على أن من الحق أن نلاحظ أن ليست أيام السفينة أيام راحة وترفيه بريئين بالقياس إلى الناس جميعا؛ فمن الرجال من يتخذ من هذه الأيام فرصة لعله لا يصادفها كثيرا في حياته العادية، فرصة لاتباع النساء ومغازلتهن ومداعبتهن باللحظ حينا وباللفظ حينا آخر، ومن الرجال من يتخذ هذه الأيام والليالي فرصة لعله لا يصادفها كثيرا في حياته العادية، وينتهزها ليتجمل بأحسن ما عنده من ثياب، وليمشي قبل الغداء وبعد العشاء على الجسر ذاهبا جائيا يكاد جسمه يعلن عن نفسه في هذه الأشكال المختلفة التي يأخذها حين يقف وحين يتحرك، وحين ينظر وحين يلتفت، وحين يشعل السيجارة أو السيجار، وحين يرسل الدخان من فمه. ومن النساء كذلك من تتخذ هذه الأيام والليالي فرصة للهو والعبث والدعابة، وفرصة للتبرج وإبداء الزينة، وفرصة - على الجملة - للاستمتاع بنوع من الحياة قلما يظفرن به في حياتهن العاملة في المدن.
أما سمر الليالي وما فيه من قصف وعزف ورقص ومناجاة ومناغاة، فلست أحدثك عنه؛ لأني لا أذكر أني شهدته قط منذ تعودت أن أعبر البحر، إنما قصاراي في هذه الأسفار إذا فرغت من العشاء أن أصعد إلى الجسر فأذهب عليه وأجيء حينا - مهما يطل فلن يتجاوز إحراق سيجارة أو سيجارتين - ثم أهبط إلى حيث مضجعي فآوي إليه. وأنا لا أذوق النوم في السفينة إلا غرارا، فما أطول ما يكون في هذه الليالي الطوال بيني وبين نفسي من حديث! أهو حديث حلو؟ أهو حديث مر؟ أهو مزاج من الحلو والمر؟ لست أدري! ولكني أعلم أني أحب هذه الليالي، وآنس إليها أشد الأنس؛ لأني أفرغ فيها إلى نفسي، ولأني أجد فيها من الحرية والخلوة ما لا أجده في مكان آخر ولا في زمان آخر.
ولعل كثيرا من الناس لا يفهمونني إن قلت إني أجد لذة غريبة قوية إذا تقدم الليل، وهدأت حركة الناس جميعا في السفينة، وكنت وحدي يقظا أو كاليقظ، أسمع لاصطخاب الموج حين يكون البحر هائجا، ولعزف الريح واصطفاق الموج حين يكون البحر هادئا، ولما يكون في الحالين من هذا الصوت الأصم القوي الذي تبعثه السفينة في اضطراد وتشابه واستمرار منذ تبرح الإسكندرية حتى تصل إلى مرسيليا. نعم، أجد لذة غريبة في هذه الأصوات التي أسمعها، وربما حاول خيالي أن يلائم بينها، ويؤلف منها موسيقى فيها قوة، وفيها عذوبة، ولها قدرة غريبة على أن تخلطني بها، فإذا أنا جزء لا يكاد ينفصل من هذه الطبيعة التي تتألف في خيالي من الموج والريح والسفينة، وربما كانت الخواطر التي تشغلني من حين إلى حين قوية جذابة، فتملأ نفسي وتملك علي قلبي وتصرفني عن كل شيء، فلا أحس ولا أسمع، وإنما أنا في تفكير مطلق طويل، حتى إذا مضيت في هذا التفكير إلى غايته أحسست كأني قد فقدت شيئا، وإذا أنا أجمع إلي حسي وعقلي وشعوري، وأتخلص قليلا قليلا من هذه الخواطر التي غمرتني، وأتلمس العودة إلى عالمي الذي أجد فيه الأنس واللذة والدعة - والليل مظلم مدلهم - عالم الأصوات المختلطة تتألف من الموج والريح والسفينة. كذلك أقضي ليالي بين الإسكندرية ومرسيليا.
ففيم كنت أتحدث إلى نفسي هذه الليلة بعد أن آويت إلى مضجعي نحو الساعة العاشرة، وقد أنبئت أن قد بعد ما بيننا وبين المضيق حتى لا ترى السواحل، وإنما هي السماء والماء يمتدان ما امتد الأفق أمام الناظرين، كنت أستحضر المرات المختلفة التي أخذت فيها السفينة وعبرت فيها البحر من مصر إلى فرنسا.
وإذا استحضرت هذه المرات فإنما أستحضر ما كان يرافقني من الخواطر فيها، وكانت الخواطر التي تعرض لي أثناء هذه الليلة، ولا تكاد تفارقني، خواطر سفري الأول من الإسكندرية منذ أربع عشرة سنة، ثم سفري الثاني من بورسعيد منذ ثلاث عشرة سنة، ثم سفر آخر من بورسعيد منذ أربع سنين.
كنت أراني حين تركت مصر لأول مرة شيخا معمما قد صعد إلى السفينة يتعثر في أذيال جبته وقفطانه اللذين كانا يزيدانه حيرة إلى حيرته الطبيعية التي قضت بها عليه عاهته التي حالت بينه وبين الضوء ، فلم أكد أصل إلى غرفتي حتى طارت العمة عن رأسي. ولقد أريد أن أتذكر إلى أين، فلا أجد إلى ذلك سبيلا؛ كل ما أعرفه أني خلعتها حين دخلت الغرفة، ثم لست أدري إلى أي حال صارت، ولو قد عثرت عليها لحفظتها تذكارا باقيا، ولوجدت شيئا من الحنان والحزن والأمل حين آخذ بين يدي ذلك الطربوش الكالح، وتلك الخرقة التي ما أظن أنها كانت يومئذ ناصعة البياض. وخلعت الجبة والقفطان، وأنا أعلم إلى أين صارا؛ منحهما أخي هدية لسيدة كان يألفها في فرنسا، ولست أدري ماذا اتخذت منهما! خلعت العمة، وخلعت الجبة، وخلعت القفطان، ودخلت في هذه الثياب الأوروبية، فكم ضقت بها، وكم كرهتها، وكم ندمت على جبتي وقفطاني طوال الأسبوع الذي قضيته على ظهر «أصبهان» رحمها الله! فقد هوت «أصبهان» إلى قاع البحر، وعبث الموج بأجزائها كما عبث بأجزاء عمتي في أكبر الظن.
وكان البحر في هذه السفرة يروعني ويخيفني، ويملأ قلبي هولا ورعبا. كنا في نوفمبر، وكان البحر هائجا شديد الهياج، وكانت سفينتنا صغيرة ضئيلة عتيقة تحب الترجح والرقص، فكانت تعلو وتهوي، وتميل ذات اليمين وذات الشمال، وكانت الريح هوجاء في أكثر الوقت، ولا سيما إذا أظلم الليل، وكنت أسمع عصف الريح وقصفها، واصطخاب البحر وهديره، وكنت أحس اضطراب السفينة عنيفا قويا، ولم أكن أرى على ذلك كله شيئا، فتصور هذا الذي لم يتعرض قط لخطر، ولم يعرف قط الحياة المضطربة العنيفة، ولا حظ له من العلم بالبحر، ولا تجربة له فيه، ولم يقدر الله له حظا من النور يرى به أن هذا الاضطراب، وهذه الضوضاء، وهذا الموج المتراكب مهما يكن عظيما، فهو لا يعرض السفينة للهلكة ولا للعطب. واشتد الذعر وكدت أيأس من كل شيء ذات ليلة حين وقفت السفينة فجأة، وقيل إن بعض أدواتها قد عطب، حينئذ ذكرت مصر في حسرة، وذكرت فرنسا في لوعة، واستلقيت على سريري أنتظر الموت، بينما نهض صديقي ... فلبس وازين؛ لأنه كما كان يقول لا يريد أن يموت في قميص النوم! ثم انجلت تلك الغمة، واستأنفت السفينة سيرها هادئة في جو هادئ. وما هي إلا ساعات حتى أشرفنا على الساحل الفرنسي، ومضت بعد ذلك سنة كان فيها ما شاء الله من حلو الأمر ومره، وإذا أنا في آخر ديسمبر سنة 1915 في القاهرة، أتهيأ لاستئناف الرحلة إلى فرنسا بعد أن كنت قد يئست من عبور البحر مرة أخرى، وأقبلت ذات مساء إلى الجامعة أودع موظفيها قبل السفر إلى بورسعيد، فيا هول ما سمعت حينئذ! أنبأني السكرتير أني قد أضطر إلى البقاء؛ لأن الحكومة الإيطالية ترفض أن أمر بأرضها إلى فرنسا. ولم هذا؟ لأنك ضرير وإيطاليا لا تريد أن يمر بأرضها أو يستقر فيها إلا من كان قادرا على أن يعيش دون أن يكلف الحكومة الإيطالية مشقة أو عناء، وإذن فلن تسافر غدا إلا أن يأتي الله بما ليس منتظرا. لا أذكر أن شيئا وقع من نفسي موقعا مؤلما كهذا النبأ.
وكانت لهذا الألم مصادر مختلفة؛ أولها: تأجيل هذا السفر الذي امتدت إليه نفسي بكل قوتها ثلاثة أشهر كاملة. والثاني: علة هذا التأجيل، وهي أني ضرير لست كغيري من الناس، ماذا أصنع في مصر وليس لي عمل فيها، ولا مورد للحياة؟ ثم أشياء أخرى كانت تمتلئ بها النفس ليس إلى تفصيلها من سبيل.
وسأشكر ما حييت لرئيس الجامعة يومئذ وصاحب عرش مصر الآن، ولمدير دار الكتب يومئذ ووزير المعارف حين أملي هذه السطور وللمرحوم «علوي باشا»، ما كان لهم من جهد حميد وبلاء حسن في تذليل هذه الصعوبة الطارئة والعقبة المفاجئة، فقد اتصل رئيس الجامعة بوزير إيطاليا المفوض، وكان من أثر هذا السعي أن أذن لي بمرافقة أصحابي إلى فرنسا عن طريق نابولي.
وانتصف نهار الغد، وإذا نحن على ظهر سفينة هولاندية صغيرة ظريفة أنيقة قادمة من الشرق الأقصى عليها قوم فرحون، فيهم شباب نشيط مرح، وفيهم بنوع خاص ناهد لم تبلغ الخامسة عشرة بعد، رأت صاحبا لي في عمته وجبته وقفطانه، وكان وسيما أنيقا متظرفا، فأنست إليه، وفتنت به أو بزيه.
Página desconocida