينا. وإننا لنلاحظ أن مخرجي الروايات في المسرح أو السينما، يعنون بهذا الجانب الاجتماعي المتغير، حين يعدون ثياب الممثلين، أو يعدون قطع الأثاث؛ فلا خلاف بيننا وبين السلف في أي عصر من التاريخ العربي، على الاسم «كرسي» أو «منضدة» أو «جلباب»، ولكن يبدأ الخلاف والاختلاف بين أبناء العصور، حين ننتقل من الأسماء إلى مسمياتها.
إن معاني الاسم الواحد في اللغة الواحدة، إذا كانت تبدو وكأنها مشتركة بين أبناء تلك اللغة على تعاقب عصورهم، إلا أن الأشكال التي تتجسد فيها تلك المعاني تختلف اختلافات بعيدة بين عصر وعصر في كثير جدا من الأحيان؛ لقد شاء لي الحظ الحسن ذات صيف أن أشهد وأن أسمع على شاشة التلفزيون في إنجلترا، فنان النحت العظيم هنري مور، وكان ذلك في مناسبة عيد ميلاده الثمانين (سنة 1978م) والذين يعرفون الطريقة التي يقيم بها «مور» منحوتاته؛ يعلمون كم هي تختلف عن فن النحت كما كان معروفا من قبل؛ فلقد كان المألوف أن ينحت الفنان صورة إنسان، أو فارس على جواده والحربة في يده، وما شاكل ذلك؛ فجاء هنري مور ليقدم كومة من «كراكيب» حجرية، مستند بعضها إلى بعض بصورة ما في عمل نحتي معين، فهذه كرة ضخمة من حجر، يستند إليها حجر ضخم أسطواني الشكل، وأسفلها قرص من الحجر به ثقب كبير، وهكذا؛ فسأله المذيع: بم تفسر الاختلاف البعيد في منحوتاتك عن فن النحت كما عرفه فنانو عصر النهضة الأوروبية؟ فجاء الجواب مثيرا للعجب، أذهل المذيع، وأذهلني، كما لا بد أن يكون قد أذهل سائر من يشهدون ويسمعون، إذ أجاب الرجل قائلا: إنه لا اختلاف بيني وبين رجال النهضة؟ ولكن كيف ذلك وعين الرائي ترى بينكما بعدا بعيدا؟ قال: إن المعول عليه في الفن هو «الشكل التكويني» (أي «الفورم») وأنا أراعي «الفورم» بنفس الدقة التي راعى بها رجال النهضة «الفورم» في منحوتاتهم؛ إذن فالمسألة هي «اسم» لغوي ومعناه في عصرين مختلفين، فلا اختلاف بينهما على الاسم «فورم» ولكن الاختلاف هو فيما يشير إليه بهذا الاسم.
ولعل هذه أن تكون هي اللحظة المناسبة التي ننتقل عندها بالحديث إلى الشعر العربي في بعض صوره الجديدة؛ إننا إذا كنا ندير كلامنا حول «تحديث الثقافة العربية» فلا شك في أن أولى الموضوعات باهتمامنا، يجب أن يكون «الأدب»؛ والشعر هو من الأدب بمثابة الزهرة من الشجرة. ولماذا الأدب؟ لأن جوهر النسيج الثقافي في كل زمان وفي كل مكان ليس هو «المعلومات» المعينة التي يعرفها أفراد الأمة المعينة، وإنما جوهر الثقافة هو ما بث في حياة الناس من قيم تضبط لهم الفوارق بين الحسن المقبول والقبيح المرفوض؛ ومصادر تلك القيم كثيرة، ولكن الأدب عموما والشعر خصوصا هو من أهم تلك المصادر؟ وذلك لأن الموضوع الأساسي للأدب شعرا ونثرا، هو «الإنسان» فحتى إذا تحدث الأديب عن شيء يبدو وكأنه يتحدث عن الطبيعة، إلا أن الجوهر الكامن لا بد أن يكون في نهاية الأمر علاقة الإنسان بما هو موضوع للحديث؟ إنه إذا كان «العلم» يطبعن الإنسان (أعني يجعله كأي ظاهرة أخرى من ظواهر الطبيعة) فإن الأدب، والشعر منه بصفة خاصة، يؤنس الطبيعة ؛ أعني أنه يبث فيها من حياته حياة، وكأن ما فيها هم مخلوقات بشرية يتبادل معهم الشاعر اللفتات والومضات والمشاعر.
والشاعر العربي المعاصر يشارك جدوده الشعراء كنيتهم، فهو «شاعر عربي» وهم «شعراء عرب». وبديهي - إذن - أن يكون في هذا النسب الثقافي بينه وبينهم رابطة تشبه التي بين فرد من أسرة معينة مع بقية أفرادها؟ ولتختلف فردية كل فرد بطابعها المميز عن بقية الأفراد في الأسرة الواحدة، إلا أن ذلك لا ينفي أن تظل الرابطة التي تربطهم جميعا في أسرة واحدة، قائمة، وإلا انفرطت حبات العقد ولم تعد عقدا! فماذا عساها أن تكون تلك الرابطة؟ إننا لو عثرنا عليها كنا بمثابة من عثر - في الوقت نفسه - على معيار نقدي فاصل بين من يجوز له الدخول في زمرة الشعراء العرب ومن لا يجوز له ذلك؟ وقد يسارع قارئ فيقول: لماذا لا تكون تلك الرابطة التي تبحث عنها هي «اللغة العربية» ولا شيء إلا هذا، بحيث يكون لأبناء كل عصر في التاريخ العربي، أن يقول الشعر على أي نحو أراد، وحسبه أن تكون اللغة العربية هي وسيلة الأداء. ونحن نصحح هذا السائل، فنقول أولا: إن هناك بيننا من يقول شعره في عامية مصرية، زاعما أن هذه عنده هي «اللغة العربية» إذن تكون عبارة «اللغة العربية» - كما استخدمها صاحب السؤال - بحاجة إلى تحديد. وثانيا: إذا كان استخدام «اللغة العربية» وحده هو الفيصل، فلماذا لا يدعي المتكلم باللغة العربية أي ضرب من ضروب الكلام أنه شاعر؟ فإذا احتج علينا صاحب السؤال بقوله: كلا، بل نحن نتحدث عن الشعر، وللشعر شروطه في طريقة الكلام، أجبناه بأنه ما دام قد أدخل نفسه في «شروط» ينبغي لها أن تتحقق ليكون الكلام شعرا، فقد عرض نفسه لسؤال أهم، وهو: وماذا تكون تلك الشروط، التي تحت مظلتها يقف الشاعر العربي المعاصر مع سائر الشعراء العرب في مختلف العصور؟
أما أنا فالجواب عندي، عن سؤال يسأل عن الرابطة التي تربط أسرة الشعراء العرب حديثهم مع قديمهم، برغم اختلافات العصور، واختلافات الشعراء الأفراد في كل عصر واحد، أقول: إن جوابي عن هذا السؤال، جواب يثير الذعر في الكثرة الغالبة من المعاصرين ومن الشعراء بين هؤلاء المعاصرين بصفة خاصة؟ وذلك لأن الجواب عندي هو أن يلتزم الشاعر العربي، كائنا ما كان عصره، وكائنة ما كانت مميزاته الفردية، أن يلتزم «عمود الشعر» ... ألم أقل لك أنه جواب يثير الذعر، لكن ذلك الذعر يزول معظمه إذا تمهلنا بضع دقائق لنعرف ما هو «عمود الشعر» الذي دار حوله لغط كثير حتى بين القدماء أنفسهم: فلسوء حظنا نحن قراء الشعر ومتذوقيه، أن يساء فهم هذه العبارة إساءة أساءت إلى الشعر العربي لا سيما في عصرنا هذا؟ إذ يسبق ظن خاطئ إلى كثيرين بأن المقصود بعبارة «عمود الشعر» هو التزام الوزن والقافية. ولما كان شعراؤنا الجدد لا يميل بعضهم إلى هذا الالتزام، فهو يرفضه، «ليبرطع» بالألفاظ وسطورها كما شاء له هواه ثم يقول للناس هاكم شعرا «عربيا»!
لكن عمود الشعر هو أساس مركب من سبع صفات، ذكرها وشرحها «المرزوقي» في مقدمته التي قدم بها شرحه ل «ديوان الحماسة» الذي هو مجموعة المختارات التي اختارها أبو تمام مما عده أجود الشعر؟ وسأنقل عبارة «المرزوقي» بنصها، لأختم بها حديثي، تاركا للقارئ خصوصا إذا كان شاعرا، أو ناقدا للشعر، أن يتدبرها جيدا، وإنني لعلى يقين بأنه واجد في هذه الصفات السبع مأخوذة معا، أفضل إطار ممكن، يستطيع كل فرد أن يتميز فيه بفرديته، لكنه إطار يضمن لفكرة «عمود الشعر» أن تدوم على امتداد الزمن، رباطا أوثق رباط بين الأفراد في أسرة الشعر العربي، وهذه هي عبارة «المرزوقي» في تحديد الصفات السبع: «إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة، كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات، ثم المقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم وتخير الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائها للقافية، حتى لا منافرة.»
لكم تمنيت أن يتسع المكان لأصب على هذه العبارة المعيارية المكثفة تحليلا شارحا، كان من شأنه أن يطرد الفزع عن نفوس الشعراء، ففي هذا المعيار ما يضمن للشاعر العربي الجديد، أن يكون «شاعرا عربيا» وأن يكون «جديدا».
خصوصية الثقافة ما مداها؟
Página desconocida