En la actualización de la cultura árabe
في تحديث الثقافة العربية
Géneros
تشابه الأجزاء ووحدة الهدف
هذا حديث عن حياة الثقافة العربية في مرحلتها الراهنة، لكنه حديث سألجأ فيه إلى الطريقة التي نسمع عنها في الحروب، وأعني طريقة الالتفاف حول العدو لمحاصرته، حتى لا يبقى أمامه منفذ إلا التسليم. إني أرانا في حياتنا الثقافية نسير سير المتخبط في ظلام دامس، فرأسه يخبط في الجدار مرة، وقدمه تتعثر في قطع الأثاث مرة أخرى، وتكون الصدفة النادرة عندئذ، هي أن يجد نفسه أمام الباب المفتوح، فيعرف طريقه إلى النور. لكن هذا الرأي قد لا يقع من آخرين موقع الرضا، أو ربما اتفق معي بعض هؤلاء في مجمل الرأي، لكنهم يرفضون أن يكون طريق النجاة هو ما أراه، وربما كانت أفضل وسيلة للإقناع هي وسيلة الالتفاف الذي ينتهي إلى حصار يبرز عناصر المشكلة وحلها.
الأصل في الحياة الثقافية السوية، في شعب معين يعيش في عصر معين، هو أن تتعدد القنوات، وتتنوع، لكنها برغم تعددها وتنوعها «تتشابه» لكي تتلاقى آخر الأمور عند هدف واحد، يكون هو الهدف الذي تتجه إليه قلوب الناس، سواء استطاع بعضهم، أو لم يستطع بعضهم الآخر، أن يفصحوا عما أرادوه. والقنوات المتعددة المتنوعة التي أشرنا إليها، هي العلم، والفن، والأدب، وكل ما يمكن أن يكون هناك من وسائل التعبير، فبأي معنى نريد لتلك القنوات «المختلفة» أن تجيء «متشابهة» إذا أردنا أن نظفر بحياة ثقافية سوية ومعافاة؟ وهنا نبدأ بحركة الالتفاف الأولى، بالوقوف عند «التشابه» ومعناه.
ولو كان التشابه المقصود تشابها في الملامح الظاهرة، لما كان في الأمر إشكال، لكن الأمر في تشابه القنوات الثقافية ليس كذلك، وإلا فكيف تتشابه الملامح الظاهرة بين قانون في علم النبات - مثلا - وبين معزوفة موسيقية، أو لوحة تشكيلية، أو قصيدة من الشعر، أو رواية؟ لا بد - إذن - إذا كنا نزعم تشابها بين متنوعات كهذه، أن نبحث له عن معنى وراء الملامح الظاهرة، فماذا عساه أن يكون؟ ... تأمل هذه الظواهر الطبيعية الثلاث: حجر يسقط على الأرض، دوران الأرض حول الشمس، حركة المد والجزر في مياه البحر، إنها ظواهر - كما ترى - مختلفة أشد ما يكون الاختلاف، لو كان الأمر أمر ملامح تظهر للعين، لكنها مع ذلك متشابهة كلها فيما قد يخفى على العين، إذ هي تتشابه في كونها حركات تحدث بفعل جاذبية الأجسام بعضها لبعض؛ فالحجر يسقط بجذب الأرض، والأرض تدور حول الشمس بجذب الشمس، وماء البحر يتحرك مدا وجزرا بجذب القمر، فالحركة في الحالات الثلاث هي من نوع واحد، ومن ثم يكون ما بينها من تشابه.
ليس المعول في التشابه الخفي قائما على التماثل بين الملامح الظاهرة، بل هو قائم على التماثل في «الوظيفة» أو في «الأداء» أو في «الغاية» بين الشبيهين، ومن هنا تكون الوردة على شجرة الورد أقرب شبها بالبرتقالة على شجرة البرتقال، منها بوردة صنعت من ورق، لأنه بينما الوردة الحية والبرتقالة الحية كلتاهما تتغذى وترتوي وتنمو ، وبذلك تكونان معا في تيار الحياة، محققين للحياة غايتها، تقع وردة الورق في عالم آخر، هو عالم الجماد والموات، وإدراك التشابه الخفي قد يستعصي على غير ذوي البصائر لكنه هو التشابه الذي نراه في كائنات الكون جميعا، حين ندرك واحدية الكون برغم تعدد كائناته وتنوعها فيما يظهر للعين، ومن هنا قال من قال: دلني على من يدرك التشابه بين الأشياء، وأنا أتبعه تبعية التلميذ لرائده.
إن من هذه المسائل التي قد لا تخلو من صعوبة، حتى على القادرين من أهل العلم، ذلك التشابه الذي لا بد أن يكون قائما بين أية فكرة وتطبيقها، كيف يكون وكيف نفهمه؟ فافرض - مثلا - أن على ورقة أمامك رأيت العدد 4 مكتوبا، ثم رأيت إلى جانب الورقة أربعة أقلام، أو أربعة كتب، فأنت عندئذ تكون بين شبيهين، فالرقم 4 والكتب الأربعة بينهما ما بين فكرة وتطبيقها، ولا بد - كما قلنا - أن تكون هنالك موازاة بينهما بصورة ما، وإلا لما كانت إحداهما تجسيدا للأخرى، ومثل هذا التشابه هو الذي يربط «العلوم» من حيث هي مجموعات من القوانين، وبين دنيا الوقائع والأحداث. وألتقي بهذا في مسألة العلاقة بين «النظرية» و«التطبيق» لأنها تنطوي على صعاب ليس هذا مكانا لذكرها فضلا عن شرحها، وحسبنا بما ذكرناه أن نكون قد صورنا نوع التشابه الخفي بين الأشياء، لأنه هو النوع الذي نطالب بأن يكون قائما بين قنوات الحياة الثقافية، برغم تعددها وتنوعها، وذلك إذا أردنا لتلك الحياة الثقافية أن تكون سوية وسليمة، فنجد تشابها يصل إلى حد الهوية الواحدة، بين ما تقوله الموسيقى، والتصوير، والعمارة، والنحت، والشعر، والرواية، والمسرحية، والمقالة، ويضاف إلى ذلك أن نجد ذلك كله متجها مع روح العلم في عصره في اتجاه واحد.
تلك - إذن - كانت حركة الالتفاف الأولى حول موضوعنا، وأما الحركة الثانية فهي أن ننظر إلى «الشعب» الذي في حياته تنشأ الحياة الثقافية التي نحن الآن معنيون بعرضها وتحليلها، فنسأل: ماذا عساها أن تكون، تلك الروابط التي تربط كذا مليون من أفراد الناس في شعب واحد؟ وهو سؤال تختلف عنه الإجابات، فقد يقال إنه العرق المشترك، أو يقال إنه التاريخ المشترك، أو يقال إنه الأرض المشتركة، أو يقال إنها الثقافة المشتركة، وهكذا ... وبالطبع قد يكون المشترك بين أبناء الشعب الواحد، هو كل تلك العوامل، أو بعضها، وأن الروابط لتزداد غزارة كلما كثرت الأصول المشتركة بين أبناء الشعب الواحد، على أن هناك عوامل أخرى طارئة في حياة الشعب، من شأنها - إذا ما وقعت - أن تزيد من قوة تلك الروابط كحرب تنشب مع عدو فيتكاتف أبناء الشعب بدرجة أكبر مما يحدث في الحياة المعتادة، أو أن تحل بالبلد كارثة من كوارث الطبيعة، كالزلازل وثورات البراكين أو الأوبئة أو ما إلى ذلك، لأنه في أمثال تلك النكبات الجماعية، يغلب على الناس أن يشتركوا في «فعل» معين يتقاسمونه ويتعاونون على أدائه، وفي هذا ما يبث في الجماعة شعورا بالوحدة، وكأن الجماعة قد أصبحت فردا واحدا.
إن للحياة الثقافية معنى يجعلها صفة لا يوصف بها الفرد الواحد، بقدر ما توصف بها جماعة معينة من الناس، كالشعب الواحد، أو حتى كمجموعة شعوب متقاربة تتكون منها قومية واحدة. وذلك لأن الحياة الثقافية متعددة الفروع، وكأنها الفروع في جذع شجرة واحدة، وليس من الممكن لفرد واحد أن يجمع في شخصه كل تلك الفروع بدرجات متساوية أو متقاربة، بحيث يكون عالما، وفنانا، وأديبا، بما تشتمل عليه كل واحدة من تلك الصفات من فروع، وفروع الفروع. إذن، فالذي يحمل الحياة الثقافية المكتملة هو شعب بأسره أو مجموعة شعوب موحدة الاتجاه والمزاج، ولقد كان الشاعر الإنجليزي المعروف «ت. س. إليوت» من أصحاب هذا الرأي. وقد فصله تفصيلا في كتاب له عن الثقافة ومعناها.
إلا أن الشعب الواحد، كالشعب المصري مثلا، أو مجموعة الشعوب المتقاربة، كالأمة العربية بمختلف شعوبها، إذا ما قلنا عنها إنها موحدة الثقافة، فلسنا نعني بذلك أن جميع الأفراد متساوون في الأدوار التي يؤدونها في تلك الحياة، إذ إن منهم من تضطرب صدورهم بالمشاعر المعينة، أو بالاتجاهات المعينة، ولكنهم لا يملكون القدرة على الإفصاح عما شعروا به، أو عما رغبوا فيه، وهؤلاء يكونون - عادة - سواد الشعوب، وإلى جانب هؤلاء قلة تشعر الشعور نفسه، وترغب الرغبة نفسها، ثم هي فوق ذلك تملك مواهب التعبير بالنغمة، أو باللون، أو بالكلمة، أو بمنهج البحث العلمي الذي يستخرج حقائق الأمور، ومحصلة ما ينتجه هؤلاء هي الحصاد الثقافي العيني الذي يرجع إليه إذا ما أردنا الكشف عن شعب معين منعكس في ثقافته.
فنحن إذا ما أردنا في موضوع حديثنا هذا الذي بين أيدينا، أقول إننا إذا أردنا أن نحكم على حياتنا الثقافية الراهنة حكما منصفا، وجب علينا أمران: أولهما: هو أن نكون على علم كاف بما قد أنتجته تلك القلة المنتجة للحصاد الثقافي في الفترة التي نريد الحكم لها أو عليها، وأما الأمر الثاني فهو أن يكون لدينا تصور معقول لما كان ينبغي أن يحققه ذلك الحصاد ... لكي نقيس الأمر الواقع إلى المثال. ولكن من أين يأتينا ذلك المثال الذي نقيس عليه الأمر الواقع؟ أهو مرهون بنزوة الكاتب؟ إن السماء لا تمطر «مثالا» يلزمنا بكماله، ولكنه التاريخ، تاريخ الثقافات عندما تبلغ ذراها في عصور معينة، وبلوغها تلك الذرى هو في ذاته حكم ثقافي يستند صوابه إلى إجماع الرأي عبر العصور، أو ما يقرب من الإجماع، فمن الذي يجادل في رفعة الحياة الثقافية في أثينا «بركليز» أو في بغداد «المأمون» أو في باريس «لويس الرابع عشر»؟
Página desconocida