لكم انتشرت هذه القراءة المغلوطة لمصر المعاصرة على نطاق واسع حتى إنه في فبراير/شباط 2011 - بعد بضعة أيام من تنحية مبارك في أعقاب واحدة من أكثر الثورات شعبية في التاريخ - عبر جون ماكين المرشح السابق للرئاسة الأمريكية عن استيائه من أن واشنطن «كان ينبغي لها التنبؤ بذلك عندما أخفقت الحكومة المصرية في المضي قدما في طريق إرساء قواعد الديمقراطية.» والواقع أنه لم يكن ينبغي لأحد أن يندهش من قيام الثورة مثلما كان الحال مع الفوضى التي أعقبت غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة؛ فبالمثل لم يتنبأ «الخبراء» بالوضع المتأزم في العراق. قطعا لو كان ماكين قد قرأ هذا الكتاب، لما بدا مندهشا هكذا، على الرغم من اضطرابات الشيخوخة.
على مدار سنوات غض الإعلام الغربي الطرف عما يحدث في قلب أهم دولة في العالم العربي يعيش ستون بالمائة من سكانها في فقر مدقع حيث ثبات الأجور مع ارتفاع هائل في معدلات التضخم. كان الشعب المصري المشهود له بالود ودماثة الأخلاق غير المألوفين يغلي من شدة الغضب داخل أحيائه الفقيرة وفي الوظائف التي تدر رواتب متدنية محاولا في يأس سد حاجات العيش وفي الوقت نفسه اجتناب ويلات جهاز الشرطة الهمجي. لكنه أيضا - في ظل غياب أي حوار سياسي جاد مع المعارضة - كان حبيس دائرة من اليأس والعجز مثلما أخبرني الطبيب النفسي المصري أحمد عكاشة في الفصل الأول من الكتاب. كان واضحا لكل من ألم بهذه الحقيقة على أرض الواقع أن اندلاع ثورة ربما يكون هو التصعيد المحتمل الوحيد للجنون والطغيان اللذين انحدر إليهما نظام مبارك.
ذاك الانقسام بين ما كان يردده المراقبون الغرب المعزولون عن الشارع المصري وبين الواقع المقيت الذي يعيشه معظم المصريين انعكس بوضوح في ردود الأفعال المتناقضة إزاء نشر كتاب «في قلب مصر» داخل القاهرة وفي العالم الخارجي المتحدث بالإنجليزية. في مصر، أسرعت السلطات بحظر الكتاب على الفور في إشارة واضحة - إذا أعدنا التفكير في الأمر - إلى أن نظام مبارك استشعر الخطر. لكن في الوقت الذي كان فيه أولو الأمر في القاهرة بمعزل عن الواقع - أو كانوا على الأقل عازفين عن الإنصات - أيد الإعلام المصري المعارض النشط رسالة الكتاب. ومثلما أوضحت في الفصل الخاص بالإعلام فإن نظام مبارك منح الصحف المصرية مستوى غير مسبوق من الحرية، لأنه يعرف أن أكثر قراء هذه الصحف من أهل النخبة. فالسماح بدرجة من الحرية أمام الآراء المعارضة ما دامت لا تمثل تهديدا مباشرا على النظام سيعطي انطباعا للأجانب أن مصر دولة الحرية والآراء المتنافسة. لم يسعني إحصاء عدد اللقاءات والمقالات التي أجريت أو نشرت باللغة العربية، وعدد الصفحات التي دشنت على موقع «فيسبوك» بهدف التأكيد على موضوع الكتاب وترجمة بعض فقراته الرئيسية. وعندما رفعت الحكومة الحظر عن الكتاب - بعد نحو شهر من مداهمة مسئولين من وزارة الإعلام لمكتبة الجامعة الأمريكية في القاهرة لمصادرة بضع عشرات من النسخ المعروضة هناك - صار على الفور واحدا من أكثر الكتب مبيعا في العديد من المكتبات الإنجليزية في مصر.
وعلى النقيض من هذا، عندما نشر الكتاب في نيويورك ولندن عام 2008، شعرت بأسى بالغ من ضآلة اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والإنجليزية على السواء بالكتاب. مكثت بائسا بضعة أسابيع في واشنطن أنتظر الدعوات للحديث إلى وسائل الإعلام، لكني لم أتلق أي دعوات في نهاية الأمر. حدث هذا على الرغم من أن كتابي السابق «خبايا السعودية» (2005) نال ما يربو عن عشرين نقدا بارزا، وأدرج ضمن قائمة أفضل الكتب مبيعا في الولايات المتحدة. وبدا واضحا تماما أن قليلين في الغرب هم من أرادوا سماع الرسالة التي يوجهها الكتاب. ولا عجب إذن في أن أمثال جون ماكين تأسفوا على انعدام رسائل التحذير من اندلاع الثورة بعد اندلاعها أخيرا.
الأسوأ من ذلك أنه عندما كان يرد ذكر الكتاب في وسائل الإعلام المتحدثة بالإنجليزية تكون اللهجة ساخرة تماما. كان رأي ماكس رودينبيك - مراسل مجلة «ذا إيكونوميست» في الشرق الأوسط - أفضل مثال على ذلك؛ إذ أخبر قراءه قبل ثورة القاهرة بستة أشهر فحسب قائلا: ««في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا الثورة» هو العنوان المؤثر الذي اختاره الصحفي البريطاني جون آر برادلي لكتابه. وللأسف لم يكن تنبؤ الكتاب بثورة وشيكة إساءة التقدير الوحيدة للكتاب.» بل إن هذا الانقسام - بين إشادة النقاد العرب الذين فطنوا إلى اقتراب الثورة وبين التشكيك الصفيق والمفعم بالثقة من جانب نظرائهم الغربيين الذين أخطئوا التقدير «للأسف» - امتد حتى وصل إلى المراقبين الغربيين المقيمين في مصر. ففي نقد حاد نشرته صحيفة «بيكيا مصر» الإلكترونية الناطقة باللغة الإنجليزية في القاهرة، خاطبني جوزيف مايتون رئيس تحرير الصحيفة أنا وغيري من القراء قائلا ببساطة: «مصر ليست على شفا ثورة يا سيد برادلي.»
أكثر سؤال تردد على مسامعي بعد الثورة هو كيف استطعت التنبؤ بها دون أي غربي آخر، ولم جازفت بفعل ذلك على هذا النحو الحاسم. وكانت إجابتي بسيطة وهي أني لم أصدق ما كان يقوله هؤلاء «الخبراء» المزعومون في الغرب عن مصر طوال العقد السابق. أثناء عملي مراسلا صحفيا في المنطقة، لم أقابل قط صحفيا غربيا آخر ولو لإجراء حوار قصير. ولم أقم قط بزيارة إلى إحدى سفارات الغرب للحديث مع الملحقين الصحفيين المتعالين. بل استمعت إلى عامة المصريين الذين عشت إلى جوارهم في الأحياء الفقيرة متحدثا معهم بلهجتهم العربية. انتقلت إلى القاهرة عام 1999 لتعلم اللغة العربية بعد أن تخرجت من الجامعة. ونظرا لضيق ذات اليد (ذلك أني أنا نفسي نشأت في أسرة فقيرة)، انتهى بي المطاف في حي شبرا لأعيش إلى جوار 4 ملايين مصري ينتمون إلى الطبقة العاملة. ساعدني الأصدقاء الذين تعرفت عليهم هناك - وأثناء أسفاري التالية داخل البلاد - على رؤية جانب كامل آخر من مصر لا يعرف عنه الصحفيون القابعون داخل الفنادق شيئا.
بعيون هؤلاء الأصدقاء آنذاك شاهدت الاهتراء التدريجي الذي أصاب المجتمع المصري من بطالة مزمنة، وفقر مدقع، واضطهاد سياسي مصحوب بحملات اعتقال عشوائي مفزعة للمواطنين والزج بهم في أقسام الشرطة حيث أصبح التعذيب - الذي أفردت فصلا للحديث عنه - روتينا يوميا.
في يناير/كانون الثاني من عام 2011، عندما احتشد ملايين المصريين في ميدان التحرير وغيره من شوارع وميادين المدن الكبرى الأخرى، أولى الإعلام الغربي الكتاب الكثير من الاهتمام أخيرا. ودون شك سررت أخيرا بالتردد على المحطات الإخبارية التليفزيونية في كل من بريطانيا وأمريكا، واسترددت اعتباري عندما شاهدت الصحف الغربية تدرج الكتاب ضمن قوائم الكتب المهمة. لكن خيل إلي أنه قد أسيء فهمي، إذ افترض صحفيو الغرب أني كنت أنادي بقيام ثورة، وأصبحوا يسألونني الآن هل أشعر بالرضا.
غير أن المغزى من وراء الكتاب لم يكن التحريض على ثورة (وكأن هناك من كان سيعيرني أذنا صاغية على أي حال)، ولا القول إن قيام ثورة - سواء على المدى القريب أو البعيد - سيكون في صالح المصريين. قلما تتمخض الثورات عن المجتمعات التي يرنو إليها مؤيدو هذه الثورات والتي تعتنق فكرة المساواة، مثلما يتضح من تاريخ الثورات الثلاث الأكثر شعبية - من حيث المشاركة الفعالة لأفراد الشعب - في العصر الحديث. فالثورة الفرنسية أسفرت عن «الإرهاب الأعظم»، والثورة الروسية أسفرت عن كابوس «ستالين»، بينما أتت الثورة الإيرانية بآية الله الخميني والملالي المتعصبين الملتفين حوله. الاستثناء الواضح الوحيد لهذه القاعدة في التاريخ الحديث - حسبما يتراءى لي - هو الثورة الأمريكية التي أدت إلى وضع أكثر الدساتير وضوحا وشمولا وإلى ظهور أكثر الدول ديمقراطية وانعزالا في العالم، طوال بضعة عقود على الأقل.
وهكذا لم يعد السؤال يدور عن إمكانية قيام ثورة، وإنما عن الطريق الذي ستسلكه الثورة. فمع حلول شهر فبراير/شباط وتنحي مبارك اتضح أمر واحد، وهو حدوث انقلاب عسكري. لم يكن هناك بد من ذلك لسببين؛ إذ لا يوجد حزب أو مؤسسة أخرى تحظى بتأييد الشعب، فضلا عن أن القيادة العليا في مصر كانت على استعداد في الأساس للتضحية بمبارك - في ظل الضغوط التي تمارسها واشنطن عليها - من أجل الحفاظ على الوضع الراهن ممثلا في قاعدتهم السياسية وفي المساعدات التي يتلقونها سنويا بقيمة 1,4 مليار دولار من الولايات المتحدة. ومع أن الانقلاب العسكري كان أمرا محتما - مثلما أشرت في الفصل الأخير - فإنه دل أيضا على اختطاف ثورة الشعب. شهدت مصر تكرارا لسيناريو عام 1952 عندما أدت ثورة شعبية اندلعت في يناير/كانون الثاني من العام نفسه إلى انقلاب جمال عبد الناصر وتأسيس الحكم العسكري. ولأن قادة الجيش الذين تولوا مقاليد حكم البلاد في 2011 عينوا في الأغلب من قبل مبارك، ولأن المشير طنطاوي نفسه صديق قديم له فلم يكن من العجب أنهم سعوا بدلا من تقويض تركته إلى بسطها عن طريق حملات الاعتقال الجماعي للمتظاهرين، ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية، ورميهم بتهم العمالة الأجنبية، والاستدعاء المتكرر لرؤساء التحرير والصحفيين الذين يرى أنهم أساءوا إلى المجلس العسكري.
Página desconocida