إذن فنحن نرقب المناوشات والمشاحنات التي تحدث بين الحين والحين بعين ثاقبة؛ فإذا لم يكن هذا مسرحا صامتا فإنه يكاد يكون أقل مما يبدو عليه للوهلة الأولى بالقطع. ومن هنا كان الانفتاح المحدود للنظام عندما كانت إدارة بوش مولعة بالحديث عن الديمقراطية في نفس الوقت الذي يدور فيه الحديث عن تطوير برنامج نووي، وهو ما يبدو للوهلة الأولى مفيدا في الدعاية الداخلية باعتباره دليلا على استقلال النظام عن الولايات المتحدة، لكنه كلام فارغ في حقيقته. ومن هنا أيضا كان قمع المعارضة الليبرالية والعلمانية في الوقت الذي انصب فيه اهتمام واشنطن في اتجاه آخر. وبالرغم من أن هذا غير محتمل، ففي حالة زيادة الضغط الأمريكي من أجل الديمقراطية وتحرير الاقتصاد - وهو ما يعني الضغط من أجل المساءلة والشفافية فضلا عن الخصخصة الكاملة - يمكن لنظام مبارك أن يلعب على فزاعة الخوف مرة أخرى؛ فهم يقولون إن الانفتاح ينطوي على مخاطرة وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، مستشهدين بتجربة حماس في الأراضي الفلسطينية وحزب الله في لبنان، وبالطبع بالكابوس الذي آلت إليه دولة إيران الثيوقراطية. وقد ظلت إيران فترة طويلة الورقة الرابحة الكبرى بين تلك الأمثلة، قبل أن يكشف تقييم استخباري قومي جديد في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2007 أن إيران تخلت عن هدف امتلاك الأسلحة النووية عام 2003، وهو ما هدأ المخاوف من اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران. وعلى الرغم من ذلك، واصلت واشنطن دعم حلفائها من الأنظمة العربية السنية «المعتدلة» مثل مصر من أجل كسب الدعم لتقييد إيران، ومن أجل إحكام السيطرة على الاستياء الشعبي من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على هذه الدولة. •••
لطالما أبدى المصريون اهتماما بالغا بالسياسة الإقليمية على مر التاريخ. لكن الحقيقة أنهم صاروا أكثر اهتماما هذه الأيام بما تتعرض له ثروات بلادهم من نهب جهارا نهارا على أيدي القطط السمان من أبنائها والمستثمرين الأجانب على حد سواء، وكل هذا تحت غطاء ما يسميه البعض عجائب العولمة بكل الآثار المشينة المترتبة عليها في المستقبل البعيد، (لكن لاحظ كيف أن القطط السمان أنفسهم يبدو دائما أنهم يفضلون نوع الإشباع الفوري)، وتحت غطاء ما يدينه الآخرون على أنه «عقيدة الصدمة»، بحسب التعبير الشهير للصحفية الكندية نعومي كلين. وأيا كان الجانب الذي ننحاز إليه في هذه المسألة، فإن ثورة 1952 تبدو حاضرة في عقول الجميع في مصر؛ في عقل النظام وهو يحاول عزل نفسه عن تركة عبد الناصر وفي الوقت نفسه يستغلها من أجل الشرعية، وفي عقل المعارضة وهي تقول إن مبادئ الثورة تعرضت للخيانة منذ زمن بعيد وأن مصر عادت من حيث بدأت تماما.
بدا هذا الانقسام شديد الوضوح عندما أعلنت الحكومة عن بيع بنك القاهرة لمستثمرين أجانب وهو ما أثار حالة غليان داخل الأوساط السياسية. ذكر جودة عبد الخالق أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة وعضو في حزب التجمع اليساري أنه يظن أن توقيت الإعلان عن البيع تزامن عن قصد مع العيد الخامس والخمسين للاحتفال بالثورة. صرح عبد الخالق أمام مؤتمر عقد تحت شعار «لا لبيع مصر» داخل مقر نقابة الصحفيين في الأسبوع الذي تلا الإعلان عن البيع قائلا: «في عام 1952، أقرت ثورة يوليو/تموز ستة مبادئ تضمنت القضاء على الاستعمار والقضاء على هيمنة رأس المال الأجنبي . وفي يوليو/تموز 2007، يقولون لنا إن هذه كلمات جوفاء، ورأس المال لا يعرف الحدود والمصلحة العامة تقتضي بيع البنك.» وحذر أيضا أن الحكومة ربما تعرض الأمن القومي للخطر ببيعها ذلك العدد الكبير من أصول مصر. ونقلت صحيفة الأهرام ويكلي عنه قوله أمام الحضور: «حتى في أكثر النظم الاقتصادية الحديثة تحررا - مثل الولايات المتحدة - ثمة خط أحمر لا يمكن تجاوزه.» واستطرد مذكرا إياهم كيف أن الساسة الأمريكيين أعاقوا خطط شركة موانئ دبي العالمية التي كانت تسعى لإدارة ستة موانئ أمريكية قبل عام؛ لأنهم رأوا فيها تهديدا قوميا. زاد بيع البنك من المخاوف الموجودة منذ وقت طويل بأن الخصخصة تنذر بعودة الاستعمار. وقال النائب البرلماني المستقل مصطفى بكري في اجتماع اللجنة المصرفية في البرلمان: «سيؤدي بيع هذا البنك إلى عودة عهد الامتيازات الأجنبية.» امتلأت الصحف بإدانات من جانب اتحادات العمال وحكايات حول المودعين الذين أصابهم الذعر فسارعوا بسحب أموالهم من فروع البنك. حدث كل هذا الارتباك في أعقاب اندلاع مظاهرات حاشدة هي الأولى من نوعها في ست محافظات مصرية كانت تعاني من نقص حاد في المياه، وهو ما ألقى الضوء على الحقيقة المفزعة التي تقول إن آلاف المصريين يموتون كل عام لأنهم لا يجدون الماء النظيف، بينما تشهد المشروعات الاستثمارية الكبرى بناء أحدث شبكات الصرف الصحي والمياه من أجل القرى السياحية الجديدة والمجمعات السكنية الفاخرة على أطراف المدن، وكلها لخدمة السياح وذوي الثراء من المصريين. وعلى الرغم من أن عهد الحكم الاستعماري المباشر قد ولى، فإن خنوع النظام أمام واشنطن إنما هو تذكرة أليمة بالماضي. ومع اقتراب صعود جمال إلى السلطة، تصبح المقارنة بين آخر أيام الملكية في عهد فاروق وبين أيام النظام الحالي أكثر ملازمة للفكر.
في خضم هذا كله، يهدد السعي وراء المزيد من الخصخصة بناء على أوامر المؤسسات المالية الدولية باندلاع احتجاجات عمالية أوسع نطاقا، وربما يقع العمال - طوعا أوكرها - في قبضة الإخوان المسلمين في ظل غياب فصائل المعارضة البديلة. ولا شك أن الإخوان المسلمين تصدروا الحملة التي شنت ضد بيع البنك - عندما وصف المتحدث الرسمي باسمهم عملية البيع بإيجاز فقال: «هذه ليست خصخصة؛ إنما هي سرقة.» - وجعلوا تطهير مصر من النفوذ والاستغلال الخارجي منذ زمن بعيد بندا رئيسيا من بنود برنامجهم السياسي. وإذا تشكل هذا التحالف، فثمة خياران لا ثالث لهما؛ إما حملة قمع هائلة أو سقوط النظام، وكلا السيناريوهين محتمل. تبدو هذه الصورة في مصر شبيهة على نحو يثير الاستغراب بمثيلتها في إيران؛ وهي دولة أخرى استحوذ عليها هاجس التدخل والهيمنة الخارجية على مدى قرون، في الوقت نفسه الذي شهد ميلاد الثورة في سبعينيات القرن العشرين. وحري أن نذكر أن وصول الإسلاميين المتشددين بقيادة الخوميني إلى سدة الحكم لم يكن أمرا مقدرا. فهؤلاء لم يكونوا سوى مجموعة واحدة من عدة مجموعات وقفت في وجه الشاه، ويقال إنهم لم يكونوا الأكثر زعامة أو الأكثر شعبية. فقبل الثورة كانت جماعات المعارضة ضد حكم الشاه متنوعة تضم طلابا وعلمانيين ودعاة للمساواة بين الرجال والنساء وماركسيين وإسلاميين ومناهضين لفكرة الاستعمار. أضف إلى هذا أن الثورة اندلعت بإضرابات عشوائية تفتقر إلى التنظيم والتلاحم، تراكم أحدها فوق الآخر، وانضمت إليها مجموعات أكثر تنظيما ذات أهداف سياسية أكثر وضوحا، ثم فوجئت بحكومة ثرثارة لا تريد التخلي عن السلطة وتعجز عن قمع المعارضة بالعنف الذي يتطلبه الموقف. ارتبكت واشنطن في الوقت الذي اشتعلت فيه طهران؛ تلك الدولة الفوضوية التي صنعتها بنفسها، والتي ربما يقول البعض إنه عقاب استحقته على مساندتها المشينة لحاكم فاسد يكن له شعبه كل هذه الكراهية. وانتصر الإسلاميون في الأشهر التي تلت ثورة 1979 بعد أن أثبتوا أنهم القوة الأكثر تنظيما وحزما. أما الشاه فقد انتهى به الحال إلى المنفى الذي صادف كونه في مصر؛ وكانت إشادة السادات بالشاه الفاسد أحد أسباب اغتيال الإسلاميين له. ففي الشرق الأوسط، يكون الجزاء من جنس العمل على نحو مؤلم. لكن لا بد أن نتساءل هل استفادت واشنطن من الدرس؟ •••
الخطر الأكبر الذي يحيق بالنظام المصري أن الإضرابات تؤثر على مجريات الأحداث يوما بعد يوم، وبعض العمال - لم يتبين عددهم بعد - بدءوا «يربطون بين رواتبهم المتدنية وبين الظروف السياسية والاقتصادية من توطن الاستبداد، وعدم أهلية الحكومة وفسادها المنتشر على نطاق واسع، وخنوع النظام للولايات المتحدة وعجزه عن تقديم - أو حتى إبداء اهتمام بتقديم - دعم حقيقي للشعب الفلسطيني أو الاعتراض الجاد على الحرب في العراق، وارتفاع نسبة البطالة، وتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء»، حسبما ورد في تحليل لمجلة ميدل إيست ريبورت في مايو/أيار عام 2007. بدأت أعداد كبيرة من المصريين الحديث صراحة عن الحاجة إلى حدوث تغيير حقيقي. يحتل موظفو القطاع العام موقعا مهما يمكنهم من أداء دور حاسم إذا استطاعوا تنظيم أنفسهم، ولا يحتاج عدد المضربين عن العمل إلا لزيادة قدرها عشرة أضعاف العدد الحالي ليصلوا إلى الأرقام التي أشعلت الانتفاضات الشعبية في الماضي. فالثورة الإيرانية كانت أكثر الثورات شعبية في التاريخ، لكن لم يشارك فيها مشاركة فعلية سوى 2 بالمائة من إجمالي عدد السكان، وثاني أكثر الثورات شعبية في التاريخ اندلعت في روسيا عام 1917 ولم يشارك فيها مشاركة فعالة سوى 1,5 بالمائة من إجمالي السكان.
لا ينبغي للنظام المصري أو الإدارة الأمريكية أن يركنا إلى ما يشار إليه بوجه عام - ازدراء أو تمنيا - بالطبيعة اللامبالية للشعب المصري. فقد ذهبت النظرة الاستشراقية للتاريخ المصري إلى أن المصريين لانت شوكتهم نتيجة حكم الفراعنة لهم قديما، ومن ثم اعتادوا ألا يفكروا في شكل وطبيعة الحكم في الدولة، وسلموا بفكرة أن الفرعون فوق مستوى المساءلة. وهكذا يواصل المصريون حياتهم عبر تجاهل الدولة، وعيش حياتهم على إيقاع النيل. من اليسير أن نعقد المقارنات بين الماضي والحاضر، خاصة تلك التي تشبه مبارك بالفرعون؛ فهو ثالث أطول الحكام المصريين بقاء في السلطة على مدار الأربعة آلاف سنة الماضية. لكن هذا التحليل يحيد عن إنصاف الأمة المصرية المتشعبة النابضة بالحياة كما نراها في القرن الحادي والعشرين. أصبح الفيضان السنوي لنهر النيل ذكرى من الماضي بفضل بناء السد العالي. أيضا تدلل المائة عام الماضية على أن المصريين أبعد ما يكونون عن الاستكانة وعدم الاكتراث بمن يحكمهم أو كيف يحكمهم، ولنا في ثورات المصريين عبرة؛ فقد اندلعت ثورة شعبية ضد الإنجليز (1919)، وانتفاضة جماهيرية احترق على إثرها نصف القاهرة (يناير/كانون الثاني 1952) تلاها الانقلاب العسكري (يوليو/تموز 1952)، ومظاهرات حاشدة أرغمت السادات على الاعتراف المخزي بخطأ القرار الذي اتخذته الحكومة بتخفيض الدعم على السلع الغذائية الأساسية (1977)؛ فضلا عن سلسلة متواصلة من الاغتيالات والمظاهرات الشعبية والهجمات الإرهابية. لا يمكن لشعب بهذا التاريخ إذن أن يوصف باللامبالاة؛ ولكن الأكثر إثارة لقلق النظام، والأكثر إلهاما لهؤلاء الذين يسعون للإطاحة به، هو أن الفارق الزمني بين ثورتي 1919 و1952 وبين ثورتي 1952 و1977 يقدر بنحو ثلاثة عقود، وهي الفترة التي تفصل عام 1977 عن الوقت الحاضر. وتشير تلك القراءة للتاريخ إلى أن مصر ربما كانت على موعد مع واحدة من ثوراتها الشعبية المتكررة. •••
هل فكرت واشنطن في ذلك؟ مما يتراءى لنا الآن من أدلة، الجواب هو لا. ولهذا السبب يجد الأمريكيون أنفسهم في عدد من المآزق؛ أهمها الرغبة في تحقيق الاستقرار إلى جانب الإصلاح الاقتصادي والسياسي في الوقت نفسه. ربما يكون الهدفان متناغمين على المدى البعيد، بل وربما يعزز كل منهما الآخر. غير أن السياسيين وصناع القرار في أمريكا نادرا ما يخططون للمدى البعيد؛ ومن باب الإنصاف أن نقول إن هذا الأمر لا يقتصر على الأمريكيين وحدهم. وعلى المدى القريب، لا تفتقر الرغبات إلى التناغم فيما بينها فحسب، بل تعمل إحداها ضد الأخرى داخل المجتمع المصري. فالحفاظ على الاستقرار يعني الاستمرار في دعم مبارك والمقربين منه مع غض الطرف عن القوى الأساسية التي تهيمن على السياسة المصرية وهي الأجهزة العسكرية والأمنية. فتلك المجموعات ليس لديها ما يحفزها على الإصلاح، لأنها تستفيد من الوضع الراهن بما في ذلك المساعدات الأمريكية. أعضاء الحزب الوطني أنفسهم يعون جيدا أن الإصلاح يعني التخلي عن شيء من السلطة - كما أشار بدراوي - ويخافون على نحو مبرر ومفهوم من أن يؤدي فقد السلطة إلى تضاؤل سيطرتهم. تلك هي ركائز الاستقرار التي بمقدورها وأد التغيير واستخدام القوة لمنع الاحتجاج الشعبي من الخروج عن نطاق السيطرة . ولا شك أنهم يستطيعون قمع المعارضة بل وقمع انتفاضة شعبية، لكن شيئا كهذا لن يخلص النظام من مأزقه، لأن ركائز استراتيجية الإصلاح لديه - متمثلة في الخصخصة والاستثمار الأجنبي - تعتمد في نجاحها على الاستقرار الداخلي أيضا.
على الجانب الآخر فإن الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة من أجل تنفيذ إصلاح اقتصادي وسياسي حقيقي يحمل في طياته منافع مرتقبة من النمو الاقتصادي لا يقتصر نفعها على النخبة المتسلقة وحدها، بل يمتد إلى عموم المصريين الذين يعتمدون حاليا إلى جانب وظائفهم (إن كانوا يعملون) على الدعم الذي يستنزف ميزانية الحكومة. ولو كان الاقتصاد المصري أقوى مما هو عليه، فلن نرى مطاردي السياح في المناطق الأثرية وممارسي البغاء من الذكور في الأقصر عدوانيين أو مستغلين ومستغلين هكذا. يوفر الإصلاح السياسي - بمعنى زيادة الديمقراطية والشفافية - فرصة أمام الأصوات المختلفة في المجتمع المصري المعروف بتعدديته للمشاركة وتحقيق المصالح. وسيكون ذلك بمنزلة تغيير جذري عن الوضع الراهن الذي تزعم فيه الحكومة أن الوحدة مبدأ أساسي، وهذا ما يدفعها إلى التكشير عن أنيابها عندما يتحدث أحد عن وجود أقليات، وما يجعلها تزعم أنها تحقق مصالح الشعب على أفضل وجه، في الوقت نفسه الذي ترفض فيه اختبار صدق هذا الادعاء عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
ظهرت حقيقة تلك الأهداف المتضاربة في تجربة شديدة الغرابة تعرض لها هشام قاسم، الناشط المصري في مجال حقوق الإنسان، الذي وقع عليه الاختيار ضمن أربعة نشطاء دوليين في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007 لنيل جائزة الديمقراطية الصادرة عن هيئة «المنحة الوطنية للديمقراطية». وجد قاسم أن التجربة محزنة للغاية، إذ صرح لوكالة رويترز بعد تسلم الجائزة قائلا: «رؤية رئيس الولايات المتحدة بشخصه والإحساس بعدم اكتراثه لما يجري على الصعيد السياسي في مصر جعلتني أتيقن من أن برنامج الديمقراطية هذا قد انتهى بلا رجعة.» وقال قاسم إن بوش سأله عن الإصلاحيين في الحزب الوطني الحاكم (وهو ما أجاب عليه بقوله: «آسف، لا يوجد إصلاحيون في الحزب الوطني.»)، لكن اهتمامه كان منصبا في الأساس على وضع الإسلاميين في مصر. أوضح قاسم أن الحكومة جعلت من المستحيل على الحركات السياسية العلمانية ممارسة عملها مفسحة المجال بذلك أمام الإسلاميين: «لا بديل الآن أمام الشعب، خصوصا وأن الإسلاميين يعملون خارج المساجد بينما الأحزاب السياسية العلمانية لا يسمح لها بالعمل على الإطلاق.» وأضاف أنه يخشى في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم «أن مصر ستصبح دولة دينية بحلول عام 2010.» وكان واضحا أن هذا التعليق الأخير استحوذ على اهتمام بوش الكامل، وبدت عليه حيرة شديدة لأن السياسة الأمريكية لا تحقق أهدافها، فقال: «نحن نعطي بلادكم ملياري دولار كل عام لتحفظوا استقرارها وتحولوا دون تحولها إلى دولة دينية.» قال قاسم إن بوش بدا مصدوما ومرتعبا.
قد يقول البعض إن قاسم لم يسد لنفسه صنيعا عند لقائه بوش وكبار مستشاريه. والحقيقة المؤسفة هي أن الضغط الأمريكي من أجل الديمقراطية أصبح ينظر له الآن على أنه غير صادق على أفضل تقدير، ومنافق على أسوأ تقدير. ولا عجب في ذلك عندما يكون غرض الرئيس مما يدفعه لنظام مبارك هو الحفاظ على الاستقرار وليس السعي وراء الإصلاح. وقد ترتب على هذا التضارب في السياسة الأمريكية أن أي محاولة لمساعدة الأفراد والحركات الداعية إلى الديمقراطية تسفر عن نتيجة سلبية وهي الحد من تأييدهم داخل دائرة أنصارهم. وبعبارة أخرى، يتهم هؤلاء الأفراد بالعمالة. وقد كانت هناك فرصة كبيرة أمام قاسم لكسب التأييد لقضيته داخل مصر نفسها لو أنه رفض مقابلة بوش من الأساس، لأن الكثيرين من الإصلاحيين العلمانيين ليسوا مفتونين بالأمريكيين، وهو ما اتضح لي - في أوج «ربيع القاهرة» أوائل عام 2004 - عندما التقيت بمجموعة منهم من بينهم أحمد سيف الإسلام وهو رئيس هيئة حقوقية مصرية تدعى «مركز هشام مبارك للقانون». كان من المفترض أن يشعر أحمد بالقوة بسبب الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة من أجل تحقيق ما يحاول هو إلقاء الضوء عليه منذ عقد من الزمان؛ وهو الحاجة إلى مزيد من الديمقراطية والحرية والمساءلة. ولكنه بدلا من ذلك أخبرني أنه وغيره من الإصلاحيين متشككون إلى أقصى درجة في دور أمريكا في المنطقة ، إن لم يكونوا يشعرون بالعداء الصريح تجاهه. قال لي ونحن في منزله الذي يقع على مرمى حجر من جامعة القاهرة: «الحرب على الإرهاب تقوض دور المدافعين عن الديمقراطية، في حين تقوي شوكة الديكتاتوريين العرب الذين يستخدمونها عائقا أمام الإصلاح، وذريعة بأن تأييد الإصلاح يعني الوقوف في صف أعداء الدولة.» وهناك أدلة كثيرة تؤيد وجهة نظر أحمد سيف الإسلام. ففي الأسبوع الذي التقيت به فيه، نشرت صحيفة الأسبوع - القريبة من الحزب الحاكم - مقالا تحت عنوان «خطة واشنطن لمصر» جاء فيه أن أمريكا تسعى إلى تعيين قبطي كنائب للرئيس وإلغاء المادة الثانية من الدستور (التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع). وفي الوقت نفسه، وجهت صحيفة روز اليوسف الأسبوعية الموالية للنظام اتهاما لسعد الدين إبراهيم ب«التعاون مع أمريكا وإسرائيل لتشوية صورة مصر.» وقد ساعد المناخ العام المناهض للسياسة الأمريكية في فتح الباب أمام ردود الفعل العنيفة والمنسقة. أخبرني هاني شكر الله - الذي كان يرأس تحرير جريدة الأهرام ويكلي وقتها - أن «الحرب على العراق أعاقت أجندة الإصلاح بطرق شتى، وأثارت نوعا من البغضاء تجاه الولايات المتحدة امتدت لتتحول إلى بغضاء تجاه الغرب بأسره. وفي ظل الحديث عن «قانون الوطنية» الأمريكي، وخليج جوانتانامو، وسجن أبو غريب، وتدمير الفالوجة، ليس هناك في العالم العربي من يأخذ كلام الأمريكيين عن تأييد الديمقراطية على محمل الجد.» والمفارقة الأكبر هي أنه حتى التحركات الجديدة نحو الإصلاح تكاد تسلك اتجاها يعترض المصالح الأمريكية؛ فتعزيز الديمقراطية في العالم العربي - حتى وإن كان بكلمات موجزة - يعني دائما أن العرب سيعبرون في الأغلب عن انتقادهم الشديد لسياسات إسرائيل وأمريكا فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
Página desconocida